البئيس
بنظرات خاطفة يلحظ الصبية يتقافزون حوله وتصدح حناجرهم بـ : (الأخرس راح وجا والعنده حمل هنا) مابين غدوٍ ورواح يضحكون؛
أحيانا يتغافل مشاكساتهم ولجاجتهم
و أحيانا يرشقهم بحجارة أو ملوحا بعصا متوعدا لهم وقد وضع عن ظهره المحني أثر حمولته اليومية مابين صفيحة سمن أو كيس رز أو سكر بجسمه النحيف مايزيد عن عشرين إلى ثلاثين كيلو كل يوم؛ في كيس خاطته له خالتي إشفاقا لتخفف عنه وطأة الحمولة ..
يتأبط كيسه المملوء وأشفق عليه محدثة أمي : لماذا يحمّل نفسه مشاق حمولة كبيرة و مجول المخبول أكبر وأقوى منه يتمنّع عن حمل الثقال !! ألا نجزل العطاء لمجول؟
دعينا نأتي به ونتخلص من مجول ماما..
تبتسم أمي لتنزل بي من على سياج حديقتنا تلك المساحة التي أتنفسها بفضول أراقب المارة منتظرة عودة إخوتي من المدرسة،
ذات دردشة دارت بين أسرتي علمت أنه كان فتى أمه الوحيد وله أخت كبرى ،
يا لحظه العاثر لم يحظ باهتمام ورعاية أسرته لفقده حاستي السمع والنطق ..
أحيانا أراه في منتصف مشوار حمولته يضع ما بكاهله جانبا جاثيا على ركبتيه يهذرم بصوت محزون منتحبا؛ ربما لم تكن الأثقال وحدها مدعاة للبكاء لابد وراء الأكمة ما وراءها..!
وأحيانا أراه ينتشي سعادة يهرول بخفة يهز رأسه فرحا لاسيما عند حمولة خفيفة تكاد قدماه تسابق الريح،
عطفي تشاغل ببؤسه هذا ما اعتقدته دوما أراه بائسا ذليلا لا حول له ولا قوة إلا أن يحمل هما كبيرا لا يفتر مهرولا للسوق يأتي بطلبات الشراء لأهله وجيرانه شاء أم أبى.
..
ذات يوم زارتنا امرأة تتلعثم في الكلام وعبثا أحاول حبس قهقهاتي و خالتي محمرة الوجه قد اتسعت عيناها امتعاضا لضحكاتي غير مسؤولة ..
بعد خروجها حدثتنا أمي عن هذه المرأة
معاتبة إياها لـ سوء معاملتها لابنها ..كيف تدع كل من هب ودب أن يحمّله ما لا يطيق؟
: هوأصم أبكم لا يرتجى منه سوى أن يعيننا في أمور البيت ويرتزق لنا من حمولة
لنقاوم ضنك العيش بعد وفاة أبيهما ..أجهشت باكية ..
هكذا أخبرت أمي مادار من حديث أم الأخرس؛
...
وجاء يوم ليتباشر أهل الحي بزواج أخت الأخرس من رجل مرموق
صاحب وجاهة وجاه
وانتقلوا لمكان ليس ببعيد في ذات المنطقة
لم أعد أرى سوى مجول المخبول يهرول بأحماله وغنائه الذي يسمعه القاصي والداني فقد تغير مسار طريق الأخرس عن السوق المحاذي لنا..
تفرست يوما بوجه مجول، ما رأيت ذاك المعتوه كما نعته أهل الحي إذ تحسست فيه خبثا ودهاء وهو يعد الكثير من الأموال متأبطا إياها بخطفة قابضة فور قدوم أمي ويتباكى عوزا وقلة ذات اليد كي تجزل له العطاء وتكرمه بالطعام يأكل ثم يحمل بالمقسوم ..
وبعدها بشهر ويزيد بلغني أن الأخرس أصبح بهندام جميل بات فرحا مرحا يلاعب الأطفال وقد اكتنز جسده النحيل ببدنة حتى لمحته يوما عند الخباز يشتري خبزا تبسمت لهيئته الجديدة الجميلة ذاك الفتى الخمري وهو يرتدي "بجامة" جميلة بعد أن كان يكتسي خرقة بالية لا تتغير إلا في العيد ..
ولكنه ما زال يحمل ما يلزم أخته من مؤونة رغم توفير عامل يهتّم بشؤون البيت ومتطلباته من قبل زوجها فيما يعينهم في بعض أسفار الزوج فيقع على عاتق ذلك العامل الكثير من متطلبات المنزل ..
مر عام ويزيد ، استفزت أسماعنا صرخة أطلقها الأخرس هزت الحي بما لا يفهم؛ ينتحب، يهرول حول نفسه ينوح؛ كلما أراد أحد أن يستفهم منه يولول هاربا ولم نعِ ما وراء هلوسته .توالته أيام صمت وبؤس غالبه حزن دفين رغم انحناءته المعهودة إلا أنه ازداد نحولا وانكسارا و لم نشهد له ابتسامة حتى ظننا أنه أصيب بمرض خطير،
قد بلغنا أن زوج أخته اختفى فجأة ـ قيل فُقد أو أسير حرب وقال آخرون بحثا جار عنه لدى الشرطة ..! ليتفاجأ كل من في الحي
أن الشرطة والبلدية اقتحموا بيت أخت الأخرس؛ لاستجواب العامل ليدلي كلاهما بالاعتراف؛ قد أنكرا وبشدة معرفة أي أثر له يذكر أو دلالة للعثور عليه !!
ليستمر البحث عن الفقيد من قبل الشرطة..
وما هي إلا أيام ضجت المنطقة بفوضى عارمة تكشّفت عن أمر جلل..
عثرت الشرطة على جثة الزوج الفقيد تحت ثرى إحدى زوايا حديقة المنزل،
تزاحم الناس حول المنزل مستنكرين هذه الجريمة متأسفين على ما حدث
وعمت الفوضى ليتعالى صوت من بين الحشود أين الأخرس ؟ تبعته أصوات الحشود أين الأخرس، أهذا هو سر ابتئاسه ؟!
يصفع صخبهم كيس الأخرس قد عثرت عنه الشرطة في غرفة خزن مؤونة البيت
وما يزال ذلك الكيس معبأ بالحمولة
أشار بعض الحضور له والصيحات تتعالى :كيس الأخرس .. كيس الأخرس .. وما بينهما شتيمة وصرخة بـ أين ذلك المعتوه..؟!
حتى أطبق عليهم صمت رهيب بعد فض ما في الكيس بحيطة وحذر من قبل الشرطة
ليجدوا أجزاء مقطعة من جسد نحيل مغمور بدم قانٍ متخثر ورغم انغماس الوجه بالدم لاحت فيه ابتسامة مطرزة وجنتيه معلنة تحرره من العبودية ....
بنظرات خاطفة يلحظ الصبية يتقافزون حوله وتصدح حناجرهم بـ : (الأخرس راح وجا والعنده حمل هنا) مابين غدوٍ ورواح يضحكون؛
أحيانا يتغافل مشاكساتهم ولجاجتهم
و أحيانا يرشقهم بحجارة أو ملوحا بعصا متوعدا لهم وقد وضع عن ظهره المحني أثر حمولته اليومية مابين صفيحة سمن أو كيس رز أو سكر بجسمه النحيف مايزيد عن عشرين إلى ثلاثين كيلو كل يوم؛ في كيس خاطته له خالتي إشفاقا لتخفف عنه وطأة الحمولة ..
يتأبط كيسه المملوء وأشفق عليه محدثة أمي : لماذا يحمّل نفسه مشاق حمولة كبيرة و مجول المخبول أكبر وأقوى منه يتمنّع عن حمل الثقال !! ألا نجزل العطاء لمجول؟
دعينا نأتي به ونتخلص من مجول ماما..
تبتسم أمي لتنزل بي من على سياج حديقتنا تلك المساحة التي أتنفسها بفضول أراقب المارة منتظرة عودة إخوتي من المدرسة،
ذات دردشة دارت بين أسرتي علمت أنه كان فتى أمه الوحيد وله أخت كبرى ،
يا لحظه العاثر لم يحظ باهتمام ورعاية أسرته لفقده حاستي السمع والنطق ..
أحيانا أراه في منتصف مشوار حمولته يضع ما بكاهله جانبا جاثيا على ركبتيه يهذرم بصوت محزون منتحبا؛ ربما لم تكن الأثقال وحدها مدعاة للبكاء لابد وراء الأكمة ما وراءها..!
وأحيانا أراه ينتشي سعادة يهرول بخفة يهز رأسه فرحا لاسيما عند حمولة خفيفة تكاد قدماه تسابق الريح،
عطفي تشاغل ببؤسه هذا ما اعتقدته دوما أراه بائسا ذليلا لا حول له ولا قوة إلا أن يحمل هما كبيرا لا يفتر مهرولا للسوق يأتي بطلبات الشراء لأهله وجيرانه شاء أم أبى.
..
ذات يوم زارتنا امرأة تتلعثم في الكلام وعبثا أحاول حبس قهقهاتي و خالتي محمرة الوجه قد اتسعت عيناها امتعاضا لضحكاتي غير مسؤولة ..
بعد خروجها حدثتنا أمي عن هذه المرأة
معاتبة إياها لـ سوء معاملتها لابنها ..كيف تدع كل من هب ودب أن يحمّله ما لا يطيق؟
: هوأصم أبكم لا يرتجى منه سوى أن يعيننا في أمور البيت ويرتزق لنا من حمولة
لنقاوم ضنك العيش بعد وفاة أبيهما ..أجهشت باكية ..
هكذا أخبرت أمي مادار من حديث أم الأخرس؛
...
وجاء يوم ليتباشر أهل الحي بزواج أخت الأخرس من رجل مرموق
صاحب وجاهة وجاه
وانتقلوا لمكان ليس ببعيد في ذات المنطقة
لم أعد أرى سوى مجول المخبول يهرول بأحماله وغنائه الذي يسمعه القاصي والداني فقد تغير مسار طريق الأخرس عن السوق المحاذي لنا..
تفرست يوما بوجه مجول، ما رأيت ذاك المعتوه كما نعته أهل الحي إذ تحسست فيه خبثا ودهاء وهو يعد الكثير من الأموال متأبطا إياها بخطفة قابضة فور قدوم أمي ويتباكى عوزا وقلة ذات اليد كي تجزل له العطاء وتكرمه بالطعام يأكل ثم يحمل بالمقسوم ..
وبعدها بشهر ويزيد بلغني أن الأخرس أصبح بهندام جميل بات فرحا مرحا يلاعب الأطفال وقد اكتنز جسده النحيل ببدنة حتى لمحته يوما عند الخباز يشتري خبزا تبسمت لهيئته الجديدة الجميلة ذاك الفتى الخمري وهو يرتدي "بجامة" جميلة بعد أن كان يكتسي خرقة بالية لا تتغير إلا في العيد ..
ولكنه ما زال يحمل ما يلزم أخته من مؤونة رغم توفير عامل يهتّم بشؤون البيت ومتطلباته من قبل زوجها فيما يعينهم في بعض أسفار الزوج فيقع على عاتق ذلك العامل الكثير من متطلبات المنزل ..
مر عام ويزيد ، استفزت أسماعنا صرخة أطلقها الأخرس هزت الحي بما لا يفهم؛ ينتحب، يهرول حول نفسه ينوح؛ كلما أراد أحد أن يستفهم منه يولول هاربا ولم نعِ ما وراء هلوسته .توالته أيام صمت وبؤس غالبه حزن دفين رغم انحناءته المعهودة إلا أنه ازداد نحولا وانكسارا و لم نشهد له ابتسامة حتى ظننا أنه أصيب بمرض خطير،
قد بلغنا أن زوج أخته اختفى فجأة ـ قيل فُقد أو أسير حرب وقال آخرون بحثا جار عنه لدى الشرطة ..! ليتفاجأ كل من في الحي
أن الشرطة والبلدية اقتحموا بيت أخت الأخرس؛ لاستجواب العامل ليدلي كلاهما بالاعتراف؛ قد أنكرا وبشدة معرفة أي أثر له يذكر أو دلالة للعثور عليه !!
ليستمر البحث عن الفقيد من قبل الشرطة..
وما هي إلا أيام ضجت المنطقة بفوضى عارمة تكشّفت عن أمر جلل..
عثرت الشرطة على جثة الزوج الفقيد تحت ثرى إحدى زوايا حديقة المنزل،
تزاحم الناس حول المنزل مستنكرين هذه الجريمة متأسفين على ما حدث
وعمت الفوضى ليتعالى صوت من بين الحشود أين الأخرس ؟ تبعته أصوات الحشود أين الأخرس، أهذا هو سر ابتئاسه ؟!
يصفع صخبهم كيس الأخرس قد عثرت عنه الشرطة في غرفة خزن مؤونة البيت
وما يزال ذلك الكيس معبأ بالحمولة
أشار بعض الحضور له والصيحات تتعالى :كيس الأخرس .. كيس الأخرس .. وما بينهما شتيمة وصرخة بـ أين ذلك المعتوه..؟!
حتى أطبق عليهم صمت رهيب بعد فض ما في الكيس بحيطة وحذر من قبل الشرطة
ليجدوا أجزاء مقطعة من جسد نحيل مغمور بدم قانٍ متخثر ورغم انغماس الوجه بالدم لاحت فيه ابتسامة مطرزة وجنتيه معلنة تحرره من العبودية ....
تعليق