لص مع سبق الإصرار !
:" عندي امتحان ، و ليس من وقت أمامي ؛ لأستقل أخرى .. ممكن أقعد جانبك ؟".
ما تصورت حين غادرت الميكروباص ؛ رحمة بهذا الشاب
الذي توجه إليّ راجيا ،
أن تقبض علىّ يد قوية ، و هي تصرخ :" حرامي .. أليس حراما عليك ؟ هات ما سرقت ".
كانت المرة الأولى في عمري ، التي استخدمت فيها نفوذي و معارفي ، في إنهاء مهمة ما ؛ فحين اختنقت من الزحام ، و أنا أطالع الرقم الذي أعطيت ، محددا كم من وقت علىّ أن أنتظر دوري .. هنا أسرعت بالمغادرة ، قاصدا قصر الثقافة المواجه للبنك تماما .
كان لا بد من إيداع المبلغ ، حتى يتمكن ابني الصغير ، من دفع إيجار شقته الشهري بالقاهرة ، و بالتالي لا تكون عودته متعسرة ، في أي وقت شاء .
اقتحمت قصر الثقافة ، و أنا لا أعول على شيء ؛ فكثيرا ما يكون صديقي مدير القصر خارج المبني ، إما في خط سير رسمي ، أو في منزله لم يزل ، و خاصة و نحن مازلنا في ساعات النهار الأولى .
كانت مفاجأة كبيرة أن وجدته في مكتبه ، و بشرى طيبة في كل الأحوال ، حتى و إن أحجمت عن مكاشفته بالسبب الحقيقي الذي أتي بي .
لم يستهلك الأمر أكثر من ربع الساعة ، غادرت بعدها منتفشا ، ممتلئ الثقة ، في نفسي و أصدقائي و الوطن ، الذي أعشق بمناسبة أو بدونها ، و على أن أطير امتناني لتلك السيدة التي رافقتني إلي البنك ، و المدير الصديق ، ثم أتوجه عائدا إلي منزلي .
كانت الميكروباص في حالة امتلاء ، فجلست على المقعد الخلفي للسائق ، ملاصقا للباب ، في انتظار راكبين لا أكثر .
صعد جلباب وهو يطير حنقه و زهقه على الركاب ، و يسوط الجالسين أمامه بكلمات شديدة القسوة ، و بلا مناسبة ، سوى أنهما يضعان على فخذيهما مفروشات ، طغت على حقه قليلا في أن يكون براحته ، يتنفس ملء رئتيه و وركيه ، ثم عبرت سيدة بصعوبة ، و تحت نيران لسانه ، أوقعت النافذة الزجاجية ، و دار لغط و بعض وجع ، حتى أعاد السائق النافذة إلي موضعها .. في تلك اللحظة صعد الشاب مديد القامة ، بوجه مخطوف ، و طالبني بسعة ما ، حتى يتمكن من إدراك امتحانه ، فما كان مني ، و زهقا من تلك الحال ، أن غادرت السيارة ، دون تفكير في ظنون الناس ، و نظراتهم الداعرة !
لا أخفي سرا ، أني فكرت بتسديد لكمات لوجهه الشره ، لكن نظرة واحدة إلي رواد مقهى المحطة ، كانت كفيلة بلجمي تماما ، إلي حد الاختناق ، و ربما كان خوف من أن ألصق بنفسي تهمة أدري أني بريء منها ؛ حتى و إن عثروا على الضائع في جيوبي .
هطل العرق غزيرا ، تاهت أنفاسي ، و أنا أتخلص من الجاكت ، ناثرا كل ما معي من مال و أوراق أمام اللمة .. كل هذا يتم ، و بلا أي أثر على وجوه المتحلقين ، كأنني أتعرض لكمين من نوع غامض ، حتى أبصرت وجها مألوفا بين جموعهم ، يزيحهم بعيدا ، و يقف بين ما بقى مني و بين الرجل : أنت عارف .. أنت واقف قدام من يارجل ؟ ".
عادت أنفاسي للانتظام ، والوجوه إلي الألفة ، و الاعتذار عن كل ما فعلت في هياجي ، أقعدوني على كرسي ، و أتوا بكوبي ماء و شاي ، بينما الرجل ما يزال على يقينه الغريب و العجيب ، يتزحزح إلي الخلف خوفا من التفافهم حولي .
سوف يظن الطيب ، أنهم رفاق طريق .. هكذا فكرت ، فطاردته قائلا : ليس أنا يا طيب ، ابحث عن مالك إن كان فعلا مسروقا " .
لكنه على ما أعتقد ، و ما رأيت غير مقتنع ، و يبدو أنه سرق في مكان آخر ، و أني كنت فريسة لفريسة .
ساعدني الجميع في ركوب سيارة أخرى ، بل و طاردني أحدهم بكوب الشاي الذي خلفته .
تحركت السيارة ، ودمي هناك في المكان ، يبكي المشهد الغريب ، و هو يسائل مارة غير مرئيين : إلي هذا الحد تبدو على وجهي أمارات اللصوصية ؟" .
حين ترجلت في محطتي ، كان مجرد إحساس أنه يتبعني لم يزل ، و بنظرة غصبت عليها عيني ، كان بالفعل خلفي .
توقفت لأنهي الأمر ، و ليس بداخلي ذرة شر ، أو نزوع إلي تجديد ما سبق ، فعرفت أنه محض محتال ، يبحث عن ضحية ، حين أخبرني أنه يسكن في الطرف الجنوبي للبلدة ، و الطريق الذي ركبها لم تكن لتصل به هناك .
مع ذلك لم يتراجع ، بل أنه بكى في مسكنة و ذلة ، مما حيرني أكثر ، و الطريق قصيرة ، و مجرد مكالمة بسيطة قد يكون فيها أحد الأولاد ضحية هذا المعتوه الطيب .
لم أجد بدا من إنهاء الأمر ؛ فإصراره على مرافقتي إلي بيتي ، لن يمر بسلام ، لا عليه و لا على من سيتعرض له ، من الجيران أو الأولاد .. و عليه توقفت أمام حانوت جزار ، و كأنني أستنجد بمن فيه : " أتعرفونني ؟ ".
: " نعم أستاذ .. عزَّ المعرفة ".
: " هذا المعتوه الطيب يتهمني بسرقته ... ما رأيكم ؟ ".
و لم أتوقف .
عند منعطف الطريق حانت مني التفاتة ، أو أرغمت نفسي عليها ؛ فلم أره ، و لا رأيت نفسي إلا كائنا غريبا عني تماما ، يعارك حصى الطريق ، وعلى استعداد لالتهام أول كائن يقف أمام وجهه ، ثم فجأة أسقط في نوبة من ضحك هستيري ، عدت بها حيث تركته هناك على عتبة القصاب .
أخافني أني لم أجده ، فبادرت صاحب الحانوت :" أين الرجل الذي تركته هنا ؟ ".
بعدم اكتراث وهو يكسر بساطوره عظاما :" أي رجل يا أستاذ ؟ ".
: " الرجل الطيب الذي كان معي حين مررت بك ؟ ".
: " أنا لم أرك اليوم إلا الآن .. تعال أستاذ ربما هناك خطأ ".
: " يا معلم .. تركت هنا رجلا ، و قلت لك اتهمني بسرقة ، وتركته لكم ".
: " ربما لم تتركه هنا .. تذكر جيدا ؛ فالبلد تزدحم بالجزارين ، اهدأ و تذكر ".
غامت الرؤية في عيني . فشلت في مزيد من الثبات ، تراجعت خطوات ، و أنا تائه تماما : أي عبث فعلت بنفسي .
و أغلقت فمي ، أغلقت حتى ذاكرتي ، خوفا من ضياع هيبتي : أنا آسف .. ربما أنت صادق ".
لكنني حين كنت أنقل وجهتي للعودة ، لمحت شبحا هناك في البعيد ، يكمن كقط بري ، و يحاصرني بنظرات مكر ثاقبة ، فالتويت ناكرا ما رأيت ، و لا أدري كيف حملتني قدماي إلي مسكني !
تعليق