ما أبعد الأمس عن اليوم بمفهوم الزمن، و ما أقربه من دقات قلبي، يسكنني صوته الجهوري و بحته المنبعثة من رحم الحب. كثيرا ما تخاصمنا على مائدة العشاء؛ بسبب البصل الطازج الذي يغطي طبق الكسكسى، يلوح بحنجرته و يجهد حبه ليرغمني على تناولها، و كانت أمي هي حصني المنيع، لم يكن له قوة تنفذ نحوي و أنا تحت جناحيها.
تراودني صورته رغما عني، يسقط وجهه من حقيبة الذكريات، و أنا ما بين نشوة و غصة أراوح فيهما الفرحة و الألم.
كثيرا ما التهبت أذني؛ عندما كان يفركها لأستوعب كلماته، و هو يردد على مسامعي:
-ألف جعل الله فيها ألفة .. باء فيها بركة .. حاء حكمة تنالها من كتاب الله، جيم جنة مآل عباد الله.
صعب أن تعتصر الفرحة و البسمة في وجه الأطفال من براثن الفقر، كان كذلك هذا الرجل؛ ينتفض في وجهي كوردة تتحسس فراشة بريئة، يتفحصني في غفلة مني، و يرتدي التعب ليعريني من البؤس الذي حاصره.
إنه رجل يجعلك تدرك؛ أنه من الصعب عليه حمله، و عليّ أيضا؛ فليس سهلا عليّ أن أركض معه و هو عاجز أن إضاءة الطريق. أن يعتمد على قامتي ليزاول المشي، و كأنه يتعلم الوقوف للمرة الأولى.
-أنا في عالم آخر بني.
إجابة أعلنت عن نفسها منتشية بالإرهاق، عندما كان صوتي يتسلل إليه من خلال مسامات أنينه.
-هل آلمك العلاج الكيماوي..
رغم أن تلك الجلسة مر عليها أسبوعان، إلا أن تأثيراتها الجانبية كانت مؤلمة جدا.
-بني لا تخف على الثور...الثور حراث.
حتى و هو يعالج الألم و قسوة المرض، لم يكن ليخيفني أو يرهقني، بل تخيل عالما ليسبح فيه ؛ليبعدني و ينتشلني من مخاوفي. و هو يراجع دفاتر ارتجالاته و حكمه يبحث عن صفحة الأمل، كانت باهتة..باهتة..صفراء مثل رمال الصحراء..مرر جملة من النصائح و استسلم للنوم على المقعد الخلفي للسيارة، أو كهذا حاول إيهامي، رغم التقاطي لصراخه الصامت، و خطوات الألم تمشط صدره المتهالك.
هذا الذي صاحب العواصف الثلجية، و عاند الشجر في ثباته، أدفعه مثل وليد على كرسي متحرك.
رأسه تتدلى من على كتفيه، مثل بندول يرفض الإنتصاب عموديا.
قبل مواصلة الجلسة الثانية، كان ملزما بالخضوع للفحص و الوقوف على مدى تحمله. أرشدنا ممرض نحو طبيبة لتقف على حالته الصحية.
-لابد أن نوقف علاجه و سأحيلك إلى عيادة قريبة من مقر سكناك..
-و لكن...
-أخرج والدك و تعال لنواصل الحديث، و أنصحك أن تجلسه في السيارة ليستريح، فمكوثه هنا سيتعبه كثيرا.
بصعوبة كنت أتجاوز أروقة العيادة، لم تكن عاطفة أو شعورا يمر مثل ومضة برق، بل كان عمرا تورم بالأحلام المنتهية الصلاحية. و عشرة تقاسمنا فيه حلاوة الأيام و هزائم الوطن المتتالية..
-هل أنت مستعد أن أحدثك بصراحة.
قلت: نعم، رغم اقتناعي بعدم تحضري لمثل هذه المواقف، تمنيت أن أستيقظ من الحياة.
تأبطت إرشاداتها رغما عني، و استمعت لحديثها الذي كان يمسك قلبي ككلابة صدئة أفرغت فيه كامل سمها.
في المساء و أنا خارج حدود الوجود، باغتتني زوجتي بحديثها عنه:
-ثلاثة أيام و والدك يحكي لنا حكاية الجازية و ذياب الهلالي..
-هل يحفظها..
-بل و يحسن القص، ربما أحسن منك..
سارعت لأنال نصيبي من الإرث، هكذا هم الفقراء، نصيبهم ذكريات و قصص يغفوا على وقع سردها الأطفال.
لم أنل نصيبي، فقد كانت وصيته أن تقسم حكاياته على والدتي و زوجتي و أختي، و أكون أنا لأول مرة في حياتي مستعدا لجمع تركة بطريقة مغايرة، قد أقسمها بطريقة عادلة.
تراودني صورته رغما عني، يسقط وجهه من حقيبة الذكريات، و أنا ما بين نشوة و غصة أراوح فيهما الفرحة و الألم.
كثيرا ما التهبت أذني؛ عندما كان يفركها لأستوعب كلماته، و هو يردد على مسامعي:
-ألف جعل الله فيها ألفة .. باء فيها بركة .. حاء حكمة تنالها من كتاب الله، جيم جنة مآل عباد الله.
صعب أن تعتصر الفرحة و البسمة في وجه الأطفال من براثن الفقر، كان كذلك هذا الرجل؛ ينتفض في وجهي كوردة تتحسس فراشة بريئة، يتفحصني في غفلة مني، و يرتدي التعب ليعريني من البؤس الذي حاصره.
إنه رجل يجعلك تدرك؛ أنه من الصعب عليه حمله، و عليّ أيضا؛ فليس سهلا عليّ أن أركض معه و هو عاجز أن إضاءة الطريق. أن يعتمد على قامتي ليزاول المشي، و كأنه يتعلم الوقوف للمرة الأولى.
-أنا في عالم آخر بني.
إجابة أعلنت عن نفسها منتشية بالإرهاق، عندما كان صوتي يتسلل إليه من خلال مسامات أنينه.
-هل آلمك العلاج الكيماوي..
رغم أن تلك الجلسة مر عليها أسبوعان، إلا أن تأثيراتها الجانبية كانت مؤلمة جدا.
-بني لا تخف على الثور...الثور حراث.
حتى و هو يعالج الألم و قسوة المرض، لم يكن ليخيفني أو يرهقني، بل تخيل عالما ليسبح فيه ؛ليبعدني و ينتشلني من مخاوفي. و هو يراجع دفاتر ارتجالاته و حكمه يبحث عن صفحة الأمل، كانت باهتة..باهتة..صفراء مثل رمال الصحراء..مرر جملة من النصائح و استسلم للنوم على المقعد الخلفي للسيارة، أو كهذا حاول إيهامي، رغم التقاطي لصراخه الصامت، و خطوات الألم تمشط صدره المتهالك.
هذا الذي صاحب العواصف الثلجية، و عاند الشجر في ثباته، أدفعه مثل وليد على كرسي متحرك.
رأسه تتدلى من على كتفيه، مثل بندول يرفض الإنتصاب عموديا.
قبل مواصلة الجلسة الثانية، كان ملزما بالخضوع للفحص و الوقوف على مدى تحمله. أرشدنا ممرض نحو طبيبة لتقف على حالته الصحية.
-لابد أن نوقف علاجه و سأحيلك إلى عيادة قريبة من مقر سكناك..
-و لكن...
-أخرج والدك و تعال لنواصل الحديث، و أنصحك أن تجلسه في السيارة ليستريح، فمكوثه هنا سيتعبه كثيرا.
بصعوبة كنت أتجاوز أروقة العيادة، لم تكن عاطفة أو شعورا يمر مثل ومضة برق، بل كان عمرا تورم بالأحلام المنتهية الصلاحية. و عشرة تقاسمنا فيه حلاوة الأيام و هزائم الوطن المتتالية..
-هل أنت مستعد أن أحدثك بصراحة.
قلت: نعم، رغم اقتناعي بعدم تحضري لمثل هذه المواقف، تمنيت أن أستيقظ من الحياة.
تأبطت إرشاداتها رغما عني، و استمعت لحديثها الذي كان يمسك قلبي ككلابة صدئة أفرغت فيه كامل سمها.
في المساء و أنا خارج حدود الوجود، باغتتني زوجتي بحديثها عنه:
-ثلاثة أيام و والدك يحكي لنا حكاية الجازية و ذياب الهلالي..
-هل يحفظها..
-بل و يحسن القص، ربما أحسن منك..
سارعت لأنال نصيبي من الإرث، هكذا هم الفقراء، نصيبهم ذكريات و قصص يغفوا على وقع سردها الأطفال.
لم أنل نصيبي، فقد كانت وصيته أن تقسم حكاياته على والدتي و زوجتي و أختي، و أكون أنا لأول مرة في حياتي مستعدا لجمع تركة بطريقة مغايرة، قد أقسمها بطريقة عادلة.
تعليق