رجل يعشش بذاكرتي

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • بسباس عبدالرزاق
    أديب وكاتب
    • 01-09-2012
    • 2008

    رجل يعشش بذاكرتي

    ما أبعد الأمس عن اليوم بمفهوم الزمن، و ما أقربه من دقات قلبي، يسكنني صوته الجهوري و بحته المنبعثة من رحم الحب. كثيرا ما تخاصمنا على مائدة العشاء؛ بسبب البصل الطازج الذي يغطي طبق الكسكسى، يلوح بحنجرته و يجهد حبه ليرغمني على تناولها، و كانت أمي هي حصني المنيع، لم يكن له قوة تنفذ نحوي و أنا تحت جناحيها.

    تراودني صورته رغما عني، يسقط وجهه من حقيبة الذكريات، و أنا ما بين نشوة و غصة أراوح فيهما الفرحة و الألم.

    كثيرا ما التهبت أذني؛ عندما كان يفركها لأستوعب كلماته، و هو يردد على مسامعي:
    -ألف جعل الله فيها ألفة .. باء فيها بركة .. حاء حكمة تنالها من كتاب الله، جيم جنة مآل عباد الله.

    صعب أن تعتصر الفرحة و البسمة في وجه الأطفال من براثن الفقر، كان كذلك هذا الرجل؛ ينتفض في وجهي كوردة تتحسس فراشة بريئة، يتفحصني في غفلة مني، و يرتدي التعب ليعريني من البؤس الذي حاصره.

    إنه رجل يجعلك تدرك؛ أنه من الصعب عليه حمله، و عليّ أيضا؛ فليس سهلا عليّ أن أركض معه و هو عاجز أن إضاءة الطريق. أن يعتمد على قامتي ليزاول المشي، و كأنه يتعلم الوقوف للمرة الأولى.

    -أنا في عالم آخر بني.

    إجابة أعلنت عن نفسها منتشية بالإرهاق، عندما كان صوتي يتسلل إليه من خلال مسامات أنينه.

    -هل آلمك العلاج الكيماوي..

    رغم أن تلك الجلسة مر عليها أسبوعان، إلا أن تأثيراتها الجانبية كانت مؤلمة جدا.

    -بني لا تخف على الثور...الثور حراث.

    حتى و هو يعالج الألم و قسوة المرض، لم يكن ليخيفني أو يرهقني، بل تخيل عالما ليسبح فيه ؛ليبعدني و ينتشلني من مخاوفي. و هو يراجع دفاتر ارتجالاته و حكمه يبحث عن صفحة الأمل، كانت باهتة..باهتة..صفراء مثل رمال الصحراء..مرر جملة من النصائح و استسلم للنوم على المقعد الخلفي للسيارة، أو كهذا حاول إيهامي، رغم التقاطي لصراخه الصامت، و خطوات الألم تمشط صدره المتهالك.

    هذا الذي صاحب العواصف الثلجية، و عاند الشجر في ثباته، أدفعه مثل وليد على كرسي متحرك.
    رأسه تتدلى من على كتفيه، مثل بندول يرفض الإنتصاب عموديا.

    قبل مواصلة الجلسة الثانية، كان ملزما بالخضوع للفحص و الوقوف على مدى تحمله. أرشدنا ممرض نحو طبيبة لتقف على حالته الصحية.

    -لابد أن نوقف علاجه و سأحيلك إلى عيادة قريبة من مقر سكناك..
    -و لكن...
    -أخرج والدك و تعال لنواصل الحديث، و أنصحك أن تجلسه في السيارة ليستريح، فمكوثه هنا سيتعبه كثيرا.

    بصعوبة كنت أتجاوز أروقة العيادة، لم تكن عاطفة أو شعورا يمر مثل ومضة برق، بل كان عمرا تورم بالأحلام المنتهية الصلاحية. و عشرة تقاسمنا فيه حلاوة الأيام و هزائم الوطن المتتالية..

    -هل أنت مستعد أن أحدثك بصراحة.

    قلت: نعم، رغم اقتناعي بعدم تحضري لمثل هذه المواقف، تمنيت أن أستيقظ من الحياة.
    تأبطت إرشاداتها رغما عني، و استمعت لحديثها الذي كان يمسك قلبي ككلابة صدئة أفرغت فيه كامل سمها.

    في المساء و أنا خارج حدود الوجود، باغتتني زوجتي بحديثها عنه:

    -ثلاثة أيام و والدك يحكي لنا حكاية الجازية و ذياب الهلالي..
    -هل يحفظها..
    -بل و يحسن القص، ربما أحسن منك..

    سارعت لأنال نصيبي من الإرث، هكذا هم الفقراء، نصيبهم ذكريات و قصص يغفوا على وقع سردها الأطفال.

    لم أنل نصيبي، فقد كانت وصيته أن تقسم حكاياته على والدتي و زوجتي و أختي، و أكون أنا لأول مرة في حياتي مستعدا لجمع تركة بطريقة مغايرة، قد أقسمها بطريقة عادلة.
    التعديل الأخير تم بواسطة بسباس عبدالرزاق; الساعة 21-05-2014, 21:03.
    السؤال مصباح عنيد
    لذلك أقرأ ليلا .. حتى أرى الأزقة بكلابها وقمامتها
  • عاشقة الادب
    أديب وكاتب
    • 16-11-2013
    • 240

    #2
    كم صعب ان نرى فرعا يموت ..
    ..تراقبه وعاجز عن فعل شئ
    حتى ييبس ويختفي
    لتبقى الذكريات تفوح من كل ركن لياخدك الحنين الى الاصل

    ابدعت في السرد رق لي ما كتبت

    تعليق

    • نادية البريني
      أديب وكاتب
      • 20-09-2009
      • 2644

      #3
      أيّ رجل هذا الذي يعشّش في الذّاكرة؟ ..وكيف لا يعشّش فيها وهو الذي يمثّل الجذور والمنبت؟..تاريخ وذكريات تحتوي الماضي وتلقي
      بظلالها على الحاضر .. لكن أقرّ أنّني لم أستوعب تماما القفلة..كتبت بحرفيّة عالية أخي المبدع بسباس ..اللغة راقتني كثيرا رغم أنّه قد أفلتت منها بعض الأخطاء..
      دمت بخير

      تعليق

      • ربيع عقب الباب
        مستشار أدبي
        طائر النورس
        • 29-07-2008
        • 25792

        #4
        لن أعلق على هذا الجمال إلا بعد العودة
        و ملاعبة ضجر الحروف
        و إزاحة ما يود التمرد على السياق
        و أيضا ما تأرجح به الاعراب


        لي عودة بعد زيارتك

        محبتي
        sigpic

        تعليق

        • بسباس عبدالرزاق
          أديب وكاتب
          • 01-09-2012
          • 2008

          #5
          المشاركة الأصلية بواسطة عاشقة الادب مشاهدة المشاركة
          كم صعب ان نرى فرعا يموت ..
          ..تراقبه وعاجز عن فعل شئ
          حتى ييبس ويختفي
          لتبقى الذكريات تفوح من كل ركن لياخدك الحنين الى الاصل

          ابدعت في السرد رق لي ما كتبت
          هو صعب حقا أن نحاول التعامل مع ماضينا و مع من كانوا يعنون لنا الكثير
          و ربما نحن من كنا نعني لهم كل شيء

          ربما هو نص كان لابد منه

          أتشرف بطلتك و قرائتك

          تقديري أختنا صفاء
          السؤال مصباح عنيد
          لذلك أقرأ ليلا .. حتى أرى الأزقة بكلابها وقمامتها

          تعليق

          • بسباس عبدالرزاق
            أديب وكاتب
            • 01-09-2012
            • 2008

            #6
            المشاركة الأصلية بواسطة نادية البريني مشاهدة المشاركة
            أيّ رجل هذا الذي يعشّش في الذّاكرة؟ ..وكيف لا يعشّش فيها وهو الذي يمثّل الجذور والمنبت؟..تاريخ وذكريات تحتوي الماضي وتلقي
            بظلالها على الحاضر .. لكن أقرّ أنّني لم أستوعب تماما القفلة..كتبت بحرفيّة عالية أخي المبدع بسباس ..اللغة راقتني كثيرا رغم أنّه قد أفلتت منها بعض الأخطاء..
            دمت بخير
            أستاذتي نادية

            من ناحية النحو و الإملاء أكتب حسب ذائقتي، و حتى علامات الترقيم أتعلمها هنا معكم، أمسك ببعضا و يفلت مني الآخر..و لكنني بدأت أعي سرها نوعا ما..
            بحول الله سأبتاع كتب النحو و الإملاء لأتعلم أكثر، رغم أنني أعي أن أخطائي قليلة و لكن الأدب لا يغفر في حقه جهل قوانينه

            و بالنسبة للقفلة، هل اقول أنني كنت اشي بوفاته و مزاولتي فن الأدب هواية ...
            و لكنني أردت لها اكبر من ذلك
            تقديري استاذتي نادية لقرائتك و مشاركتي رأيك و ملاحظتك هي في عيني استاذتي

            تحيتي
            السؤال مصباح عنيد
            لذلك أقرأ ليلا .. حتى أرى الأزقة بكلابها وقمامتها

            تعليق

            • بسباس عبدالرزاق
              أديب وكاتب
              • 01-09-2012
              • 2008

              #7
              المشاركة الأصلية بواسطة ربيع عقب الباب مشاهدة المشاركة
              لن أعلق على هذا الجمال إلا بعد العودة
              و ملاعبة ضجر الحروف
              و إزاحة ما يود التمرد على السياق
              و أيضا ما تأرجح به الاعراب


              لي عودة بعد زيارتك

              محبتي
              سأعود إليها ثانية لأرى ما يمكنني أن أفعله فيها

              أحيانا عندما أكتب أندفع نحو السرد بقوة
              لا أعرف أين أنتهي و لكنني أعرف ما أريد
              هو الكتابة في حد ذاتها


              سأراود ما يرفضه سياق الفكرة و ما كان مملا و أصحح إعراب الحروف


              تقديري و محبتي الدائمتين
              السؤال مصباح عنيد
              لذلك أقرأ ليلا .. حتى أرى الأزقة بكلابها وقمامتها

              تعليق

              • عبدالرحيم التدلاوي
                أديب وكاتب
                • 18-09-2010
                • 8473

                #8
                أثر في النص كثيرا ، كان الوصف قويا بحيث أحدث الرجة.
                و كنت سليل حكاء.
                مودتي

                تعليق

                • حسن لختام
                  أديب وكاتب
                  • 26-08-2011
                  • 2603

                  #9
                  قص ممتع وبليغ..نهاية ذكية ..لتركة سيُعيد صياغتها السارد بطريقة أخرى، ليحللها، ويستكشف مكنوناتها ومعانيها الغامضة..
                  تقديري، أخي عبد الرزاق

                  تعليق

                  • بسباس عبدالرزاق
                    أديب وكاتب
                    • 01-09-2012
                    • 2008

                    #10
                    المشاركة الأصلية بواسطة عبدالرحيم التدلاوي مشاهدة المشاركة
                    أثر في النص كثيرا ، كان الوصف قويا بحيث أحدث الرجة.
                    و كنت سليل حكاء.
                    مودتي

                    نعم أستاذي البهي عبدالرحيم

                    مؤثر جدا أن تقرأ أو تكتب عن حدث يوحد حواس القراء
                    محبتي صديقي البهي
                    السؤال مصباح عنيد
                    لذلك أقرأ ليلا .. حتى أرى الأزقة بكلابها وقمامتها

                    تعليق

                    • بسباس عبدالرزاق
                      أديب وكاتب
                      • 01-09-2012
                      • 2008

                      #11
                      المشاركة الأصلية بواسطة حسن لختام مشاهدة المشاركة
                      قص ممتع وبليغ..نهاية ذكية ..لتركة سيُعيد صياغتها السارد بطريقة أخرى، ليحللها، ويستكشف مكنوناتها ومعانيها الغامضة..
                      تقديري، أخي عبد الرزاق
                      هي مسيرة مضنية و لا شك
                      بالرغم أن مسيرتي الأدبية انطلقت متأخرة جدا-قبل سنتين بالكثير- إلا أنني بدأت أستوعب قيمة العمل في هذا المجال
                      كم أفرحني ردك أخي حسن لختام

                      محبتي و تقديري
                      السؤال مصباح عنيد
                      لذلك أقرأ ليلا .. حتى أرى الأزقة بكلابها وقمامتها

                      تعليق

                      يعمل...
                      X