الحقيبــــــة

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • حسن لشهب
    أديب وكاتب
    • 10-08-2014
    • 654

    الحقيبــــــة

    الحقيبــــــة
    كان يسير كالعادة بمحاذاة السكة الحديدية، يحمل حقيبته، مثلما فعل دائما ...
    لكنه منذ مدة بدأ يشعر أن جسده لم يعد يستجيب فقط إلا لدماغه.
    لم يعد سيره مثلما كان في الماضي مجرد خطوات في اتجاه ما دون تفكير أو مبالاة.
    صار وزن الحقيبة ثقيلا، عضلاته كانت تستشعر ثقلها وتعبر عن معاناتها بالتقلص تارة، وبتيار مؤلم ينتشر عبر مسارات الجسد كلها فيكون مجبرا على الوقوف ليسترجع الأنفاس وبعضا من الحيوية.
    يتوقف عن السير ينظر لخطي السكة الحديدية الممتدة أمام ناظريه، على الجانب الآخر كانت الساقية الكبيرة تهدر بأمواج من المياه المنسابة بهدوء وقوة.
    بينهما كان يقف متأملا امتدادهما نحو الأفق، يدرك ما تشكل بينه وبينهما من تآلف... السكة الحديدية تذكره أن الطريق ما يزال طويلا، وماء الساقية يمده بالقوة والانتعاش ليستمر في السير.
    ويحمل حقيبته مرة أخرى رغم التعب، يستمر في السير، يتذكر أياما سلك فيها طرقا أخرى بحثا عن منافذ وآفاق أكثر إثارة، غيابه لم يكن يطول كثيرا، فيسترجعه مساره المفضل وكأنه قدره.
    عبر هذا المسار رافقته لحظات تأمل وكثير من الأسئلة، ... كان يتوقف، يقيس ما تبقى من مسافات، ويستعيد ما مضى، أحيانا بالابتسامة، وأحيانا أخرى تغشى روحه أمواج قلق وحزن وإحباط. يتذكر لفحات الريح الصقيعي، والصفع الذي كان ينهال على وجنتيه كلما وصل متأخرا، اليدان متورمتان من شدة البرد، والحذاء مكسو طينا ولسان المعلم ينفث سما زعافا يسحق ما تبقى للنفس من عزة واحترام.
    لحظات العودة إلى الدوار لم تخل يوما من رعب بكل الألوان، نباح كلاب وأصوات مرعبة بشتى الأصناف، وقلب خافق يكاد ينفلت من الصدر...
    -اقرأ آية الكرسي يا بني والله سيحميك ويقيك من كل شر... هكذا كانت المرحومة توصيه حالما يعود مرتعدا خائفا كعصفور مهيض الجناح. وغير هذه عاش لحظات عاد فيها للنفس بعض من يقين، والتأمت معها جراح، فكانت محفزة للاستمرار ومتابعة السير... حينها تبدو الحقيبة أخف قليلا.
    ومرت السنوات، ...
    لم تنكسر عرى علاقته بهذه الحقيبة، حملت أدواته المدرسية، وبعدها أدوات العمل، صوره ووثائقه وذكرياته، وما كان يقتـنيه للبيت من أشياء تخفف من جموح حاجات الجسد.
    لم يتغير مسار الطريق، السكة الحديدية والساقية استطابا جيرتهما..، وحدها الأشجار شاخت وشحت ثمارها، وفرغ الكوخ القصديري من ساكنيه، .. مات الأب والأم، وعادت الزوجة لبيت أهلها بأحلامها المنكسرة ..
    وينظر لماء الساقية، يتذكر صورة أمه، يدرك أنه لا يمكن أن يوجد شخص آخر مثلها قادر على فهم ما تجيش به النفس.
    وتسيل على الخدين دموع صامتة، سرعان ما يمسحهما بظهر اليد وكأنه يخشى أن يضبط متلبسا بجرم البكاء.
    يهدر ماء الساقية قليلا يحفزه على متابعة المسير. يتأمل صفاءه وقوته، تغمره الرغبة في إطفاء غلة عطش القلب، يدرك أنه مهما بلغت وفرة هذا الماء فجفاف القلب لن يعرف الارتواء.
    لو تعلمين، يقول مناجيا نفسه، لو قدر لي أن أمسك دموعك وبلمسة سحرية أحولها إلى بلورات تعيد لعينيك الإشراق والسعادة، ما تأخرت ...
    بدأ الظلام يرخي سدوله، وغزا الوهن كل مناحي الجسد ...
    اختار أن يتمدد قليلا بين الساقية والسكة الحديدية مستسلما،... أحس براحة كبيرة حين أغمض عينيه، وهوى في نوم عميق.
    في الصباح سمع أهل الدوار خبر تحويل مجرى الساقية نحو إحدى الضيعات الكبيرة، وتغيير اتجاه القطار، وعن جثة رجل ميت ملقاة على الطريق ...

    حسن لشهب.
  • بسباس عبدالرزاق
    أديب وكاتب
    • 01-09-2012
    • 2008

    #2
    لا أعرف لما كنت أقرأ بحذر
    أتطلع للنهاية بشغف و قلق هناك جاذبية لها بعدها الإجتماعي في هذه القصة الجميلة

    كنت خائفا على البطل كلما تعرفت على تفاصيل حياته
    حتى جاء خبر الموت المحرق
    هل قدر أمثالنا أن يمشي بين ساقية و سكة


    نص جميل أحييك عليه أستاذي

    تقديري و احتراماتي أستاذ حسن لشهب
    السؤال مصباح عنيد
    لذلك أقرأ ليلا .. حتى أرى الأزقة بكلابها وقمامتها

    تعليق

    • حسن لشهب
      أديب وكاتب
      • 10-08-2014
      • 654

      #3
      تحيتي لك أخا كريما وأديبا لامعا
      تقبل مني كل التقدير الذي أنت أهل له.
      حسن لشهب

      تعليق

      • حدريوي مصطفى
        أديب وكاتب
        • 09-11-2012
        • 100

        #4
        هأنت تهل من جديد بقص جديد ،أبرد من الرخام ــ لدى جميلة ــ حزنا وأحر من قبلة في يوم صعب يثيرني، يستفزني بسهولته الناعمة وكلماته الرقيقة الشاعرية، فلم أعدم الطاقة لخط ما خططت ولم يعاندني الكلم المناسب ـ ربماـ لأعبر عن الأثر الرّاج الذي احدثه في هذا النص...
        مودتي ...ولتدم مبدعا وضيء الكلمة
        حدريوي مصطفى العبدي

        التعديل الأخير تم بواسطة حدريوي مصطفى; الساعة 16-08-2014, 17:57.
        بت لا أخشى الموت منذ عرفت أن كل يوم بل كل لحظة يموت شيء مني

        تعليق

        • حسن لختام
          أديب وكاتب
          • 26-08-2011
          • 2603

          #5
          سرد ممتع وشيّق، يتداخل فيه الماضي بالحاضر ويعكسه السارد على مرآة السرد،
          فنرى من خلالها نذوب نفسيته المتعبة وجراحه العميقة، وأسئلته المحيرة
          تقديري، أخي الكريم لحسن لشهب

          تعليق

          • حسن لختام
            أديب وكاتب
            • 26-08-2011
            • 2603

            #6
            نص يترك أثرا غريبا في النفس
            يثبت
            تحيتي

            تعليق

            • حسن لشهب
              أديب وكاتب
              • 10-08-2014
              • 654

              #7
              تحيتي لتفاعلك الإيجابي مع هذه النصوص أخي مصطفى .
              شكرا لحضورك المتواصل.

              تعليق

              • نجاة قيشو
                أديب وكاتب
                • 18-08-2014
                • 41

                #8
                هي النفس الضائعة في زحمة العيش المكتظ بالنوائب المشحون بالعلل و المثخن بالجراح..الحنين الى الايام الخوالي أزم الجرح تلك الحقيبة التي أفرغها من أحلامه و أفراحه ملأها بؤسا و غما فكان الرحيل في صمت ..نص جميل بنسق سردي مثير يخلط بين الماضي و الحاضر بسياق سلس.. احببتها تحية لقلمك سيد حسن لشهب

                تعليق

                • حسن لشهب
                  أديب وكاتب
                  • 10-08-2014
                  • 654

                  #9
                  لك كل التقدير أديبا وإنسانا تشرفت بمعرفته
                  شكرا لك أخي حسن

                  تعليق

                  • حسن لشهب
                    أديب وكاتب
                    • 10-08-2014
                    • 654

                    #10
                    أسعد برأيك ومتابعتك الدؤوبة أخي حسن لختام
                    لك المودة بلا حدود

                    تعليق

                    • حسن لشهب
                      أديب وكاتب
                      • 10-08-2014
                      • 654

                      #11
                      هذه الشهادة وسام لهذا النص المتواضع
                      شكرا لك أختي نجاة

                      تعليق

                      • محمد الحزامي
                        عضو الملتقى
                        • 13-06-2014
                        • 356

                        #12
                        قصّة عبرت حسب تصوري المتواضع عن الواقع المعاش للانسان العربي وآلامه وتطلعاته في مناخ يسوده الاستبداد والهيمنة والقهر والاستغلال يؤيدي غالبا الى القمع المميت بكل ابعاده ، أحسنت استاذنا القدير حسن لشهب في هذا التجسيم الابداعي لواقع الامة .

                        تعليق

                        • حسن لشهب
                          أديب وكاتب
                          • 10-08-2014
                          • 654

                          #13
                          شكرا أختي نجاة
                          دمت مبدعة أنيقة

                          تعليق

                          • حسن لشهب
                            أديب وكاتب
                            • 10-08-2014
                            • 654

                            #14
                            أسعد بهذا الرأي وهو معبر عن شغفك وذوقك الأدبي الرفيع
                            مودتي

                            تعليق

                            • حسن لشهب
                              أديب وكاتب
                              • 10-08-2014
                              • 654

                              #15
                              لا أجد ما يناسب من العبارات للتعبير عن اعتزازي برأيك أخي المكرم محمد لحزامي.
                              شكري لك بلا حدود.

                              تعليق

                              يعمل...
                              X