عن أي( قصيدة نثر) يتحدثون؟!
لا أعرف ما الذي جعل نوري الجراح و أضرابه يعتقدون اعتقادا جازما أن الشعر العمودي قد استنفد طاقته ولم يعد قادرا على أن يقدم رؤية عصرية , وهل هم على حق في أن الغلبة للشكل الأحدث (قصيدة النثر)؟ وهل فعلا (قصيدة النثر) الآن أقرب إلى الناس من الشعر العمودي ؟
لقد حول أولائك الشعراء أنظارهم عن الشعر العمودي فظنوا أن كل الناس ممن يحبون الشعر قد حولوا أنظارهم عنه , وبما أنهم لم يعودوا يستسيغونه فإن كل الناس لا تستسيغه ولابد الآن من دفنه نهائيا, وإذا فعلوا له معروفا فإنهم سيتركونه لبعض الدارسين لدراسته دراسات أكاديمية جافة تعتمد على المنهج التاريخي لتبقى بعيدا عن الشر والناس .
وأنا أقرأ قصيدة مترجمة لأحد الشعراء العالميين أحس أني في عالم رحب واسع , رغم أن الترجمة تفقد النص جمالياته وموسيقاه , وعلى العكس من ذلك وأنا أقرأ (قصيدة النثر) لأولئك (الشعراء) أحس أن صدري ضيق حرج كأنما يصاعد في السماء من فداحة الخطب حيث لا نرى إلا صور مفككة, وعبارات ركيكة , وألفاظ جافة , وشعور غث .
وإني لأستغرب قول نوري الجراح:أن الشعر العمودي استنفذ ولم يعد قادرا على مسايرة العصر..
إن الشعر شعر سواء كان عموديا أو تفعيلة , والنثر نثر , وقد يكون في النثر شاعرية ولكنه لن يتحول النثر إلى شعر مهما كان , وإن أكذوبة (قصيدة النثر) مهما حاول البعض تسويقها على أنها الشكل الأمثل , والإبداع الأوحد ,هي من الغثاثة بما لا يدع مجال للشك أن قائلها لا يعي ما يقول..
وأنا لا أنطلق في هذا القول إلا من قراءتي للشعر وحبي له , إني أتفهم النزعة التجديدية لكل شاعر كما أتفهم جيدا كيف يبحث كل مبدع عن مسالك لم يسلكها غيره عساه يحمل عليها فيجعلها ممهدة فيكون له فضل فض بكارة ذلك المسلك , ولكن أن يتوهم كل من هب ودب أنه شاعر أوحد يقول فيسهر الكل جراها ويختصم ,وذلك عن طريق صور لعالم سوداوي فوضاوي الكلمات فوضوي الفكر فوضوي المعاني لا يعرف من أين يبدأ ولا من أين ينتهي , ثم يأتي ليقول عندما يسأل : لست مسؤولا عن فهمكم أيها الناس , أنا مبدع لي عالمي الخاص , وعليكم كي تفهموا .. أن ترتقوا إلى مستواي , وكأن الناس في أسفل السافلين وهو في أعلى عليين .
إن ما يسمى (قصيدة النثر) وما ينشر الآن منها لهو في الحقيقة نكتة في الأدب العربي يتندر بها الظرفاء, وإلا فبالله عليكم قولوا لي كيف يكون قول رشيدة محمدي في ديوانها (شهادة المسك) شعرا عندما تقول:
يا الله
من أفرغ العالم
من محتواه.
وهي قصيدة وردة في الديوان بلا عنوان فقد تركت لنا حرية اختيار عنوان لها , فأي صور فيها؟وأي معنى تريد أن توصله إلينا عن طريق هذا الكلام؟ وهل هذا شعر أصلا ؟
وبربكم يا من تدعون أن الشعر العمودي لم يعد يصلح ,قولوا لي ما معنى قول الشاعر جبران سعد :
أطبع قصيدتي..
على شفة البحار
لأفك الليل..
من أسر النهار.
أي صورة جميلة في هذا الغثاء ؟ وأي معنى يرفع الإنسان إلى مستوى إنسانيته فيحترم فيه عقله وروحه ؟ وأي شعر هذا ؟ وإليك قارئي الكريم قصيدة أخرى من النوع الذي استطاع أن ينسي جماليات قصيدة الشعر العمودي, ذات الشكل السكوني التقليدي المهترئى , وتمتع معي بهذا الإبداع الطالع من رحم المعاصرة , والخارج عن حدود القيود إلى تخوم الإبداع , والشعر الطامح لتحقيق معادلة التجاوز,
والمطبق على عتمة الماضي , الفاتح في مسارب المستقبل كوة ضوء .. إليك – ومعذرة من قبل ومن بعد إليك نموذج آخر لشاعر سينسي ذاكرة الأمة أطلال امرئ القيس , وأمجاد المتنبي , وخمريات أبي نواس , وسخرية ابن الرومي , وفلسفات المعري , إليك قصيدة خليل صويلح :
كأننا لم نشرب ماء الغدران
كأننا لم نأكل الثريد
في ليالي العشائر العاصفة
بالخديعة والمكائد
كأننا لم نسرق الدجاج كالثعالب
كأننا لم نصب بالجدري والسل وفقر الدم والرمد
كأننا لم نصبغ أيدينا بالحناء
ونشم سواعدنا بالرماح والسيوف
كأننا لم نستنشق رائحة الروث عشرون حولا.
أرأيت أخي القارئ هذه التشابيه الرائعة , وذلك التحليق في السماوات , وتلك الاستعارات المنبعثة من الروث والمخالطة لأكلة الثريد سراق الدجاج من ثعالب البشر؟ أرأيت كيف تصبح (قصيدة النثر) قدر الأمة للتقدم خطوات واسعة على طريق الإبداع الذي سوف يدخل بنا إلى آفاق العالمية . هكذا يريد نوري الجراح و أضرابه , وهكذا يصبح الشعر في زمن الهرولة , في زمن الصهينة والأمركة ,
كورد المزهرية
في بلاط المترفين
على حد قول الشاعر حسن الإمراني .
إني وأنا أقرأ هذا (الشعر) أحس بالذهول و الدوار لما أصاب ديوان العرب من صبية تألهوا في زمن الركاكة و الانحطاط , هم الآن يرون أنفسهم في قامة المتنبي وأطول , وفي مكانة الرضي وأرفع , يرون أن القصيدة العمودية لن تأتي بجديد لأن هذا الشكل في عرفهم استنفذ تماما ،
وها نحن نقرأ الجديد كل الجديد عندهم من فردة الحذاء إلى رائحة الروث و سراق الدجاج ومياه الغدران الآسنة.
و استمتع أخي القارئ مع الصور التي لم يعد الشعر العمودي يمتعنا بها , ولا يمكن له ذلك ،إذ إن نظامه البصري متينا متانة منفرة مرعبة ومضمونه تقليدي على رأي نوري الجراح , يتحدث فقط عن الأطلال والدموع والأشواق والعيون التي في طرفها حور , وعن الصبا والصبابة ووادي الغضى وعن المشاعر الإنسانية من رهبة ورغبة , ومن عدل وكرم , وجود وسماحة .. وهي مواضيع كما يعلم الجميع تقليدية لم تعد تصلح لإنسان العصر الجارح كالصقور وسارق الدجاج وشارب مياه الغدران – في القرن الواحد والعشرين – استمع معي لقصيدة الشاعرة نعم الشاعرة هلا محمد (امرأة):
بعد زمن طويل من الغياب
عدت إلى بيتنا
كان اسمي
مازال مكتوبا بجوار اسمه
على بابنا
في الداخل ..
فردة حذائي
معطفي المعلق
مازال معلق
في مكان تعليق ثيابنا
تختنا ..
مازال في حالة فوضانا
خزانتي
بأثوابي
برائحتي
كل شيء كما كان
كان خارجا
يا إلهي
كيف استطاعت
أن تكون مثلي أنا ؟؟
أرأيتم إنها امرأة عصرية تدخل بيتها لتجده كما تركته , وتكتشف فجأة أن تلك المرأة هي هالا محمد , ثيابها معلقة , وتختها مازال في حالة (فوضاها) وهي حريصة على أن تكتب اسمها بجوار اسمه على الجدار, ولم تنس فردة الحذاء فهي شي مهم جدا لتتشكل الصورة الرائعة لهذه القصيدة , ونسيت أن تخبرنا هل كان مقلوبا أم لا؟ وهل هو متهرئ أم مازال على خير؟ إنه شعر حديث يتناول الواقعي واليومي , إنه شعر الإنسان المعاصر الذي يرى بعيون حديثة , ويفكر بعقل حديث لا بعيون رجعية ,وفكر رجعي يعود بنا إلى عصور لم تعد تحمل لنا أي معنى , ولم نكن يوما ننتمي إليها ..
إنها قصيدة حديثة لا تحتاج إلى إيقاع يجرح آذان شعراء العصر , ولا وزن فالوزن من القيم الموروثة التي يجب أن توأد ..
إن (قصيدة النثر) التي يدعونها تخفي عجزا في ركوب حصان الشعر الجموح , وتخفي وراءها وجوها لا يمكن بحال من الأحوال أن تصبح في عرف الأمة مؤتمنة على شعرها وغنائها وأجيالها , إنها عناصر تبث فشلها في كل كلمة من كلمات ما تسميه (قصيدة النثر) وهي بعيدة كل البعد عن جمال لغة عرفت كيف تصنع حضارة امتدت شرقا وغربا ,ولن يكون ذلك بمثل غثاثة التعبير ولا ركاكة الصور ولا خواء المعاني في مثل قصيدة لقمان دربكي الذي يقول :
في بار لا يشبه أيامنا
التقينا .. تحدثنا كثيرا
بحماس .. كما لو أننا نلتقي لأول مرة
وفي ذات البار
بعد زمن / التقينا ..
لم يحي بعضنا البعض
ولم نتبادل النظرات أو نتحدث
كما لو أننا نلتقي لأول مرة.
أنا أومن أن القصيدة تحس إذا لم تفهم ,فأي إحساس ولده الشاعر فينا بهذا الهراء ؟ وأي معنى أراد أن يوصله إلينا ؟ وكيف لنا أن نعتبر هذا شعرا يدرس و يحفظ للناشئة ؟لنقول لهم أننا طورنا شعرنا في القرن الواحد والعشرين ليصف لنا لقاءاتنا مع الناس في البارات ..
إني لأعجب كل العجب ممن يدعون تذوق وفهم هذا الذي يسمونه (قصيدة نثر) ويدعون أن لها من الجوانب الفنية الشيء الكثير, وأنها الآن الوحيدة التي ستعبر عن الإبداع العربي , وستتجاوز العجز الذي وصلنا إليه من خلال الشكل العمودي , ذلك أن كل ما يدعونه و يتمحلون في شرحه , وتبين جمالياته هو قبح في قبح , فالإيقاع الداخلي الذي يبررون به غياب الوزن , والصور الجديدة التي تستمد رواءها من الغرائبية التي يدعون عبث في عبث , وهي لعمري ضحك على ذقونهم أولا ,فالكل يضحك ويتندر من صورهم و تعابيرهم التي أضحت الآن تملأ الصحف والمجلات والدواوين ..كم يا ترى عدد الذين يحضرون لأمسياتهم ؟ أعرف أن هذا ليس مقياسا للشعر ولكن .. كم يا تري عدد النسخ التي تباع من دواوينهم ؟ وما هو أثرها في واقع الناس ؟
إن أسئلتي هذه سوف لا يكون لها قيمة عندهم , فقد تعودوا على فلق رؤوسنا بأجوبة مستهلكة , فلا قيمة للذين يقرؤون الشعر ما داموا هم في ساحاته , والمستوى المتدني للجماهير هو السبب في كل ما هو حاصل في سوق الأدب , وعلى الناس أن ترقى إلى مصاف القراء الذين ينشدونهم , ويكتبون لهم وإني أكاد أجزم أن الكثير ممن يوالون هذا النوع يحاولن الظهور بمظهر الذين يعون حتى لا يتهموا بالتخلف والجمود , أو تحجب عنهم صفحات الجرائد وسبل النشر .
لقد حاولت التخلص من غبائي , وطرح كل ما أعرفه من بلاغة قديمة وإيقاع خليلي , وتجردت من ماضي لأصل إلى حاضرهم وأتابع يومياتهم كي أفهم ما يقولونه , أو على الأقل أحس بما يحسون , ولكن لم أستطع الوصول إلى مستواهم , وأحمد الله أني من عامة محبي الشعر كما ينبغي أن يكون , إيقاعا عذبا , ومعنى أصيلا , وعالما يمتد إلى الآفاق الرحبة الواسعة..
لقد أعلنت كفري بما يسمى( قصيدة النثر) , فليعلنوا إن شاءوا بأنني رجعي متخلف سلفوي لا يريد التحرر من الجمود والتحجر , وليتهموني في ذوقي وفي أحساس وفكري , فأنا لن أحيد قيد أنملة عن الشعر الذي يهز الأعماق , ويحرك المشاعر , ويحي العقول , ويدفع بالإنسان إلى مراقي الكمال .
إن الشعر عندي مهما تطاول عليه المتشاعرون سيضل أصيلا يستجيب للأصلاء من الشعراء والقراء , ولنا موعد مع المستقبل وله وحده الكلمة الفصل إذا ما كانت المنافسة نزيهة , والساحة حرة , يقول كل منا ما يريد دون تقيد أو اتهام أو غلق الصفحات الثقافية والمنابر في وجه المخالف .
ملاحظة: - كلام نوري الجراح جاء في لقاء له مع مجلة العربي .
- أغلب الشعر الذي ورد هنا مطبوع في دواوين للشعراء المذكوريين.
تعليق