هذا النص مهدى لمن غابوا وافتقدناهم.. نتوسم أن يعودوا قريبا.
[gdwl]بسم الله الرحمن الرحيم
(طائر يفتش عن العش)
======
صعد الممشى الترابي المتعرج بين حقول القمح والأشجار، قاصدا البيت المنزوي بعيدا عن بقية البيوت، وجد نفسه أمام الباب بعد أنهكه السفر.. سنوات من الترحال كالطيور المهاجرة، ولا وطن يأخذه في حضنه، ويخفف عنه ألم وحدته.
عليه الآن أن يطرق الباب الذي تدثر خلفه طويلا، وأمضى سنوات عمره صغيرا، يجري ويلعب أمامه بالساعات، يكوم التراب، ويبني بيوتا من الطين.
خلف الباب امرأة عجوز عيناها ضيقتان تختبئان وراء رماد التجاعيد، ترتدي جلبابا أسود ضافيا، وتغطي شعرها الأبيض بطرحة سوداء. تبتسم لما تراه، فيقرص جنبها، فيرتج جسدها النحيل، وتقهقه عاليا: بس يا واد!
على الديوان المبلط بالطين يتمدد رجل كهل حليق الشعر، فاردا ساقيه ينام عليه دون فراش، ويضع تحت رأسه كومة قش، وأسفل منه منشاره والبلطة اللذان يقطع بهما الأشجار.
المرأة تحرك النار في الكانون، فتناديه، فيندفع إليها جاريا. تغرف له في الصحن المملوء بالشربة قطعة لحم صغيرة، يذهب بها إلى الركن القريب من الديوان، ويمضغها في فمه بصعوبة كأنها قطعة خشب، فيزمجر معترضا: أنت بتضحك عليّ.
يغمغم الرجل بضيق، يتوسل إليه أن يكفَ عن الاعتراض.
يأخذه الرجل معه في الصباح الباكر، فتزفه شقشقات العصافير، التي تحلق بين الأشجار، ترفرف تحاول أن تثبت في العش المعلق على الأغصان، وهي تغني.
حاول الرجل دائما أن يعلمه قطع الخشب، فيمسك بالمنشار، فترتعش يداه ويسقط منه، ويولي دبره عازما ألا يعود، فيسمع الصوت من خلفه هادرا: مش ح ترتاح إلا هنا.
تقدم ورفع يديه عاليا ليطرق الباب النافذ من فتحاته المستديرة أشعة الشمس إلى داخل البيت كأنها حبال طويلة من نور، وذرات كرمال بيضاء تتدافع وراء بعضها وتتكاثف، يحاول دائما أن يمسك بها، فلا تقبض أصابعه إلا على بطن كفه.
طرق الباب ثلاث طرقات، وأرخى السمع أن يأتيه الصوت من خلف الباب: مين؟
ظلَ الباب ساكنا، فعاود الطرق دون أن يشفي ظمأه صوت لأي أحد.
زمّ شفتيه من الحزن، وأزاح الباب، فانفتح صريرا، والظلمة تمتد رطبة الرائحة عبر الصالة والحجرتين.
دخل إلى البيت بجدرانه المطلية بالجير الأبيض،
فتش عن المرأة العجوز والرجل الكهل، فكان الزير القائم في الركن لم يتحرك من مكانه.
اتجه إليه وأمسك بالكوب المربوط حول عنقه من أعلى. أزاح الغطاء عن فتحة الزير، فرأى الماء يلمع كضوء يزيح الظلام.
غرف بالكوب الماء، وارتشف منه فوجده طازجا كأنه مملوء لتوه، طعمه أحلى من العسل.
جال ببصرة للمرة الثانية يفتش عن المرأة والرجل، فوقعت عيناه على الديوان، والمنشار ممدا عليه.
اندفع نحوه، وحمله بين أحضانه، وسار به إلى الحجرة التي كانت تسميها العجوز "الحاصل"، دخل إليها، فلمح صرة ملابسها، ارتمى عليها يشم رائحة المسك فيها، فأحس بالراحة لأول مرة منذ سنوات.
17/11/2014[/gdwl]
[gdwl]بسم الله الرحمن الرحيم
(طائر يفتش عن العش)
======
صعد الممشى الترابي المتعرج بين حقول القمح والأشجار، قاصدا البيت المنزوي بعيدا عن بقية البيوت، وجد نفسه أمام الباب بعد أنهكه السفر.. سنوات من الترحال كالطيور المهاجرة، ولا وطن يأخذه في حضنه، ويخفف عنه ألم وحدته.
عليه الآن أن يطرق الباب الذي تدثر خلفه طويلا، وأمضى سنوات عمره صغيرا، يجري ويلعب أمامه بالساعات، يكوم التراب، ويبني بيوتا من الطين.
خلف الباب امرأة عجوز عيناها ضيقتان تختبئان وراء رماد التجاعيد، ترتدي جلبابا أسود ضافيا، وتغطي شعرها الأبيض بطرحة سوداء. تبتسم لما تراه، فيقرص جنبها، فيرتج جسدها النحيل، وتقهقه عاليا: بس يا واد!
على الديوان المبلط بالطين يتمدد رجل كهل حليق الشعر، فاردا ساقيه ينام عليه دون فراش، ويضع تحت رأسه كومة قش، وأسفل منه منشاره والبلطة اللذان يقطع بهما الأشجار.
المرأة تحرك النار في الكانون، فتناديه، فيندفع إليها جاريا. تغرف له في الصحن المملوء بالشربة قطعة لحم صغيرة، يذهب بها إلى الركن القريب من الديوان، ويمضغها في فمه بصعوبة كأنها قطعة خشب، فيزمجر معترضا: أنت بتضحك عليّ.
يغمغم الرجل بضيق، يتوسل إليه أن يكفَ عن الاعتراض.
يأخذه الرجل معه في الصباح الباكر، فتزفه شقشقات العصافير، التي تحلق بين الأشجار، ترفرف تحاول أن تثبت في العش المعلق على الأغصان، وهي تغني.
حاول الرجل دائما أن يعلمه قطع الخشب، فيمسك بالمنشار، فترتعش يداه ويسقط منه، ويولي دبره عازما ألا يعود، فيسمع الصوت من خلفه هادرا: مش ح ترتاح إلا هنا.
تقدم ورفع يديه عاليا ليطرق الباب النافذ من فتحاته المستديرة أشعة الشمس إلى داخل البيت كأنها حبال طويلة من نور، وذرات كرمال بيضاء تتدافع وراء بعضها وتتكاثف، يحاول دائما أن يمسك بها، فلا تقبض أصابعه إلا على بطن كفه.
طرق الباب ثلاث طرقات، وأرخى السمع أن يأتيه الصوت من خلف الباب: مين؟
ظلَ الباب ساكنا، فعاود الطرق دون أن يشفي ظمأه صوت لأي أحد.
زمّ شفتيه من الحزن، وأزاح الباب، فانفتح صريرا، والظلمة تمتد رطبة الرائحة عبر الصالة والحجرتين.
دخل إلى البيت بجدرانه المطلية بالجير الأبيض،
فتش عن المرأة العجوز والرجل الكهل، فكان الزير القائم في الركن لم يتحرك من مكانه.
اتجه إليه وأمسك بالكوب المربوط حول عنقه من أعلى. أزاح الغطاء عن فتحة الزير، فرأى الماء يلمع كضوء يزيح الظلام.
غرف بالكوب الماء، وارتشف منه فوجده طازجا كأنه مملوء لتوه، طعمه أحلى من العسل.
جال ببصرة للمرة الثانية يفتش عن المرأة والرجل، فوقعت عيناه على الديوان، والمنشار ممدا عليه.
اندفع نحوه، وحمله بين أحضانه، وسار به إلى الحجرة التي كانت تسميها العجوز "الحاصل"، دخل إليها، فلمح صرة ملابسها، ارتمى عليها يشم رائحة المسك فيها، فأحس بالراحة لأول مرة منذ سنوات.
17/11/2014[/gdwl]
تعليق