نظراً لدسامة مقالة الأستاذ الجليل محمد شهيد ،أعطيت لنفسى الحق فى نشرها كاملةً ،فلعلها تؤتى ثمارها فة إثراء الحوار .
_________________________________
_________________________________
من أنا ومن أكون؟
في محاولة منه للإجابة عن السؤال الأبدي: من أنا ومن أكون؟ استهل عباس محمود العقاد سيرته الذاتية في كتابه « أنا » بمقولة للكاتب الأمريكي « وندل هولمز » يعرف من خلالها ماهية الانسان -كل انسان بلا استثناء : « ان الانسان- كما يقول هولمز- إنما هو ثلاثة أشخاص في صورة واحدة. الإنسان كما خلقه الله…والإنسان كما يراه الناس…والإنسان كما يرى هو نفسه… »
وانطلاقا من هذا التعريف الموجز والمركب للإنسان يجيب العقاد عن السؤال الافتراضي بقوله: « فمن من هؤلاء الأشخاص الثلاثة هو المقصود بعباس العقاد؟.. ومن قال أنني أعرف هؤلاء الأشخاص الثلاثة معرفة تحقيق أو معرفة تقريب؟… » ثم يضيف العقاد متسائلا من جديد: « من قال إني اعرف عباس العقاد كما خلقه الله؟ ومن قال إني أعرف عباس العقاد كما يعرفه الناس؟ ومن قال إني أعرف عباس العقاد كما أراه، وأنا لا أراه على حال واحدة كل يوم؟ »
فإذا صار السؤال صعبا و معقدا فإن الجواب عنه بات أصعب و أعقد.
ولعل كل واحد منا- مهما بلغ إدراكه بالأمور المحيطة به، ومهما ازدادت معرفته و علت مواهبه – فإنه قد يعجز عن إيجاد جواب كاف شاف لمثل هذا السؤال : « من أنا ومن أكون؟ »
ومن أصدق ما يمكن أن أجيب به عن نفس هذا السؤال في حق شخصي هو: لا أدري!
ولي في ذلك القدوة الكبرى ليس في العقاد وحده، بل وفي كبار العظماء من بني البشر الذين لم يضيقوا بذلك ذرعا ولم يجدوا حرجا في إصدار الجواب ب "لا أدري" عند التساؤل أو السؤال.
وعلى سبيل الذكر لا الحصر، أضرب ثلاثة أمثلة على ذلك: واحد لنبي وآخر لعالم لأختم بثالث لشاعر.
اما المثال الاول فهو مذكور في القرآن الكريم عند قوله عز وجل على لسان النبي محمد عليه الصلاة والسلام : « وما أدري ما يفعل بي ولا بكم » (الاحقاف: ٩). ذلك و أن لهذه الآية سبب نزول ترويه كتب التفاسير عن ابن عباس : لما اشتد البلاء بأصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – رأى في المنام أنه يهاجر إلى أرض ذات نخل وشجر وماء ، فقصها على أصحابه ، فاستبشروا بذلك ، ورأوا فيها فرجا مما هم فيه من أذى المشركين . ثم إنهم مكثوا برهة لا يرون ذلك ، فقالوا : يا رسول الله ، متى نهاجر إلى الأرض التي رأيت ؟ فسكت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فأنزل الله تعالى : ( وما أدري ما يفعل بي ولا بكم ) يعني لا أدري أخرج إلى الموضع الذي رأيته في منامي أو لا ؟ ثم قال : « إنما هو شيء رأيته في منامي ما أتبع إلا ما يوحى إلي
وإذا كان هذا هو جواب من لا ينطق عن الهوى ولا يتكلم الا بوحي يوحى، فما بال سواه؟
أما المثال الثاني فأذكر فيه قصة شهيرة رويت عن الامام مالك، صاحب المذهب المالكي.
فلقد قال عبد الرحمن بن مهدي شيخ الإمام أحمد : كنا ذات يوم عند الإمام مالك فجاءه رجل وقف في مجلس علمه وكان الناس يتزاحمون ويتضاربون على مجلس الإمام مالك فجاءه رجل ووقف على مجلس علمه، والإمام بين طلابه، قال الرجل: يا أبا عبد الله ! قال: نعم، قال: لقد جئتك من مسيرة ستة أشهر, لقد حملني أهل بلدي مسألة لأسألك فيها فقال الإمام مالك : سل، فسأله الرجل عن مسألته -ولم تذكر الرواية تلك المسألة- فنظر الإمام مالك بعد ما انتهى السائل من سؤاله وقال: لا أدري، لا أحسن جواب مسألتك، فذهل الرجل وقال: أتيتك مسيرة ستة أشهر وأهل بلدي ينتظرونني وأنت تقول: لا أحسن جوابك مسألتك، ماذا أقول للناس إذا ما رجعت إليهم؟ فقال مالك : قل لهم: قال مالك بن أنس : لا أحسن الجواب.
اما ما يمكنني ان استخلصه من خلال هذا الحدث التاريخي فمفاده ان جواب الامام بلا ادري لم يكن ناتجاً عن تواضع عالم جليل فقط (ولو ان التواضع من شيم العلماء) بقدر ما فتئ معبراً عن استحالة وجود جواب كاف شاف مُحيطٍ بجميع جوانب السؤال المطروح. فلو كان عند الامام جواب لأجاب. الا ان قدره ومكانته لم تمنعاه من الامتناع عن الجواب ولو بحضور حشد من الطلبة والعلماء.
وإذا علمنا بأن خير البشر هم الأنبياء ثم يليهم في الخيرة العلماء، وان الخيرة هاته لم تمنع نبياً ولا عالماً من أن يجيبا بلا أدري عند سؤال من يقلهما قدراً و علماً، فانه من باب أولى ان لا أجد لنفسي جوابا اوفى واغنى من لا ادري خاصة عندما يكون السؤال المطروح على الذات: » من أنا ومن أكون؟ »
الشئ الذي يجرني الى المثال الثالث
في مقطع بعنوان « صراع وعراك » يحكي الشاعر اللبناني ايليا ابو ماضي ضمن قصيدته الرائعة « طلاسم » معاناته مع الذات – التي من طبعها الا تستقر لها حال بل هي كل يوم في شأن – اثر مجموعة من التساؤلات الفرضية والتي لم يجد للاجابة عنها سوى عبارة « لست ادري »
يقول ايليا أبو ماضي
صراع وعراك:
إنّني أشهد في نفسي صراعا وعراكا
وأرى ذاتي شيطانا وأحيانا ملاكا
هل أنا شخصان يأبى هذا مع ذاك اشتراكا
أم تراني واهما فيما أراه؟
لست أدري!
كلّ يوم لي شأن ، كلّ حين لي شعور
هل أنا اليوم أنا منذ ليال وشهور
أم أنا عند غروب الشمس غيري في البكور
كلّما ساءلت نفسي جاوبتني:
لست أدري!
فاذا كان جواب هؤلاء جميعا هو لاأدري, فانني لست بأعلم ولا أدرى بمن أكون أو قد لاأكون. فاللغز يبقى عالقا في انتظار توفر الحل الابدي. ومن أجل طي صفحة الذات أختم حديث النفس لهذه الليلة بهاته الكلمات :
اذا سئلت عني
خذ الجواب مني
وأجب سائلك عني:
أني حقا لست أدري
…
وانطلاقا من هذا التعريف الموجز والمركب للإنسان يجيب العقاد عن السؤال الافتراضي بقوله: « فمن من هؤلاء الأشخاص الثلاثة هو المقصود بعباس العقاد؟.. ومن قال أنني أعرف هؤلاء الأشخاص الثلاثة معرفة تحقيق أو معرفة تقريب؟… » ثم يضيف العقاد متسائلا من جديد: « من قال إني اعرف عباس العقاد كما خلقه الله؟ ومن قال إني أعرف عباس العقاد كما يعرفه الناس؟ ومن قال إني أعرف عباس العقاد كما أراه، وأنا لا أراه على حال واحدة كل يوم؟ »
فإذا صار السؤال صعبا و معقدا فإن الجواب عنه بات أصعب و أعقد.
ولعل كل واحد منا- مهما بلغ إدراكه بالأمور المحيطة به، ومهما ازدادت معرفته و علت مواهبه – فإنه قد يعجز عن إيجاد جواب كاف شاف لمثل هذا السؤال : « من أنا ومن أكون؟ »
ومن أصدق ما يمكن أن أجيب به عن نفس هذا السؤال في حق شخصي هو: لا أدري!
ولي في ذلك القدوة الكبرى ليس في العقاد وحده، بل وفي كبار العظماء من بني البشر الذين لم يضيقوا بذلك ذرعا ولم يجدوا حرجا في إصدار الجواب ب "لا أدري" عند التساؤل أو السؤال.
وعلى سبيل الذكر لا الحصر، أضرب ثلاثة أمثلة على ذلك: واحد لنبي وآخر لعالم لأختم بثالث لشاعر.
اما المثال الاول فهو مذكور في القرآن الكريم عند قوله عز وجل على لسان النبي محمد عليه الصلاة والسلام : « وما أدري ما يفعل بي ولا بكم » (الاحقاف: ٩). ذلك و أن لهذه الآية سبب نزول ترويه كتب التفاسير عن ابن عباس : لما اشتد البلاء بأصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – رأى في المنام أنه يهاجر إلى أرض ذات نخل وشجر وماء ، فقصها على أصحابه ، فاستبشروا بذلك ، ورأوا فيها فرجا مما هم فيه من أذى المشركين . ثم إنهم مكثوا برهة لا يرون ذلك ، فقالوا : يا رسول الله ، متى نهاجر إلى الأرض التي رأيت ؟ فسكت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فأنزل الله تعالى : ( وما أدري ما يفعل بي ولا بكم ) يعني لا أدري أخرج إلى الموضع الذي رأيته في منامي أو لا ؟ ثم قال : « إنما هو شيء رأيته في منامي ما أتبع إلا ما يوحى إلي
وإذا كان هذا هو جواب من لا ينطق عن الهوى ولا يتكلم الا بوحي يوحى، فما بال سواه؟
أما المثال الثاني فأذكر فيه قصة شهيرة رويت عن الامام مالك، صاحب المذهب المالكي.
فلقد قال عبد الرحمن بن مهدي شيخ الإمام أحمد : كنا ذات يوم عند الإمام مالك فجاءه رجل وقف في مجلس علمه وكان الناس يتزاحمون ويتضاربون على مجلس الإمام مالك فجاءه رجل ووقف على مجلس علمه، والإمام بين طلابه، قال الرجل: يا أبا عبد الله ! قال: نعم، قال: لقد جئتك من مسيرة ستة أشهر, لقد حملني أهل بلدي مسألة لأسألك فيها فقال الإمام مالك : سل، فسأله الرجل عن مسألته -ولم تذكر الرواية تلك المسألة- فنظر الإمام مالك بعد ما انتهى السائل من سؤاله وقال: لا أدري، لا أحسن جواب مسألتك، فذهل الرجل وقال: أتيتك مسيرة ستة أشهر وأهل بلدي ينتظرونني وأنت تقول: لا أحسن جوابك مسألتك، ماذا أقول للناس إذا ما رجعت إليهم؟ فقال مالك : قل لهم: قال مالك بن أنس : لا أحسن الجواب.
اما ما يمكنني ان استخلصه من خلال هذا الحدث التاريخي فمفاده ان جواب الامام بلا ادري لم يكن ناتجاً عن تواضع عالم جليل فقط (ولو ان التواضع من شيم العلماء) بقدر ما فتئ معبراً عن استحالة وجود جواب كاف شاف مُحيطٍ بجميع جوانب السؤال المطروح. فلو كان عند الامام جواب لأجاب. الا ان قدره ومكانته لم تمنعاه من الامتناع عن الجواب ولو بحضور حشد من الطلبة والعلماء.
وإذا علمنا بأن خير البشر هم الأنبياء ثم يليهم في الخيرة العلماء، وان الخيرة هاته لم تمنع نبياً ولا عالماً من أن يجيبا بلا أدري عند سؤال من يقلهما قدراً و علماً، فانه من باب أولى ان لا أجد لنفسي جوابا اوفى واغنى من لا ادري خاصة عندما يكون السؤال المطروح على الذات: » من أنا ومن أكون؟ »
الشئ الذي يجرني الى المثال الثالث
في مقطع بعنوان « صراع وعراك » يحكي الشاعر اللبناني ايليا ابو ماضي ضمن قصيدته الرائعة « طلاسم » معاناته مع الذات – التي من طبعها الا تستقر لها حال بل هي كل يوم في شأن – اثر مجموعة من التساؤلات الفرضية والتي لم يجد للاجابة عنها سوى عبارة « لست ادري »
يقول ايليا أبو ماضي
صراع وعراك:
إنّني أشهد في نفسي صراعا وعراكا
وأرى ذاتي شيطانا وأحيانا ملاكا
هل أنا شخصان يأبى هذا مع ذاك اشتراكا
أم تراني واهما فيما أراه؟
لست أدري!
كلّ يوم لي شأن ، كلّ حين لي شعور
أم أنا عند غروب الشمس غيري في البكور
كلّما ساءلت نفسي جاوبتني:
لست أدري!
فاذا كان جواب هؤلاء جميعا هو لاأدري, فانني لست بأعلم ولا أدرى بمن أكون أو قد لاأكون. فاللغز يبقى عالقا في انتظار توفر الحل الابدي. ومن أجل طي صفحة الذات أختم حديث النفس لهذه الليلة بهاته الكلمات :
اذا سئلت عني
خذ الجواب مني
وأجب سائلك عني:
أني حقا لست أدري
…
تعليق