عين واحدة
جلس في نفس المكان الصديق ,على حافة شباك غرفته,يرقب معه شروق شمس تأخرت عن موعدها,يفرك عينيه ويناجي خيوطها الأولى المتهادية من خلف الأفق برقة ودفء,هاهي كعروس زادها النوم ألقاً وجمالاً,شعور جميل ملأ قلبه غبطة وسرورا..
شدو عصفورين يتمازحان يصدح في أرجاء الحديقة الهادئة,لفت انتباهه عشهما الصغير في مكان متين على شجرة السدر,لاحظ أيضاً صغيريهما يحضن كلاهما الآخر ,يتلقفان الهواء بمناقيرهما كأنهما ينتظران وجبة الإفطارالتي تاخر الوالدان في إحضارها ,يتمنى لو يحلق في الفضاء بأجنحتها ...على الرصيف امرأة ترافقها طفلة تضم لها لعبتها ,تتعثر ثم تنهض مسرعة لتكمل الطريق مع أمها..ليته مثلها فهولا يحمل على صدره سوى ذكريات مؤلمة .
قلب الغرفة وخزانة ملابسه رأساً على عقب في صباح أول يوم دراسي ,باحثاً عن جوربه التائه,ارتدى قميصه الأبيض وعيناه تبحثان عن بنطلون الجنز ,يرتديه ثم يدس يقدميه في حذائه المضطرب بسرعة
صرخ في وجهه:هيا يا ساجد ..أيها الكسول ..لقد تأخرنا عن المدرسة ,والدي أعد الفطور لنا ,بينما يتناولان الطعام يتضاحكان ببراءة مغمسة بتفاؤل يرى هذه السنة أفضل من سابقتها ..
يجر حقيبته الثقيلة المتخمة بالكثير من الكتب ,ورأسه ما زال مثقلا بمعلومات وأرقام السنة الماضية ,أوقات كثيرة ضاعت بين أقدام ترحال عائلته المستمر من محافظة إلى أخرى ,جراء نزوحهم للنجاة بمستقبل أطفالهم من براثن الحرب وبطشها المتلاعب بكثير من أماكن الذكريات ..
حان الوقت ليواجه خوفه ويغلبه..يستطيع أن يقاوم وينجح..تتعاظم نفسه أمام أحلامه ,قلبه الصغير صار أكبرمن الخوف..
نظر الوالد إلى ساعته في قلق ..يتذكر تبعثر مشاعره خوفا حين ودعهما إلى المدرسة,في مثل هذه الساعة مع أول يوم دراسي قبل سنة..الوقت يمر بطيئاً ,قلبه ينتفض بدقاته المزمجرة يكاد يقفز خارج القفص ..أقدام صغيرة تقترب منه ,يضمه بقوة ,طمأنه :تفاءل يا والدي كهذا الصباح وانظر إلى الجانب المشرق من الحياة ..بضع كلمات أدخلت السرور لقلب الوالد وأشعرته بالراحة ..
تلقفت أيديهم سندويشتين يسدان بهما جوعيهما وبضع دراهم ترنان في راحتيهما ,وكأنهما ملوك الأرض.
يغذان بخطى صغيرة نحو المدرسة ,تسبقهما الشمس إليها وكأنها تستعجلهما ..اقترب موعد قرع الجرس ,يتحرك باضطراب وعينه على أخيه الذي يتبعه مداعبا حصى الأرض بأقدامه,أمواج من الخيالات تعصف برأسه تصارع أفكاره وتعود إلى مجرى الحياة..تشرق الشمس مرة واحدة باليوم,هذا ماكان يردده كلما شعر بالتوتر ..
خلف باب المدرسة طريق طويل لا ينتهي ..يحاول العبور من بين طلاب المدرسة وأصوات تدافعهم تعيد لذكرياته قصف الطائرات لمدرسته في السنة الماضية ,كان كل همه يومها حماية أخيه من الرعب والعنف الحاصلان,الرؤوس تدحرجت في كل مكان وكأنها قطع لعبة البولنج,الأشلاء تناثرت في الأرجاء وكأنها عهن نُفش على يد محترف,نقشت بعضها على الجدران رسوماً تذكارية وأوسمة بأسماء الأطفال المتفوقين ,ومنها ما علق على كتب ودفاتر لم تبرد حروفها بعد..
كان الطلبة قد اعتادوا منادته ب(عين أخيه)لشدة حرصه عليه وتعلقه به..السخرية تطفو على ملامحهم الباهتة وتحرك ألسنتهم المنفلتة ببراءة ,لايخلو الأمر من غيرة متوارية,كونه لايترك لهم إلا ما بعد المرتبة الأولى دائما,لكنه اضطر للتنازل عن إحدى عينيه حين غافلتها شظية رعناء وهو يحاول إنقاذ أخيه ,كان عليه أن يرد الجميل للذين التقطوه من دمار بيته الذي قضى على كل عائلته ,وبعد أن رزق والداه الجديدان بساجد أحب أن يحافظ عليه ويهتم به ,ليرد لهما الجميل,فهل تكفي تلك العين؟
تتعبه الأسئلة ويحار في الإجابة عليها لكن ما يسعده أن له رفيقا وصديقا تبتل شفتيه بابتسامة ..ويرطب أوقاته بنظرات المحبة ..
شيء ما زلزل أركان الصف ,سقط سقطة مدوية ,ثم قام منتفضا يبحلق بنظرات خاوية ليجد نفسه وحيداً عاجزاً عن التفسير ..المكان يعمه الخراب ,تتجمد الدموع في عينيه ..تلاحق أنفاسه يبدد صمت المكان ,يبحث في الركام ,يصرخ ,ينادي لكن ما من مجيب ..يركض خلف صدى صوته حتى يتلاشى...
جلس في نفس المكان الصديق ,على حافة شباك غرفته,يرقب معه شروق شمس تأخرت عن موعدها,يفرك عينيه ويناجي خيوطها الأولى المتهادية من خلف الأفق برقة ودفء,هاهي كعروس زادها النوم ألقاً وجمالاً,شعور جميل ملأ قلبه غبطة وسرورا..
شدو عصفورين يتمازحان يصدح في أرجاء الحديقة الهادئة,لفت انتباهه عشهما الصغير في مكان متين على شجرة السدر,لاحظ أيضاً صغيريهما يحضن كلاهما الآخر ,يتلقفان الهواء بمناقيرهما كأنهما ينتظران وجبة الإفطارالتي تاخر الوالدان في إحضارها ,يتمنى لو يحلق في الفضاء بأجنحتها ...على الرصيف امرأة ترافقها طفلة تضم لها لعبتها ,تتعثر ثم تنهض مسرعة لتكمل الطريق مع أمها..ليته مثلها فهولا يحمل على صدره سوى ذكريات مؤلمة .
قلب الغرفة وخزانة ملابسه رأساً على عقب في صباح أول يوم دراسي ,باحثاً عن جوربه التائه,ارتدى قميصه الأبيض وعيناه تبحثان عن بنطلون الجنز ,يرتديه ثم يدس يقدميه في حذائه المضطرب بسرعة
صرخ في وجهه:هيا يا ساجد ..أيها الكسول ..لقد تأخرنا عن المدرسة ,والدي أعد الفطور لنا ,بينما يتناولان الطعام يتضاحكان ببراءة مغمسة بتفاؤل يرى هذه السنة أفضل من سابقتها ..
يجر حقيبته الثقيلة المتخمة بالكثير من الكتب ,ورأسه ما زال مثقلا بمعلومات وأرقام السنة الماضية ,أوقات كثيرة ضاعت بين أقدام ترحال عائلته المستمر من محافظة إلى أخرى ,جراء نزوحهم للنجاة بمستقبل أطفالهم من براثن الحرب وبطشها المتلاعب بكثير من أماكن الذكريات ..
حان الوقت ليواجه خوفه ويغلبه..يستطيع أن يقاوم وينجح..تتعاظم نفسه أمام أحلامه ,قلبه الصغير صار أكبرمن الخوف..
نظر الوالد إلى ساعته في قلق ..يتذكر تبعثر مشاعره خوفا حين ودعهما إلى المدرسة,في مثل هذه الساعة مع أول يوم دراسي قبل سنة..الوقت يمر بطيئاً ,قلبه ينتفض بدقاته المزمجرة يكاد يقفز خارج القفص ..أقدام صغيرة تقترب منه ,يضمه بقوة ,طمأنه :تفاءل يا والدي كهذا الصباح وانظر إلى الجانب المشرق من الحياة ..بضع كلمات أدخلت السرور لقلب الوالد وأشعرته بالراحة ..
تلقفت أيديهم سندويشتين يسدان بهما جوعيهما وبضع دراهم ترنان في راحتيهما ,وكأنهما ملوك الأرض.
يغذان بخطى صغيرة نحو المدرسة ,تسبقهما الشمس إليها وكأنها تستعجلهما ..اقترب موعد قرع الجرس ,يتحرك باضطراب وعينه على أخيه الذي يتبعه مداعبا حصى الأرض بأقدامه,أمواج من الخيالات تعصف برأسه تصارع أفكاره وتعود إلى مجرى الحياة..تشرق الشمس مرة واحدة باليوم,هذا ماكان يردده كلما شعر بالتوتر ..
خلف باب المدرسة طريق طويل لا ينتهي ..يحاول العبور من بين طلاب المدرسة وأصوات تدافعهم تعيد لذكرياته قصف الطائرات لمدرسته في السنة الماضية ,كان كل همه يومها حماية أخيه من الرعب والعنف الحاصلان,الرؤوس تدحرجت في كل مكان وكأنها قطع لعبة البولنج,الأشلاء تناثرت في الأرجاء وكأنها عهن نُفش على يد محترف,نقشت بعضها على الجدران رسوماً تذكارية وأوسمة بأسماء الأطفال المتفوقين ,ومنها ما علق على كتب ودفاتر لم تبرد حروفها بعد..
كان الطلبة قد اعتادوا منادته ب(عين أخيه)لشدة حرصه عليه وتعلقه به..السخرية تطفو على ملامحهم الباهتة وتحرك ألسنتهم المنفلتة ببراءة ,لايخلو الأمر من غيرة متوارية,كونه لايترك لهم إلا ما بعد المرتبة الأولى دائما,لكنه اضطر للتنازل عن إحدى عينيه حين غافلتها شظية رعناء وهو يحاول إنقاذ أخيه ,كان عليه أن يرد الجميل للذين التقطوه من دمار بيته الذي قضى على كل عائلته ,وبعد أن رزق والداه الجديدان بساجد أحب أن يحافظ عليه ويهتم به ,ليرد لهما الجميل,فهل تكفي تلك العين؟
تتعبه الأسئلة ويحار في الإجابة عليها لكن ما يسعده أن له رفيقا وصديقا تبتل شفتيه بابتسامة ..ويرطب أوقاته بنظرات المحبة ..
شيء ما زلزل أركان الصف ,سقط سقطة مدوية ,ثم قام منتفضا يبحلق بنظرات خاوية ليجد نفسه وحيداً عاجزاً عن التفسير ..المكان يعمه الخراب ,تتجمد الدموع في عينيه ..تلاحق أنفاسه يبدد صمت المكان ,يبحث في الركام ,يصرخ ,ينادي لكن ما من مجيب ..يركض خلف صدى صوته حتى يتلاشى...
تعليق