لم أكن أعلم أن الحياة أقصر مما نعتقد، وأنها تتمدد على قارب صغير يخترق زرقة البحر، وأن الموج الطافح بأسرار الأعماق لا يحاور أوردة شحيحة النبض، البحر أمي، وأمي هي الحياة، الحب، حبها يجعل الحياة بطعم محتمل، تمنح قلبها شمسا...
لسنوات شغلت عن زيارتها، أما هي فقد كانت تزورني كل عام، لعلمها أنني مقيدة بأطفالي ومسؤولياتهم، إضافة إلى تسلط زوجي ذي المزاج الصعب، منذ خمسة أعوام توقفت عن زيارتي، لكننا كنا نتواصل هاتفيا كل يوم، وقبل أيام صدمت عندما قالت لي صوتك لا يشبه صوت ابنتي بشرى، اتصلت بأخواتي فقلن لي إنه بداية الزهايمر، بدأ ينهش ذاكرتها، قررت زيارتها وترك كل شيء خلفي...
دخلت عليها وهي جالسة على حافة سريرها، نظرت إلي وقالت من أنت؟ اقتربت واحتضنتها قلت لها: أنا بشرى.. بشرى ابنتك، أخذت تنظر إلي بتمعن واستغراب، لمحت في عينيها طفلة تعاني من الفقد، طفلة ليس لها أب أو أم.. تبحث في ملامحي عن وجه كانت تعرفه.. بعد دقائق قالت بفرح: بشرى... واحتضنتني وبكت، وبكيت بفرح حتى أني نسيت نفسي بحضنها.
سهرت في غرفتها حتى وقت متأخر.. صباح اليوم التالي وبعد الإفطار اقتربت منها وقبلت يديها، سألتني من أنت؟ بكيت وأنا أتأمل وجه أمي الذي يطل منه ذلك الطفل الضائع، طفل يحاول أن يلتقط من أطراف الذاكرة أسماء، مع أن الخريف رسام لا يحترف التزوير، الخريف ملك كريم نثر ظلاله في مهب الريح لم يعد يملك أوراقا، "الخريف" عازف ورق .. كما الموسيقار لا يفعل أكثر من تحريك العصا، الخريف يحرك الغصون..
فتهتز الاشجار حتى تثمل الأوراق تدوخ وتسقط، ، أمي تردد أسماء لأشخاص لم يعودوا بين الأحياء، أهمس وأنا أدلك قدميها: أمي أنت كنزي الذي أتمنى أن لا أفقده... حين يجف الماء في ذاكرة النهر تنمو وتتألق الضفاف، و النهر ليس نهر الماء بل ما جرى فيه الضياء..
قضيت أكثر من ثلاثة أسابيع مع أمي وهي بين النسيان والتذكر، كان لكل لحظة صفحة، وأجمل الصفحات تلك التي لا يطوها النسيان، أمي اكتمال الحب وحين يكتمل الحب ينتهي.. تنهمر دموعي بغزارة وأنا أودعها للعودة إلى ابنائي.. حزني حزين يشبه فيضان النهر يجعل كل شيء يشرب.. بكيت حتى وصلت لمدينتي وجدتها مغتسلة بالمطر، لم أبتسم إلا عندما شاهدت بعض الناس على الرصيف يستدفئون بالحطب ويثرثرون ويضحكون بفرح فالضحك صديق الفقاعات، تذكرت المجمعات التجارية والمطاعم الفخمة هناك، والناس الذين يجتمعون ليحاكي كل منهم جهازه الخاص.. وعدت للبكاء حين تذكرت أمي.. مؤلم أن تمسح الذاكرة الصور والأكثر إيلاما أن يلتقط لك الآخر صورا متخيلة.
أمي عادت طفلة، لكنها طفلة لا تكبر، وحين يصغر الكبار تترك الصور أصواتها .. من تتكلم معي ليست أمي.. ومن ينظر لي هو النسيان..
أمي ذهبت بعيدا لا أعرف إلى أين! ولا أعرف كيف التقط صورتي وذاكرتها تلتقط لي صورة خارج البرواز، الحزن لا يعدّ الأصابع التي تمسح على رأسه، يرحل وحيدا بعيدا وينهمر..
لا يفعل أكثر من أن يقذف بالزهر التذكر حتى يشيخ النسيان.
تعليق