البرسيم والحمير
تمر بالإنسان لحظات من الهدوء التي يحس فيها بالصفاء الذهني المصحوب أحيانا بالقلق الذي يجهل مصدره .
لحظات نادرة تمرُّ عاصفة كنوّة أمشير لكنها عندما تجيء تدفع الإنسان مباشرة إلى قلب الحدث .
تقتحم الزوجة صومعة زوجها كزوبعة هائلة :
ــ إبنتاك على وش الزواج ولم يتقدّم لخطبتهما أحد . قلّب رزقك يا رجل وهز طولك . ابحث لهما عن عريسين
قبل أن تبورا في وجهينا .
هكذا صار حال البنات في قريتنا ، تتنشَّقْنَ على شاب وناقص أن يقدم أهل العروس للمحروس الدوطة كي يتزوج !
باعت الزوجة ذهبها ورهن الزوج شواربه وانتقى لإبنتيه فحلين من سوق قبرص المشهور بحميره المحليّة والمستوردة
ومشهود لهما بحسن السير والسلوك والخبرة المطلوبة .
ما أن بصم مأذون الحي على صك البيع والشراء غمر شعور بالرضى على سحنة الأب
وفي عيني الأم إحساس بالترقب والتمني .
لفَّ كل عريس البضاعة المقسومة له وانطلق بها إلى بلده .
آه ... ها هي تعود للمناكفة والمناورة :
ــ لماذا لا ترد عليَّ السلام وتجيبني عن سؤالي ؟
ــ لم أسمع . ماذا تقولين ؟
ــ غريبة إنك مسمعتش ، مع أنك تسمع دبة النملة !
ــ سألتك سرحان في إيه ؟
ــ سرحان في هموم الدنيا . القتل والذبح والحرق ..
ــ هوَّ في أهم من الهم إلّي إحنا فيه ؟
ــ خير يا مّرَه . إيش في ؟
ــ بناتك يا زلمة ، من يوم زواجهما لم نسمع عنهما شيئا . اغطس وقِب وجيبلي أخبارهما . طمني الله يطمن قلبك .
استقبلت الإبنة الأولى والدها بفرح كبير بينما تختلس بعينيها نظرة نحو يداه الفارغتان .
بذكائه الفطري لمح الرجل نظرات إبنته فقال معتذرا :
ــ كنت على وشك أن أبتاع لكم لبشتين قصب ، لكن السائق كان مستعجلا ولم يمهلني .
أجابته بعفوية صادقة :
ــ نحن لا ننتظر سوى حضورك بيننا ، بلاه القصب .
ــ يا بنتي خلّي العيال تمصّ ... أين زوجك ؟
ــ زوجي ربنا فتح عليه ، يتاجر في الحمير ، يبيع ويشتري ، وكما تعلم يا والدي فإن هذه التجارة تعتمد على العرض والطلب
هناك صفقة كبيرة استوردها زوجي من بلاد العجم . فإذا ما تمت الصفقة بنجاح سوف نعيش كالملوك .
لم يمهل إبنته الثانية كي تتمهزأ على أبيها كما فعلت أختها . فوعدها أن يصحبها هي وزوجها والأولاد إلى المولد .
وقبل أن ترد عليه بالإيجاب أو الرفض سألها :ــ أين بعلك ؟
ــ بعلي ربنا فتح عليه . اشترى قطعة أرض يزرعها برسيم . وكما تعلم يا والدي فإن هذه التجارة تعتمد على العرض والطلب ،
فكلما ازداد عدد الحمير تزدهر تجارتنا . نحن مقبلون على صفقة برسيم كبيره لتاجر حمير يعمل في الإستيراد والتصدير .
فإذا ما تمت الصفقة بنجاح سوف نعيش كالملوك .
جلست زوجتي أمامي متحفزة وبدأت في عزف سيمفونية الإستجواب الخامسة لبيتهوفين .
لم انبس بأي كلمة ولا حتى حرف . كل ما جاد به لساني :
ــ دعواتك يا أم البنات أن يديم علينا نعمة البرسيم والحمير .
تعليق