الفصل الثالث
2003
تتمة الرحلة
أشرفنا أخيرًا على مزرعة عبد الجبّار، حيث كان يقطن هو وأسرته في منطقة نائية، تسللتُ ومصطفى ومنير إلى الداخل.. كانت الشمس تجنح للغروب، وتلقي بظلالها الرائعة على المكان فيبدو كلوحة طبيعية فاتنة، كان من الممكن أن نتوقف لنتأملها في صمت وانبهار، لو كنّا في غير ذلك الموقف!
كان عبد الجبار يجلس في صالة المعيشة متربعًا أمام التلفاز يتابع برنامجًا ما، و أمامه (النرجيلة) يستمتع بنفث دخانها ذي الرائحة النفاذّة، التي كانت تملأ جو المكان، راح يسعل بشدّة وعنف حين رآنا ندخل عليه فجأة، بدا منفعلًا وقد انتفخت أوداجه التي تكاد تنفر من وجهه ورقبته، خطر لي أنّه رجل مناسب جدًا لترويع الأسرى وإرهابهم -على الأقل نفسيًا- فقد كان اسمًا على مسمًى بجسمه الضخم منفوخ بالعضلات، و أنَّ مجرد رؤيته كانت كفيلة بجعل الأسير ينهار ويعترف بما يعلم وما لا يعلم.
يبدو أنّه أحسّ بما جئنا لأجله؛ فقد نظر نظرة خاطفة ناحية سلاحه المعلّق على الجدار، لكنّ قفزة منير كانت أسرع وهو يخرج من جيبه حبلًا رفيعًا قويًا، سانده مصطفى بسرعة وراحا يقيدانه بقوّة للمقعد الثقيل الذى كان يجلس عليه!
- "لا تتحرك ولا تصدر صوتًا!"
قالها منير بصرامة، تطلّعت عيناه إلينا بتوتر:
- "من أنتم؟ وماذا تريدون؟"
اندفع مصطفى:
- "نريد معلومات عن بعض الأسرى الكويتيين."
شحب وجه عبد الجبّار:
- "لا أعرف عمّا تتحدثون!"
قال منير بنفاذ صبر:
- "هل ستبدأ معنا بالكذب والمراوغة؟"
- "يبدو أنّكم أخطأتم بيني وبين شخص آخر، أنا مجرّد رجل بسيط ولا شأن لي بأسرى أو غيرهم"
قلتُ وأنا أتأمّل المكان حولي:
- "هل تعيش بمفردك هنا؟"
- "معي زوجي وابني"
- "وأين هما؟"
- "في الطابق العلوي.. إنّه منعزل نوعًا ما عن هذا الطابق"
التفتّ إليه وقلت بصرامة:
- "أنا صحفي يا عبد الجبار ومهنتي علمتني كيف أحكم على طباع البشر، وكيف أدرك من يصدقني القول ومن يكذب!"
تحرك عبد الجبار بعصبية تحت ذراعي منير القويين، وقال:
- "لماذا لا تصدقوني؟"
وقبل أن أجيبه صرخ منير فجأة:
- "جاسم! احترس!"
وفى اللحظة التالية اندفعت هراوة ضخمة ذات أسنان فولاذية مدببّة نحو رأسي! وثبتُ من مكاني بسرعة لتشقّ الهراوة الهواء بصرير حاد، تحرك منير ناحية الشاب ووضع قدمه في طريقه بسرعة فهوى أرضًا، كان يشبه عبد الجبّار كثيرًا ما جعلني أخمّن أنّه ابنه، وهنا قام مصطفى بشدّ وثاقه بقوّة.
ظهرت الزوجة من ركن بعيد وهي تنظر بهلع إلينا، وهمّت بالصراخ لكن عبد الجبار قال بغلظة:
- "إيّاكِ أن تصرخي يا امرأة!"
أدخلتُ المرأة وابنها إلى حجرة جانبية، وقلت:
- "كما ترى فإنّ الكذب يجرى في دمك يا عبد الجبّار؛ ألم تقل أنّهما في الطابق العلوي؟ وها هما ذا قد ظهرا من مكان آخر هنا!"
أجاب بحدّة:
- "لم أكذب، هناك سلّم آخر يؤدي للطابق العلوي من الجهة الخلفية للمنزل"
- "والآن! هل ستتكلم؟ "
قال بعصبيّة:
- "لقد تركت الجيش العراقي قبل سقوط صدّام بأربعة أشهر"
سألته:
- "ومن تولّى الأمر بعدك؟"
- "ضابط كبير من حزب البعث يُدعى هاشم السعداوي"
ردّد منير متفاجئًا:
- "هاشم السعداوي؟"
التفت إليه وسألته:
- "هل تعرفه؟"
- "إنّه من عشيرة عراقية كبيرة ومعروفة هنا"
قال مصطفى:
- "هذا يُعقِّد الأمور!"
أجابه:
- "هاشم من عشيرة قوية موجودة غرب العراق في مدينة الفلوجة"
- "لابد أنّه لجأ إليهم للحماية من بطش الذين ظلمهم بعد سقوط النظام العراقي!"
هزّ منير رأسه موافقًا على قوله.
أخيرًا وصل مصطفى ومنير لنقطة اتفاق، بعد التنافر الطويل منذ أن بدأت هذه المهمة! التفتُ لعبد الجبّار وقلت بلهجة صارمة:
- "نحن نعرف مكان مزرعتك وعملك، فلو تبين لنا أنّك تتلاعب بنا فأنت تعرف مصيرك، هل تفهم!؟"
تعاملت معه بحسّ الصحفي؛ فقد علمتني مهنتي كيف أحكم على طباع البشر وكيف أداويها!
أومأ برأسه موافقًا فأشرتُ للرجلين، ثم غادرنا المنزل.
***
وصلنا حيث السيارات، كان الفريق يستظلّ من نار الهجير تحت ظلّ شجرة مورقة الفروع، التفتُ حولي وقلت مندهشًا:
- "أين ذهب عليّ يا شباب؟!"
بعد بحث دام لدقائق تأكدت لنا حقيقة اختفاء شقيق زوجي، ومعه أحد الحراس!
راح منير يوبِّخ الفريق على تهاونهم، فقلت مهدئًا النار المضطرمة على الرغم من تأثري:
- "ما تقوله لن يعيد عليّ يا منير! لابد من التفكير بمنطق.."
فجأة صاح مصطفى:
- "حذاء عليّ!"
أسرعنا نحوه فوجدناه يشير إلى فردة حذاء ترجع للشاب المفقود، ما أثار رعبي حقيقة أنّ ثمّة مكروهًا قد حاق بعليّ وهو تحت بصري وبصحبتي!
اقترب كاظم في تلك اللحظة وهتف:
- "جعبل!"
أسرع الكلب إلى صاحبه، وهنا قام كاظم بتقريب الحذاء لأنف الكلب الذى راح يتشمّمه وكأنّه يعرف بالضبط ماذا نريد منه!
تبادلنا نظرة مفعمة بالانفعالات، والتفت لمنير قائلاً:
- "لقد اتّضحت الصورة يا منير!"
قال بريبة:
- "ماذا تعني؟"
- "الحارس هو من أبلغ عنّا وتسبب في إطلاق النار علينا!"
هزّ رأسه نافيًا:
- "أرى ألا نستبق الأحداث فربما يكون عليّ غير مختفٍ أصلًا! ثم كيف اختفى تحت أعين الفريق؟"
أشرتُ إلى الشجرة:
- "الشجرة بعيدة عن هنا بمسافة كافية لأن يختفي فيل وليس عليّ فحسب!"
انطلق الكلب مسرعًا فركبنا السيارات ونحن نتبع جعبل، الذى راح يشقّ الطريق بسرعة كبيرة، في النهاية توقفنا أمام أحد المنازل القديمة وقد وقفت سيارة أمامه.
همس منير بقلق:
- "أليست هذه واحدة من السيارات التي هاجمتنا بإطلاق النار علينا؟"
قلت والأفكار تهدر في ذهني:
- "استعدوا بأسلحتكم يا شباب!"
شهر أفراد الفريق أسلحتهم وتحفّزوا، لكن قبل أن ننطلق حدث ما لم نكن نتوقعه، فقد انطلقت دفقة من الرصاصات من الخلف!
تعليق