لن أعود
صمتٌ يلفُّ المكان، والزمنُ توقفَ عن الدوران في تلك المقبرة البعيدة عن صخبِ الحياة بعد أن دفنوني، وابتعدوا يلتحفون الحزنَ العميق..
بقيت روحي تنعى لقاءهم ،وصدى نحيبهم يسرقُ منها الراحةَ والسكينة.
أشهرٌ من الرحيل المرّ كانت كافية لأن يحملني الشوقُ إليهم، أكحّلُ عينيّ برؤيتهم فأطمئن عليهم.
اتجهتُ بثقة نحوالبيت الرابض بين أشجارالزيزفون ، يملأ عبقُها أركانَ الحيَ ، تسللت من الشرفة الخلفية.
الهدوءُ يعمّ المنزل ، تتدثرُ روحي بجليد الرهبة من المجهول ،تتقاذفها الظنون..
بدأت خطواتي بالتقهقر ، طفلتي ليست في سريرها الورديّ المليء بالألعاب. كلُّ لعبة لها ذكرى جميلة، فذاك الدبُّ الملونُ الكبيرُ المكبّ على وجهه؛ كان يوم اكتمال عامها الثاني،وتلك الدمية الشقراء المبتسمة في عيد ميلاها الثالث.
شعورٌ بالقلق دفعني لأكمل طريقي إلى غرفتي المقابلة تماما لغرفتها، كنت قد اخترتها ، لأسمع أنفاسَها وهي نائمة كالملاك بوجهها الوردي وأهدابها الطويلة ،أقبّلها بحرارة كلّ مساء قبل أن أخلد إلى النوم.
لابد أنها الآن في حضن أبيها ؛فهي وحيدته التي يحبها ، ولاتنام إلا في حضنه.
اقتربت أكثر ،همساتٌ تتسلّلُ إلى مسامعِ الواقف أمام الباب، كانا معا ،يتسامران،يتهامسان ؛زوجي وصديقتي الحشرية الثرثارة ، التي كان الجميع يهرب من رائحة ثيابها المستوردة ،هاهي الآن تحتلَ مكاني ،وقد لطخت وجهَها بعلبة ألوان مائية ، كمهرّج في حفلة تنكرية.
-اضحكي ..ستبكين ندما، إن لم تموتي قهرا ،قلت في نفسي..
أطبقت رائحةُ الخيانة على صدري؛وقذفتني بعيدا.
استعدتُ توازني بسرعة ، و نفضتُ بحزمٍ غبارَ الهوان .انطلقت أبحث عن صغيرتي ، تلفحني أعاصيرُ الحزن والقهر.
لم أعرفْ كيف وجدتُ نفسي أمام الياسمينة التي مازالت معرّشة على النوافذ الحزينة ، والستائر تتمايل بصمت حزين؛تشفُّ وجهَ أمي وهي تهدهدُ طفلتي ،تقرأ المعوذاتِ، وتمسحُ على وجهها ،وجسدِها الغض كما كانت تفعل معي عندما يلمّ بي قلقٌ وخوف.
وفي الصالة الكبيرة ، لم يزلْ النقاشُ مستمرًا بين أخوتي في أمور السياسة والدين، مصرين ألا يتفقوا ،غير آبهين بصورتي المعلقة على الجدار موشحةً بالسواد ،وابتسامتي الحزينة المعهودة تقول لهم
:"كفى.. سيأتي يومٌ تصمتون فيه إلى الأبد، و الحياة دار فناء لا بقاء.."
اقتربت من أمي بهدوء، طبعت قبلة على رأسها، وأخرى على جبين طفلتي الغالية..
غسلت الحزنَ الهاطلَ من عيوني بدمعتين،تأكدّت أنَّ كلَّ شيء في هذه الدنيا بخيرمن دوني..
وتركت المساءَ حزينًا كئيبًا يحتسي شرابَ الحسرةِ على شرفة النسيان.
سمرعيد
صمتٌ يلفُّ المكان، والزمنُ توقفَ عن الدوران في تلك المقبرة البعيدة عن صخبِ الحياة بعد أن دفنوني، وابتعدوا يلتحفون الحزنَ العميق..
بقيت روحي تنعى لقاءهم ،وصدى نحيبهم يسرقُ منها الراحةَ والسكينة.
أشهرٌ من الرحيل المرّ كانت كافية لأن يحملني الشوقُ إليهم، أكحّلُ عينيّ برؤيتهم فأطمئن عليهم.
اتجهتُ بثقة نحوالبيت الرابض بين أشجارالزيزفون ، يملأ عبقُها أركانَ الحيَ ، تسللت من الشرفة الخلفية.
الهدوءُ يعمّ المنزل ، تتدثرُ روحي بجليد الرهبة من المجهول ،تتقاذفها الظنون..
بدأت خطواتي بالتقهقر ، طفلتي ليست في سريرها الورديّ المليء بالألعاب. كلُّ لعبة لها ذكرى جميلة، فذاك الدبُّ الملونُ الكبيرُ المكبّ على وجهه؛ كان يوم اكتمال عامها الثاني،وتلك الدمية الشقراء المبتسمة في عيد ميلاها الثالث.
شعورٌ بالقلق دفعني لأكمل طريقي إلى غرفتي المقابلة تماما لغرفتها، كنت قد اخترتها ، لأسمع أنفاسَها وهي نائمة كالملاك بوجهها الوردي وأهدابها الطويلة ،أقبّلها بحرارة كلّ مساء قبل أن أخلد إلى النوم.
لابد أنها الآن في حضن أبيها ؛فهي وحيدته التي يحبها ، ولاتنام إلا في حضنه.
اقتربت أكثر ،همساتٌ تتسلّلُ إلى مسامعِ الواقف أمام الباب، كانا معا ،يتسامران،يتهامسان ؛زوجي وصديقتي الحشرية الثرثارة ، التي كان الجميع يهرب من رائحة ثيابها المستوردة ،هاهي الآن تحتلَ مكاني ،وقد لطخت وجهَها بعلبة ألوان مائية ، كمهرّج في حفلة تنكرية.
-اضحكي ..ستبكين ندما، إن لم تموتي قهرا ،قلت في نفسي..
أطبقت رائحةُ الخيانة على صدري؛وقذفتني بعيدا.
استعدتُ توازني بسرعة ، و نفضتُ بحزمٍ غبارَ الهوان .انطلقت أبحث عن صغيرتي ، تلفحني أعاصيرُ الحزن والقهر.
لم أعرفْ كيف وجدتُ نفسي أمام الياسمينة التي مازالت معرّشة على النوافذ الحزينة ، والستائر تتمايل بصمت حزين؛تشفُّ وجهَ أمي وهي تهدهدُ طفلتي ،تقرأ المعوذاتِ، وتمسحُ على وجهها ،وجسدِها الغض كما كانت تفعل معي عندما يلمّ بي قلقٌ وخوف.
وفي الصالة الكبيرة ، لم يزلْ النقاشُ مستمرًا بين أخوتي في أمور السياسة والدين، مصرين ألا يتفقوا ،غير آبهين بصورتي المعلقة على الجدار موشحةً بالسواد ،وابتسامتي الحزينة المعهودة تقول لهم
:"كفى.. سيأتي يومٌ تصمتون فيه إلى الأبد، و الحياة دار فناء لا بقاء.."
اقتربت من أمي بهدوء، طبعت قبلة على رأسها، وأخرى على جبين طفلتي الغالية..
غسلت الحزنَ الهاطلَ من عيوني بدمعتين،تأكدّت أنَّ كلَّ شيء في هذه الدنيا بخيرمن دوني..
وتركت المساءَ حزينًا كئيبًا يحتسي شرابَ الحسرةِ على شرفة النسيان.
سمرعيد
تعليق