ضجيج يقرع مسامعه ، يلتفت ذات اليمين و الشمال ، تتسارع خطواته وتتلاحق أنفاسه و سخونة تعتري جسده الفتي . الجو بارد والطيور متسمرة في أوكارها غير عابئة بأطياف النور المنبعثة من خلا ل سماء كئيبة متجهمة ملبدة بسحب ثقال . ربما تكون الرعود ما شتت انتباهه ، تذكر أنه يسير إلى مقر عمله بعد سفر عقله لبرهة إلى ميادين غاصّة بحناجر صادحة لا يستطيع فك ألغاز صداها . تسلح دوما بالعزم و آمن بغد أفضل ، مرح الشباب ساعده على تحمل تلك المصائب التي تحاول فرملة طموحه الجارف . منذ انبلاج فجر الحرية و هو يشحذ الهمم و يواسي ذوي الملمّات و الشدائد ، رأى رأي العين أناسا قضوا بين يديه مغتسلين بدمائهم الطاهرة ، شهداء تعطرت روحه بطيب روائحهم الزكيّة ، أسعف من المصابين أفواجا فأفواجا ، يعمل في الخط الخلفي ، يؤمن خطوط الإمداد كمن يهيئ العرائس و يقدمهن قربانا لأنهار الحرية المزدهرة الفيّاضة .
المكان خال من المارة ، كأن المدينة عزفت عن الاستيقاظ ، كل شبر في هذه الممرات شهد حدثا تأصل في ذاكرته ، أين يقف و على بعد أمتار قليلة سقط طفل في يده ثليجة ، يومها كان راجعا لتوه من الميدان ، و قد وعد رفاقه بإحضار بعض من الدواء ، أخطأ القناص رميته لتستقر الرصاصة في جبهة البرعم الصغير لتجعلها أشلاء ، و يده لم تفارق قطعة الحلوى . لفه في معطفه و قدّمه لأمّ أخرستها الصدمة ، هل تعاتبه على مروره بالمكان ؟ أم تبكي طفلها الذي أصرّ على مغادرة حضنها الدافئ ؟ أم تكشف عن شعرها و ترمي السماء بركلة غير آبهة بالمنغصات و البلاوي المتناسلة ؟ همّ بالوقوف مدة أطول احتراما لذلك الطفل الباسل الذي أخذ عنه قبلة الموت ، لكنّ الأصداء و الهتافات لا تزال تناديه فواصل المسير .
وصل أخيرا إلى مقر عمله ، تسللت أنامله إلى جيبه ليجده ممزقا ، لا يعرف أين أضاع مفتاح الصيدليّة ، جمع بعض أوراق متناثرة على بابها تفطن إلى غبار يعلوه كما لو أنه موصد لشهور و ربما لأعوام ، لا بأس فالقذارة واحدة من ضرائب الحرية ، تذكر معشوقته الحورية فضرب الباب الفولاذي المشمّع ضربات متوالية و صاح بصوت عال في وجه الظلم والطغيان مردّدا ما يصل إليه من صدى الميادين . انساقت رجلاه لعبير الحرية و صوتها المرعب لواصل المسير . فقد رشده للحظة عابرة فتساءل : " إلى أي ساحة سأذهب في هذا الوقت المبكر ، و ما حاجتي للذهاب هناك بأيادي فارغة ، لا دواء و لا طعام ؟ " تملّكته حسرة خيانة الوطن في لحظة حاجة ، كأنه تولى عند الزحف أو باع خطة الصّمود للأعداء ، لا يزال يفكر و رجلاه تسابقان الريح :" اليوم سأكون في الخط الأمامي ، ربما أنال ما ناله الأوفياء ، لماذا اخترت التقوقع في الخلف ؟ تراني أحمل في نفسي جبنا من نوع ما ؟ تراني لا أستحق شرف الشهادة ؟ اليوم سأكفر عن قصوري في البذل والعطاء ، أنهيت مالي يجب أن أعطي حياتي ." وجد نفسه بجانب مقبرة الشهداء ، سلم عليهم وعيناه تفيضان دمعا ، و هو يقبل قبر الطفل ، ويترحم على الشهيدة التي حاول إحياءها من رقادها و هي طبيبة في مقتبل العمر ، تذكر ملامحها و ضحكتها ونغمتها فردّد على قبرها ، معشوقتي وداعا ، حبيبتي ، حوريتي وداعا ، و داعا يا حورية ، وانقض حاضنا قبر أخيه نائحا مسترسلا : أينك أخي ؟ تركتني وحيدا ، أبي لا يزال في غيبوبة منذ رحيلك ، أمي أصابها ما أصابها و تأبى الاستسلام ، تذكّر روحانية المكان وقدسية الشهادة فأمسك عن البكاء ، استفزته الأكياس البلاستيكية التي تفسد جلال المقبرة ، فطفق يجمعها كيسا كيسا إلى أن سمع هيجانا قادما من بعيد ، ألقى الأكياس مواصلا المشوار .
أذهله خلو الميدان من الخيام ، السيارات تسير في نظام محترمة أضواء المرور عند ملتقى الطرق ، و سط الساحة حيث كانت تلقى الخطب و تصنع الشعارات ، يقف نصب تذكاري لجندي مجهول بلباس مدني ، رأى في وجهه نضارة حورية ، و في كتفيه عرض أخيه البطل ، و في يده يحمل شيئا خيل إليه أنه قطعة حلوى . صوت هادر يحوم حول الجثة الحجرية الهامدة المتمادية في غيبوبة والده ، يحسّ ضربات تنهال على ظهره ، يسمع صوتا قويا لحراس العهد الجديد : " ابتعد أيها المجنون لا تلوث رحاب المعتصم المجهول ! "
المكان خال من المارة ، كأن المدينة عزفت عن الاستيقاظ ، كل شبر في هذه الممرات شهد حدثا تأصل في ذاكرته ، أين يقف و على بعد أمتار قليلة سقط طفل في يده ثليجة ، يومها كان راجعا لتوه من الميدان ، و قد وعد رفاقه بإحضار بعض من الدواء ، أخطأ القناص رميته لتستقر الرصاصة في جبهة البرعم الصغير لتجعلها أشلاء ، و يده لم تفارق قطعة الحلوى . لفه في معطفه و قدّمه لأمّ أخرستها الصدمة ، هل تعاتبه على مروره بالمكان ؟ أم تبكي طفلها الذي أصرّ على مغادرة حضنها الدافئ ؟ أم تكشف عن شعرها و ترمي السماء بركلة غير آبهة بالمنغصات و البلاوي المتناسلة ؟ همّ بالوقوف مدة أطول احتراما لذلك الطفل الباسل الذي أخذ عنه قبلة الموت ، لكنّ الأصداء و الهتافات لا تزال تناديه فواصل المسير .
وصل أخيرا إلى مقر عمله ، تسللت أنامله إلى جيبه ليجده ممزقا ، لا يعرف أين أضاع مفتاح الصيدليّة ، جمع بعض أوراق متناثرة على بابها تفطن إلى غبار يعلوه كما لو أنه موصد لشهور و ربما لأعوام ، لا بأس فالقذارة واحدة من ضرائب الحرية ، تذكر معشوقته الحورية فضرب الباب الفولاذي المشمّع ضربات متوالية و صاح بصوت عال في وجه الظلم والطغيان مردّدا ما يصل إليه من صدى الميادين . انساقت رجلاه لعبير الحرية و صوتها المرعب لواصل المسير . فقد رشده للحظة عابرة فتساءل : " إلى أي ساحة سأذهب في هذا الوقت المبكر ، و ما حاجتي للذهاب هناك بأيادي فارغة ، لا دواء و لا طعام ؟ " تملّكته حسرة خيانة الوطن في لحظة حاجة ، كأنه تولى عند الزحف أو باع خطة الصّمود للأعداء ، لا يزال يفكر و رجلاه تسابقان الريح :" اليوم سأكون في الخط الأمامي ، ربما أنال ما ناله الأوفياء ، لماذا اخترت التقوقع في الخلف ؟ تراني أحمل في نفسي جبنا من نوع ما ؟ تراني لا أستحق شرف الشهادة ؟ اليوم سأكفر عن قصوري في البذل والعطاء ، أنهيت مالي يجب أن أعطي حياتي ." وجد نفسه بجانب مقبرة الشهداء ، سلم عليهم وعيناه تفيضان دمعا ، و هو يقبل قبر الطفل ، ويترحم على الشهيدة التي حاول إحياءها من رقادها و هي طبيبة في مقتبل العمر ، تذكر ملامحها و ضحكتها ونغمتها فردّد على قبرها ، معشوقتي وداعا ، حبيبتي ، حوريتي وداعا ، و داعا يا حورية ، وانقض حاضنا قبر أخيه نائحا مسترسلا : أينك أخي ؟ تركتني وحيدا ، أبي لا يزال في غيبوبة منذ رحيلك ، أمي أصابها ما أصابها و تأبى الاستسلام ، تذكّر روحانية المكان وقدسية الشهادة فأمسك عن البكاء ، استفزته الأكياس البلاستيكية التي تفسد جلال المقبرة ، فطفق يجمعها كيسا كيسا إلى أن سمع هيجانا قادما من بعيد ، ألقى الأكياس مواصلا المشوار .
أذهله خلو الميدان من الخيام ، السيارات تسير في نظام محترمة أضواء المرور عند ملتقى الطرق ، و سط الساحة حيث كانت تلقى الخطب و تصنع الشعارات ، يقف نصب تذكاري لجندي مجهول بلباس مدني ، رأى في وجهه نضارة حورية ، و في كتفيه عرض أخيه البطل ، و في يده يحمل شيئا خيل إليه أنه قطعة حلوى . صوت هادر يحوم حول الجثة الحجرية الهامدة المتمادية في غيبوبة والده ، يحسّ ضربات تنهال على ظهره ، يسمع صوتا قويا لحراس العهد الجديد : " ابتعد أيها المجنون لا تلوث رحاب المعتصم المجهول ! "
تعليق