الصّدى

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • نورالدين لعوطار
    أديب وكاتب
    • 06-04-2016
    • 712

    الصّدى

    ضجيج يقرع مسامعه ، يلتفت ذات اليمين و الشمال ، تتسارع خطواته وتتلاحق أنفاسه و سخونة تعتري جسده الفتي . الجو بارد والطيور متسمرة في أوكارها غير عابئة بأطياف النور المنبعثة من خلا ل سماء كئيبة متجهمة ملبدة بسحب ثقال . ربما تكون الرعود ما شتت انتباهه ، تذكر أنه يسير إلى مقر عمله بعد سفر عقله لبرهة إلى ميادين غاصّة بحناجر صادحة لا يستطيع فك ألغاز صداها . تسلح دوما بالعزم و آمن بغد أفضل ، مرح الشباب ساعده على تحمل تلك المصائب التي تحاول فرملة طموحه الجارف . منذ انبلاج فجر الحرية و هو يشحذ الهمم و يواسي ذوي الملمّات و الشدائد ، رأى رأي العين أناسا قضوا بين يديه مغتسلين بدمائهم الطاهرة ، شهداء تعطرت روحه بطيب روائحهم الزكيّة ، أسعف من المصابين أفواجا فأفواجا ، يعمل في الخط الخلفي ، يؤمن خطوط الإمداد كمن يهيئ العرائس و يقدمهن قربانا لأنهار الحرية المزدهرة الفيّاضة .
    المكان خال من المارة ، كأن المدينة عزفت عن الاستيقاظ ، كل شبر في هذه الممرات شهد حدثا تأصل في ذاكرته ، أين يقف و على بعد أمتار قليلة سقط طفل في يده ثليجة ، يومها كان راجعا لتوه من الميدان ، و قد وعد رفاقه بإحضار بعض من الدواء ، أخطأ القناص رميته لتستقر الرصاصة في جبهة البرعم الصغير لتجعلها أشلاء ، و يده لم تفارق قطعة الحلوى . لفه في معطفه و قدّمه لأمّ أخرستها الصدمة ، هل تعاتبه على مروره بالمكان ؟ أم تبكي طفلها الذي أصرّ على مغادرة حضنها الدافئ ؟ أم تكشف عن شعرها و ترمي السماء بركلة غير آبهة بالمنغصات و البلاوي المتناسلة ؟ همّ بالوقوف مدة أطول احتراما لذلك الطفل الباسل الذي أخذ عنه قبلة الموت ، لكنّ الأصداء و الهتافات لا تزال تناديه فواصل المسير .
    وصل أخيرا إلى مقر عمله ، تسللت أنامله إلى جيبه ليجده ممزقا ، لا يعرف أين أضاع مفتاح الصيدليّة ، جمع بعض أوراق متناثرة على بابها تفطن إلى غبار يعلوه كما لو أنه موصد لشهور و ربما لأعوام ، لا بأس فالقذارة واحدة من ضرائب الحرية ، تذكر معشوقته الحورية فضرب الباب الفولاذي المشمّع ضربات متوالية و صاح بصوت عال في وجه الظلم والطغيان مردّدا ما يصل إليه من صدى الميادين . انساقت رجلاه لعبير الحرية و صوتها المرعب لواصل المسير . فقد رشده للحظة عابرة فتساءل : " إلى أي ساحة سأذهب في هذا الوقت المبكر ، و ما حاجتي للذهاب هناك بأيادي فارغة ، لا دواء و لا طعام ؟ " تملّكته حسرة خيانة الوطن في لحظة حاجة ، كأنه تولى عند الزحف أو باع خطة الصّمود للأعداء ، لا يزال يفكر و رجلاه تسابقان الريح :" اليوم سأكون في الخط الأمامي ، ربما أنال ما ناله الأوفياء ، لماذا اخترت التقوقع في الخلف ؟ تراني أحمل في نفسي جبنا من نوع ما ؟ تراني لا أستحق شرف الشهادة ؟ اليوم سأكفر عن قصوري في البذل والعطاء ، أنهيت مالي يجب أن أعطي حياتي ." وجد نفسه بجانب مقبرة الشهداء ، سلم عليهم وعيناه تفيضان دمعا ، و هو يقبل قبر الطفل ، ويترحم على الشهيدة التي حاول إحياءها من رقادها و هي طبيبة في مقتبل العمر ، تذكر ملامحها و ضحكتها ونغمتها فردّد على قبرها ، معشوقتي وداعا ، حبيبتي ، حوريتي وداعا ، و داعا يا حورية ، وانقض حاضنا قبر أخيه نائحا مسترسلا : أينك أخي ؟ تركتني وحيدا ، أبي لا يزال في غيبوبة منذ رحيلك ، أمي أصابها ما أصابها و تأبى الاستسلام ، تذكّر روحانية المكان وقدسية الشهادة فأمسك عن البكاء ، استفزته الأكياس البلاستيكية التي تفسد جلال المقبرة ، فطفق يجمعها كيسا كيسا إلى أن سمع هيجانا قادما من بعيد ، ألقى الأكياس مواصلا المشوار .
    أذهله خلو الميدان من الخيام ، السيارات تسير في نظام محترمة أضواء المرور عند ملتقى الطرق ، و سط الساحة حيث كانت تلقى الخطب و تصنع الشعارات ، يقف نصب تذكاري لجندي مجهول بلباس مدني ، رأى في وجهه نضارة حورية ، و في كتفيه عرض أخيه البطل ، و في يده يحمل شيئا خيل إليه أنه قطعة حلوى . صوت هادر يحوم حول الجثة الحجرية الهامدة المتمادية في غيبوبة والده ، يحسّ ضربات تنهال على ظهره ، يسمع صوتا قويا لحراس العهد الجديد : " ابتعد أيها المجنون لا تلوث رحاب المعتصم المجهول ! "
  • محمد فطومي
    رئيس ملتقى فرعي
    • 05-06-2010
    • 2433

    #2
    تحيّة طيّبة لك أخي لعوطار،
    بدءا أهنّئك على قدرتك الاستثنائيّة على الرّبط بين الأفكار و الأحداث بطلاقة و أريحيّة لافتة. على تطويعك أيضا لملكة السّرد نحو تصوّرك كأنّي بك قلت ما فكّرت فيه، و هذا صعب. على أيّة حال لقد تركت هذا الانطباع لديّ على الأقلّ.
    أُعجبتُ بالنصّ كثيرا و لا أخفيك لقد فتح شهيّتي على متابعة تجربتك من خلال نصوصك الأخرى.
    بعض الملاحظات أسوقها لك كما وقع في نفسي:
    التحكّم في ناصية السّرد و في خيوط القصّة كان رفيعا لا شكّ كما أسلفت لكنّي لاحظت إبداءا للرّأي و إن بدا مخفيّا بعناية و حنكة. من خلال هذه الأمثلة آمل أن أقرّب لك وجهة نظري:
    رأى رأي العين أناسا قضوا بين يديه مغتسلين بدمائهم
    الطاهرة
    و يقدمهن قربانا
    لأنهار الحرية المزدهرة الفيّاضة
    .
    الطفل
    الباسل
    الذي أخذ عنه قبلة الموت..
    يسمع صوتا قويا لحراس
    العهد الجديد

    طبعا ذكرتُ بعض الأمثلة فقط
    هذه النعوت بدرت من الكاتب لا من الشّخصيّة، و هذا تحديدا ما قصدت به إبداء الرّأي.
    ملاحظة ثانية : كمّ التّعاطف مع الشّخصيّة كان كبيرا بشكل مبالغ
    ملاحظة ثالثة: بالنّسبة للقفلة و إن تضمّنت الكثير من الجرأة و الطّرافة تركت لديّ انطباعا بأنّ الكاتب قوّل الشقّ الذي يراه لئيما كلاما كأنّه بذلك يريد أن يقول : هذا ما بقي و لم نسمعه منهم.
    أجدّد إعجابي بالنصّ متأكّدا أنّ وراءه بحثا و اشتغالا مُضنيين.
    أرشّحه للتّثبيت كمقترح متواضع لنتدبّر ما يزخر به من فنيّات سرديّة عالية.
    مودّتي و تقديري.
    مدوّنة

    فلكُ القصّة القصيرة

    تعليق

    • نورالدين لعوطار
      أديب وكاتب
      • 06-04-2016
      • 712

      #3
      الأستاذ محمد فطومي
      شكرا لكم سيدي على وضع نصّي في الصّورة .
      أحب أكثر ملاحظاتك القيّمة ، التّي أشارت إلى بعض ما فاتني لحظة الكتابة ، أشدّ على يديك بحرارة ، وأحيي فيك تلك العين الفاحصة ، والقراءة المتأنّية . و لا أخفيك أنّني أحاول الابتعاد عن تحميل الأدب لحافا ما ، فهو لا يتزين إلا بفساتين اللغة و حليّ التجربة الإنسانية العميقة ، لكن أحيانا لا تستطيع الإفلات من قبضة الفكرة و تعيش مع البطل مشاعره و تلبسك شخصيّته .

      في انتظار المزيد
      محبّتي

      تعليق

      • عباس العكري
        أديب وكاتب
        • 07-07-2016
        • 139

        #4
        الصّدى
        [aimg=borderSize=0,borderType=none,borderColor=blac k,imgAlign=none,imgWidth=,imgHeight=]https://1.bp.blogspot.com/-nP93yhqNAQM/V5zyK1JjVhI/AAAAAAAAEK0/gorth9a6vokxDv6O71k8O_rxC_MEnTB3QCLcB/s1600/%25D8%25A7%25D9%2584%25D8%25B5%25D9%2591%25D8%25AF %25D9%2589.png[/aimg]
        التعديل الأخير تم بواسطة عباس العكري; الساعة 30-07-2016, 17:31.

        تعليق

        • نورالدين لعوطار
          أديب وكاتب
          • 06-04-2016
          • 712

          #5
          محبّتي وتقديري
          الأستاذ عباس العكري

          تعليق

          يعمل...
          X