الكتابةُ "الثِّرِيدِيَّةُ"
[أو "الكتابة الثُّلَبَدية" نحو نزعة أدبية عربية جديدة]
لا، ليس للثريد، تلك الأكلة العربية المعروفة منذ عصر الجاهلية، أية صلة بما نحن بصدده هنا من حديث عن الكتابة، الأدبية أو غيرها مما يخطه الكاتبون بأيمانهم أو بشمائلهم، لكن "الثِّرِيدِية" المقصودة هو ما يعرفه المختصون في الرسم الإعلامي، "infographie" (أو "infographic design") من الرسم بالأبعاد الهندسية الثلاثة: العرض والطول والعمق، وهو ما يصطلح عليه بـ "D3" ("ثري دي" ومنه جاءت الصفة "الثِّرِيدِيَّة").[أو "الكتابة الثُّلَبَدية" نحو نزعة أدبية عربية جديدة]
لكن ما علاقة الـ3D الهندسية بما نريد قوله عن الكتابة؟ في الحقيقة لا علاقة لهذا بذلك سوى كلمة "الأبعاد" والعدد "ثلاثة"، والكتابة في نظري لها ثلاثة أبعاد تُؤَسَّس عليها، أو ثلاثة أهداف ترمي إليها وهذه الأبعاد هي:
1) البعد اللغوي،
2) البعد الأدبي،
3) البعد الأخلاقي.
1- فأما البعد اللغوي، بأن تستهدف الكتابةُ إضافةَ شيء إلى اللغة العربية، والإضافة هنا مجازية وليست حقيقية في بعض جوانبها، كأن يعمد الكاتب إلى لفظة منسية أو مُمَاتة أو مهجورة أو متروكة فيحييها الكاتب و يبعثها من مرقدها في المعاجم والكتب التراثية، أو كأن يترجم كلمة من لغة أعجمية لا توجد في العربية، أو كأن يخترع، أن يضع، من نفسه كلمة ويروِّج لها بكتاباته، وهكذا يكون قد "أضاف" شيئا إلى اللغة العربية، فإن لم يضف الكاتب جديدا إلى اللغة العربية، والإتيان بالجديد من الصعوبة بمكان، فلا ينقص منها على أقل تقدير كأن يأتي في كتابته بأعجب الأخطاء الإملائية والنحوية واللغوية وأغربها، وهذا أضعف الإيمان بهذه اللغة الشريفة المقدسة، فإن لم تستطع تجميل العربية بكتاباتك فلا تشوه العربية بها.
2- وأما البعد الأدبي، كأن يتفنن الكاتب في صياغة جمله وعباراته ونصوصه فيأتي بالجميل البديع من غير سرقة ممن سبقه، أو من دون تزييف لما قيل قبله ونسبته إلى نفسه فيكون منتحلا محتالا ساطيا على أفكار غيره، أو حتى عباراته بلفظها، وهو يدعي الإبداعية، غاشا لقرائه، وفي فن التحرير يتمايز الأدباء ويتباينون ويتفاضلون، فيرتفع بعضهم إلى السِّمَاك الأعلى وينزل آخرون إلى الحضيض الأسفل، والسر يكمن في التحرير والتحبير والتعبير، وقد تناولت بشيء من التوضيح أسس الكتابة الأدبية الراقية في مقالتي "مرتكزات الكتابة الأدبية الراقية" التي نشرتها في موقع "ملتقى الأدباء والمبدعين العرب" في نوفمبر 2014، [http://www.almolltaqa.com/vb/showthr...E%C7%E1%C9%29] حيث ذكرت مواصفات الكتابة الأدبية الراقية في تقديري الشخصي طبعا، وهي غير ملزمة لغيري حتما.
3- وأما البعد الأخلاقي بأن تأتي الكتابة لتعالج قضية أخلاقية، إيجابية مفيدة فتشجعها أو سلبية ضارة فتحاربها، فتكون الكتابة بهذا هادفة بناءة. تعرض الكتابة الهادفة قضية ما وتناقشها وتقترح الحلول لها إن كانت تحتاج إلى حلول، أو تكشف ظاهرة اجتماعية متفشية في المجتمع لكنها لم تعالج، أو لم تدرس، بجدية أو يُخشى من عرضها على الجمهور من أن يُصدَم أو "يثور" لأنها في تقديره من "المحرمات" أو من "الممنوعات"، أو من "الطابوهات" كما يقال في الأعجمية، والتي يجب كتمها أو إسرارها أو عدم كشفها أو يجب الحديث عنها بالهمس وليس بالجهر وبين الخاصة في لقاءات ضيقة وليس بين العامة.
وفي هذا البعد بالذات مربط الخير، أو مربط الفرس كما يقال، والخيل بأعناقها الخير معقود، ولذا أُفضل التعبير بمربط الخير على مربط الفرس، وفيه يفترق الكُتَّاب ويختلفون في المقاصد التي يرمونها بكتاباتهم المختلفة، فمنهم من يكتب لنفسه والمتعة، ومنهم من يكتب للشهرة والسمعة، ومنهم من يكتب لإصلاح المجتمع بنقد ظواهره، ومنهم من تكون هذه الأغراض كلها عنده مجتمعة، والكتابة من العمل وهي من كسب المرء وتؤسس على النية التي يضمرها الكاتب في نفسه و"إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى"، وكذلك الكتابة بالمقاصد ولكل كاتب ما قصد، ولذا يحرص الكُتَّاب الرِّساليون على أن تكون كتاباتهم تستهدف أغراضا نبيلة شريفة.
ولعل القراء هنا قد يوافقونني فيما ذهبت إليه من البعدين الأولين: اللغوي والأدبي، لكنهم قد يخالفونني في الثالث، إذ الكتابة الأدبية عندهم ليست وعظا ولا إرشادا ولا دعوة ولا خطبة في مسجد، أو كنسية أو بيعة، إنما الكتابة تعبير عما يختلج في النفس من مشاعر وأحاسيس وهواجس في قالب ممتع ولا تستهدف غير هذا البتة، وفي هذه النقطة بالذات نختلف أنا وهم اختلافا بينا وضاحا.
أرى ضرورة تقييد الكتابة بالأخلاق الحميدة وإلا صارت وسيلة إفساد وإن كانت وسيلة إمتاع للمُلقي والمتلقي على حد سواء، فللملقي متعتة التعبير عما يختلج في أعماقه وللمتلقي متعة القراءة ولاسيما إن كانت كتابة راقية ومشاركة الكاتب في خوالجه، وهذه وظيفة النشر على أوسع نطاق، وقد وفرت وسائل الاتصال الحديثة فرصا للوصول إلى عدد من الأشخاص لا يمكن إن نصل إليهم بالوسائل التقليدية كالجرائد المطبوعة أو الكتب الورقية.
أتوقف الآن عند هذا الحد على أمل استئناف الحديث في فرصة أخرى إن شاء اله تعالى تاركا الفسحة للقراء ليتمعنوا فيما قلته عساهم يثرونه أو ينقدونه أو يردونه.
البُليْدة، أمسية يوم الإثنين 28 من ذي الحجة 1436 الموافق 12 أكتوبر 2015.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــملحوظة: كنت في بادئ الرأي اخترت النحت "ثريدية" من "الثري دي" كما هو مبين في المتن ثم عدلت إلى النحت الآخر "ثُلَبَدية" نسبة إلى "ثلاثي الأبعاد" بعد مناقشة لغوية أدبية مع صديقي عبد الرزاق بسباس في منتدى أدبي آخر صديق لملتقانا هذا، وأرى أن "ثلبدية" العربية أحسن من "ثريدية" الأعجمية (09.02.2017).
تعليق