معضلة أدبية
(قضية للمناقشة)
لست أدري، قد أكون واهما أو ضالا أو حالما أو مبالغا في تقدير خطورة القضية التي أعرضها للمناقشة هنا وهي ضرورة مراجعة النصوص الأدبية قبل نشرها على المتلقين في أي شكل من أشكال النشر المعروفة إن ورقيا أو "إلكترونيا" في المواقع الأدبية وغيرها من المواقع التي تنشر فيها الكتابات بمختلف أنواعها؛ فأما ورقيا فإن مما هو معروف عادة أن دور النشر أو دور الصحافة تملك "لجنة قراءة" أو "مصلحة تصحيح" تتكفل بمراجعة النصوص التي تعرض عليها فتصحح ما قد يرد فيها من الأخطاء المتنوعة: إملائية أو نحوية أو لغوية فتقل البلية ويخرج النص إلى القراء صحيحا نسبيا على ما في هذا الادعاء من تحفظ فما أكثر الأخطاء "المطبيعة" التي تُبتلى بها الكتابات وقلَّ أن يسلم كتاب أو مكتوب من هذه الرزية، وقد أكون مصيبا، لست أدري.(قضية للمناقشة)
وأما "إلكترونيا" فإن المصيبة أوسع وأشنع وأفظع بسبب أن كل قادر على رقن الحروف على المرقم، أو المرقن، [لوح المفاتيح] ويستطيع رصف الكلمات في سطور وفقرات يسحب نفسه كاتبا بَلْهَ أديبا، كبيرا، أو صغيرا إن تحلى ببعض التواضع، ويغضب إن لم يعد كذلك بحجة: أن المهم عنده إنما هو المعنى وليس اللفظ، وكأن المعاني تُنقل خارج الألفاظ أو من غيرها، وهذا وهم كبير وادعاء خطير إذ لا سبيل إلى المعاني بغير ألفاظها الحاملة لها والمحتوية عليها، فالألفاظ كالأواني والمعاني كالمواد الموضوعة فيها، أو إن الألفاظ كالظروف والمعاني كالمظروفات بداخلها، أو قد يظن هذا الكاتب أن القارئ يدرك المعاني التي تدور في خلده، فإن لم يدركها فالقارئُ المذنب أو القاصر لأن المعنى في بطن الشاعر كما يشاع.
وهنا مكمن الخلل أو بؤرة الوهم، أو "مربط الفرس" كما يقال إن بقي للفرس مكان في حياة الناس، إن الألفاظ وصيغها وصياغتها في تعابير، أو في جمل، محكمة التنسيق محبكة التنميق هي التي تحيل على المعاني التي تدور في ذهن الكاتب، كما أن للنحو في ترتيب المفردات في الصيغ دورَه وقانونه ووظيفتَه في تبليغ تلك المعاني الكامنة في نفس كاتبها، والمعاني تابعة للألفاظ وليس العكس، والكفاءة تكمن في تركيب الألفاظ وترتيبها وتنسيقها حتى تؤدي وظيفتها المرجوة أو مهمتها المتوخاة، وإلا قال من شاء ما شاء أنىا شاء كيف شاء وهذا وهم كبير وخطأ خطير.
والخطورة تكمن في نظري أن الكتابة الأدبية، أو غيرها من حيث صياغتُها مسئولية أدبية لا يعاقب عليها القانون، وإلا كثر الهالكون بسببها، وإنما يعاقب عن فحواها ومراميها وأغراضها وإساءتها إلى ما لا تجوز الإساءة إليه، إنما "يعاقِب" على الكتابة النُّقّادُ لمّا يرفضونها أو يردُّونها أو يعاتبون كُتَّابها على إساءتهم الأدبية إلى اللغة أو إلى الأدب أو إلى فن من فنونه، بيد أن كثيرا ممن يَخالون أنفسهم كُتَّابا لا يبالون بنقد النقاد بل تراهم يغضبون ويثورون، أو يجدون في نفوسهم شيئا لا يصرحون به تأدبا أو جبنا أو خشية أو نفاقا، إن تجرأ أحد فنقد كتاباتِهم من حيث أخطاؤها الإملائية والنحوية واللغوية.
والعجيب أنك تجد هذا الكاتب نفسه عندما يكتب بلغة أعجمية، أيا كانت، يحرص الحرص كلَّه على تجويد كتابته وتحسينها وتنميقها وتزويقها خشية أن يُضحك عليه أو يُستهزأ به إن هو أخلَّ بقاعدة نحوية أو أخطأ في صياغة أو تعبير في تلك اللغة، أما عند الكتابة باللغة اليتمية، العربيةَ، فلا خجل ولا حتى حرج إن داس على قواعد اللغة كلها: إملاء وصرفا ونحوا حتى على تلك التي يتعلمها الصبيان في المدارس الابتدائية، فالمعنى هو المهم ولتذهب القواعد إلى الجحيم.
هذا، وقد يظن ظان أنني أطالب ألا تخرج كتابة إلا خالية من أي خطأ ألبتة أو قد يتوهم متوهم أن كتاباتي أنا تسلم من الأخطاء، فهذا الوهم وذاك الظن خاطئان تماما لأن لكل قلم زلة إما لغفلة وإما لجهل وإما لسبق القلم، أو الأصابع على المرقن، أو المرقم [لوح المفاتيح]، وقديما قيل:"لكل عالم هفوة، ولكل جواد كبوة، ولكل صارم نبوة ولكل كريم صبوة" فمهما احترس كاتب من الأخطاء، أو الهفوات، إلا يتتسرب إلى كتاباته منها شيء وإن قليلا، ولا تكاد تسلم كتابة من خطأ بل أخطاء، بيد أنه يجب التمييز بين الهفوات، أو الغفلات، وبين الأخطاء الفظيعة التي يقع فيها كثير من الكُتَّاب وكأنهم ما درسوا في مدرسة أو ما قرأوا كتابا في النحو ثم تجدهم يتبجحون بادعاءاتهم كأنهم هم وحدهم الكُتَّاب المحترفون وغيرهم ... "الهواة" المنحرفون، وهذا - والله - ادعاء عريض وغرور بغيض.
وبقي لي أن أقول إن الكتابة باللغة العربية ليست كأي كتابة باللغات الأخرى، فهي أمانة في عنق من يتحمل مسئولية الكتابة بهذه اللغة الشريفة الثرية الواسعة، كما أن الحرص على سلامة الكتابة من الأخطاء من الحرص على احترام العربية واحترام القراء وتقدير الذات، فمن تهاون في هذه الشُّعب الثلاث فكأنما تهاون في تقدير نفسه وقلل من احترام القراء وأساء إلى العربية، نسأل الله السلامة من كل سوء والعافية من كل داء والشفاء من العي فإنما شفاء العي السؤالُ، اللهم آمين يا رب العالمين.
هذه إذن هي القضية التي أحببت عرضها على القراء عساهم يثرونها بما يرونه يغني الموضوع ويزيد في تعميقه أو الإلمام به والحديث على أية حال ذو شجون فلنتوقف هنا على أمل تلقي مشاركات القراء إن كان الموضوع مما يستوجب المتابعة أو يستثير الاهتمام.
البُليْدة، ظهيرة يوم السبت 25 من شهر رجب مضر 1438، الموافق 22 من أبريل/نيسان 2017.
تعليق