وأنا أقرأ وأتابع على الفيسبوك صفحات المشاهير، رأيت العجب العجاب، حقيقة لم أتجرأ على التعليق على أعمالهم سواء أكانت قصائد أو مقالات سياسية أو قصصا، أو كلاما فارغا أو صورا أو رسومات كرتونية، أو حتى مقاطع مصوّرة تتعبني مشاهدتها فصبيبي لايستطيع تحميل بعض الدقائق إلا في ساعات تماما كمزاجي الذي لا يحتمل كثرة الجدال ولائحة معارفي التي لا تستطيع تحمل غير عدد محدود فذاكرتها متعبة وضيقة لأن صبيبي التواصلي ينقطع سيلانه أحيانا وفق مزاجي المتقلب، ليس ضجرا من أحد بقدرما هو ضجر من نفسي ذاتها التي تحشر أنفها أحيانا في حدائق لا تستهويني زهورها و لا عصافيرها. بل أكثر من ذلك أجدني أحبّ ممارسة مزاجيتي في هذا العالم الواسع الفسيح، فأحس فيه حرية، أشتاق إليها كثيرا كلما أقفلت الشاشة و أغلقت نوافذها، فأضطر لتقمص دور المتواضع و الحكيم و المتفهم، و هي أشياء لا أومن بها من قريب أو بعيد، فأعرف فقط أني إنسان غير قابل للاحتواء كما باقي البشر و إن أظهرت كما يظهرون ألوانا براقة من الطاعة العمياء.
تخيلت أنني مشهور أيضا، ينتظر الآلاف وربما الملايين أن أهبط بطائرتي النفّاثة على صفحتي ليتذيل كلامي بدخان يكبر أناكوندا إستوائية كطريق في صحراء، فتعلو الأصوات المصفقة مديحا، و النواح الزاعق ينفث سمّا ناقعا وتنطلق الروائح الزكية مبخرة صفحتي و تزكم أخرى أنف مشاركتي، و غيرها كثير بلا طعم ولا رائحة فهي تساير لتساير، ومنها التي تنسج هبلها على هواها لحاجة في نفسها، و كلها تعاليق معلقة بأهداب هذياني، وتعطيه شهادة الحياة و تؤشر عليه بطابع الصحة والعافية. أراها مجتمعة تتعاضد لتلصق بي ذيلا طويلا جدا لا أحتمل جره، وقد علمنا البعض أن ذيلنا فقدناه ذات تطور، لأكتشف أن ذيولا كثيرة لا تزال بنا عالقة رغم ما نشهده من تطور.
تصلني من أسراب المتعطشين رسائل تغري بالمغامرة، ورسائل تشكو حال الدنيا، ورسائل تموضع صاحبها في أعلى عليين، و أخرى تهبط بمولاها إلى أسفل سافلين، تذكرت عندما كنت برعما يافعا وحسبت نفسي أستطيع أن أملك الدنيا و أدير بيدي مقودها، كان ساعي البريد يشتكي كلما قدم لي حزمة من الرسائل، إذ في الغد القريب سيأتي بأخرى و أحيانا يحسّ الضجر فينتظر أسبوعا فيخصّص لي حمولة دراجته، لا أردّ إلا على بعضها لكني أرسل إلى كل محطات الدنيا عنوان بيتي، فتأتيني المخطوطات بالآلاف المؤلفة، وياليت الأوراق النقدية تعرف طريقها إلى بيتي فكم مرة أعطيتها العنوان و لم تستجب. لو جاءتني يومها لذهبت عند كل هؤلاء و أولئك طمعا في اسكات جوعهم ورأب صدوع الحيرة في أقاصيهم.
أبيت اللّيالي أفكّ شفرات الرسائل، يا له من عمل شاق، فتختلط علي المفاتيح، وتتلاقح القصص في ذهني. تماما كما يحدث معي الآن وأنا أنتقل عبر الجدران و أقلّب الصفحات حتى تعتري ذهني دوخة، فأقوم كما بالأمس مستنجدا بسيجارة تهدّئ من بهرجة الأرواح الساكنة في دماغي، فربما على كل جدار رقيب عتيد ينفث تعويذاته فتصيبني بمس يسيطر على عقلي بوسوسته السحرية.
أخيرا وجدت التي تبحث عنها روحي، أو ربما توهمت ذلك، قد تكون جرعة طلاسمها أقوى من كل التي صبغت بها الحيطان و الصفحات، لم أتمالك نفسي إلا وقد ركبت قطار الهيام من جديد، و غزى الهوى كياني، فأبيت على رسم لوحات تجريدية غارقة في متاهات روحي التي لا تحب إلا هذا التعلق، لكأنها عنزة لا تستحلي المراعي المنبسطة و إنما تتسلق الأشجار و وتقارع الجبال، هكذا أنا أترك على مدار العمر الحلول البسيطة، و أحاول التمرد على كل بسيط، فروحي على عناد مع نفسها، تحب إثبات ذاتها في رهانات صعبة. فلا يرتاح بالي إلا وقد ضاقت به السبل ليستنزف المزيد من الطاقة والجهد بحثا عن كوة.
سافرت هذه المرة مقتنعا أنني سأكون في رحاب من ستحررني من قبضة الجداريات و من مخالب الفيسبوك الذي سيطر على حياتي كما سيطر عليها المذياع في زمن المراهقة. تراني لم أكبر بعد أم أن التطور غير موجود بالفعل كما يدعون، فحياتي و عقلي لم يشهد أي منهما على تطور حقيقي على مدار الأيام.
حطت قدماي عند باب الحديقة التي زرتها في مراهقتي لمرة واحدة وقد شددت إليها الرحال من بلدتي الصغيرة، تقدمت خطواتي بين أشجارها التي حضرت عقيقة مولدها، كما شممت الرعيل الأول من زهورها، كان كل شيء فيها طريا مغريا حد السّحر، مقاعدها، نافوراتها، حتى عمالها وحراسها كانوا شبابا في بذلات أنيقة، أرجوحاتها تغري الكبار قبل الصغار، تذكرت أني أخذت بيد زهرة وسادعتها حتى استوت قبالتي، قبل أن ينطلق تأرجحنا الذي دام دهرا كاملا، وكاد الخوف يقتلني و يخنقها، وتشنجت كل أعصابنا، و شحب وجهانا، وارتعدت أوصالنا.
أراها الآن بمنظار آخر، فهي كغابة مهجورة، كطفلة منسية امتدّت أظافرها المتّسخة، وتشتت شعرها الأشعث و تمزقت ملابسها الملطخة، تأملت الكراسي المهترئة الصدئة المهجورة، أتعب نظري إصفرار أعشابها الطاغي، أقتحم المكان لعلّني أعثر على هذه الفتاة العشرينية التي تعلقت بأهداب صورتي الشبابية بصفحتي الفيسبوكية، و جاءت بي من أقاصي الأرض إلى هذا المكان المهجور، تمنيت أن لا أكون وقعت في مصيدة ما، فالنصب بات كشرب الماء، لكن ماذا سأخسر، لا شيء أملكه غير صفحاتي، و حياتي التي لا أطيق امتلاكها، فأبددها بين أيدي المبددين، أخيرا ظهر هناك على المقعد من يجعلني أطمئن أن المكان فيه بعض من حياة، كلما اقتربت من المقعد تبعثر هدوئي و تمايلت خطواتي، امرأة هي، وقفت أمامها مشدوها، كانت غاية في السوء صورتها، تهالكت أسنانها و امتُصّت وجنتاها وغزا البياض شعرها المجعد، كانت ترتدي بذلة رياضية ربما جاءت تنفس عن غضب عقم السنين، وتكالب المصائب عليها، نطق لسانها:" أهلا بك حبيبي " قلت بسخرية:" حبيبي ... هكذا دفعة واحدة " فردت:" أتحمل سيجارة ..؟." قدمت لها الدّخان وترقرقت دمعة من عينيها:" و قالت: "ألا تزال تجري وراء السراب؟" ولما هممت بتركها قالت:" أنا زهرة، ألا تحب أن نتأرجح قليلا ؟"
تخيلت أنني مشهور أيضا، ينتظر الآلاف وربما الملايين أن أهبط بطائرتي النفّاثة على صفحتي ليتذيل كلامي بدخان يكبر أناكوندا إستوائية كطريق في صحراء، فتعلو الأصوات المصفقة مديحا، و النواح الزاعق ينفث سمّا ناقعا وتنطلق الروائح الزكية مبخرة صفحتي و تزكم أخرى أنف مشاركتي، و غيرها كثير بلا طعم ولا رائحة فهي تساير لتساير، ومنها التي تنسج هبلها على هواها لحاجة في نفسها، و كلها تعاليق معلقة بأهداب هذياني، وتعطيه شهادة الحياة و تؤشر عليه بطابع الصحة والعافية. أراها مجتمعة تتعاضد لتلصق بي ذيلا طويلا جدا لا أحتمل جره، وقد علمنا البعض أن ذيلنا فقدناه ذات تطور، لأكتشف أن ذيولا كثيرة لا تزال بنا عالقة رغم ما نشهده من تطور.
تصلني من أسراب المتعطشين رسائل تغري بالمغامرة، ورسائل تشكو حال الدنيا، ورسائل تموضع صاحبها في أعلى عليين، و أخرى تهبط بمولاها إلى أسفل سافلين، تذكرت عندما كنت برعما يافعا وحسبت نفسي أستطيع أن أملك الدنيا و أدير بيدي مقودها، كان ساعي البريد يشتكي كلما قدم لي حزمة من الرسائل، إذ في الغد القريب سيأتي بأخرى و أحيانا يحسّ الضجر فينتظر أسبوعا فيخصّص لي حمولة دراجته، لا أردّ إلا على بعضها لكني أرسل إلى كل محطات الدنيا عنوان بيتي، فتأتيني المخطوطات بالآلاف المؤلفة، وياليت الأوراق النقدية تعرف طريقها إلى بيتي فكم مرة أعطيتها العنوان و لم تستجب. لو جاءتني يومها لذهبت عند كل هؤلاء و أولئك طمعا في اسكات جوعهم ورأب صدوع الحيرة في أقاصيهم.
أبيت اللّيالي أفكّ شفرات الرسائل، يا له من عمل شاق، فتختلط علي المفاتيح، وتتلاقح القصص في ذهني. تماما كما يحدث معي الآن وأنا أنتقل عبر الجدران و أقلّب الصفحات حتى تعتري ذهني دوخة، فأقوم كما بالأمس مستنجدا بسيجارة تهدّئ من بهرجة الأرواح الساكنة في دماغي، فربما على كل جدار رقيب عتيد ينفث تعويذاته فتصيبني بمس يسيطر على عقلي بوسوسته السحرية.
أخيرا وجدت التي تبحث عنها روحي، أو ربما توهمت ذلك، قد تكون جرعة طلاسمها أقوى من كل التي صبغت بها الحيطان و الصفحات، لم أتمالك نفسي إلا وقد ركبت قطار الهيام من جديد، و غزى الهوى كياني، فأبيت على رسم لوحات تجريدية غارقة في متاهات روحي التي لا تحب إلا هذا التعلق، لكأنها عنزة لا تستحلي المراعي المنبسطة و إنما تتسلق الأشجار و وتقارع الجبال، هكذا أنا أترك على مدار العمر الحلول البسيطة، و أحاول التمرد على كل بسيط، فروحي على عناد مع نفسها، تحب إثبات ذاتها في رهانات صعبة. فلا يرتاح بالي إلا وقد ضاقت به السبل ليستنزف المزيد من الطاقة والجهد بحثا عن كوة.
سافرت هذه المرة مقتنعا أنني سأكون في رحاب من ستحررني من قبضة الجداريات و من مخالب الفيسبوك الذي سيطر على حياتي كما سيطر عليها المذياع في زمن المراهقة. تراني لم أكبر بعد أم أن التطور غير موجود بالفعل كما يدعون، فحياتي و عقلي لم يشهد أي منهما على تطور حقيقي على مدار الأيام.
حطت قدماي عند باب الحديقة التي زرتها في مراهقتي لمرة واحدة وقد شددت إليها الرحال من بلدتي الصغيرة، تقدمت خطواتي بين أشجارها التي حضرت عقيقة مولدها، كما شممت الرعيل الأول من زهورها، كان كل شيء فيها طريا مغريا حد السّحر، مقاعدها، نافوراتها، حتى عمالها وحراسها كانوا شبابا في بذلات أنيقة، أرجوحاتها تغري الكبار قبل الصغار، تذكرت أني أخذت بيد زهرة وسادعتها حتى استوت قبالتي، قبل أن ينطلق تأرجحنا الذي دام دهرا كاملا، وكاد الخوف يقتلني و يخنقها، وتشنجت كل أعصابنا، و شحب وجهانا، وارتعدت أوصالنا.
أراها الآن بمنظار آخر، فهي كغابة مهجورة، كطفلة منسية امتدّت أظافرها المتّسخة، وتشتت شعرها الأشعث و تمزقت ملابسها الملطخة، تأملت الكراسي المهترئة الصدئة المهجورة، أتعب نظري إصفرار أعشابها الطاغي، أقتحم المكان لعلّني أعثر على هذه الفتاة العشرينية التي تعلقت بأهداب صورتي الشبابية بصفحتي الفيسبوكية، و جاءت بي من أقاصي الأرض إلى هذا المكان المهجور، تمنيت أن لا أكون وقعت في مصيدة ما، فالنصب بات كشرب الماء، لكن ماذا سأخسر، لا شيء أملكه غير صفحاتي، و حياتي التي لا أطيق امتلاكها، فأبددها بين أيدي المبددين، أخيرا ظهر هناك على المقعد من يجعلني أطمئن أن المكان فيه بعض من حياة، كلما اقتربت من المقعد تبعثر هدوئي و تمايلت خطواتي، امرأة هي، وقفت أمامها مشدوها، كانت غاية في السوء صورتها، تهالكت أسنانها و امتُصّت وجنتاها وغزا البياض شعرها المجعد، كانت ترتدي بذلة رياضية ربما جاءت تنفس عن غضب عقم السنين، وتكالب المصائب عليها، نطق لسانها:" أهلا بك حبيبي " قلت بسخرية:" حبيبي ... هكذا دفعة واحدة " فردت:" أتحمل سيجارة ..؟." قدمت لها الدّخان وترقرقت دمعة من عينيها:" و قالت: "ألا تزال تجري وراء السراب؟" ولما هممت بتركها قالت:" أنا زهرة، ألا تحب أن نتأرجح قليلا ؟"
تعليق