بُتر لزوجتي نهد.
قالت وقد ارتسمت على وجهها ابتسامة فظيعة: لقد تبدّل كلّ شيء.. تحمّلني.
قضمتُ أحد أظفاري.
تابَعت: سيكون لدينا مُتّسع لنستعيد بعض الذّكريات.
مسحتُ براحتي على معصمها برفق. أرعبني كلامها إلى درجة لا توصف، حتّى أنّي شرعتُ في اللّعب مع دماغي لعبة الأحرف وأسماء الحيوانات، وكنتُ في آن أقول في نفسي كي أطرد العبث الذي سيطر على كياني: إنّها في حاجة إليّ.
بسطت ذراعها على الطّاولة وتوسّدَتها. كنتُ منزعجا ما يكفي لينبت لها نهد آخر.. وكان الحلّ الوحيد الذي ألحّ عليّ آنذاك هو أن يمرّ أسبوع بأيّ ثمن. قلت: نلعق وريقات «كبّار» من جبل قريتنا ونلصقها على جبيننا. ما رأيك؟
تحمّسَت لكنّي لم أحبَّ إصرارها على أن نمضي أيّاما هناك في قريتنا القرميديّة الوادعة التي احتملتنا جميعا لكنّها أبدا لن تحتمل أن يُقام فوقها طابق علويّ، بدت لي رغبة زوجتي مثل وصيّة، مع ذلك سافرنا. منذ زمن نزح أهلنا إلى العاصمة حيث صرنا نُقيم. لذا كان علينا تجزية الأيّام في بيت جدّي المهمل.
أفقت باكرا غداة وصولنا. كنتُ مُتعفّنا بمعنى الكلمة. رحتُ أجوب البلدة دون وجهة محدّدة. في البدء كانت جبلا ونبعا ومطمور فسفاط تحيط بها بحائر القمح والذُّرة. حتّى جاء يوم أفضت فيه رمية نرد أجرتها أوروبا إبّان الحرب إلى أن تكون قريتنا للإيطاليين. شغّلوا المنجم وحوله شيّدوا منازلهم على نحو يوهمهم بأنّهم مازالوا في إيطاليا. كانت السّواعد السّمراء تأتيهم كلّ يوم من البحائر ولا تعود جميعها. في الأخير ورثنا عنهم قريتنا. بيتنا مصحّتهم. بيت أهل زوجتي كنيستهم. البلديّة كانت الملهى. أمّا حطام الصّدأ الذي تحيط به الآن أجمات زرقاء من كلّ جانب فكان منجمهم.
من بعيد لاحت لي العجوز العزباء «ألفونسينا» تكنس أمام منزلها أشياء لا يراها سواها. لا تبادر أحدا بالكلام ولا حتّى بالتحيّة. كلّ الإيطاليين غادروا إلى بلادهم ما عداها. دعتني إلى احتساء قهوة. قالت إنّها أصليّة. جلسنا في الرّدهة تحت تعريشة من عنب. قالت بلكنتها الّلذيذة: «دعوتك لأقتلك! لقد سكبت لك سمّا في فنجانك». تسمّرت. شعرت حقّا بألم جهة قلبي. ضحِكَت: «أوو بنيّ لا تخف!.. أعرفك جيّدا أنت وأصحابك منذ كنتم صغارا.. لقد قتلتم أخي «جوزيبي»! نعم صدّقني. لقد قتلتموه بدم بارد.. » بردت أطرافي. ارتخت في كرسيّها الهزّاز ثمّ تابعت: «عندما كنتم صغارا سقطت كرتكم في بيتي. نطّ أحدكم إلى الدّاخل وحاول رميها إلى الخارج من مكانه. الكرة أصابت موضعا في الحائط. ذاك الذي قبالتك.. هناك في ذلك الموضع المتآكل هل تراه؟ هناك تحديدا كانت تعيش امرأة ذات ملامح طيّبة.. امرأة من جير. تفهمني؟ أنا و «جوزيبي» كنا نحبّها. كنتُ أباغته أحيانا وهو يمرر أصابعه على ملامحها دون أن يلمسها. الكرة أزالتها من الوجود! بعد الحادثة بأشهر مات «جوزيبي» .
حدّقتُ إلى حيث أشارت بإصبعها. وخطر لي فورا - لو لا أنّها نامت - أن أعتذر لها نيابة عن صديقي: فقد كنتُ المُجرمَ الذي قفز إلى الدّاخل يومها.
خرجتُ بصمت حتّى لا أوقظها. بمحاذاة الباب الموارب وقفت برهة أتأمّل أثر امرأة الجير. غمرني سرور خاطف كبرق ابتلّت له عيناي. حالما تصحو زوجتي سأجعلها تفهم أنّها كانت محقّة عندما أصرّت على المجيء إلى القرية. سأوصّل لها أنّ الجمال وُجد كي نُمرر أصابعنا عليه دون أن نلمسه.. بِتُّ أعلم كيف.
م.فطومي
قالت وقد ارتسمت على وجهها ابتسامة فظيعة: لقد تبدّل كلّ شيء.. تحمّلني.
قضمتُ أحد أظفاري.
تابَعت: سيكون لدينا مُتّسع لنستعيد بعض الذّكريات.
مسحتُ براحتي على معصمها برفق. أرعبني كلامها إلى درجة لا توصف، حتّى أنّي شرعتُ في اللّعب مع دماغي لعبة الأحرف وأسماء الحيوانات، وكنتُ في آن أقول في نفسي كي أطرد العبث الذي سيطر على كياني: إنّها في حاجة إليّ.
بسطت ذراعها على الطّاولة وتوسّدَتها. كنتُ منزعجا ما يكفي لينبت لها نهد آخر.. وكان الحلّ الوحيد الذي ألحّ عليّ آنذاك هو أن يمرّ أسبوع بأيّ ثمن. قلت: نلعق وريقات «كبّار» من جبل قريتنا ونلصقها على جبيننا. ما رأيك؟
تحمّسَت لكنّي لم أحبَّ إصرارها على أن نمضي أيّاما هناك في قريتنا القرميديّة الوادعة التي احتملتنا جميعا لكنّها أبدا لن تحتمل أن يُقام فوقها طابق علويّ، بدت لي رغبة زوجتي مثل وصيّة، مع ذلك سافرنا. منذ زمن نزح أهلنا إلى العاصمة حيث صرنا نُقيم. لذا كان علينا تجزية الأيّام في بيت جدّي المهمل.
أفقت باكرا غداة وصولنا. كنتُ مُتعفّنا بمعنى الكلمة. رحتُ أجوب البلدة دون وجهة محدّدة. في البدء كانت جبلا ونبعا ومطمور فسفاط تحيط بها بحائر القمح والذُّرة. حتّى جاء يوم أفضت فيه رمية نرد أجرتها أوروبا إبّان الحرب إلى أن تكون قريتنا للإيطاليين. شغّلوا المنجم وحوله شيّدوا منازلهم على نحو يوهمهم بأنّهم مازالوا في إيطاليا. كانت السّواعد السّمراء تأتيهم كلّ يوم من البحائر ولا تعود جميعها. في الأخير ورثنا عنهم قريتنا. بيتنا مصحّتهم. بيت أهل زوجتي كنيستهم. البلديّة كانت الملهى. أمّا حطام الصّدأ الذي تحيط به الآن أجمات زرقاء من كلّ جانب فكان منجمهم.
من بعيد لاحت لي العجوز العزباء «ألفونسينا» تكنس أمام منزلها أشياء لا يراها سواها. لا تبادر أحدا بالكلام ولا حتّى بالتحيّة. كلّ الإيطاليين غادروا إلى بلادهم ما عداها. دعتني إلى احتساء قهوة. قالت إنّها أصليّة. جلسنا في الرّدهة تحت تعريشة من عنب. قالت بلكنتها الّلذيذة: «دعوتك لأقتلك! لقد سكبت لك سمّا في فنجانك». تسمّرت. شعرت حقّا بألم جهة قلبي. ضحِكَت: «أوو بنيّ لا تخف!.. أعرفك جيّدا أنت وأصحابك منذ كنتم صغارا.. لقد قتلتم أخي «جوزيبي»! نعم صدّقني. لقد قتلتموه بدم بارد.. » بردت أطرافي. ارتخت في كرسيّها الهزّاز ثمّ تابعت: «عندما كنتم صغارا سقطت كرتكم في بيتي. نطّ أحدكم إلى الدّاخل وحاول رميها إلى الخارج من مكانه. الكرة أصابت موضعا في الحائط. ذاك الذي قبالتك.. هناك في ذلك الموضع المتآكل هل تراه؟ هناك تحديدا كانت تعيش امرأة ذات ملامح طيّبة.. امرأة من جير. تفهمني؟ أنا و «جوزيبي» كنا نحبّها. كنتُ أباغته أحيانا وهو يمرر أصابعه على ملامحها دون أن يلمسها. الكرة أزالتها من الوجود! بعد الحادثة بأشهر مات «جوزيبي» .
حدّقتُ إلى حيث أشارت بإصبعها. وخطر لي فورا - لو لا أنّها نامت - أن أعتذر لها نيابة عن صديقي: فقد كنتُ المُجرمَ الذي قفز إلى الدّاخل يومها.
خرجتُ بصمت حتّى لا أوقظها. بمحاذاة الباب الموارب وقفت برهة أتأمّل أثر امرأة الجير. غمرني سرور خاطف كبرق ابتلّت له عيناي. حالما تصحو زوجتي سأجعلها تفهم أنّها كانت محقّة عندما أصرّت على المجيء إلى القرية. سأوصّل لها أنّ الجمال وُجد كي نُمرر أصابعنا عليه دون أن نلمسه.. بِتُّ أعلم كيف.
***
م.فطومي
تعليق