جميلة القصة! جلست أحجز لي عندها مقعدا، أتمعن في حكايا الجدّ اللبيب باهتمام! أصغي بانتباه للذكاء المتقد لشيخنا الذي يتقن السرد لأطفالنا الكبار!
أحببتها منذ البداية. "نملة جثلّة" صرت أتصور النّملة، التي لعلها سوداء! بضخامتها! والفيل الهزيل، الذي تصورت له كثيرا من الشحم المتهدل وعينين جاحظتين. أما نملتنا التي هي على غير النّمل.. مشحّمة! ونعلم أن النمل يخزن القمح فلا يتخم بطناً، قوي بدنه، دؤوب نشيط .
يا للنملة المسكينة، أُصيبت بما أُصيب به البشر في عصرنا من شحم وربو وضيق حال،
لم أتمكن والكاتب يصف النملة إلا تصور من امتلأ شحما من البشر ويا للبؤس حين يصاحبه غرور فيشتد به.
وما أسرع ما يتسرب إلى النفس الأمارة بالسوء الغرور، ونرى النملة تتكلم مع من هو أكبر حجما وقدرة منها بدون انتباه لضآلة قدرها أمام أكبر الحيوانات.
انتبه الفيل، وكان في غفلة وانشغال عنها، ومع تواضعه واستغرابه أومأ لها... وماذا أيتها النملة العظيمة؟!
وغرّها تواضعه، وتمادت وتماهت مع صوتها الداخلي المتعجرف المتكبر لتطبّل الخطاب وتقول: إلى أين وبني جنسك؟ فانتبه، انتبه!.
يبدو أن الفيل كان متحايلا، وهو يبدي الذعر ويرخي أذنيه المرتخيتين ويتذلل، وهو يعلم من هو ومن هي.. ولا يغرنكم حلم الكريم للتمادي في السذاجة! "اهتزت الجثلة من الفرح جذلى و قد أشبع الفيل شعورها بالأهمية و أذكى غرورها فأبدت التفهم و أظهرت تسامحا ليس فيها و قالت"
هنا برز صوت الكاتب النبيه وقلم فصيح في تعبيرات ذكية
"اهتزت الجثلة جذلى" يصف كيف اهتزت الجثلة طربا وإنما اهتزازها في داخل الروح جعلها كورقة تعلو مع حفيف الريح
"أشبع الفيل شعورها بالأهمية" هذا صوت من يعرف تماما ما يبطن الإنسان من حب للمدح ويطرب له كلما فاض مدراره
"أظهرت تسامحا ليس فيها" جملة ساخرة فيّاضة فليس كل ما يغريك من تسامح نابع من نفس أصيلة.
للأسف القاتل تابع الفيل ما أبدى من تواضع ولين ومجاملة ساحقة أذكت ما أذكت فيها من غرور وغباء منقطع النظير...
النهاية بذلك الوصف المبدع..."اضطرب الفيل لما سمع كلام النملة و قد خدشت كبرياءه، فالتقم خرطومه من الغيظ و استأنف سيره و لم يأبه لصراخ النملة المغرورة تحت فرسنه الضخم يسحقها ..."
النهاية لم تقل متعة عن السرد وقد كان متناسقا متوازنا ومبهرا وحكاية غير متذبذبة في مشهد واحد
ولم تكن النهاية تقريرية بل إيحائية تجعلك تسمع المشهد وتغمض عينيك عن قسوة مرآه،
أخذ النص القصصي من مقومات القصة من مقدمة للسرد للحوار والحبكة للذروة في قصة عقدتها الغرور ونهايتها مؤلمة
القصة والعنوان: عنوان القصة جاء تقريريا لم يبهت من هيبة القصة، لماذا؟ زاد القارئ شوقا لما سيكون عليه حال هذه النملة مع الفيل الضخم
حمل الحوار التشويق وزاد إصغاء الفيل وحلمه عن قول النملة في احتدام الصراع في القصة للوصول للنهاية المؤسفة التي كان من الجميل حقاً أن الكاتب أجلّ تقديمها حتى آخر كلمة فيها "يسحقها"
وكنا نرى تواتر غرور النملة وهي تقول للفيل عليك بمن هو مثلك ولا تتجرأ على أسيادك "ولم تتق شر الحليم" وكأن حل عقدة الغرور الضرب، وكان هنا هادئا سريعا عنيفا! فقد تطاولت وتطاولت فسحقها، ولم يحطمها فحسب، لم يحتج منه إلا تحريك فرسنه الضخم للحظة.
حكمة القصة:
القصة تصور لنا مغبة التطاول على من هم أكثر منك قدرة.. ومحاسن قبول الاعتذار.. وعدم الانخداع بالكلام الظاهر للآخرين.. وتجنب من هم لسنا وليسوا في نفس المقام.. القصة تقول أن ليس علينا الفذلكة والخطابة المفبركة وكثر الكلام.
القصة جاءت بأسلوب لغوي شيق شارح وبحبكة متواترة سريعة لتبعد الملل وتبلغ الحكمة من القصة
وفيها لغة مخفية ساخرة ومفارقة حققتها نملة جثلة وفيل هزيل، وفيل أرخى أذنيه ونملة ناصحة
من هم الأطفال الكبار؟
هم أطفال كبروا في سن المراهقة وما فوق
أو كبار يبقى في داخلهم طفل شغوف، لتقصد القصة شرائح واسعة للقراءة والاستمتاع.
شكراً للكاتب "حسين ليشوري"، وشاكرة لكم حسن القراءة.
تعليق