رسائل .. بريد الشكوى.

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • سامي الشريم
    أديب وكاتب
    • 11-12-2015
    • 107

    #16
    بريد الشكوى (10)


    أبي الغالي..

    أدري لماذا تطلب مني أن أفاجئك؟ لأنّ الحياة سلبت منك كلّ ما منحتك إيّاه من نعيمٍ ولم يبق لك سواي. أدري أنّ أوّل النعيم الذي خسرته كان أُمي. ألم تقل لي ذلك من قبل؟ إليك هذه القصة التي حكيتها لي لمرّة واحدة في حياتك، ولم تعُد تذكرها لي مجددًا، ولكني لم أنسها قطّ، لا تزال تشتعل في ذاكرتي مُذ ذلك اليوم إلى حدِّ الآن. بعد أن شيّعوا جنازة أمي إلى الجبّانة، تضعضت قواك، وتقوّضت آمالك، وبقيت خاملاً، حزينًا، كئيبًا، لا تجسر على رفع بصرك إلى السماء، وباتت الدُنيا في عينيك ضيّقة ورمادية، ولا تستحق أن تُعاش أكثر من ذلك، ولكن الذي أعاد إليك الروح هو أنا، أخبرتني أنّ في ذلك اليوم الذي سئمت فيه من الحياة، والّذي أردت فيه أن تستحيل إلى تراب، قرّرت أن تُلقي عليّ لمحة أخيرة قبل الوداع، فحين دنوت من الغرفة، سمعتني أبكي بشكلٍ مُخيف، وكأنّي كنت أعلم أنك ستجابه الموت بعد قليل، فنظرت إليَّ بعينين دامعتين، وتساءلت في نفسك، لمن ستتركني؟ من سيعتني بي؟ الخادمة غريبة وربّما ترميني في أقرب مكانٍ إذا لم أُحسِن التصرف معها، وجارتنا امرأة مُقصّرة في تربية أطفالها، ولا تصلح لتربيتي، وعمّتي مُهاجرة إلى جنوب أفريقيا مع بعلها، وكنت أنت وزوجها على غير وفاقٍ مع بعضكما، فخشيت عليّ من أن يصيبني الأذى فيما بعد، فإتخذت قرارك بأنّ ترجع من جديد، وأن تقف مرّةً أخرى على قدميك، فوثبت، وفعلت أكثر ممّا ينبغي أن يفعله أيّ أب، فكيف لي ألاّ أفاجئك؟ وأنّى لي ألاّ أُدخل الحبور إلى قلبك؟

    بالأمس كانت عمّتي فرحة وسعيدة، وكنت أظنّ أنّها تشافت بشكلٍ كامل من كآبتها، ولكنك تخبرني في هذه الرسالة أنّها لم تعُد كذلك. يا ربّاه! ما أشدّ وطأة الدُنيا! ما أقسى أمراض الدهر! لا ترحم أيّ مخلوق، لا ترحم أبدا. إنّها تُحيل الإنسان إلى مضغة فاسدة، إلى كائنٍ بلا روح، وغير صالح للحياة. هذا المرض الذي أصاب عمّتي خطير جدًا، وليس بوسعي الآن أن أتفاءل بما سوف يجيء في المستقبل، ولكن بلا بدع أنّ الحال سيكون أردأ من قبل، ولن يتطوّر إلا في الجانب المُظلم. حاول بقدر استطاعتك الّا تتركها لوحدها بين أربعةِ جدران، ستهلك من الوحدة، ستدفن حيّة.


    تريد أن تعرف عن حياتي هنا، حسنًا، سأبدأ أولاً بملجأ الأيتام - أقصد السكن - تعرّفتُ على فتاةٍ نرويجية تسكن في الغرفة المجاورة، سأخبرك عن صفاتها؛ ذكية وفاتنة جدًا، ولطيفة معي ومع الآخرين، وتُحبّ الأعمال التطوعية، وتعشق السفر والرحلات، وتتكلّم ست لغات، تخيّل! أنا بالكاد أتحدّت ثلاث لغات، وأشعر أحيانًا بالزهو من نفسي، وهي لديها هذه اللّغات الست، وكأنّها لا شيء بالنسبة لها، وكما تقول هي: "لا أفتخر بهذه اللّغات، فكلّ شخصٍ يستطيع أن يفعل ما فعلت، فلماذا إذن أغدو مثل الطاووس، وأنفخ ذاتي لمجرد امتلاكِ لشيءٍ يمكن للآخرين أن يحصلوا عليه؟!". ومن مزاياها أيضًا أنّها فتاة موسوعية ومُثقفة جدًا، ما إن نفتح نقاشًا عن أيّ شيء، إلاّ ولها اضطلاع واسع به، ولها رأيٌ سديد فيه دعني أخبرك عمّا حدث بالأمس، كُنّا في طقسٍ ديني، فتكلّمنا عن الذنوب التي يقترفها البشر، والعذاب الّذي يُرسله الله إليهم، كالفيضانات والزلازل والأعاصير، فتدخلّت هي في وسط النقاش وقالت: "إنّ هذه الفيضانات والزلازل ليست بسبب خطايا الناس كما تظنن، بل بسبب تحرّك الصفائح التكتونية لا أكثر" لاحظت أنّها ترتكن كثيرًا إلى العلم، وتُنكر أيّ تدخل غيبي أو إلهي، حتّى أنّها لا تؤمن بالأبراج تقول إنّها من العلومِ المُزيفة والعاقل لا ينبغي له أن يؤمن بهذه الأشياء الباطلة والسخيفة، ولا أن يُضيّع وقته في الاستماعِ إليها. فتكلّمت بعد ذلك عن أشياء كثيرة مُتعلقة بالنظريات العلمية، من بينها نظرية التطور، وأنّها تؤيدها بشدة، وتقول أيضًا أنّها لا تؤمن بخالقٍ للكون، إذ أنّ ليس لكلِّ حدث له مُحدث، فالقفزات الكمومية تجيء بدون مُسبب، والعبور الذري أيضًا. ماذا عساني أن أقول أكثر من ذلك؟ هذه الفتاة تقرأ عن كلّ شيء، عن الأديان، والميثولوجيا
    ، والبيولوجيا، والفلسفة، والفلك، وعن مختلف سائر العلوم والفنون، في جلسة واحدة تنبجس من فمها المعلومات الوفيرة، وأمّا أنا فلم أجرؤ على مجادلتها، ولا على النقاش معها في بادئ الأمر، ولكنني قلت في الختام إنني مؤمنة بوجود خالق للكون، ومؤمنة بآدم وحواء، ولا أعترف بالنظريات العلمية فهي مجرد نظريات، ولكنها ردت عليّ بكلامٍ أخرسني، تقول إنّ ثمّة نظرية خارج إطار العلم، فهذه أراء شخصية غير موثوق بها، ولا يعوّل عليها، وثمّة نظرية داخل أروقة العلم، فهذه مدعومة بالأدلة والبراهين التي تشرح الحقائق المثبتة" لكنني لم أنبس بكلمةٍ واحدة، وبعد ذلك انصرفت إلى غرفتي.

    أمّا عن الجامعة فهي بديعة جدًا، والأساتذة من أحسن الناس وأكفأهم، والمناهج جيَّدة ونافعة، ولكن المعضلة الوحيدة التي واجهتنا هي في أكل الكافتريا، اشتكينا للمسؤولين قبل يومين عن رداءة الطبخ، فوعدونا بأنّنا سنأكل أطيب وأشهى أنواع الطعام في الأيام القادمة.



    كن بخير دائمًا وأبدا.
    ابنتك سُعاد..
    التعديل الأخير تم بواسطة سامي الشريم; الساعة 03-02-2018, 01:25.

    تعليق

    • سامي الشريم
      أديب وكاتب
      • 11-12-2015
      • 107

      #17
      بريد الشكوى (11) من أبي سُعاد إلى صديقه حمزة

      إلى صديق العُمر..

      في ظهيرة الأمس، مررتُ بجانبِ سور الجبّانة، وهجس بخاطري أن أتسكّع بداخلها قليلاً، وأن أجلس تحت ظلِّ "الشجرة العجوز" لكي أسترجع بعض الذكريات القديمة، ولكن ما إن وصلت عند البوابة الكبيرة إلا وألفيتها مُغلقة، ثمّ سرتُ إلى المقهى الّذي كُنّا نجتمع فيه سويًا، فوجدتُ الرفاق ولم أرك من بينهم، فسألتهم عنك، فقالوا لي: لا أثر لذلك الصعلوك المُتشرّد على سطحِ هذا الكوكب المسمّى الأرض، اختفى فجأة. وأثناء خروجي، التقيتُ مُصادفةً بصديقنا المُشترك مروان، وسألته عنك أيضًا، فجرّني من أهداب ثوبي إلى مواقفِ السيارات، ومدّ لي ورقة صغيرة، كُتب على ظهرها عنوان بريدك هذا، وأخبرني أنّك في مكانٍ قصيّ، وأنّك تعيش في منزلٍ رديء يشبه بيوت الكادحين الروس، وأنّك تندس فيه عن عيون الناس، ولا تريد من أحدٍ أن يتعرّف عليه، وعندما حاولت أن أستنطقه عن الدافع الّذي أرغمك على هذا الفعل، أومأ برأسه وقال لي هو سيكتب إليك ما تودّ أن تعرفه. قلي لي بربّك، ماذا رأيت من خطوب الدهر لكي تفرّ منها إلى أقاصي الدُنيا ؟

      أنت تعلم يا حمزة، أنّني لا أثق بالآخرين لهذا أُسمّيهم رفاقًا، وأنّي أعدّك أخًا وصديقًا حميمًا مثل مروان. يكفي أنّك تكره النميمة، والخساسة والوشاية والخيانة، وأنّك لا تحبّ أن تجمع الفتيات الجميلات من حولك لتشعر بالزهو والسعادة، ولا تهجر الأصدقاء من أجلِ أعينهن، كما فعل ذاك بنا الّذي لقبناه "عبد النساء". أنت نادرٌ يا صديق العُمر، قلّما أجِد أشخاصًا يشبهونك في هذا العالم، وأظنّني لو بقيتُ طوال عمري أفتّش عن رجلٍ قريب من صفاتك النبيلة، فلن أجد مثلك أبدا.


      أنتظر الرد بأحرّ من الجمر.

      صديقك
      أبو سُعاد
      التعديل الأخير تم بواسطة سامي الشريم; الساعة 26-03-2018, 19:09.

      تعليق

      • سامي الشريم
        أديب وكاتب
        • 11-12-2015
        • 107

        #18
        بريد الشكوى(12) من حمزة إلى أبي سعاد


        أخي أبا سعاد، كان من أسعد أيامي هو اليوم حين قرأت رسالتك الممزوجة بالمديح والهلع. كيف حالك يا سمين؟ وكيف حال ابنتك وشقيقتك؟ هل أنتم بخير كما أحبّ وأتمنّى؟ تسألني ماذا رأيت من الدنيا لكي أختبئ في هذه المكان الجميل؟! لقد رأيت العجب العجاب، ولن أقول سوى ما قاله عليّ بن أبي طالب: "أُفٍّ عَلَى الدُّنيا وأَسْبَابِها, فإنها للحزنِ مخلوقة". كلّ شيء في البدءِ يكون جميلاً وهادئاً مثل طلائع الربيع، ولكن بعد ذلك فجأة - ولا تدري كيف يحدث هذا رغم حرصك وشدّة يقظتك- يتداعى كلّ شيء! ينهار في غمضة عين! أهي الأقدار يا رفيقي من تعبث بنا، أم نحن من نعبث بأنفسنا؟ ليت شعري أيّهما على صواب. علي أيّ حال، دعني أبوح لك عن مشاكلي، لعلّي أستريح من خربشتها في ذاكرتي. سأحكي أولاً عن الحادثة التي حصلت لي مؤخرًا وكانت كالقشة التي قصمت ظهر البعير. طردتُ يا صديقي من الفندق الذي كنت أعمل فيه بسبب مُشاجرة بدأت بالألسن وثمّ طالت إلى الأيدي مع تلك الحيزبون الساحرة، أظنّك تعرفها! تلك العجوز التي لا تتوقف عن اللوم والتقريع، وعن إسداء الملاحظات الفارغة للعاملين. صدقني لأوّل مرّة في حياتي أضرب امرأة، ولم يساورني الندم لحظة واحدة على ما فعلت. بعد أن سقطت العجوز على الأرض، طلب زوجها الضعيف - الذي لا يتفوّه بكلمة واحدة أمامها- الشرطة، من المفترض أن يشكرني على هذا الصنيع؟ أليس كذلك؟ وعندما جاءت الشرطة سحبوني من ياقتي، وزجّ بي في السجن مع مجموعة من الأوباش، وهناك تشاجرت معهم أيضًا لتدخلهم في خصوصياتي. وبعد ذلك جرّني أحد العساكر، ووضعني في زنزانة انفرادية لأيام إلى أن جاء مروان وأخرجني بعد أن قدّم لهم الكفالة الغرامية. لن أطيل عليك الكلام، بعد أن خسرت وظيفتي وغرفتي التي أقطن فيها في ذات الفندق، لم يعد لي ملجأ أنام فيه، دعاني مروان إلى منزله، وجلست هناك زهاء خمسة أيام، وبعدها شعرت أنّي أثقلت على الرجل، فخرجتُ إلى بيت جدي القديم، الّذي في الريف، هنا هواء عليل، وطبيعة خلابة، وحريّة أرحب. هنا أسترد أنفاسي وصحتي التي اختطفتها مشاغل المدينة.



        كن بخير يا رفيقي.
        حمزة.
        التعديل الأخير تم بواسطة سامي الشريم; الساعة 26-03-2018, 19:29.

        تعليق

        • سامي الشريم
          أديب وكاتب
          • 11-12-2015
          • 107

          #19
          بريد الشكوى (13) من أبي سُعاد إلى صديقه حمزة


          أخي حمزة..

          ها أنت ذا تشاطرني سوء الحظ والبلاء. أليس هذا إثباتًا كافيًا على أنّ صداقتنا غير مُزيّفة؟ ما يصيبني يصيبك، وما يصيبك يصيبني، وكأننا عقدنا اتفاقًا سابقًا مع القدر! ألسنا منفيان يا رفيقي عن العالم برغبةٍ منّا؟ أنت منفي في مكانٍ ريفي مفتوح على الحقولِ المُترعة بالأضواء، والمليئة بالسلام، ولك كامل الحريّة هناك في أن تتصرف كما تشاء، فمتى أردت أن تنام بين الأعشاب دون أن يعكّر صفو مزاجك أحد، فالأمر متروك لك، ومتى أردت أن تصرخ بأعلى صوتك، فبوسعك أن تفعل ذلك دون أن يجيء إليك أحد ليطلب منك أن تبتلع لسانك. أنت في رفاهة يا صديقي. وأمّا أنا فقد حكمتُ على نفسي بالإقامة الجبرية بين أربعة جدران، ولا سبيل للنور أن يتسلل من النافذة إلى الحُجرة، ولا أخرج إلا لحاجةٍ معيّنة، إمّا لزيارةِ طبيب، أو للإطمئنان على عليل، أو لشراء ما يلزم من مأكلٍ ومشرب وملبس، أو لأجلِ النقاهة وهذا نادرٌ ما يحدث.
          قيّض لنا يا صديقي أن نشقى سويًا، وأن نتجرع ذات الشراب الناقِس، وأن نتورط في حمأة الأقدار، ولعمري أنّ هذا شرٌ ليس بمقدورنا أن ندرأه عنّا إلا بالموت. كان أبي يقول إنّ الله خلق الملائكة في السماء ومعها الخير، وخلق الشياطين في الأرض ومعها الشرّ، فعمّ النعيم في الأعلى، وانتشر السعير في الأسفل، فإن أردنا أن نعيش في رغدٍ وثراء فلا سبيل سوى أن نموت أولاً.

          أخبرني برسالتك القادمة، ماذا حدث بشأن الصالونات الأدبية؟

          لك كلّ المحبّة يا صديقي

          أبو سُعاد.
          التعديل الأخير تم بواسطة سامي الشريم; الساعة 28-03-2018, 21:17.

          تعليق

          • مها راجح
            حرف عميق من فم الصمت
            • 22-10-2008
            • 10970

            #20
            أرجو العلي القدير أن يكون صاحب هذه الرسائل بخير وعافية ..
            انتظر شوقا لقراءة المزيد من الرسائل ..
            كن بخير
            رحمك الله يا أمي الغالية

            تعليق

            • سامي الشريم
              أديب وكاتب
              • 11-12-2015
              • 107

              #21
              المشاركة الأصلية بواسطة مها راجح مشاهدة المشاركة
              أرجو العلي القدير أن يكون صاحب هذه الرسائل بخير وعافية ..
              انتظر شوقا لقراءة المزيد من الرسائل ..
              كن بخير
              أهلاً بالسائل..
              بخير، والحمدلله في السراء والضراء.
              شُكرًا لسؤالكِ.

              تعليق

              • سامي الشريم
                أديب وكاتب
                • 11-12-2015
                • 107

                #22
                بريد الشكوى (14) من حمزة إلى أبي سُعاد


                أبا سُعاد.


                لم لم تخبرني أولاً عن أحوال شقيقتك وابنتك؟ أنسيت؟ ولكم أنت تنسى يا رفيقي! لقد تآكلت ذاكرتك من هول ما رأيته في هذا العالم من قسوة، وضيم، وفقدان، ويباب. ولكن على أيّ حال، يبقى النسيان من النِعم الجليلة، يقول شاعرنا البديع إبراهيم ناجي: "فيض من النسيان يغمرني, إنّي لأحمد سيله العرما" إذن، ينبغي لنا أن نحمد الرب ونشكره على السلوان، ولا نُبدي أدنى حُزن على ذلك. أمّا من ناحية قولك إنّنا اخترنا المنفى هنا، فأنت محقّ، فمفهوم المنفى قد اختلف في عصرنا الراهن، بات معنويًا. بمقدورك الآن أن تعيش منفيًا وأنت في قلبِ الوطن، بإستطاعتك أن تبقى سجينًا ولا تزال تتلذّذ بمذاق الحرية، ولكن ثمّة شيء فقدناه وهو الحنين، لا نحسّ بأيِّ حنين إلى بلادنا، وهذا مؤسف يا عزيزي.

                لا أخفيك سرًا، لقد أقبلتُ على الانتحار ثلاث مرات في حياتي، أوّل مرّة حين مزّق اللصوص أحشاء أخي بالمُدية عند إحدى الصرافات البنكية في الهزيع من الليل، وتركوه على الرصيف مُضرَّجًا بدمائه إلى أن فارق الحياة، ولم نستطع إلى يومنا هذا أن نكشف عن هوية الجناة. شعور مؤذي جدًا أن يكون لديك الرغبة الجامحة بالانتقام لأخيك المطعون، ولكنك لا تدري من الفاعل. بعد أن انطفأت لديّ شُعلة الأمل في العثور على القتلة، زارتني مشاعر كئيبة في ليلةٍ من الليالي، فأردت أن أتملّص من العذاب بمعانقة الموت، لذا رحتُ إلى البحر وأغرقت نفسي ولكن أحد الأشخاص أنقذني، وأفسد الأمر. المرّة الثانية التي خططت فيها بقتل نفسي كانت لحظة احتدام الكآبة في قبو الفندق في مطلع العام الجديد. لقد أحسست بتفاهة العالم والبشر على حدٍ سواء، فاتخذت قراري بإنهاء حياتي، فوضعت حبلاً كان يتدلى من السقف حول رقبتي، ودفعت الكرسي الذي كان تحت قدمي، ولكن تصرّم الحبل كما تتصرّم عُرى الآمال والأحلام، فسقطتُ على الأرض مثل حبة رمان فاسدة من علو شجرة، ولكنني ضحكت في ذلك الصباح من شدة البكاء على حظي العاثر. أمّا المرّة الثالثة، كنتُ على استعداد تام بترك هذا العالم ورائي، غير آسفًا عليه، ملأت سلاحي بالرصاص وقرّبته من فمي، ثم مسكت بالزناد بالسبابة اليمنى, وحين أغمضت عيني لكي تطير روحي إلا وجرس الهاتف يرنّ في آخر لحظة، كان المتصل مروان، أخبرني أن زوجتك فارقت الحياة بعد صراعها الطويل مع مرض السرطان، رميت سلاحي تحت السرير، وركضت إليك لأكون بجانبك في تلك المحنة العصيبة. ومنذ ذلك اليوم لم تنتابني أفكار انتحارية، ربّما لأنّني اعتدتُ على اليأس والسأم، أو أنني وجدتُ الحل البديل وهو تدوين ما يؤذيني وما يعصف بكياني على الورق، بالكتابة أتعافى من سموم القدر.

                لم أذهب إلى أيّ صالون أدبي، ربّما تقصد المقهى الكبير الّذي في وسط المدينة، الّذي يجتمع فيه الأدباء والكتّاب مرة واحدة في الأسبوع. ذاك المكان لقد هجرته منذ زمن، تركته بغير رجعه. أمقت الانخراط مع أصحاب الذائقة الواحدة، الّذين لا يرنون في الحياة إلا لونًا واحدًا، والّذين يعتقدون أنّ مهنة الأديب هي إصلاح وتهذيب النفوس ولا شيء غير ذلك. هؤلاء لا يعلمون أنّ الأديب غير مُلزم بذكر الجانب المضيء، وبذكر محاسن الحياة وخيرها. ثمّة أشياء في العالم مأساوية وخطيرة، تسترعي انتباهنا وتحثّنا على الكتابة عنها بصدقٍ وإخلاص، هناك بشر يتألمون ليل نهار في الأقبية، ولا يجدون من ينقل صراخهم وعذابهم إلى الناس، هناك رجال سيئون جدًا وطغاة لا يدري عنهم أحد، ومهنة الأديب ألاّ يغض الطرف عن هؤلاء، وألا يضنّ بقلمه عن التعساء، والأشقياء، والمنبوذين، وأن يكتب عن كلا الجانبين، الخير والشر، النور والظلام، الحبّ والكره، التفاؤل والتشاؤم، دون جفاء أو تفريط على أيٍّ منهما.


                كن بخير يا رفيقي.
                حمزة
                التعديل الأخير تم بواسطة سامي الشريم; الساعة 12-04-2018, 22:04.

                تعليق

                • سامي الشريم
                  أديب وكاتب
                  • 11-12-2015
                  • 107

                  #23
                  بريد الشكوى (15) من أبي سُعاد إلى صديقه حمزة


                  أهلاً برفيق الدرب..


                  يا صديقي ليتك لم تخض في هذا الكلام! ينتابني الأسى حين يتفوّه أحد ما أمامي بكلمة "نسيان". لا تقل لي إنّه نعمة، بل نقمة تُبعث على سيئين الحظ من أمثالي. لقد كانت حياتي مُستقرة وهانئة قبل أن يحلّ عليّ هذا الضيف الكريه المدعو "فقدان الذاكرة". بتُّ لا أتذكّر بعض الأسماء، ولا أجيب على بعض الأسئلة مُنذُ أن توغّل القلق والخوف إلى عالمي."أنجست" هذه الكلمة التي تعني القلق أو الرعب في لغات عدة تبدو بسيطة وبريئة في ظاهرها، ولكنها لعينة وخبيثة في باطنها حيث تسبّبت في شقائي وكثرة نسياني. ألسنا ننسى بعض أشيائنا إذا ارتعبنا أو إذا دبّ القلق في جوانحنا عند حدوث مكروه لأحدٍ من عائلتنا أو أصدقائنا؟ فما بالك لو كان القلق هو كلّ ما تعرفه في سنواتك الأخيرة! كدت أن أنسى أيضًا إخبارك عن ابنتي وشقيقتي. سُعاد الآن تعيش في الغُربة، سافرت قبل ثلاثة أشهر لتحقّق حلمها في أن تغدو عالمة أحياء. ما يعجبني في صفاتها أنّها سريعة التأقلم في أيِّ مكان حتّى لو كان في مجاهيل أفريقيا، وأنّها تستطيع أن تكوّن صداقات مع الآخرين كلمح البصر، لهذا أنا مطمئن ومستريح البال من أنّها لن تجابه هناك التعاسة والملل. أمّا شقيقتي فأنت تعلم ما جرى لها مُنذ وقتٍ طويل. لا تني الكآبة تنهش جسدها يومًا بعد يوم، وهي لا تزال تتدحرج كالكرة المُشتعلة.

                  لم تخبرني قطُّ عن حكايات الانتحار! كيف تجسّرت على عدم إخباري من قبل بكلِّ الّذي حدث معك؟ ولكن لا بأس، أعذرك على هذا التصرف، فبعض الأحيان نُخفي أسرارنا عن المقربيّن منّا، فهي شأنٌ يخصّنا وحدنا.

                  حسنًا فعلت حين هجرت تلك الأماكن الأدبية، وهذا صحيّ لذهنك وبدنك. فأنت خلقت حُرًا طليقًا، وتلك التجمّعات الأدبية هي مقابر تكتم الأنفاس، بل سلاسل من حديد يُربط بها الكاتب والأديب. وأنا أعرفك تحبّ بشدّة الاستقلالية والتحرّر الفكري. عليك يا صديقي بممارسة الكتابة في ذلك المكان الريفي الجميل، فقد فعلها قبلك سالينجر، حيث عاش مُنعزلاً عن الناس في منطقٍة خاوية من الجلبة والضجيج، وكان يكتب هناك دون تلكؤ، ولكنه لم ينشر أيّ من أعماله الأدبية حتّى غاب عن الوجود. الكتابة من أجلِ الكتابة.

                  دمت بخير وبأفضل حال.
                  أبا سُعاد
                  التعديل الأخير تم بواسطة سامي الشريم; الساعة 03-05-2018, 22:20.

                  تعليق

                  • سامي الشريم
                    أديب وكاتب
                    • 11-12-2015
                    • 107

                    #24
                    بريد الشكوى (16) من حمزة إلى أبي سُعاد..


                    أبا سُعاد..

                    اغفر لي يا رفيق الدرب زلّتي حين نكأت جراحك في مستهلّ رسالتي بتلك الكلمات، فلو كنتُ أدري أّنّ الحُزن يغمرك إذا نبس أحدهم بإسم ذلك العدو اللامرئي، لما تكلّمت.
                    قلق وخوف! كلّ إنسان يُعاني من هذين الخبيثين، فلست وحدك يا صاحبي من يُعاني، فلا بدّ أن تأخذ نصيبك من جمر الدُنيا، وأن تتجلّد على ما يصيبك إلى أن تلوح لك في الأفق خيوط الفجر.

                    سُعاد مُغتربة! من أغرب ما سمعت في حياتي، فعلى ما أذكر أنّ حالتك المادية في القاع، ماذا صنعت لتذر ابنتك تسافر هناك؟ أصدقني القول يا صاحبي هل تزوجت امرأة ثريّة على حافة الموت ثمّ ورثت مالها بعد وفاتها؟ أم هل كنت مجدودًا في لحظةٍ من اللّحظات، وربحت مالاً من مسابقة تلفزيونية؟ لديّ الكثير من الأسئلة على هذا النمط الطفيلي، وسأترك لك الإجابة. بالنسبة لكآبة أختك، فلا حلّ لها غير أن تحاول أنت إسعادها من حينٍ لآخر، كأنّ تشتري لها ما يكون أحبّ إلى نفسها، أو كأنّ تخرج أنت وهي في حديقة عامة مترعة بالناس والأطفال، أو افعل أشياء مُدهشة تسترد بها عافية أختك، المهمّ ألاّ تيأس من المحاولات.

                    صديقي، سأتلكأ عن الردِّ على رسائلك في الأسابيع القادمة، لأّنّي مشغولٌ جدًا بتنقيح روايتي، وبالبحثِ عن دار نشر جيّدة.
                    صلواتك لي بالتوفيق
                    حمزة
                    التعديل الأخير تم بواسطة سامي الشريم; الساعة 31-05-2018, 06:12.

                    تعليق

                    • سامي الشريم
                      أديب وكاتب
                      • 11-12-2015
                      • 107

                      #25
                      بريد الشكوى (17)


                      ابنتي العزيزة!
                      لم تراسليني مُنذُ أشهر يا صغيرتي. لا ريب أنّ ذلك لا يليق بكِ أبدًا. أيعقل أنّكِ تقضين جميع أوقاتك في الدروس والواجبات؟! حتّى تشومسكي لم يفعلها! ماذا بشأن عطلة نهاية الأسبوع؟ ألم يهجس بخاطرك أنّ ثمّة أب تعيس، يفكّر بكِ ليل نهار في الجهةِ الأخرى من العالم؟ بصراحة، لا أدري ماذا عسى أن يكون تبريرك هذه المرّة؟ لكن قبل أن تتفوّهي بكلمة، يجب عليكِ أولاً أن تعترفي لي بخطئك، ثمّ قولي بعد ذلك ما تشائين.
                      الآن فلنتحدث عن حياتك.أحتاج منكِ أن تكتبي لي كلّ صغيرة وكبيرة حدثت معكِ خلال الأشهر الأخيرة. اكتبي لي عن أمور الجامعة بالتفصيل، وعن السكن، ولا تغفلي عن ذكر أخبار تلك الفتاة الهولندية أو النرويجية التي تؤمن بنظرية التطور ولا تؤمن بخالق للكون، لأنّي بدأت أحفل بأمرها كثيرًا، فنادرًا ما نرى في حياتنا أحدًا يُصرّح بأفكاره الغريبة علنًا، دون خجل.

                      أنتظر الردَّ يا نجمتي المضيئة.
                      والدك.

                      تعليق

                      • سامي الشريم
                        أديب وكاتب
                        • 11-12-2015
                        • 107

                        #26
                        بريد الشكوى (18)


                        أبي الغالي!
                        أبوء لك أنّ الندم قد غمرني من رأسي إلى أخمصِ قدمي عندما فتحتُ عينيّ على رسالتك، وقرأتُ تقريعك وعتابك. أعترفُ لك بكلِّ صدقٍ أنّي مُذنبة ومخطئة جدًا بحقك، وأعتذر لك. سامحني يا أبي، فإن لم تفعل ذلك، سأغدو في عين نفسي خاسرة، وسيقف هذا الكون بأسره ضدي، ولن أرى الفرح والحبور مهما حييت، ولن أعرف غير الشقاء واليباب أينما حللت. أيّها القلب الحنون، إنّي أحترمُ جميع مشاعرك وانفعالاتك التي تشي بالمحبّة وصدق مشاعر الأبوة. إنّي أحبّك يا أبي، وأحبّ خوفك وغضبك، أُحبُّ طريقتك في التعامل معي، أُحبُّ الحياة لأنّك موجود فيها، أحبّ الآباء لأنّك واحد منهم.

                        كان سبب تأخري عن الكتابة إليك طوال الأشهر الفائتة، هو أنّ الاختبارات توغّلت في صفوف الجامعة، فأشغلت ذهني، وأخذت مُعظم وقتي وجهدي، فالمقررات هنا ليست باليسيرة، ليس كما هو الحال في بلادنا، احفظ ما في الكتاب، وستجني أعلى الدرجات، لا، هنا الوضع مُختلف جدًا، يحتاج الطالب إلى تركيز عالٍ ومُثابرة، لا بدّ أن يفهم قبل كلّ شيء، لكي ينتفع وينفع غيره. ها، هل علمت الآن لم لم أبعث إليك برسالة واحدة طوال تلك المدّة؟

                        حكيتُ لك عن الجامعة، وأمّا السكن، فهناك في الدور الأرضي، توجد غرف مُغلقة يُذاكر فيها الطلاب والطالبات، وقد اجتمعتُ أنا وصديقاتي سويًا في ذلك المكان المنزوي منذ بدء الاختبارات، واجتهدنا في المُذاكرة إلى أقصى حدّ، وقد كانت معنا تلك الفتاة النرويجية التي سألت عنها، فهي قد مدّت إلينا يد العون كثيرًا، وحلّت بعض ما استعصى علينا حلّه من مسائل، وقد كانت عونًا كبيرًا لنا، وقلبًا رؤومًا وصبورًا على استغلاق أذهاننا في بعض الدروس. وهذه كلّ الحكاية. اخبرني الآن، كيف حالك وحال عمتي؟ وكيف تجري الحياة هناك من بعدي؟ إنّي أشتاق وأحنّ إليكما كثيرًا، كثيرًا جدًا، أكثر ممّا تتصوّر.

                        قُبلة على جبينك.
                        ابنتك سُعاد.

                        التعديل الأخير تم بواسطة سامي الشريم; الساعة 17-06-2018, 23:20.

                        تعليق

                        • سامي الشريم
                          أديب وكاتب
                          • 11-12-2015
                          • 107

                          #27
                          بريد الشكوى (19)


                          يا زهرتي الزاهية!

                          لا داعي للقلق، لقد سامحتكِ وغفرتُ لكِ قبل أن تكتبي لي كلّ هذا. يا ليت خطرت ببالي حكاية الامتحانات والمُذاكرة! لكن ماذا أفعل؟ لقد قيّض لي أن أكتب جاهلاً عن واقع حياتك الجامعية ونشاطاتها. حتّى أنا يا رائعتي أُحبّكِ. أُحبّكِ أكثر من نفسي. أُحبّكِ فوق طاقتي. أُحبّكِ لأنّكِ أنا. أُحبّكِ لأنّكِ تشبهين أمّكِ في ظاهرها وباطنها، تشبهينها في هدوئها الجميل، في صفاء روحها وبراءتها، في فرحها وحزنها، في جدّها وهزلها، في طباعها السامية وإنسانيتها العظيمة، في كلّ شيء، وكأنكِ أنتِ هي، وكأنّها هي أنتِ. آه، تذكّرتها، تذكّرتُ صورتها الملائكية وهي تشبه الفجر الضحوك. ها هو قد حان موعد الحنين يا عصفورتي. إنّي أشعر بحرارة أنفاسها بالقربِ منّي، وإنّي أسمع صوتها قادم من بعيد مثل همسات العصافير. إنّ الموتى لا يموتون يا سُعاد، الموتى لا يموتون.

                          لا أعرف كثيرًا بشأن مناهج الجامعات وطُرق التدريس، ولكن بلا مراء، أنّها أفضل بمراحل من عندنا، فعلى ما سمعت أنّ الجامعة العريقة هناك يتخطّى عمرها مئتي عام، وهذا الرقم يصعق رؤوسنا، لماذا؟ لأنّ عمر وطننا أصغر بكثير من عمرِ جامعاتهم. يبدو الأمر مضحكًا، أليس كذلك؟ ماذا كنت أنوي أن أقول عن الفتاة النرويجية؟ تذكّرت! هذه المرأة تصنع إليكنّ المعروف بلا مقابل. إنّها إنسانية بحق. بلا ريب، إنّ كانت امرأة متوقدة الذكاء، وحريصة على نفع الآخرين، ومتحرّرة من القيود، سوف تشكو من الوحدة لوقتٍ طويل، فهذا النوع من النساء، يُعجب بها الرجل ويحبّها، ويفضّل أن تكون له خليلة - أيّ عابرة سرير- لا زوجة، يعيشان مع بعضهما بعضًا تحت سقفٍ واحد. إنّ الرجل يخشى من المرأة الحرّة والذكية، كما يخشى الفأر من السنّور. إنّه لا يثق بها أبدًا مهما فعلت، ويخاف دائمًا أن تخدش رجولته، أو تمزّق جبروته وتحطّمه كالزجاج إلى قطعٍ صغيرة متناثرة. إنّه يخاف أن تتمرّد عليه كما تتمرّد الشعوب الحانقة على الملوك الجائرة. لكن في المقابل، هذا الرجل يختار زوجة حمقاء، لتقول له سمعًا وطاعة، بمعنى أوضح، خادمة، تكنس وتطبخ وتغسل، وآلة لضخّ الأطفال، ومُربية لهم، وتمثال يبقى حبيسًا بين أربعةِ جدران. وإن خرجت فلا تخرج إلا بإذنه، وإن أرادت أن تفعل شيئًا حتّى لو كان الأمر يخصّها وحدها، ولا يسيء إلى سمعتها أو يمسّ شرفها- لا بدّ أن يكون عنده العلم بذلك، وإلاّ بيت عائلتها بإنتظارها. ومن السفالة أنّه يخرج متى يشاء، ويرجع إلى البيت في الوقتِ الّذي يشاء، ولا يروم منها أن تسأله أو تحاسبه عن أفعاله. وأيضًا، لا تستغربين إن كان يدّعي الليبرالية والتحرّر، ويساند قضايا المرأة، وهو يُحرم زوجته من أبسط حقوقها وهو حقّ العمل، وحقّ الحياة.

                          عمّتك بخير، ولكن أنا لستُ بخير. قبل قليل جئتُ من عند الطبيب، فقد أخبرني أنّني مصاب بسرطان المريء، في المرحلة الثالثة، وأنّ الأمل في الشفاء كبير جدًا، فقد تعافى من كانوا يعانون من ذات المرض، لكني لم أصدّقه، يظنني جاهلاً عن مخاطر بعض الأمراض، فسرطان المريء لا ينجو منه أغلب النّاس. آخر شخص أعرفه مات بسبب المرض، كان الكاتب والمناظر كريستوفر هيتشنز. آسف يا قمري، لم أستطع أن أخبئ عنكِ هذا الأمر، ولكن كما عودتكِ، أن أكون صادقًا معكِ في كلّ الأوقات، وأن أكون واضحًا معكِ كالشمس، وأرجو أن تكوني كذلك مع من تحبين. ليس بمقدوري يا أميرتي، أن أدرأ عنّي هذا الداء، فقد استفحل في بعض أعضاء الجسد، ولا سبيل للنجاة. أوصيك بأنّ تعتني بنفسك كثيرًا، وأن تحرصي جدًا على تعليمك -فقد ادخرتُ الكثير من المال الذي يكفي لكلّ مصاريفك الجامعة وشؤونك الخاصة- وأن تحصلي على شهادة جامعية بتقدير امتياز، فهذه الشهادة، هي أمانك، وهي عونك وعضيدك إن أدار النّاس ظهورهم لكِ، وإن تزوجتي رجلاً لا يُحسن العشرة، ولا يملك أدنى ذرة من الرجولة. انتبهي لنفسك يا حبيبتي.

                          والدك..
                          التعديل الأخير تم بواسطة سامي الشريم; الساعة 29-06-2018, 05:30.

                          تعليق

                          • سامي الشريم
                            أديب وكاتب
                            • 11-12-2015
                            • 107

                            #28
                            بريد الشكوى (20)


                            روح الحياة!

                            أبي، ما هذا الّذي قرأته في آخر الرسالة؟ طبيب! سرطان! موت! لا أكاد أصدّق ما قلته! أرجوك قلّ لي إنّك لست جادًا في الموضوع. قل إنّها كانت كذبتي الوحيدة التي نطقت بها في كلِّ حياتي. قل إنّه كان اختبارًا لتعرف كم أنا متعلّقة بك، كم أنا أحبّك! يا ليتك لم تخبرني بذلك وذريتني أعانق الحُزن لمرة واحدة، لا مرّتين! يا ليتك أبقيت هذا الأمر سرًا، وتركت للأيّام حريّة كشف الخبر. أبكيتني يا أبي، أبكيتني والله، إنّ مدامعي لا تزال تصبّ كالماء على وجنتي وملابسي، وأنا أكتب إليك هذه الرسالة. أنت لا تدري ماذا صنعت بي من وراء هذا الكلام؟ إنّي أنتفض من الخوف والقلق، إنّ يدي ترتعش بقوّة يا أبي، بالكاد أحملها غصبًا لتكتب لك. ها أنا أخسرك أنت أيضًا. أخسر أبًا هو كلّ شيء بالنسبة لي في هذه الدُنيا، هو كلّ كياني، هو عظامي ودمي وروحي. يا إلهي، ألا يكفي أنّي ولدتُ، ولم أر ملامح أمّي قطّ؟! لماذا تعاقبني بعنف؟ فإنّي لم أخادع أحدًا، ولم أسرق طوال عُمري أو أكذب على أيّ مخلوق أو أتآمر، أو أدسّ الدّسائس لأيّ أحدٍ من عبادك. لماذا يا خالقي؟ إن حُزني جليل، ثقيل، يكتم الأنفاس، يعصف بالكيان، يزلزل الأقدام. اتّخذت قراري الآن، سأوقف الدراسة، وسأجيء إليك قريبًا، أريد أن أكون بقربك في هذه الأوقات العصيبة، لن أدعك ترحل دون أن تراني، لن أتركك تغيب عنّي للحظة واحدة. سأحتضنك بقوّة، سألتحم بك، وأعيش بداخلك. كلّ شيء يعوّض إلّا أنت، فإنّك حين ترحل لن أعرف من أكون. أحبّك يا أبي. أحبّك يا أعظم من رأت عيني.

                            ابنتك سعاد
                            التعديل الأخير تم بواسطة سامي الشريم; الساعة 03-07-2018, 01:08.

                            تعليق

                            • سامي الشريم
                              أديب وكاتب
                              • 11-12-2015
                              • 107

                              #29
                              أكتفي بعشرين رسالة.
                              شُكرُا لكلّ من مرّ من هنا، وألقى نظرة أو لمحة على ما كتبت.
                              أستودعكم الله أحبّتي.

                              تعليق

                              • سليمى السرايري
                                مدير عام/رئيس ق.أدب وفنون
                                • 08-01-2010
                                • 13572

                                #30
                                [table1="width:90%;background-image:url('http://smiles.al-wed.com/smiles/65/585.gif');background-color:#300003;border:2px groove orange;"][cell="filter:;"][align=left][align=center][table1="width:80%;background-image:url('http:///up/uploads/images/w-93509fddd2.gif');background-color:#cc0000;border:2px groove orange;"][cell="filter:;"][align=right]




                                أميرتي الصغيرة !

                                ثلاثُ ليالٍ وأنا أتحرَّى ما يُطمئنُ قلبي، ثلاثُ ليالٍ وأنا أنتظر منكِ ما يطفئُ شُعلة الأسئلة في رأسي. ألا تعلمين بأنّي في أَمسِّ الحاجةِ أن أقرأ ما يُبدّد المخاوف التي تجتاحني بين حينٍ وآخر، وما يُجيبُ على التساؤلات التى حرمتني من الرُقاد طيلة الأيام الفائتة؟.

                                أأنتِ بخير؟ هذا هو السؤال الذي لا يزال يهزُّ عظامي كما تهزّ الريح أغصان الشجر، هذا هو السؤال الذي يُحرّك أمواج الصُداع في ناصيتي، ولا يتركني أهنأ بشيءٍ على الأطلاق.

                                أشدّ ما أخشاه يا حلوتي أنّ يصيبك سهمٌ من سهامِ البلايا، أو أنّ أحد سائقي سيارة الأجرة تلبّسهُ الشيطان وقت وصولك، فأخذكِ إلى مكانٍ قصيّ فقتلك ثم أخفى جُثتكِ بين الأشجار، هذه الصورة المُرعبة لا تكاد تفارقني لحظة واحدة.

                                ليت الأخيال الموحش تنقشغ عني كما تنقشع السحائب السوداء عن سماء المدينة!

                                ليتني أقدر أن أغدو متفائلاً ولو لدقيقة واحدة، وأن أخدع نفسي بأن خيرًا ما أرجأ بعث رسالتكِ إليَّ، ولكن هذا شبه مُستحيل، من أنا بالنسبة لكِ؟ ألستُ والدك؟ أليس لي حقٌ عليك ؟ هل نسيتِ أنّني كلّ شيء؟ هل نسيتِ أنّ لا ملجأ لكِ سواي؟ ألم يهجس في قلبكِ الرقيق ما سيحلُّ بأبيكِ القلق إذا وطأت قدمك أرضِ الغربة، ولم تبعثِي إليه برسالة؟ لا أذكّر أنّي أنشأتكِ على التجاهل، ولكني أذكرُ أنّ لديكِ قلبا حساسا ومُفعما بالإنسانية وبُحبِّ الناس، لكن أين هو هذا القلب عن أهمِّ كائنٍ في حياتك؟ أين هو؟
                                ثلاثُ ليالٍ، ثلاثُ ليالٍ، ثلاثُ ليالٍ.

                                ردِّي على الرسالة فور قراءتك لها

                                -

                                والدك





                                De. Souleyma Srairi
                                [/align][/cell][/table1][/align][/align][/cell][/table1]


                                قرأت هذه الرسائل الجميلة استاذ سامي
                                وكم هي مفعمة بالمشاعر الصادقة
                                وتعبيرا عن اعجابي وضعت الر سالة الأولى في تصميم جميل
                                -
                                تحياتي وننتظر مزيدا من الرسائل
                                لا تلمني لو صار جسدي فاكهة للفصول

                                تعليق

                                يعمل...
                                X