بريد الشكوى (10)
أبي الغالي..
أدري لماذا تطلب مني أن أفاجئك؟ لأنّ الحياة سلبت منك كلّ ما منحتك إيّاه من نعيمٍ ولم يبق لك سواي. أدري أنّ أوّل النعيم الذي خسرته كان أُمي. ألم تقل لي ذلك من قبل؟ إليك هذه القصة التي حكيتها لي لمرّة واحدة في حياتك، ولم تعُد تذكرها لي مجددًا، ولكني لم أنسها قطّ، لا تزال تشتعل في ذاكرتي مُذ ذلك اليوم إلى حدِّ الآن. بعد أن شيّعوا جنازة أمي إلى الجبّانة، تضعضت قواك، وتقوّضت آمالك، وبقيت خاملاً، حزينًا، كئيبًا، لا تجسر على رفع بصرك إلى السماء، وباتت الدُنيا في عينيك ضيّقة ورمادية، ولا تستحق أن تُعاش أكثر من ذلك، ولكن الذي أعاد إليك الروح هو أنا، أخبرتني أنّ في ذلك اليوم الذي سئمت فيه من الحياة، والّذي أردت فيه أن تستحيل إلى تراب، قرّرت أن تُلقي عليّ لمحة أخيرة قبل الوداع، فحين دنوت من الغرفة، سمعتني أبكي بشكلٍ مُخيف، وكأنّي كنت أعلم أنك ستجابه الموت بعد قليل، فنظرت إليَّ بعينين دامعتين، وتساءلت في نفسك، لمن ستتركني؟ من سيعتني بي؟ الخادمة غريبة وربّما ترميني في أقرب مكانٍ إذا لم أُحسِن التصرف معها، وجارتنا امرأة مُقصّرة في تربية أطفالها، ولا تصلح لتربيتي، وعمّتي مُهاجرة إلى جنوب أفريقيا مع بعلها، وكنت أنت وزوجها على غير وفاقٍ مع بعضكما، فخشيت عليّ من أن يصيبني الأذى فيما بعد، فإتخذت قرارك بأنّ ترجع من جديد، وأن تقف مرّةً أخرى على قدميك، فوثبت، وفعلت أكثر ممّا ينبغي أن يفعله أيّ أب، فكيف لي ألاّ أفاجئك؟ وأنّى لي ألاّ أُدخل الحبور إلى قلبك؟
بالأمس كانت عمّتي فرحة وسعيدة، وكنت أظنّ أنّها تشافت بشكلٍ كامل من كآبتها، ولكنك تخبرني في هذه الرسالة أنّها لم تعُد كذلك. يا ربّاه! ما أشدّ وطأة الدُنيا! ما أقسى أمراض الدهر! لا ترحم أيّ مخلوق، لا ترحم أبدا. إنّها تُحيل الإنسان إلى مضغة فاسدة، إلى كائنٍ بلا روح، وغير صالح للحياة. هذا المرض الذي أصاب عمّتي خطير جدًا، وليس بوسعي الآن أن أتفاءل بما سوف يجيء في المستقبل، ولكن بلا بدع أنّ الحال سيكون أردأ من قبل، ولن يتطوّر إلا في الجانب المُظلم. حاول بقدر استطاعتك الّا تتركها لوحدها بين أربعةِ جدران، ستهلك من الوحدة، ستدفن حيّة.
تريد أن تعرف عن حياتي هنا، حسنًا، سأبدأ أولاً بملجأ الأيتام - أقصد السكن - تعرّفتُ على فتاةٍ نرويجية تسكن في الغرفة المجاورة، سأخبرك عن صفاتها؛ ذكية وفاتنة جدًا، ولطيفة معي ومع الآخرين، وتُحبّ الأعمال التطوعية، وتعشق السفر والرحلات، وتتكلّم ست لغات، تخيّل! أنا بالكاد أتحدّت ثلاث لغات، وأشعر أحيانًا بالزهو من نفسي، وهي لديها هذه اللّغات الست، وكأنّها لا شيء بالنسبة لها، وكما تقول هي: "لا أفتخر بهذه اللّغات، فكلّ شخصٍ يستطيع أن يفعل ما فعلت، فلماذا إذن أغدو مثل الطاووس، وأنفخ ذاتي لمجرد امتلاكِ لشيءٍ يمكن للآخرين أن يحصلوا عليه؟!". ومن مزاياها أيضًا أنّها فتاة موسوعية ومُثقفة جدًا، ما إن نفتح نقاشًا عن أيّ شيء، إلاّ ولها اضطلاع واسع به، ولها رأيٌ سديد فيه دعني أخبرك عمّا حدث بالأمس، كُنّا في طقسٍ ديني، فتكلّمنا عن الذنوب التي يقترفها البشر، والعذاب الّذي يُرسله الله إليهم، كالفيضانات والزلازل والأعاصير، فتدخلّت هي في وسط النقاش وقالت: "إنّ هذه الفيضانات والزلازل ليست بسبب خطايا الناس كما تظنن، بل بسبب تحرّك الصفائح التكتونية لا أكثر" لاحظت أنّها ترتكن كثيرًا إلى العلم، وتُنكر أيّ تدخل غيبي أو إلهي، حتّى أنّها لا تؤمن بالأبراج تقول إنّها من العلومِ المُزيفة والعاقل لا ينبغي له أن يؤمن بهذه الأشياء الباطلة والسخيفة، ولا أن يُضيّع وقته في الاستماعِ إليها. فتكلّمت بعد ذلك عن أشياء كثيرة مُتعلقة بالنظريات العلمية، من بينها نظرية التطور، وأنّها تؤيدها بشدة، وتقول أيضًا أنّها لا تؤمن بخالقٍ للكون، إذ أنّ ليس لكلِّ حدث له مُحدث، فالقفزات الكمومية تجيء بدون مُسبب، والعبور الذري أيضًا. ماذا عساني أن أقول أكثر من ذلك؟ هذه الفتاة تقرأ عن كلّ شيء، عن الأديان، والميثولوجيا، والبيولوجيا، والفلسفة، والفلك، وعن مختلف سائر العلوم والفنون، في جلسة واحدة تنبجس من فمها المعلومات الوفيرة، وأمّا أنا فلم أجرؤ على مجادلتها، ولا على النقاش معها في بادئ الأمر، ولكنني قلت في الختام إنني مؤمنة بوجود خالق للكون، ومؤمنة بآدم وحواء، ولا أعترف بالنظريات العلمية فهي مجرد نظريات، ولكنها ردت عليّ بكلامٍ أخرسني، تقول إنّ ثمّة نظرية خارج إطار العلم، فهذه أراء شخصية غير موثوق بها، ولا يعوّل عليها، وثمّة نظرية داخل أروقة العلم، فهذه مدعومة بالأدلة والبراهين التي تشرح الحقائق المثبتة" لكنني لم أنبس بكلمةٍ واحدة، وبعد ذلك انصرفت إلى غرفتي.
أمّا عن الجامعة فهي بديعة جدًا، والأساتذة من أحسن الناس وأكفأهم، والمناهج جيَّدة ونافعة، ولكن المعضلة الوحيدة التي واجهتنا هي في أكل الكافتريا، اشتكينا للمسؤولين قبل يومين عن رداءة الطبخ، فوعدونا بأنّنا سنأكل أطيب وأشهى أنواع الطعام في الأيام القادمة.
كن بخير دائمًا وأبدا.
ابنتك سُعاد..
أبي الغالي..
أدري لماذا تطلب مني أن أفاجئك؟ لأنّ الحياة سلبت منك كلّ ما منحتك إيّاه من نعيمٍ ولم يبق لك سواي. أدري أنّ أوّل النعيم الذي خسرته كان أُمي. ألم تقل لي ذلك من قبل؟ إليك هذه القصة التي حكيتها لي لمرّة واحدة في حياتك، ولم تعُد تذكرها لي مجددًا، ولكني لم أنسها قطّ، لا تزال تشتعل في ذاكرتي مُذ ذلك اليوم إلى حدِّ الآن. بعد أن شيّعوا جنازة أمي إلى الجبّانة، تضعضت قواك، وتقوّضت آمالك، وبقيت خاملاً، حزينًا، كئيبًا، لا تجسر على رفع بصرك إلى السماء، وباتت الدُنيا في عينيك ضيّقة ورمادية، ولا تستحق أن تُعاش أكثر من ذلك، ولكن الذي أعاد إليك الروح هو أنا، أخبرتني أنّ في ذلك اليوم الذي سئمت فيه من الحياة، والّذي أردت فيه أن تستحيل إلى تراب، قرّرت أن تُلقي عليّ لمحة أخيرة قبل الوداع، فحين دنوت من الغرفة، سمعتني أبكي بشكلٍ مُخيف، وكأنّي كنت أعلم أنك ستجابه الموت بعد قليل، فنظرت إليَّ بعينين دامعتين، وتساءلت في نفسك، لمن ستتركني؟ من سيعتني بي؟ الخادمة غريبة وربّما ترميني في أقرب مكانٍ إذا لم أُحسِن التصرف معها، وجارتنا امرأة مُقصّرة في تربية أطفالها، ولا تصلح لتربيتي، وعمّتي مُهاجرة إلى جنوب أفريقيا مع بعلها، وكنت أنت وزوجها على غير وفاقٍ مع بعضكما، فخشيت عليّ من أن يصيبني الأذى فيما بعد، فإتخذت قرارك بأنّ ترجع من جديد، وأن تقف مرّةً أخرى على قدميك، فوثبت، وفعلت أكثر ممّا ينبغي أن يفعله أيّ أب، فكيف لي ألاّ أفاجئك؟ وأنّى لي ألاّ أُدخل الحبور إلى قلبك؟
بالأمس كانت عمّتي فرحة وسعيدة، وكنت أظنّ أنّها تشافت بشكلٍ كامل من كآبتها، ولكنك تخبرني في هذه الرسالة أنّها لم تعُد كذلك. يا ربّاه! ما أشدّ وطأة الدُنيا! ما أقسى أمراض الدهر! لا ترحم أيّ مخلوق، لا ترحم أبدا. إنّها تُحيل الإنسان إلى مضغة فاسدة، إلى كائنٍ بلا روح، وغير صالح للحياة. هذا المرض الذي أصاب عمّتي خطير جدًا، وليس بوسعي الآن أن أتفاءل بما سوف يجيء في المستقبل، ولكن بلا بدع أنّ الحال سيكون أردأ من قبل، ولن يتطوّر إلا في الجانب المُظلم. حاول بقدر استطاعتك الّا تتركها لوحدها بين أربعةِ جدران، ستهلك من الوحدة، ستدفن حيّة.
تريد أن تعرف عن حياتي هنا، حسنًا، سأبدأ أولاً بملجأ الأيتام - أقصد السكن - تعرّفتُ على فتاةٍ نرويجية تسكن في الغرفة المجاورة، سأخبرك عن صفاتها؛ ذكية وفاتنة جدًا، ولطيفة معي ومع الآخرين، وتُحبّ الأعمال التطوعية، وتعشق السفر والرحلات، وتتكلّم ست لغات، تخيّل! أنا بالكاد أتحدّت ثلاث لغات، وأشعر أحيانًا بالزهو من نفسي، وهي لديها هذه اللّغات الست، وكأنّها لا شيء بالنسبة لها، وكما تقول هي: "لا أفتخر بهذه اللّغات، فكلّ شخصٍ يستطيع أن يفعل ما فعلت، فلماذا إذن أغدو مثل الطاووس، وأنفخ ذاتي لمجرد امتلاكِ لشيءٍ يمكن للآخرين أن يحصلوا عليه؟!". ومن مزاياها أيضًا أنّها فتاة موسوعية ومُثقفة جدًا، ما إن نفتح نقاشًا عن أيّ شيء، إلاّ ولها اضطلاع واسع به، ولها رأيٌ سديد فيه دعني أخبرك عمّا حدث بالأمس، كُنّا في طقسٍ ديني، فتكلّمنا عن الذنوب التي يقترفها البشر، والعذاب الّذي يُرسله الله إليهم، كالفيضانات والزلازل والأعاصير، فتدخلّت هي في وسط النقاش وقالت: "إنّ هذه الفيضانات والزلازل ليست بسبب خطايا الناس كما تظنن، بل بسبب تحرّك الصفائح التكتونية لا أكثر" لاحظت أنّها ترتكن كثيرًا إلى العلم، وتُنكر أيّ تدخل غيبي أو إلهي، حتّى أنّها لا تؤمن بالأبراج تقول إنّها من العلومِ المُزيفة والعاقل لا ينبغي له أن يؤمن بهذه الأشياء الباطلة والسخيفة، ولا أن يُضيّع وقته في الاستماعِ إليها. فتكلّمت بعد ذلك عن أشياء كثيرة مُتعلقة بالنظريات العلمية، من بينها نظرية التطور، وأنّها تؤيدها بشدة، وتقول أيضًا أنّها لا تؤمن بخالقٍ للكون، إذ أنّ ليس لكلِّ حدث له مُحدث، فالقفزات الكمومية تجيء بدون مُسبب، والعبور الذري أيضًا. ماذا عساني أن أقول أكثر من ذلك؟ هذه الفتاة تقرأ عن كلّ شيء، عن الأديان، والميثولوجيا، والبيولوجيا، والفلسفة، والفلك، وعن مختلف سائر العلوم والفنون، في جلسة واحدة تنبجس من فمها المعلومات الوفيرة، وأمّا أنا فلم أجرؤ على مجادلتها، ولا على النقاش معها في بادئ الأمر، ولكنني قلت في الختام إنني مؤمنة بوجود خالق للكون، ومؤمنة بآدم وحواء، ولا أعترف بالنظريات العلمية فهي مجرد نظريات، ولكنها ردت عليّ بكلامٍ أخرسني، تقول إنّ ثمّة نظرية خارج إطار العلم، فهذه أراء شخصية غير موثوق بها، ولا يعوّل عليها، وثمّة نظرية داخل أروقة العلم، فهذه مدعومة بالأدلة والبراهين التي تشرح الحقائق المثبتة" لكنني لم أنبس بكلمةٍ واحدة، وبعد ذلك انصرفت إلى غرفتي.
أمّا عن الجامعة فهي بديعة جدًا، والأساتذة من أحسن الناس وأكفأهم، والمناهج جيَّدة ونافعة، ولكن المعضلة الوحيدة التي واجهتنا هي في أكل الكافتريا، اشتكينا للمسؤولين قبل يومين عن رداءة الطبخ، فوعدونا بأنّنا سنأكل أطيب وأشهى أنواع الطعام في الأيام القادمة.
كن بخير دائمًا وأبدا.
ابنتك سُعاد..
تعليق