و... بشِدَّة
منيرة الفهري
لستُ أدري ما الذي دهاني ...خرجتُ ليلا تائهة مهمومة.. علَّني أرتاح من ضيقٍ انتابني فجأة... و علَّ الليل يحتوي ألمي و يخفف عني معاناتي... كانت الظلمة حالكة مخيفة... لكنني لم أهتم و واصلت السير.. يدفعني وجعي لطي المسافات...منيرة الفهري
فجأة أحسستُ بخطواتٍ تتبعني... توقفتُ... توقفتِ الخطواتُ خلفي.. خفتُ..ارتعبتُ... أسرعتُ الخطى.. من تراه يكون؟ ازداد خفقان قلبي... و اصطكتْ ركبتاي.. و دون تفكير التفت سائلة:
- من هناك؟
-أنا أنت... كان الصوت نسائيا يشبهني فعلا.
- أنا؟
- نعم أنا نَفْسُكِ....
تفرست فيها مليا ... لم أصدق... كنتُ أنا بالفعل..
و كنتُ شاحبة هزيلة على عكس ما أنا عليه... أيعقل أن أكون أنا تلك؟
تأملتُ... زدت تفرسا فيها... ثم تألمت أخيرا و طأطأت رأسي خجلا ... فقد مرَّ شريط حياتي أمامي و تذكرت كم سببت لها من حرمان و مآسٍ..
قلت لها في شبه همس:
- أعترف لك يا نفسي أنني ما أحببتك أكثر ممن حولي... فقد كنتُ أعتقد (ولازلت اعذريني) أنني خلقتُ لأحبَّ فلذات كبدي و أحتويهم و أضمهم إليّ حتى و هم رجال ... أعترف لك أنني نسيتك و تركتك خلفي و ما التفتُّ إليكِ .... لم تحظيْ بالمرتبة الأولى يا نفسي سامحيني.. فقد كان أولادي هم أولوياتي .. حتى اشتد عودهم وأينع ... و كبروا... حينها التفتُّ وراءي لأحضُنَكِ و أُعطيك حقَّك ِ.... لكنني فوجئت أنك تعودتِّ على المرتبة الثانية و أحيانا الثالثة... و لم تشتكي و لم تتذمري... لأنّكِ تصورتِ أنني على حق...
همهمت نفسي كلاما مبهما... و تركتني أعترف:
و كم سمعتُ صراخك و تذمُّرك ... و لكنني كنتُ أتجاهلهما... كان حبي الكبير لأهل بيتي يطغى عليَّ و في كل مرة يطن ّكلام في أذني: لا تسمعي هذا الصراخ... تجاهليه... انظري حولك.. إنهم بحاجة إليك... لا تلتفتي... هذا يحتاج كذا و الآخر يحتاج كذا... أنت مِلكٌ لأولادك .. لإخوتك... لا يحق لك أن تستمعي إلى تذمر هذه النفس التي لن ينالك منها إلا الوجع...
أعترف أنني قسوت عليك كثيراااا... و حرمتك كثيرا.. و هضمت حقك أكثر..."
هنا انتفضت نفسي ملتاعة ... لكن سرعان ما هدأت لتستمع إلي:
"لكنني يا نفسي العزيزة كنت سعيدة بهذا العطاء اللامتناهي...و أنت تعرفين هذا أكثر مني...
أحببتك يا نفسي و لكن ليس كما تستحقين... فقد استحوذ علي شعورُ الأمومة و لم يترك لي مجالا لأُدلّلكِ و لو مرة ...
أعتذر منك و بشدة و أقول لك و أنا في الستين من عمري إنّ سعادتي الكبرى كانت في ضمةٍ من ولد أو حفيد... و استنشاقٍ لرائحته ... كانت في نظرة رضا منهم... كانت في كلمة "يا" (يا أمي)...كانت في ابتسامة من أولادي و نجاح و تألق...
أعترف أنني اختزلتُ عالمي الكبير في بريق أعينهم الصغيرة... و لم يعد يعنيني سواهم...
أعتذر منك و بصدق فقد نسيتك يا نفسي و احببتهم و أحبهم أكثر منك..."
اقتربت منها قليلا ...حاولت ضمها للمرة الأولى... لكنها ابتعدت و ...
لم تقل نفسي شيئا ...نظرت إلي مشفقة حزينة.. ازدادت شحوبا... انطفأ لمعانٌ كان فيها.. و غابت في غياهب الليل و الظلمة....
تعليق