ومن نزاهة المثقف وصف العبقرية و الغباء على حد سواء.

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • محمد شهيد
    أديب وكاتب
    • 24-01-2015
    • 4295

    ومن نزاهة المثقف وصف العبقرية و الغباء على حد سواء.

    عندما أُقَلّب صفحات التاريخ التي احتفظت لنا بأهم منجزات البشرية في مختلف المجالات عبر العصور، أكاد أشعر بالدونية أمام ذكاء أصحاب تلك المنجزات الجبارة. و سرعان ما أضيف شهادة العرفان مني إليهم لما أفنوا حياتهم من أجله قد عاد و لازال في كثير من الأحيان يعود علي و على بني البشر بالمنفعة إما الحسية أو المادية. لكن، عندما أغوص في أعماق سيرة بعض أذكياء التاريخ الذاتية، ينتابني فزع رهيب لما أكتشفه عنهم من أفكار و معتقدات ـ بل حتى بعض التصرفات و المواقف - التي تهدم، من شدة سوادها و خبثها - ذلك الهرم الفرعوني المحاط بشخصهم شبه المقدس. فأخلص إلى نتيجة تكاد تكون لازمة: أن من الذكاء ما قتل (صاحبه) أو قتل (غيره).

    أكتب هذا و ذهني يجر علي مثالين أذكرهما على عجل، و هما موضوعان طرحتهما من قبل بصيغتين مختلفتين : كاتب ياسين و أليكسي كارل.
    عندما ذكرت ذكاء الأديب الجزائري كاتب ياسين، في مقالة بعنوان : كاتب ياسين: عبقرية أم غباء؟، أردت بذلك أن أعترف له و لأسلوبه بالفضل علي لكوني من المعجبين بتمكنه من لغة موليير التي كان يكتب بها قيد حياته. و قد حصل الاعتراف و انتهى. لكنني ذكرت مواقفه المعادية للإسلام والتي جهر بها و شغل الرأي العام بها أيضا قيد حياته ولم ينكرها. فوصفت ادعاءه على الإسلام بالبهتان المبين و أفكاره تلك وصفتها بالغبية و الماكرة. فلا يلمني قائل على أنني بوصفي هذا أحارب الإبداع - و قد لامني بعضهم بهذا - لأنني لا أنكر موطن الإبداع و لا أغفل موضع الغباء، سواء عند ياسين أو عندي أو عند غيرنا.

    يجرني الحديث إلى ذكر الشخصية الثانية: أليكسي كارل، الطبيب الجراح الفرنسي، الحائز على جائزة نوبل للطب عام 1912. كان لذكاء الرجل بالغ الأثر في مجال الطب و الجراحة، إذ يرجع له الفضل في ابتكار أساليب متطورة آنذاك في خياطة الأوعية الدموية، و كان رائدا في نقل و زراعة الأعضاء الحية و جراحة الصدر. و هو أيضا صاحب كتاب مميز يحمل عنوان: "الإنسان، ذلك المجهول"، وهو عبارة عن مقاربة شبه فلسفية بين أسرار أودعها الخالق في جسم الإنسان، و بين بحث البشرية عن السعادة الحقيقية. والكتاب فيه نقد لاذع و صريح لهمجية الحضارة الغربية القاتلة التي أدت إلى إبادة الملايين من البشر.

    وهنا يقف الذكاء و يبدأ الغباء. و إليك السبب كما ذكرته على هامش نص "الإنسان، ذلك المجهول":

    أليكسي كارل رغم ما بلغه قيد حياته من منزلة بحيث سميت العديد من الشوارع و الأزقة باسمه وجامعة ليون الفرنسية كان اسمها على اسمه و مونتريال الكندية كان بها شارع باسمه و أكثر من ذلك. فاسمه كذلك علق على أحد الأجرام الكوكبية و و و... لكن بالرغم من ذلك، كان من أنصار النازية و أحد أبرز علمائها المؤيدين لنظرية الجنس الآري. فمن أجل ذلك، شرعت العديد من الدول اليوم في بثر أدنى علاقة اسم كارل بمنشئاتها أو مؤسساتها. جامعة ليون غيرت اسمها، مونتريال شطبت على اسمه من أحد شوارعها و اسمه سيمسح - أو يكاد يمسح - من ذاكرة البشرية كأحد عظماء التاريخ.

    ربما مثال أليكسي كارل يزيدنا قناعة على أن الذكاء سرعان ما ينقلب إلى غباء و المثقف الحر النزيه من تكون لديه الجرأة و النخوة لكي يصف ذكاء العالم ذكاء و غباءه غباءً. فالعصمة للأنبياء و ما سواهم قابل للنقد و الأخذ و الرد.

    م.ش.
    التعديل الأخير تم بواسطة محمد شهيد; الساعة 10-09-2019, 21:06.
  • محمد شهيد
    أديب وكاتب
    • 24-01-2015
    • 4295

    #2
    وعلى ضوء ما سبق، أطرح على المثقف سؤالاً يفرض نفسه: ما حظ النقد من الموضوعية و ما نصيبه من الذاتية؟ أطرح على نفسي أولاً هذا السؤال و كأنني أسمع صوتاً يهتف إلي بسؤال عرضي: "ألا تعتقد بأن ما قد تصفه أنت عبقرية قد يصفه غيرك غباءً و العكس صحيح"؟

    بالفعل، السؤال منطقي و معقول، إلى حد ما. فلو اقتصرنا على المثالين المذكورين أعلاه، فسوف نجد بأن شريحة واسعة من المثقفين على الخصوص سوف ترى في اتهام كاتب ياسين للإسلام بأنه دين انتشر بالسيف و بالدم نوعاً من "جرأة مثقف شجاع" صدع بحق و لم يخش لومة المجتمع المسلم الذي نشأ وترعرع فيه. فما وصفته أنا غباءً قد يراه غيري عبقرية ينصبون لكاتب ياسين بسببها تمثالاً من عاج مرصعاً بالألماس. و كذلك الشأن لمؤيدي النازية الحاقدة، فلربما نصبوا للطبيب الجراح أليكسي كارل تماثيل و جعلوه آلهة تعبد من دون الله. فأين الصواب إذن و أين منطق الوضوعية من كل هذا؟

    سوف أحاول الإجابة و إن لم تكن موفقة كما أريد أو كما أرادها القاريء الكريم...
    يتبع
    التعديل الأخير تم بواسطة محمد شهيد; الساعة 07-01-2018, 13:24.

    تعليق

    • محمد شهيد
      أديب وكاتب
      • 24-01-2015
      • 4295

      #3
      وعد الحر دين عليه. نواصل.

      الموضوعية، و ما أدراك ما الموضوعية؟

      تعريف المعاجم:
      (معجم الوسيط)

      المَوْضُوعِيّةُ: المَوْضُوعِيّةُ (في الفلسفة) : مَنْحًى فلسفيٌّ يرى أَنْ المعرفة إنما ترجع إِلى حقيقة غيرِ الذاتِ المدرَكة .


      (معجم الغني)
      مَوْضُوعِيّ: جمع: ـون، ـات. | (مَنْسُوبٌ إِلَى الْمَوْضُوعِ).|-حُكْمٌ مَوْضُوعِيٌّ : أَيْ حُكْمٌ يَحْتَكِمُ إِلَى العَقْلِ والْحَقِيقَةِ بَعِيداً عَنْ كُلِّ مَا هُوَ ذَاتِيٌّ- رَجُلٌ مَوْضُوعِيٌّ فِي أَحْكَامِهِ.

      (معجم الغني)
      مَوْضُوعِيَّة: (مصدر صِنَاعِيٌّ).|-تَتَمَيَّزُ أَحْكَامُهُ بِالْمَوْضُوعِيَّةِ : أَحْكَامٌ كَمَا هِيَ، كَمَا يَرَاهَا الذِّهْنُ فِي الوَاقِعِ، بَعِيدَةً عَنِ الذَّاتِيَّةِ، لاَ تَشُوبُهَا نَظْرَةٌ ضَيِّقَةٌ وَلاَ تَحَيُّزٌ.

      هذا من حيث اللغة. أما من حيث الاصطلاح كما هو متداول فالموضوع شائك، و لا ريب. إنه بمثابة مزلق جليدي أشبه بتلك المزالق على الرصيف عندنا في كندا حين تأتي الأمطار متبوعة بثلوج وتتزامن مع انخفاض درجات الحرارة. و كما عليك أن تنتعل حذاءً صنع خصيصاً للمشي على الجليد (و أنا أحب الأحذية كما سبق لي أن ذكرت في مقالة "أنا و حذائي الإيطالي واليهودي")، فكذلك الذي يمشي على رصيف "الموضوعية" أن يقتني أجود الآليات العلمية و المنهجية لعله يجنب نفسه وعكة السقوط فيعبر بسلام.

      أذكر أول درس لي في شعبة التواصل و العلاقات العامة بجامعة لافال، بعنوان "مدخل إلى المنهجية العلمية". تطرق الأستاذ المحاضر إلى جملة مفاهيم من بينها مفهومي paradigm (كما نظر له العالم و الفيلسوف Kuhn) و Objectivity (لكونه مفهوما أساسياً في إرساء قواعد أي نظرية علمية).

      من بين ما ذكر الأستاذ المحاضر (و أنا لا أتفق إلا نسبياً مع قوله):

      إذا جاءك رجل نازي، يؤمن بالنازية و يدافع عن مبادئها المبنية على الميز العنصري و الحقد الشديد للإنسان، فاعلم بأنه رجل في كامل الموضوعية. أما إذا قال غير ما ينسب إلى النازية من أيديولوجيا أو تبنى رأياً متبوعاً بسلوك يتنافى و طبيعةَ النازي، فإنه إما ليس نازياً و إما غير موضوعي.

      يتبع.
      التعديل الأخير تم بواسطة محمد شهيد; الساعة 07-01-2018, 14:09.

      تعليق

      • محمد شهيد
        أديب وكاتب
        • 24-01-2015
        • 4295

        #4
        الصديق البابلي، عليه السلام
        أولا، اسمح لي بأن أشكرك على إحياء الموضوع الذي كنت شخصياً قد نسيته. فلعل برفعه من جديد رفعتَ من همتي لتجعلني أعود لتتمة الموضوع مع استدراك بعض الهفوات التي صدرت مني أثناء تدوينه آنذاك.

        ثم إنني أميل إلى رأيك: التاريخ يسطره المنتصر. و قدر المهزوم أن يستجيب للمعادلة و يؤدي ضريبة الخذلان أو التخاذل. و على رأي بعضهم: النصر طفل يتبناه أولياء كثيرون؛ أما الهزيمة فهي يتيمة مجهولة الوالدين.

        مودتي

        م.ش.
        التعديل الأخير تم بواسطة محمد شهيد; الساعة 10-09-2019, 21:24.

        تعليق

        • أميمة محمد
          مشرف
          • 27-05-2015
          • 4960

          #5
          السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أخي محمد
          ربما كنت أحتاج لفنجان قهوة وجلسة هادئة لأقرأ موضوعك، للأسف أني مشغولة هذه الأيام
          وعلى أمل العودة والقراءة
          بالطبع نغبط بعض العظماء على ذكائهم.. ولا نظن مهما كانوا إلا أنهم بشر ليسوا دائما صائبين
          من المؤكد أن لمن هم من سالف العصور صفاء ذهن متميز وقتذاك لا يتسع لنا الآن في عصر التكنولوجيا
          غالبا لا يدونون ويحفظون
          أغبطهم على ملكة الحفظ
          ويتأثر العقل البشري اليوم بضوضاء التكنولوجيا بل بتأثيره الإعلامي المبرمج
          أحب فيك ثقافتك
          ادع لي أن أجد الوقت وأعود لو بعد حين
          وطبعا سأتابع بعض ما تكتب
          تقديري والتحية

          تعليق

          • محمد شهيد
            أديب وكاتب
            • 24-01-2015
            • 4295

            #6
            المشاركة الأصلية بواسطة أميمة محمد مشاهدة المشاركة
            السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أخي محمد
            ربما كنت أحتاج لفنجان قهوة وجلسة هادئة لأقرأ موضوعك، للأسف أني مشغولة هذه الأيام
            وعلى أمل العودة والقراءة
            بالطبع نغبط بعض العظماء على ذكائهم.. ولا نظن مهما كانوا إلا أنهم بشر ليسوا دائما صائبين
            من المؤكد أن لمن هم من سالف العصور صفاء ذهن متميز وقتذاك لا يتسع لنا الآن في عصر التكنولوجيا
            غالبا لا يدونون ويحفظون
            أغبطهم على ملكة الحفظ
            ويتأثر العقل البشري اليوم بضوضاء التكنولوجيا بل بتأثيره الإعلامي المبرمج
            أحب فيك ثقافتك
            ادع لي أن أجد الوقت وأعود لو بعد حين
            وطبعا سأتابع بعض ما تكتب
            تقديري والتحية
            وعليكم السلام ورحمة الله،
            الأخت اللطيفة أميمة: لو كان الدعاء حقاً يستجاب أثناء نزول المطر، فأبشري! الساعة تشير إلى الثامنة صباحا بتوقيت مونتريال و السماء ماطرة. ادعو لك بالتوفيق في مشوارك المعرفي و الحياتي راجياً أن تتوفقي في سلّ الوقت من رقبة الزمن حتى يتسنى لك التوقف عند ما يزكي النفس و يقوي العقل و ينمي القدرات...

            موفقة بإذن الله.

            مودتي

            م.ش.

            تعليق

            يعمل...
            X