الإنسان و ... الحيوانية
(مقالة)
كنت أريد وضع عنوان هكذا "الإنسان والإنسانية" ثم ارتأيت أنه عنوان متوقع ومقبول فاخترت المُثَبَّتَ عساه يثير الانتباه ويجلب القراء إليه؛ فما الغرض من كتابة مقالة كهذه؟ هذا سؤال لا أستطيع الإجابة عنه لأن الكاتب لا يسأل لماذا يكتب حين يكتب؟ فهو يكتب لدواع شتى منها الرغبة في إشراك قرائه في أفكاره وخواطره وللقراء حق معرفة ما يفكر فيه كاتبهم.(مقالة)
في يوم من أيام عام 2004، كنت في حديث طريف مع أحد الأساتيذ النبهاء وقد كان في الماضي أستاذ فلسفة في بعض الثانويات فسألني: "تعرف معضلة الحصان والحصانية؟" أو ما يسمى بالأعجمية الفرنسية :"le dilemme du cheval et de la chevalité" فأجبته: لا، لا أعرفه ! فقال: "سأل أحد الفلاسفة جماعة من زملائه، تلاميذه، وكانوا في جولة في بعض المزارع فرأى حِصانا يرعي فأشار إليه سائلا مرافقيه: "كيف نميز بين الحِصان والحِصانية؟" فلم يجبوه؛ وأردف قائلا: "إن كان هذا الذي أمامنا حصانا فأين الحِصانية؟ وإن كانت هذه هي الحِصانية، فأين الحصان؟"؛ فوجم القوم ولم يحيروا جوابا، وكيف يجيبونه وهو أستاذهم الكبير المبجل، لكنهم أخذوا في التفكير الفلسفي، وغرقوا فيه إلى ... اليوم.
عرض علي الأستاذُ السؤالَ نفسَه، وضحكنا من تعقده وغموضه وغرابته؛ وبعد هنيهة قلت محاولا الإجابة: "يجب علينا تحديد معنى الحصان، ومعنى الحصاينة حتى نخرج بإجابة مُرْضية يقبلها العقل".
فقال: "هات ما عندك".
قلت: "الحصان" هو ذلك الحيوان المعروف بصفاته الخاصة والتي تجعل منه حصانا؛ وأما "الحصانية" فهي مجموع الصفات التي يكون بها هذا الحيوان بالذات حصانا، ولا سبيل إلى الفصل بينهما، فلا وجود للحصان من غير الحصانية، ولا وجود للحصانية من غير الحصان، فَهُما في وحدة وجود تامة كاملة لا فصل فيها؛ فلو استطعنا أن ننزع عن "الحصان" صفات "الحصانية"، وأنَّى لنا ذلك، لم يعد حصانا، فلا يكون الحصان حصانا إلا بالحصانية وليس بغيرها.
سكت الأستاذ برهة يتأمل كلامي ثم أطلق ضحكة مدوية هزت أركان المكتب الذي كنا فيه وكأنه وجد الإجابة للسؤال المحير أو كأنه استجاد إجابتي؛ وبعد الضحك وتغيير المواضيع افترقنا.
ساقتني هذه القصة إلى التفكر في موضوعي اليوم الآن وهنا؛ إن كان ما قلته عن الحصان صحيحا، وهو كذلك، فماذا عن الإنسان؟ هل يمكن فصله عن إنسانيته ليصير كائنا آخر غير ما خُلِق عليه من صفاته الإنسانية؟
الإجابة: نعم ! ممكن جدا، وهذا مشاهد في واقع الناس ومعيش فيهم يوميا، فهل يُنكر؟ لقد تخلى الإنسان، هذا الحيوان الناطق كما يعرفه الفلاسفة، عن إنسانيته طواعية وبكل يسر لأنه، ببساطة، يملك الإرادة الذاتية المستقلة، بينما الحصان، أو غيره من الحيوانات، لا يمكنه الانفصال عن صفاته الذاتية التي هو بها هذا الحيوان أو ذاك أو ذلك.
إذن، يستطيع الإنسان أن ينتزع من نفسه إنسانيته فيصير بهذا النزع القسري نوعا آخر من أنواع الحيوانات الأليفة الأنيسة أو المتوحشة الضارية المفترسة، وهذا الإنسان، لهذه الميزة، ميزة الإرادة، وبها يستطيع أن يتحول إلى ما يشاء من الكائنات القريبة من البشر أو البعيدة عنهم بسهولة ويسر.
فالإنسان، هذا الحيوان الناطق، من النطق الذي هو التفكير وليس النطق الذي يعني الكلام، إن نُزعت عنه إنسانيته صار حيوانا فقط وغابت عنه ميزة التفكير الحر المستقل لأن الحيوان لا يفكر، وإن أثبت له العلماء نوعا من التفكير، أو الذكاء، فهو تفكير، أو ذكاء، حيواني محض لا يمت إلى التفكير البشري بأدنى صلة، وبهذا نربط بين هذه الخاتمة وعنوان المقالة، وإلى موعد آخر إن شاء الله لمواصلة الحديث عن إنسانية الإنسان أو حيوانيته.
البُلَيْدة، عشية يوم الأربعاء 14 من شهر الله المحرم 1442، الموافق 2 سبتمبر 2020.
تعليق