توكّلتُ على الله وارتديتُ ملابسي بسرعة، ومشيتُ خلف الحارس الذي قادني إلى الفناء الكبير الموجود خلف الأسوار الغليظة، ومن فوقها الأسلاك والحراس من حولها كنبات الفطر منتشرين. ووجدتني أمام حيّ عامر بأشباه البشر، يتساقطون من هنا ومن هناك وعليهم ملامح الانصياع والخضوع، من المساجين المتطوّعين. و رائحة طعام تزكم الأنوف تفوح من بعض الفجوات. وفُتح باب الفناء، وبقي هناك ثلاثة أبواب. انجررتُ خلف حارس آخر ومعه حزمة مفاتيح؛ من التي " تنوء بالعصبة أولي القوّة " لاتعد ولا تحصى. وقام بفتح باب سميك، من أقوى أنواع الخشب الصّلب. باب واحد وأخير وألج إلى مكان وبُعد "زمكنيّ"، سيكون المحطّة الأخيرة في مشواري الكئيب، وهي عبارة عن صالة تضمّ عددا من الأسرّة المتراكبة فوق بعضها، المتقاربة جدّا. غير بعيد عنها بيت خلاء نصف مغطّى، ورفوف خشبيّة تحيط ببعض جوانبها تحمل أمتعة ولوازم المساجين، ونافذة صغيرة موصدة في أعلى عليّيين.
لم أكن أتوقّع رؤية الفرحة "كفرحة الموتى بالميّت الجديد عند وضعه في القبر" تعلو وجوه المساجين، الذين استبشروا خيرا بقدومي في أول مشوار تطأ فيه قدمي عنبر السّجن. هرع إليّ القوم، كبيرهم وصغيرهم طويلهم وقصيرهم، كما يهرع الأهالي لبنيهم العائدين إليهم بعد غياب طويل. و أحاطوا بي من كل جانب، كما تحيط مياه البحر بغريق مستجير. كل واحد منهم كان ينتظر دوره ليسألني: "كيف الأحوال في الخارج ؟". ولم يسألنِِ سجين منهم عن المصيبة التي أنا فيها، وقد أمسيتُ من بينهم كواحد من السفلة المجرمين؟! وما زاد من حيرتي أيضا أنّهم يعلمون بقضيّتي لربما أكثر منّي؛ وقد قام أحدهم يطمئنني بأنّ القضيّة وما فيها، يعني بذلك قضيّتي، لا تساوي ثمن الحبر الذي كتبت به. مقارنة بقضيّة فلان(.ع.) الذي قتل والده وقام بتمزيقه إلى أجزاء صغيرة كي يسهل حمله. وأشار إلى شابّ صغير حسن المظهر وسيم يجلس وحيدا لا تبدو عليه أعراض الجنون والإجرام. وانظر إلى ذاك السّمين الذي قضّى مثل عمرك في السّجون وقد ضبطوا معه قنطارا من الحشيش و..و.. وراح يذكر الأسماء ويريني الوجوه. كنتُ أسمع عن الحفاوة والكرم لكنّني لم أكن أتوقّع أبدا أن أجده أمامي مجسّدا في هؤلاء المساجين سيّئي السّمعة؛ وفيهم من قتل أباه وقام بتمزيقه، ومن أمضى عمره يتجوّل بين سجون الدّنيا شرقا وغربا... لكنّهم كانوا مميّزين حقّا تلمس في وجوههم نضرة المروءة والكرم، والشّمائل التي قلّما تجدها وأنت خارج السّجون.
التعديل الأخير تم بواسطة مصباح فوزي رشيد; الساعة 19-01-2021, 05:29.
خرجتُ من البيت صبيحة يوم أحد، ولم يكن تحتي سوى ورقة نقديّة من فئة الـ مئة دينار. وضعتُها تحت رأس الحريم، ولم أكترث لحال الأولاد وهم نيّام، ولا لحال والدتي المسكينة، القابعة بمفردها تتوارى عن الأنظار. لم تكن لديّ أدنى فكرة عن طبيعة التّهمة، ولا عن درجة خطورتها. فصديقي القاضي، والذي زرتُه في بيته بالمدينة السّاحليّة لأحصل منه على أجوبة تطمئنني واريته بعد ذلك الاستدعاء الذي أرسله إليّ عن طريق الدّرك...، تظاهر لي بالمرض ليتملّص منّي. وجاء من بعد غياب مريب ليمضي على أوراق الحبس الاحتياطي، ثم فرّ. والنّاس في هذه الأيّام لا يفرّقون بين من سرق بيضة ومن قتل والده متعمّدا.( إن عشقت اعشق قمر وان سرقت اسرق جمل ) كما جاء في المثل. جلستُ قريبا من باب العنبر المكتظ بالأسرّة والبشر. وانتظرتُ ولعلّ سيأتي صديقي القاضي نفسه أو من ينوب عنه ليقول لي: " متأسّفين جدّا على ما حصل لك". أو يرسل مدير السّجن ليخبرني بأنّه حدث خطأ ما ويطيّب خاطري ويصرخ في وجه المساجين والحرّاس سواسية ويسبّ دين الآباء والأمّهات... ولكن كل ذلك لم يحدث. وتمرّ الدّقائق، والثّواني، والأعشار... و كأنّها دهر. يعسعس اللّيل، ويجزع القلب، وتهيج الأفكار؛ [ رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ]. ولم يتبقّ للعبد الضّعيف سوى العمل بوصية الأم لابنتها: " كوني له أرضا يكن لكِ سماء". وأقوال المشايخ والشيوخ الكبار: "وتواضع للنّاس يرفعوك". و" انزل النّاس منازلهم" و" احلب في أوانيهم"... وغيرها من النّصائح التي حان أوانها. تصنّعتُ الابتسامة على وجهي، تعبيرا عن فرحتي و سعادتي بوجودي بين "إخوتي" السّجناء، فالدّنيا في النهاية سجن وشقاء. واللّيلة ليلة "عرسي"، وأنا بالزيّ الرّسميّ وهذه الشيّاكة؛ كوستيم (فلانال) ورابطة عنق من نوع ( بيير كاردان) وحذاء من جلد الغزال..؛ وصدّقوني إن قلتُ لكم إن المساجين حين يُقرع عليهم باب الصّالة ويُرمى لهم بسجين جديد؛"هبرة لحم لتمساح جائع"، يفرحون أيّما فرحة، وتعلو البهجة وجوههم، ويسيل لعابهم، و تجري الدّماء في عروقهم، وتتحرّك الشّهوة فيهم. ويحصل العكس حين يزمع الإفراج عن أحد السّجناء، فإنّك تقرأ في وجوههم النّكسة الخيبة والنّكد. ومن عادة المساجين أنه إذا حلّ بدارهم محبوس جديد، عقدوا له جلسة كتلك التي تجري وقائعها في المحكمة، ومعها بعض الطّقوس الغريبة. وبهذه المناسبة "السّعيدة"، مناسبة حلولي ضيفا عزيزا عليهم، تشكّل مجلس افتراضي من أدهى المساجين وأخطرهم. طلبوا منّي الوقوف في استعداد، وقاموا باحضار قطعة قماش مسك كلّ واحد منهم زاوية من زواياها الأربع فصارت ظُلّة فوق رأسي. وجاؤوا بإناء به ماء ووضعوه فوق قطعة القماش، و انطلقت المحاكمة بكل حيثيّاتها؛ الرّئيس المزعوم يسأل وأنا أجيب. ووكيل النيّابة يتهدّد ويتوعّد، والمحامي يدافع ويلتمس الأعذار. ورحتُ أتطلّع إلى أصحاب الوجوه المصّفرة، فلم أر فيها ما يجعلني أشكّ في أنّها مصيدة؛ أو مسرحيّة من طراز "الفودفيل" القديم جدّا، قمتُ فيها بدور المهرّج.
سذاجة ما بعدها سذاجة؛ جرّت عليّ أنواع المصائب و أوقعتني في الأفخاخ والمصائد. قام أحدهم بسحب قطعة القماش من على رأسي، فانقلب الوعاء بما فيه من ماء. فسردتُ وابتلّت بدلة " الفلانال" والكرافتّة المنمّقة وما تحتهما من ثوب رقيق ورهيف، وبدوتُ كعصفور مبلّل يرتعش من برد الشّتاء وماء المطر. ورُفعت الجلسة في الأخير، ومضى كل واحد إلى حال سبيله.
دع اللّوم إن اللّوم عون النوائب *** ولا تتجاوز فيه حدّ المعاتب
فما كلّ من حطّ الرحال بمخفق*** ولا كلّ من شدّ الرحال بكاسب [ابن الرّوميّ].
التعديل الأخير تم بواسطة مصباح فوزي رشيد; الساعة 17-01-2021, 12:58.
مهما قيل عن المساجين، بإنّهم سيّئو السّمعة وأشرار و..و؛ بدليل أن الواحد منهم حين يغادر السّجن لا يبخلون عليه بالزيّارات مرّة ومرّتين ويتظاهرون له بالمؤازرة ويتصنّعون الودّ ومنهم من قد يتكرّم عليه ببعض النّقود يخرجها خلسة "حتّى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه".. ثم تتوقّف المؤازرة المزعومة وتنقطع الزيّارات والمودّة عند نهاية الأسبوع الأول، ويمسي المغبون وحيدا كئيبا يعاني من الجفاء والنّفور، ولا من يسْأل عنه ويتقصّى أخباره. يهجرونه ويغدو خطيرا كالوباء، ضعيفا كبعوضة، معديّا كالجرب، ومصدرا لكل الآثام والذّنوب، ولعنة في نظر بعض أولئك الذين يخشون الله ويرقبونه بزعمهم في السرّ والعلن، ويتوقُّونه توقّي الشرّ، ويجتنبوه كواحد من السّبع الموبقات، حتّى وإن تاب ليتوب الله عليه، فالمسْألة فيها نظر.
إلاّ أنّهم ليسوا بتلك البشاعة التي تستحقّ كل هذا العقاب. كل شيء في السّجن يخضع لنظام صارم؛ الحياة داخل الأسوار الغليظة شبيهة بنظام الحياة في الثّكنة، وإن كنتُ أسمع عنه فقط، فلأنّني بكل سذاجة لم أؤدّي واجب الخدمة الوطنيّة، وبذلك حرمتُ نفسي من تجربة كبيرة، وفائدة عظيمة، كانت ستنقذني ممّا أنا فيه. حين دقّتْ السّاعة العاشرة ليلاّ، وحان موعد النّوم، حدثتْ فوضى عارمة. تسبّب فيها عراك حصل بين المساجين؛ كل واحد يريد أن يستحوذ على مكان أفضل من الذي كان ينام فيه، وبطّانيّة أنظف من تلك التي بحوزته. وباتت مسْألة شطارة بين المساجين. أُرسِلتْ إشارة ضوئيّة عبر المصباح الوحيد، المعلّق في سقف البناية. وتمّ غلق التلفاز القديم، المثبّت على الجدار بعيدا عن كلّ الأيادي. وتوقّف الضّجيج، والذي كاد يصمّ الآذان. وهرع الرّعاع، كلّ واحد إلى فراشه. ورحتُ أتساءل: -" أين سأنام أنا الآن؟!". واحد فقط لديه كل الصّلاحيات؛ -" البريفو ". هكذا سمعتُهم ينادونه؟ "البريفو"؛ مسؤول عن كل حركة وسكون داخل الصّالة الموبوءة بالرّوائح الكريهة والرّطوبة العالية. كنتُ انتظر سَبُعا ذا أنياب أوفارسا في صورة عنترة بن شدّاد، فكان أشبه ما يكون بذئب "الفرزدق". همس لي قائلا: -" ليلة بين اللّيالي وتفوت". كلام جميل يحضّ على الصّبر. خيّرني بين مكانين، وتكرّم عليّ ببطّانيّتين، واحدة للاحتماء وأخرى للاختباء. هناك شروط ضمنيّة لشغل مهنة " البريفو"، وليست هناك شروط معلنة وصريحة. ومن يقدر على كل هذا العدد من المساجين، ومن بينهم عشرات المجرمين وحتّى المجانين أحيانا، سوى صحيح الوجه قوّاد.
قضيتُ اوّل ليلة في السّجن أتقلّب بين البلاط والصّقيع، أطارد النّوم الذي جفاني وهجرني، تتقاذفني الأمواج في ليلة دهماء يمنة ويسرى، أتساءل... أسأل نفسي وأجيب: - أفتح فمي وأشي بهم؟ و ماذا سأخسر لو فضحتهم؟ - لا يضرّ الشّاة سلخها بعد ذبحها. - الآن أنا أدفع ثمن سكوتي. - السّاكت عن الحقّ شيطان أخرس. - لا أعتقد أنّهم سيسمحون لضعيف ساذج مثلي الإفصاح عن كل الأسرار والمكنوهات. اللّهم إلا في حدود ما يتعلّق بتثبيت التّهمة "الجاهزة النّاجزة"؛ تهمة تقاضي رشوة رغم غياب الدّليل. - سيحاولون قطعا وبكل الطرق والأساليب والوسائل التي لديهم الإبقاء عليّ لأطول فترة ممكنة في غياهب السّجون، وبذلك يتسنّى لهم ترتيب الأمور والتخلّص من جميع القرائن والشّبهات التي قد تزجّ باصدقائهم وبعض الأسماء الكبيرة. - هذا يعني أنهم ليسوا بمنأى عن الفساد الذي تفشّى كالنّار في الهشيم بين أصحاب القرار والنّفوذ، وفي الدّوائر والأوساط الرّسميّة. - كان لا بُدّ من إسكاتي بكل الوسائل و الطّرق. - الآن صرتُ أعرف قواعد اللّعبة أكثر من أيّ وقت مضى؛ ولطالما سمعتهم يقولون بالفرنسية التي يعشقونها حتّى النّخاع:
[Il n'est pas interdit de voler mais il est interdit de se faire appréhender]
وفهمتُ من كلامهم و من لغتهم هذه ما معناه؛ السّرقة ليست ممنوعة. ولكن الممنوع هو أن يتمّ القبض عليك وأنت في حالة تلبّس. ولو حاولتَ الإفصاح عن بعض الأسرار التي تضرّهم، أو أن تشي ببعض الأسماء فذلك يزعجهم، وسيتمّ قطع لسانك حتما، إن لم تكن رقبتك. كان عليّ أن لا أقبل بمهنة وسخة في جهاز وسخ مع أناس فاسدين.
ورحتُ استحضر كلّ صغيرة وكبيرة مرّتْ عليّ في حياتي التّعيسة، كما يستحضر الانسان حاضره وماضيه لحظة بلحظة عند ساعة الاحتضار.
مَا أَشْبَهَ اللَّيْلَةَ بِالبَارِحَةِ!؛ كنتُ أُعاني من مرض خطير أقعدني في البيت سنة كاملة حين أبصرتُ ذات ليلة شبحا بصدد الانقضاض عليّ، وظننته ملك الموت جاء ليقبض روحي ويأخذ أمانته، ففزعتُ منه وخفتُ أشدّ الخوف، ورجوتُ من الله أن يمنحني فرصة أخيرة أتوب وأتعبّد كثيرا واًلزم الجماعة لعلّهم يشهدون لي بالأيمان. قلتُها في لحظة قمتُ فيها باستعراض الماضي فلم أجد فيه ما يسرّ العدوّ ولا الصّديق. بقيتُ على تلك الحال في خصام مع نفسي ألقي عليها اللّوم فتردّ الصّاعة صاعين، يثنينا عن هذا الجدال الواسع شخير سجين يغوص في نوم عميق، أو صياح ديك يتسلّل عبر الأثير... إلى أن نادى المنادي "حي على الصّلاة"،"حيا على الفلاح". فحمدتُ الله وشكرته، كمن كان في القبر ثم عاد إلى الحياة.
أن تستيقظ باكرا وتعثر على مكان في بيت الخلاء فاعلم أنّك محظوظ وأن والديك راضيان عنك أشدّ الرّضا. لايحسّ بقيمة النّعمة إلاّ من خسرها ا قلّة قليلة من المساجين تصلّي وتقرأ القرآن وأما البقيّة فيمضون الأوقات في فضول الكلام وكثرة التّدخين والضوضاء والصراخ والضّجيج... إلى أن يحين موعد النّوم وتُعطى الإشارة الضّوئية فيستسلمون كفئران المختبر ويخرسون كمن في القبور، فلا تسمع لهم بعد ذلك لاغية.
نحن في شهر جانفي من سنة ألفين، بمعنى أنّنا في فصل الشّتاء، موسم اللّيالي الطّوال. وأذان الفجر في طلوع النّهار، يعني على السادسة صباحا أو يزيد، والإنسان عموما لا يحتاج للنّوم لأكثر من ثماني ساعات. اللّهم إلاّ إذا كان من بعض هؤلاء المساجين الذين كما قال الشّاعر في أمثالهم: [دَع عَنكَ لَومي فَإِنَّ اللَومَ إِغراءُ ** وَداوِني بِالَّتي كانَت هِيَ الداءُ] وجدوا في التّبغ ملاذا مثاليّا لنسيان همومهم وأتراحهم. خاصّة إذا ما تم تشييع السّجائر بفناجين قهوة معصورة كقطران الفحم الأسود.
أما الوضوء ففي بيت الخلاء، هذا إن عُثر على ماء و بقي منه بعد الاستنجاء؛ ما دفعني أحيانا إلى التيمّم على الحائط. لكلّ سجين مكان ينام فيه لا يتجاوز عرضه شبرين في أحسن الأحوال. ولا سبيل للبحث عن مكان للصّلاة لأنّك لن تجده، خاصّة صلاة العتمتين حين يكون هؤلاء ممدّدين وتكون الصّالة كعلبة سردين. الشيء الوحيد المميّز عند طلوع النّهار هو الهدوء، الذي يسبق العاصفة، ثم لا يلبث هذا الهدوء أن يتحوّل إلى غوغاء.
أوّل شيء فكّرتُ فيه بعد غلق السجّان لباب الزنزانة ورائي هو القلم. فالقلم مهنتي، فأنا أمين عام بامتياز، و"كاتب عام" بالعاميّة؛ وصاحب هذه المهنة هوايته كتابة التقارير الخطيرة والسرّيّة، وممارسة التّزوير؛ تزوير محاضر الجلسات مثلا. أو نتائج الانتخابات في بعض الأحيان. وقد تعمّد المشرّع الجزائري تهميش الكاتب العام أو الأمين العام فلم يرد ذكره صراحة إلا في بعض النّصوص التطبيقية، حتّى يبقي " دين يمّاه " تحت حذاء رئيس المجلس الشعبي البلدي، والذي ليس له دراية لا بالأمور الإدارية ولا بخبايا التسيير. مهنة بائسة وصاحبها مشبوه. لكن حاجتي إلى القلم هذه المرّة ليس لأجل كتابة التقارير كما جرت العادة ولا لتزوير شيء من الأشياء، وإنما رأيتُ في القلم صورة الصديق المخلص الوفيّ، رفيق الدّرب والمشوار. ثم تفقّدتُ كتاب الله، فوجدتُ واحدا على الرفوف المغبرّة فأزلتُ عنه الغبار. ولطالما شغلتنا أنفسنا المريضة بحبّ الدّنيا الرّخيصة عن تدبّر القرآن وتأمّل معانيه.
التعديل الأخير تم بواسطة مصباح فوزي رشيد; الساعة 28-01-2021, 10:56.
خيوط الشمس المتسلّلة عبر النّافذة البعيدة تعلن عن طلوع النّهار، دبيب الحياة يعيد الأمل في النّفوس التوّاقة إلى الخروج. حمل كل سجين منشفته فوق كتفه وإناء الماء في يده قاصدا الحنفية الوحيدة، الموجودة داخل بيت الخلاء. حنفيّة تخضع للأحوال والظّروف تتحكّم فيها الأقدار. لذلك تجد من يلازمها طول النّهار ومن يتربّص لها باللّيل والنّاس نيّام؛ يتطلّب الأمر الصّبر والجهد والمثابرة.
تتدافع الجموع والطّاسات تحدث جبلة من حولهم، وترتفع درجة الرّطوبة وتضيق الأنفاس. لحظات بعدها تصافّ الصّفوف استعدادا للخروج. جلجلة فقرقعة و يتم فتح الباب الأخير. ولتفادي الرّائحة الكريهة ينتحي الحرّاس جانبا وأيديهم تُغطّي أنوفهم بعد فتح الباب على مصراعيه. خرج الجميع صفّا وحدا وبقي كل من " البريفو " وربّوح " شاف كرفي" *
ربّوح " ولد لغزالة "*، مسؤول يسهر على توضيب الأسرّة ونظافة الصّالة، يأتي في المرتبة الثانية بعد " البريفو". تجاوز ربّوح الأربعين من عمره، ولا يزال يحافظ على ليّاقته البدنية. دخل السجن وهو شاب صغير بسبب ترويجه للزّطلة. حُكم عليه بخمس وعشرين سنة قضى منها عشرين يتنقّل بين السّجون. بالنسبة إلى ربّوح أربعة وخمسة أعوام لاتساوي شيئا على الإطلاق. ربّوح إنسان طيّب، قلبه أبيض وباله واسع، وشيخ من الشيوخ؛ كلامه كلّه "شرّات" ومعاني. يحفظ الأغاني الشعبيّة، وبالأخص أغنية " بحر الطّوفان " للفنّان الرّاحل بوجمعة العنقيس والتي يطربنا بها حين يستبدّ بنا اليأس.
يتيم الأب ووالدته عجوز طاعنة في السن تعاني من الحاجة وقلّة ذات اليد، حين تزوره بعد أشهر من الانقطاع تظهر على ربّوح علامات الحزن الشّديد. يحمل ربّوح وشما كبيرا يتعمّد إظهاره كلّما أُتيحت له الفرصة.
يتشكّل الوشم الكبير الذي غطّى كل ظهره من ملائكة تطير وتلقي بالنّقود على شخص غريب يمدّ يديه إلى السّماء.
لغز محيّر!؟
لم أتجرّأ يوما على مفاتحته بشأن الوشم الغريب، تفاديا للإحراج. الوشم صفة تدلّ على "الرُّجْلة"* عند بعض المساجين، المراهقين على وجه الخصوص.
في الفناء يتسابق السُّجناء على الأماكن المشمسة في فصل الشّتاء، وفي موسم الحر يتقاتلون على أماكن الظلّ. والبقيّة الباقية تمارس هواية المشي، مثنى وثلاث ورباع، يجوبون الساحة طولا وعرضا.
أما بعض المطوّعين، من المساجين الذين لا يجدون إلاّ جهدهم، فمهمّتهم تتمثّل في إحضار براميل القهوة وأكياس الخبز في الصّباح، والمرق وأنواع العجائن في غيره من الأوقات.
* الشّاف بمعنى الرّئيس أو المسؤول، وأما كلمة " كرفي " فلم أعثر لها على مدلول في كل اللّغات. غير أن كلمة " كرفي " متداولة بكثرة وتعني في الغالب العمل الشّاق المضني. * نسبة إلى اسم الحيّ الذي وُلد وترعرع فيه. * بمعنى المروءة والشهامة.
التعديل الأخير تم بواسطة مصباح فوزي رشيد; الساعة 30-01-2021, 06:31.
نتابع هذا السرد المشوق وحكاية
رسالة من داخل السجن
يعطيك العافية أستاذ رشيد ودام العطاء
أجمل ما في الإنسان المشاعر. فلا يقال المشاعر الحيوانية بل المشاعر الإنسانية.
يريد الإنسان منافسة الحيوان في غرائزه الحيوانية وقد يطمع الحيوان في أن يمتلك المشاعر التي لدى الإنسان؟؟؟!!!
أشكر لكِ هذا التفاعل إنما يدل على مشاعركِ الإنسانية الرّاقية.
أتمنى لكِ أُخيّتي دوام الصّحة والعافية والسؤدد والهناء.
شكرا لكِ على هذا التواضع وعلى مرورك الكريم وهذا الإهتمام.
التعديل الأخير تم بواسطة مصباح فوزي رشيد; الساعة 31-01-2021, 12:04.
ظهر هناك من يهتم لأمري أكثر منّي؛ فريق يتمنّى رؤيتي خلف القضبان، مكبّلا. وهؤلاء بذلوا قصارى جهدهم، بالنّبش والرّبش أحيانا، والتجييش والتحريش ورشوة الفاسدين من رجال الدّرك والقضاء وغيرهم أحيانا أخرى … حتى لا يتم غلق الملف وإسقاط التّهمة عنّي، ولاعن رئيس البلدية. وفريق المنتفعين من البلدية ورئيسها، المعلّم الضّعيف الذي يفوقني سنّا وسذاجة، والذين راهنوا بكلّ ما لديهم من وسائل مشروعة وغير مشروعة، حتى لا يأخذ الموضوع منحى خطيرا، ليس حبّا فيّ ولا لأجل عيوني العسليّة، ولكن لتبرئة ساحة رئيسهم الذي اتّهمه غريمي اِفتراء وبهتانا بطلب الرّشوة، كما اتّهمني أنا الآخر كذبا وزورا. وفي آخر يوم نودّع فيه سنة تسع وتسعين وتسعمئة بعد الألف، أرسلوا إليّ بسيارة البلدية رفقة زميلي، الذي كان على أتمّ الاستعداد ليخلفني ويفوز بالقذارة التي شغلتْ باله طيلة أعوام، من أجل الاتّصال بسيادة القاضي الذي بذلنا جهدا كبيرا لنعثر عليه مختبئا في بيت والديه بالمدينة السّاحلية التي زرناها، وما كنّا لنهتدي إليه لولا أحد أقاربه الذي دلّنا على مكان وجوده. خرج إلينا مغصوبا، وعزمنا على فنجان قهوة. وجلسنا نتبادل أطراف الحديث. وحين أخرجتُ له الاستدعاء من جيبي مستفسرا عن مدى خطورة الموضوع، تلكّأ وتلوّى. كان ذلك صبيحة يوم الخميس بعدها ليلة عيد رأس السّنة. عزمته على زجاجات خمر نحتسيها بعيدا عن البلدة وأهلها، رغم قراري بالتخلّي عن شرب الخمر، (مكْرَهٌ أَخُوكَ لاَ بَطَلٌ)، فامتنع وملامح الحرج و الانقباض باديان عليه. قمتُ بتوديع حضرة القاضي وركبتُ رفقة "الأطلس العسّال، زميلي الذي كان شبيها بذئب الفرزدق هو الآخر؛ وهو الذي لم يتوان في التعبير عن حسده لي ذات ليلة شربنا فيها كثيرا و تظاهرتُ فيها بالثُّمالة وفقدان الوعي. في طريق العودة، عرجنا بإحدى حانات مدينة (بونة) السّاحلية الجميلة، وكانت جلسة الوداع الأخيرة، وآخر محطّة تفصلني عن أهم مرحلة عشتها في حياتي، فترة الدّلال والشّباب. وأطرق بعدها باب الأربعين بثوب التّهمة والإجرام. ساعات وأودّع الدّلال الذي حسدني عليه بعض من عرفتُهم، ولم أنتبه إليهم وهم يحسدونني إلاّ حين افتقدتُّه. ساعات بعدها وأتوشّح جحافل القمّل، وبمرور الوقت تغدو صديقة؛ تقبّلني وأقبّلها، وتفترشني وتشاركني المبيت والطّعام. ولأنّ قُمّل السّجون ليس ذاك الذي اقترنت صورته باللّعنة والطّوفان، كما جاء في القرآن، بل هو ألطف وأوفى من بعض الحثالة من البشر.
التعديل الأخير تم بواسطة مصباح فوزي رشيد; الساعة 01-02-2021, 15:58.
- أن تكون سجينا وتحظى بالاحترام، فلا بد أن تكون قويّا مفتول العضلات؛ لاكتساب الهيبة بين السّجناء، يلتجئ بعض المساجين إلى تقوية عضلات اليد باستخدام أنواع القارورات المعبأة بالمياه وكل شيء يجدونه أمامهم. - لكي تحظى برعاية خاصّة، لابد أن تكون لديك "المعريفة". فتجد بعض الأولياء يحرصون على إقامة علاقات مع الحرّاس، ومن بين هؤلاء الحرّاس أبناء أصول محترمين، ومن يمارس الابتزاز على العوائل المكلومة، والتي لا تجد بدّا من الاستجابة لمطالب هؤلاء السفلة. ولقد اشتكى لي صهري ذات يوم من أحد الحرّاس النصّابين كان يدّعي أنّه يقدّم لي خدمات خارج إطار العمل، ولما يئس من صهري ذهب إلى والدي ولايعرف أن الذي يتعامل معه شرطيٌّ قديم، فلقي منه ما يستحقّ. وهو ربما الذي دفع " بالبريفو" إلى التعامل معي بحذر مغلّف بالإحترام، فاختار لي مكانا بجواره، وراح يغدق عليّ بأنواع الأكلات والفواكه التي تصل إليه من هنا وهناك "بالحيل وبالعون وبالقوّة". حتّى صرتُ أخجل منه ومن نفسي، لِما أعتقدتّه طيبة وحسن خلق. فأمضيتُ أوّل ليلة جنب "العرين" كواحد من أعوانه المقرّبين. وكذلك كانت اللّيلة التي بعدها... وفي إحدى اللّيالي استفقتُ على أنين و وحْوحَة، فحسبته يهذي من حُمّى أصابته، ورحتُ أتثبّتُ في الأمر، فتبيّن لي أن مصدر الأنين وتلك الوحْوحَة شخصٌ ثانٍ يتقاسم معه الفراش: - وا عجباه كيف لم أنتبه إليه!؟. فلم يغمض لي جفن في تلك اللّيلة، وبتّ أنتظر طلوع النّهار، وفي الصباح رأيتُ الولد الشّاب مصدر الأنين وكان في غاية الوسامة، وبدافع الفضول رحتُ أسال عنه بعض الرّفقاء، فقيل لي إن حضرة البريفو "يقضي شهر العسل مع الولد الغلبان"، وأدركتُ عندها أنه لا مبيت لي بعد الآن في ذات المكان، وبات لزاما عليّ البحث عن مكان آخر يليق بي، بعيدا عن الوحْوحات والشُّبهات، فأنا رجل أُصلّي وأصوم وأحاول جمع الصّفوف قدر المستطاع، ومع ذلك لحقني حضرة البريفو يترجّاني ويطلب منّي العودة، وتظاهر لي بعدم معرفة السبب في تغيير المكان، وراح يحاول إقناعي بكل الطرق لعلّني أتراجع عن قراري، لكنّني نفرتُ منه ولم أعد قادرا حتى على مجرّد النّظر إليه، بسبب تلك الأفعال المشينة التي يمارسها، وأشفقتُ على الولد الغلبان، واحترتُ في أمره، وتأسّفتُ لحاله كثيرا: "كيف يصبر على كل تلك المهانة؟!" -
أو تكون لديك شخصية " علّوش"؛ الولد الشّاب الذي لم يبلغ بعد الثلاثين، ومع ذلك يروي قصصا عن البطولات والأمجاد التي حقّقها، بطريقة " هيتشكوكية "، و" دانكيشوطية"، وهزلية مضحكة. وأينما حل وارتحل ترى جموع المساجين من حوله، ينتظرون ما يخرج من فمه، يتملّكهم الضّحك من كلامه الغريب وحكاياته العجيبة عن مشاركته في ثورة التّحرير المجيدة؛ وكيف حمل ذات مرّة الحمار على كتف، والبندقية على الكتف الآخر، ليعبر الوادي الحامل. إلخ... من الخزعبلات التي كان يرويها بعفوية تسترعي الانتباه.
التعديل الأخير تم بواسطة مصباح فوزي رشيد; الساعة 03-02-2021, 13:19.
خرج إلينا [القاضي] مغصوبا، وعزمنا على فنجان قهوة. وجلسنا نتبادل أطراف الحديث. وحين أخرجتُ له الاستدعاء من جيبي مستفسرا عن مدى خطورة الموضوع، تلكّأ وتلوّى. كان ذلك صبيحة يوم الخميس بعدها ليلة عيد رأس السّنة. عزمته على زجاجات خمر نحتسيها بعيدا عن البلدة وأهلها، رغم قراري بالتخلّي عن شرب الخمر، (مكْرَهٌ أَخُوكَ لاَ بَطَلٌ)، فامتنع وملامح الحرج و الانقباض باديان عليه.
[...]
هذه الفقرة تحتاج إلى إعادة نظر لتتناسب مع تنسك الراوي ومع شخصية "القاضي" إن سلبا
أو إيجابا. فنهاية عام 1999 تصادف الثالث عشر أو الرابع عشر من شهر رمضان المعظم.
لعلك تستثمرها في تعميق الشبه بين الراوي والقاضي؟
تعليق