رسالة من داخل السّجن

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • مصباح فوزي رشيد
    يكتب
    • 08-06-2015
    • 1272

    #31
    المشاركة الأصلية بواسطة الهويمل أبو فهد مشاهدة المشاركة
    هذه الفقرة تحتاج إلى إعادة نظر لتتناسب مع تنسك الراوي ومع شخصية "القاضي" إن سلبا
    أو إيجابا. فنهاية عام 1999 تصادف الثالث عشر أو الرابع عشر من شهر رمضان المعظم.
    لعلك تستثمرها في تعميق الشبه بين الراوي والقاضي؟

    تحياتي
    لعلّ الكاتب اعتمد التقويم الأمازيغي؟!.
    (بالمناسبة هو من أصول أمازيغية).
    أم في الأمر " إنّ " و"حبل الكذب قصير" كما تعلم.
    لكنّه ارتكب المعصية معصيتين؛ بتقوّله على القاضي وتعدّيه على شهر ليلة فيه خير من ألف شهر.
    إنّه التماهي سيّدي.
    أصلح الله بالك وأضحك سنّك.
    بات لزاما عليه حذف البدعة المتمثّلة في "عيد رأس السنة"، مع الاحتفاظ ببقية الأحداث لأنّها تعبّر عن واقع "بائس ومرير".
    شكرا على الاستدراك.
    محبّتي وتقديري.

    التعديل الأخير تم بواسطة مصباح فوزي رشيد; الساعة 05-02-2021, 11:29.
    لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ

    تعليق

    • مصباح فوزي رشيد
      يكتب
      • 08-06-2015
      • 1272

      #32
      المشاركة الأصلية بواسطة مصباح فوزي رشيد مشاهدة المشاركة
      الجزء الثّالث
      (1)
      ظهر هناك من يهتم لأمري أكثر منّي؛ فريق يتمنّى رؤيتي خلف القضبان، مكبّلا. وهؤلاء بذلوا قصارى جهدهم، بالنّبش والرّبش أحيانا، والتجييش والتحريش ورشوة الفاسدين من رجال الدّرك والقضاء وغيرهم أحيانا أخرى … حتى لا يتم غلق الملف وإسقاط التّهمة عنّي، ولاعن رئيس البلدية.
      وفريق المنتفعين من البلدية ورئيسها، المعلّم الضّعيف الذي يفوقني سنّا وسذاجة، والذين راهنوا بكلّ ما لديهم من وسائل مشروعة وغير مشروعة، حتى لا يأخذ الموضوع منحى خطيرا، ليس حبّا فيّ ولا لأجل عيوني العسليّة، ولكن لتبرئة ساحة رئيسهم الذي اتّهمه غريمي اِفتراء وبهتانا بطلب الرّشوة، كما اتّهمني أنا الآخر كذبا وزورا.
      وفي أحد الأيّام أرسلوا إليّ بسيارة البلدية رفقة زميلي الذي كان على أتمّ الاستعداد ليخلفني ويفوز بمنصب "القذارة" الذي شغل باله طيلة أعوام، وذلك من أجل الاتّصال بسيادة القاضي الذي بذلْنا جهدا كبيرا لنعثر عليه مختبئا في بيت والديه بالمدينة السّاحلية التي زرناها، وما كنّا لنهتدي إليه لولا أحد أقاربه الذي دلّنا على مكان وجوده.
      خرج إلينا مغصوبا، وعزمنا على فنجان قهوة. وجلسنا نتبادل أطراف الحديث. وحين أخرجتُ له الاستدعاء من جيبي مستفسرا عن مدى خطورة الموضوع، تلكّأ وتلوّى. كان ذلك صبيحة يوم الخميس من مطلع شهر فيفري سنة ألفين.
      عزمته على زجاجات خمر نحتسيها بعيدا عن البلدة وأهلها، رغم قراري بالتخلّي عن شرب الخمر، (مكْرَهٌ أَخُوكَ لاَ بَطَلٌ)، فامتنع وملامح الحرج و الانقباض باديان عليه.
      قمتُ بتوديع حضرة القاضي وركبتُ رفقة "الأطلس العسّال"، زميلي الذي كان شبيها بذئب الفرزدق هو الآخر؛ وهو الذي لم يتوان في التعبير عن حسده لي ذات ليلة شربنا فيها كثيرا و تظاهرتُ فيها بالثُّمالة وفقدان الوعي.
      في طريق العودة، عرجنا بإحدى حانات مدينة (بونة) السّاحلية الجميلة، وكانت جلسة الوداع الأخيرة، وآخر محطّة تفصلني عن أهم مرحلة عشتها في حياتي، فترة الدّلال والشّباب. وأطرق بعدها باب الأربعين بثوب التّهمة والإجرام. ساعات وأودّع الدّلال الذي حسدني عليه بعض من عرفتُهم، ولم أنتبه إليهم وهم يحسدونني إلاّ حين افتقدتُّه.
      ساعات بعدها وأتوشّح جحافل القمّل، وبمرور الوقت تغدو صديقة؛ تقبّلني وأقبّلها، وتفترشني وتشاركني المبيت والطّعام. ولأنّ قُمّل السّجون ليس ذاك الذي اقترنت صورته باللّعنة والطّوفان، كما جاء في القرآن، بل هو ألطف وأوفى من بعض الحثالة من البشر.

      **************************************
      بعد الاستدراك.
      والفضل في ذلك يعود إلى الأستاذ الأريب والمستشار الأدبي[الهويمل أبو فهد] مشكور وجزاه الله عنّا كل خير.
      التعديل الأخير تم بواسطة مصباح فوزي رشيد; الساعة 05-02-2021, 09:30.
      لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ

      تعليق

      • الهويمل أبو فهد
        مستشار أدبي
        • 22-07-2011
        • 1475

        #33
        المشاركة الأصلية بواسطة مصباح فوزي رشيد مشاهدة المشاركة
        لعلّ الكاتب اعتمد التقويم الأمازيغي؟!.
        (بالمناسبة هو من أصول أمازيغية).
        أم في الأمر " إنّ " و"حبل الكذب قصير" كما تعلم.
        لكنّه ارتكب المعصية معصيتين؛ بتقوّله على القاضي وتعدّيه على شهر ليلة فيه خير من ألف شهر.
        إنّه التماهي سيّدي.
        أصلح الله بالك وأضحك سنّك.
        بات لزاما عليه حذف البدعة المتمثّلة في "عيد رأس السنة"، مع الاحتفاظ ببقية الأحداث لأنّها تعبّر عن واقع "بائس ومرير".
        شكرا على الاستدراك.
        محبّتي وتقديري.

        عزيزي الأستاذ مصباح فوزي رشيد رعاك الله وحفظك بحفظه
        ليس في الأمر "إنّ" بل "لعل وعسى". في الحصة المعنية ثمة
        تفاصيل دقيقة وأزمان محددة ما جعلني أبحث عن أهميتها.
        ولما وجدت علاقتها بالشهر الفضيل قلت في نفسي ههنا ما
        ترمي إليه القصة من تناقض بين الحق والباطل خاصة أن
        الأحداث تسير نحو تعميق الهوة بينهما. ورأيتها فرصة مهدرة.

        بالنسبة للكاتب "عرقيا"، لا أظن أن لها أهمية معينة. فالقصة تبقى
        قصة حتى لو كانت "سيرة ذاتية"، وقد أجمع النقاد والكتاب على هذه
        الحقيقة.
        تحياتي

        تعليق

        • مصباح فوزي رشيد
          يكتب
          • 08-06-2015
          • 1272

          #34
          الجزء الثّالث
          (3)
          يوم الثلاثاء، هو يوم زيارة، ويوم عيد أيضا بالنسبة للسّجين المتشوّق لرؤية الأهل والأقارب وسماع الأخبار الجديدة. وأمّا القُصّر فيوم الأربعاء.
          ليس الأمر كذلك بالنّسبة لربّوح " شاف كرفي "، ولا لصديقه عبدالله؛ الذي حين تزوره بناته العزباوات، أو حين يعلم بوالدته العجوز الطّاعنة في السِّنّ تتوكّأ على عصاها وتأتي لرؤيته في ذاك اليوم، يضيق صدره، ويتملّكه الحزن والغضب، ويجهش بالبكاء؛
          (يذكّرني حال هذا الرجل الطيّب والمثقّف، بعمّتي كثيرة البكاء هتون الدّمع حين تزور جدّتي في يوم العيد فيخيّم الحزن على البيت ويكثر البكاء).
          ولا فرق عند هذين الصّديقين بين الثُّلاثاء وغيره من الأيّام، سوى أنّ هذا اليوم بالنسبة لهما هو يوم حداد.
          وحين تنتهي الزيارات، وتطيب القلوب والخواطر وتهدأ النّفوس، يُخرِج كل سجين أشهى ما عنده من أصناف الحلوى وأطباق الأكل وترامس القهوة، وما أدراك ما القهوة؟؛
          (القهوة في السّجن أغلى من المال والذّهب ومن أيّ شيء آخر، تُصلح المزاج وتشتري الضّمائر).
          وتتشكّل مجموعات وحلقات، كحلقات الذّكر، تنتشر هنا وهناك، ويشارك السّجناء بعضهم بعضا فيما لذّ وطاب.
          وفي هذه الأمسية، يستغني السّجناء عمّا يُبثّ عبر الجهاز القديم المعلّق في عنان السّماء. ويستغني المدمنون على لعبة الكلمات المتقاطعة عن جريدتي الشّعب والنّصر الحكوميّتين. ويعمّ الرّخاء والإخاء.
          ووجدتني في هذه الأمسية السّعيدة متلهّفا لمعرفة أخبار قاتل أبيه؛
          الولد الشاب الذي قتل أباه وقام بتمزيقه إِرْبا إِرْبا.
          وبدافع الفضول تسلّلتُ إلي الشاب الظّريف، مربوع القد صاحب العينين الخضرواين، دون أن ألفت انتباه الآخرين. وهمستُ في أذنه:
          - هل تسمح لي بالجلوس؟.
          فردّ عليّ بابتسامة بريئة، تنفي كلّ ما كان قد قيل عنه.
          سكتُّ قليلا ثم سألته ثانيا:
          - كيف أحوالك سي (ع)؟.
          فكان الرد:
          - الحمد والشّكر لله.
          ومن دون مقدّمات، دخلتُ "دغري" في الموضوع:
          - ما قصّتك مع المغفور له؟!
          فراح يسرد على مسامعي قصّته الغريبة مع الحسناء زوجته، التي كما قال:
          - "كنتُ مستعدّا لأن أنفّذ أيّ طلب تطلبه منّي مهما كلّفني ذلك".
          واستطرد يقول:
          -" وفي أحد الأيام طلبتْ منّي أن أحضر لها عشبة يّقال لها "أذن الحمار". وبالفعل ذهبتُ إلى العشّاب واشتريتُها لها".
          وأضاف:
          -" ومنذ تلك اللّحظة لم أفق إلاّ وأنا أتسكّع على تخوم مدينة "قالمة"، حيث استوقفني رجال الدّرك وحملوني إلى مقرّهم. وهناك قاموا باستنطاقي، واطلعوني على كل صغيرة وكبيرة، وكيف قمتُ بتقطيع جثّة المرحوم إلى أجزاء صغيرة..."
          وقاطعته:
          - ولمَ قتلت أباك حتى تقطّعه إلى أجزاء صغيرة؟.
          - كان المرحوم يسكن في البادية، و كان لديه عدد لا بأس به من رؤوس الماشية. بعد وفاة والدتي تزوج امرأة صغيرة، عرفنا من خلال تصرّفاتها أنّها تزوّجته من أجل الماشية وبقيّة الممتلكات.
          وراح يشرح لي كيف نفّذ أوامر زوجته، زاعما أنّه كان لحظتها تحت تأثير السّحر:
          - وضعتُ للمرحوم كميّة كبيرة من حبيبات ( التّيميستا) في قارورة الماء ثمّ ناولتُه أيّاها. وبعدما شربها غاب عن الوعي وتجمّد في مكانه. ثم أدركتُ أنّه قد فارق الحياة، فقمتُ بتقطيعه إلى أجزاء بواسطة ساطور عثرتُ عليه داخل البيت، ووضعتُ كتل اللّحم والعظام في كيس، ونقلته على ظهر حمار من مكانه إلى المكان الذي يكون فيه الكيس بعيدا عن الأنظار.

          التعديل الأخير تم بواسطة مصباح فوزي رشيد; الساعة 07-02-2021, 20:42.
          لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ

          تعليق

          • آسيا رحاحليه
            أديب وكاتب
            • 08-09-2009
            • 7182

            #35
            متابعة.
            تحياتي لكم و محبتي.
            يظن الناس بي خيرا و إنّي
            لشرّ الناس إن لم تعف عنّي

            تعليق

            • مصباح فوزي رشيد
              يكتب
              • 08-06-2015
              • 1272

              #36
              المشاركة الأصلية بواسطة آسيا رحاحليه مشاهدة المشاركة
              متابعة.
              تحياتي لكم و محبتي.
              أعذريني أستاذتي الغالية إن كنتُ قد تأخّرتُ في الرد.
              أسعدني مرورك الكريم.
              شكرا لهذا الاهتمام.

              التعديل الأخير تم بواسطة مصباح فوزي رشيد; الساعة 12-02-2021, 05:14.
              لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ

              تعليق

              • مصباح فوزي رشيد
                يكتب
                • 08-06-2015
                • 1272

                #37
                الجزء الثّالث
                (4)
                كل شيء في السّجن بالمجّان، وكما قال " علوش" لوالدته التي تكبّدت عناء السفر وجاءت لتراه:
                -" كلّ شيء هنا ببلاش؛ الأكل ببلاش .. المبيت ببلاش .. العلاج ببلاش .. الدُّش ببلاش ... وحتى الحارس الذي لا يرتاح ولا يهدأ له بال إلاّ حين ننام، هو الآخر يحرسنا ببلاش "؛ وهو ما شجّع أحد المعتوهين على مطالبة المفتّش، الذي جاء من العاصمة يتفقّد أحوال المساجين في إطار حملة قامت بها وزارة العدل والسّجون ردّا على بعض الاتّهامات الخطيرة التي وردت في تقرير لمنظمة هيومن رايتس ووتش، فقال له وبصوت مرتفع:
                -" جيبوا لنا الزّطلة".
                و
                لأن المفتّش فتح على نفسه باب جهنّم حين راح يحثّنا على الحديث و التعبير عن مطالبنا بكل حرّيّة وشفافيّة.
                والتفت مدير السجن إلى السجين المشاغب، وضغط بقوّة على شفتيه الرّهيفتين معبّرا عن غضبه الشّديد.
                لكن المجرم لم يأبه له، وواصل كلامه الخطير، والمفتش يحملق إليه:

                - " أليس من أجل الزّطلة أدخلتموني إلى السّجن؟".
                والحقيقة أن ما قاله "علّوش" لوالدته صحيح وليس فيه مبالغة. حتى وإن كان كلامه " الكاريكاتوري " بغرض تطييب خاطر هذه الأم التي لم تتحمّل رؤية ابنها في السّجن.
                وجد السّجناء في زيارة الطّبيب داخل السّجن فرصة لتغيير الأجواء وفسحة للاستجمام. وكانوا لا يتوانون في تقديم طلبات الإذن لزيارة ورؤية الطّبيب، وكنتُ أنا الوحيد تقريبا من يقوم بهذه الخدمة، وبالمجّان.
                ومنذ اللّحظة التي حصلتُ فيها على كرّاس وقلم، وأنا أكتب كل ما يرد في ذهني؛ من خواطر، وأحيانا خربشات. كما أكتب أيضا الرّسائل والشكاوي لبعض الذين لا يجيدون لا القراءة ولا الكتابة.
                كما أقوم بكتابة الآيات والتعاويذ التي أحفظها عن ظهر قلب، للتبرّك...، ولفتُّ نظر بعض الفضوليين، ومن يومها راحوا ينادوني باسم " الطّالب "-هههه-، و لأنّي أكتبها في قُصاصات تشبه الحروز كتلك التي ينسخها بعض المشعوذين، ثم أسلّمها لكل من يعاني من القلق و التوتّر؛ وهؤلاء المرضى نفسيّا منهم من يفقد أعصابه ولا يهتدي إلى المهدّئات ما يدفع به إلى البحث عن الحشيش. وليس بإمكان كل من يريد أن يحشّش الوصول إلى مروّج ليحصل ولو على نفس واحد يذهب به الهواجس والكوابيس، إن لم تكن لديه علاقة طيّبة بشيخ من الشّيوخ، من أمثال" ربّوح ولد لغزالة". ومن كانت لديه "معريفة"، أو مال أو جاه، فباستطاعته الحصول على مكان في المستشفى، ويمضي أوقاته الجميلة في نوم هادئ ومريح.



                التعديل الأخير تم بواسطة مصباح فوزي رشيد; الساعة 16-02-2021, 18:57.
                لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ

                تعليق

                • مصباح فوزي رشيد
                  يكتب
                  • 08-06-2015
                  • 1272

                  #38
                  الجزء الثّالث
                  (5)
                  خرج على المساجين في وقت فسحة ببدلة عسكرية رثّة حافي القدمين.لا يعرف صاحب البشرة السّمراء و البنية القويّة، والذي تجاوز سِنّه الثلاثين، أن القوانين تمنع ارتداء الرانجارس داخل الأسوار الغليظة، بالرّغم من كونه ينتمي إلى من يسمّونهم "رجال الدّفاع الذاتي"، المشهود لهم بالطّاعة وكثرة الاستعداد، بينما الذين أمروه بخلعه هم مجرّد حرّاس مدلّلين.
                  بخطى مظبوطة جاء يمشي مسرعا كأنه لا يزال يخضع للأوامر.
                  القوانين الجامدة جاحدة ولا تقرّ بالفضل لهؤلاء الذين لبّوا النّداء وتحمّلوا المسئولية في ظرف خطير.
                  كأنهم كلاب صيد، و" الشّيفان معاليم كبار"، آمنين مطمئنّين في بروجهم العاجية، ملوك، وأمراء القرون الوسطى في نزهات الصّيد.
                  لم يخفِ "كحّول" رغبته الشّديدة في التعلّم، وكم حاول الرّجل أن يتعلّم تهجئة الحروف العربية من ابنته الصغيرة صاحبة العشرة أعوام. ذرفتْ عيناه حين ذكرها، وكأنّي أراها أمامي بابتسامتها البريئة، وكذلك على زوجته الماهرة في إعداد طبق الشّوربة؛ لقد وعدني وأوفى بوعده.
                  وذات يوم بعد الزيارة، أتاني الرّجل بطبق الشّوربة ومعه فلفل "قرن الغزال". وتطلّع إليّ صاحب السحنة السمراء بعينين برّاقتين ، كان لهما الفضل في تقفّي أثر الماشية التي خطّط لسرقتها ولم يفلح، وفي رؤية عناصر الإرهاب الذين أشفق عليهم تحت جنح الظّلام؛ أخلّ بالأوامر ووقع في الممنوع.
                  بأنفاس حارّة ومتقطّعة وشوش لي صاحب الثلاثين عام: - "جاتْ لحْمامة جاتْ ومعاها الشّوربة لبْنِينة".
                  وراح يرقص من شدّة الفرح، لأنّ "الحمامة" زوجته، كما أحبَّ تسميتها بهذا الاسم، وفّتْ بوعدها وأحضرت له طبقه المفضّل.
                  لم ييأس صاحب الإرادة والعزيمة القويّتين، والذي لطالما شكّلت الأُميّة عائقا كبيرا أمام رغبته الجامحة في التّعلّم، "كجبل جليدي" أو "كسور الصّين العظيم"، وكان أكبر حلمه أن يحمل الفاتحة ويصلّي ركعتين.
                  وجاء اليوم الذي صلى فيه "كحّول" الفجر وكان هو الإمام، ولم ينس هذا الفضل حتى بعد خروجه من السجن؛ وفي أحد الأيّام زارني " كحّول" في البيت، وكان هذه المرّة رفقة زوجته "الحمامة" الماهرة في إعداد طبق الشّوربة، وابنته الفاهمة، البريئة صاحبة العشرة أعوام.

                  التعديل الأخير تم بواسطة مصباح فوزي رشيد; الساعة 17-02-2021, 19:01.
                  لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ

                  تعليق

                  • مصباح فوزي رشيد
                    يكتب
                    • 08-06-2015
                    • 1272

                    #39
                    الجزء الثّالث
                    (6)
                    طالت المدّة ولم يجدوا حلاّ للقضية، القانون يشترط أدلّة وعلى أعوان القضاء إيجادها. و لكن رئيس فرقة درك وادي الكبريت، بولاية سوق أهراس، اعتمد في كتابة المحضر على مكالمة مجهولة، حسب ما أقرّ لي به ذات مرّة حين راح يستعطفني بقوله: "لستُ من كان يبحثُ عنك ولكنه جاءني مخبر". بمعنى قوّاد. وأراد أن يكمل حديثه فقاطعته.
                    استغرقتْ "الوشايا الباطلة" ما يزيد عن ثمانية أشهر، وكان الملف قد تمّ وضعه في أسفل درج بعد غلقه من طرف قائد المجموعة الإقليمية الذي عرفّني به أحد الأصدقاء، لكن تم تفعيله بعد رحيله فورا. ممّا يدل على أنّ هناك من كان يترصّدني ليتصيّدني وأنا في غفلة من أمري.
                    واستغرق الأمر على مستوى النائب العام مدّة قبل أن يقوم بإخطار الوالي وطلب رأيه لرفع الحصانة عن رئيس المجلس الشعبي البلدي.
                    طالت المدّة وقدّم المحامي طلب إفراج مؤقّت، أوّل، وثاني، تمّ رفضهما من طرف الغرفة الادارية بقالمة.
                    ورفض أهلي المحامي الأوّل الذي ناولته رقم هاتف والدي في المحكمة، لأسباب لم أعرفها لحد الآن. وكذلك المحامي الثّاني الذي وكّله الخائن زميلي، لكن ذلك كان بسبب تخوّفهم من أن يتاجر بقضيّتي، خاصّة وأنّ زميلي الذي لم يخفِ طموحه الكبير ورغبته الكامنة في استخلافي، وحتى انه لم يتردّد لحظة واحدة في زيارتي إلى السجن ليراني كيف أتعذّب ويستمتع برؤيتي بعينيه الصّفراوين؛ عينان تحترقان بنار حقده الدّفين.
                    وانتظرتُ أولى الجلسات فتأجّلت، وفي الثانية تنحنح الرّئيس بعد قراءة الملف وتناوله بطريقة غريبة وقال:
                    -"هذه ليست قضية أصلا وكان يمكن معالجتها خارج إطار المحكمة!".
                    وصلتني الرّسالة، وعرفتُ أن الرّئيس المحترم (سعدالله)، أطال الله في عمره إذا كان على قيد الحياة، يعلم وأن ثمّة مؤامرة حيكت ضدّي. لكنه لم يستطع إلغاء كل الإجراءات التي تم إتّخاذها من طرف رئيس فرقة الدرك "الفظ"، "الجِلف"، الذي كانت تربطني به أكثر من حكاية، والذي كان يستغلّ وظيفته في التسلّط على رئيس المجلس الشعبي البلدي الضّعيف، الآمر بالصّرف"نظريا" ورئيس البلدية "مجازا"؛
                    حيث كان يستغلّ ندرة بعض المواد الاستهلاكية، كالمعكرونة وغيرها، و التي يقوم باستخراجها من مركّب "لعوينات"القريب من مقر عمله ويرسلها إلى حانوته الموجود بمقر سكناه ببلدة تسمّى "عين الطويلة" بولاية خنشلة البعيدة جدّا، بواسطة شاحنة البلدية الوحيدة والتي توجد في حالة يرثى لها!
                    لستُ أدري كيف أسمّيه " ولد القحبة " أم " إبن العاهرة " ؟.
                    وكنت أنا الوحيد الذي يقف في وجهه، وذات يوم جمعني به المكتوب في إحدى شواطئ مدينة "عنّابة" " السّاحلية، فقال لي بلكنة شاوية، التي كان يتحدّث بها حتى يحشيها لبعض السذّج من سكّان المنطقة الغلابة المساكين، وهو ما دفعني إلى تسميته بـاللمّوشي"الرّاعي" والرّاعي أفضل منه بكثير، قال لي يومها بلهجة أمازيغية : "أخضايا شك برك والباقي فلاّ". بمعنى: (اتركنِ أنتَ والباقي أنا لهم). وعلى قول فولتير:
                    [Mon Dieu, gardez-moi de mes amis. Quant à mes ennemis, je m'en charge]
                    التعديل الأخير تم بواسطة مصباح فوزي رشيد; الساعة 19-02-2021, 13:14.
                    لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ

                    تعليق

                    • مصباح فوزي رشيد
                      يكتب
                      • 08-06-2015
                      • 1272

                      #40
                      الجزء الرّابع
                      (1)
                      والدي الذي لم يتقبّل الأمر في البداية وانهال عليّ بالسب والشتم، ويلعن "أبو المخيّر" في الحبس، والحارس أمامنا واقف كتمثال جامد وكجلمود صخر، لم ينبس بكلمة واحدة.
                      سامحه الله، لقد كان من الرّعيل الذي يرى أن البلاد ملكه وأن الجزائر من دونه لا تساوي شيئا على الإطلاق.
                      لكن غلظته لا تعكس طيبة قلبه، هذه الطيبة التي استغلّها فيه بعض المغرضين، وحقّقوا مبتغاهم منه. وانعكست على ابنه الوحيد سلبا.
                      أبي الذي كان يتعامل معي بذاتية مرهفة، وعاطفة زائدة عن اللزوم، ولم يقسُ عليّ يوما مثل كل الآباء.
                      حين يغضب يحمرّ وجهه ويتفوّه ببعض الكلمات، كأن يقول عبارته الشّهيرة: "دولة الرّعيان" مثلا. أو يقول:"الأمّة الخبيثة" و يبصق على الأرض، ثم لا يلبث أن يهدأ بعدها ويعود إلى صوابه.
                      كان هذا الأسلوب "اللاّعقاب" كافيا ليجعل منّي إنسانا مستهترا لايعرف قدر المسئولية.
                      أبي الذي لا يسألني "من أين جئتُ؟" ولا "إلى أين أنا ذاهب؟".
                      أدركتُ وأنا داخل غرفة الأستقبال الضيّقة، مثل ابن نوح - عليه السّلام- حين أدركه الغرق و[ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَابُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ]، أن بعض الآباء - سامحهم الله- تنقصهم الصرامة وبعض القسوة في تعاملهم مع أبنائهم، واعتقد جازما أن هذا خطأ فادح في التقدير؛ وما يمنع الأب من أن يكون صارما ومتواضعا في الوقت ذاته؟.
                      في الزيارة الثانية جاء أبي محمّلا "كالغيث و كالمطر أينما حل" بالحقائب والأكياس، و بوجه مغاير بعد غياب دام أكثر من أسبوع، وبطريقة هادئة ورزينة خاطبني معاتبا: " تريد أن تكون نبيّا على هذه الأمّة".
                      رحم الله أبي فقد كان طيّب القلب والسريرة لكنه لا يسكت على المنكر إذا صادفه أو رآه، سواء صدر من فرد أو من جماعة أو حتى من زملائه في الشُّرطة، لكن زملاءه كانوا يحترمونه لسنّه وأقدميته في السلك فكانوا لا يردّون عليه.
                      التعديل الأخير تم بواسطة مصباح فوزي رشيد; الساعة 23-02-2021, 13:06.
                      لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ

                      تعليق

                      • سالم وريوش الحميد
                        مستشار أدبي
                        • 01-07-2011
                        • 1173

                        #41
                        تحية طيبة استاذ مصباح
                        لاحدود للإبداع .. ولايقيد الإبداع بشكل وإطار معين وثابت ، أو أنه يجب ان يكون متوافقا مع ذائقتنا الفنية والأدبية والفكرية حتى نرتضيه ، فالكثير من المدارس الأدبية خرجت عن المألوف وارتقت بمعالجاتها الفنية إلى مكانة مرموقة وكانت تلك الاعمال ايقونات إبداع في ادب الشعوب .. الإلتزام بقواعد معينة وشكلية في أي عمل إبداعي سيكون ضد التجريب الذي سيقودنا بلاشك الى اساليب جديدة مبتكرة تعطي للنص سمته وطابعه العصري ، فالأدب يسير على ارض متحركة وعلينا مواكبة التغيرات الحاصلة وابتكار مقومات ثباتنا ووجودنا .. لقد تغيرت الأساليب الأدبية عبر التأريخ و بدأت تأخذ أشكالا متعددة بثورة تغيير عارمة بدأت في بدايات القرن المنصرم وهذا القرن وأطرت تحت مسميات كثيرة مثل الواقعية السحرية والأدب الواقعي وأدب الخيال العلمي والادب السيكولوجي وانسلخت من الملحمة الرواية ثم القصة والقصة القصيرة والومضة وتغيرت الاساليب الشعرية وتنوعت مدارسها ولكن كل هذه المسميات أسهمت برفد الثقافة الانسانية بالكثير من المواضيع الادبية والثقافية والفكرية التي تهم الانسان .. أهم شيء في النص هو مضمونه .. وتوظيف الأمثال اوبعض الجمل الفلسفية او الحكم في النص اوحتى استخدام الكلمات العامية قد يعطي النص قوة وقد يؤدي هذا التوظيف إلى تحقيق غايات أخرى قد لاتحققها اللغة الأم رغم غنى اللغة العربية بمفرداتها .شرط ان لاتكون تلك الامثال محشورة حشرا بلا وظيفة او معنى ..
                        وحتى لانقع في شرك الإبهام للمثل المراد توظيفه علينا ان تضع الترجمة اسفل النص .. أو ضمن اطار النص
                        .. مع تحياتي وتقديري لك استاذ ..
                        على الإنسانية أن تضع حدا للحرب وإلا فسوف تضع الحرب حدا للإنسانية.
                        جون كنيدي

                        الرئيس الخامس والثلاثون للولايات المتحدة الأمريكية

                        تعليق

                        • مصباح فوزي رشيد
                          يكتب
                          • 08-06-2015
                          • 1272

                          #42
                          المشاركة الأصلية بواسطة سالم وريوش الحميد مشاهدة المشاركة
                          تحية طيبة استاذ مصباح
                          لاحدود للإبداع .. ولايقيد الإبداع بشكل وإطار معين وثابت ، أو أنه يجب ان يكون متوافقا مع ذائقتنا الفنية والأدبية والفكرية حتى نرتضيه ، فالكثير من المدارس الأدبية خرجت عن المألوف وارتقت بمعالجاتها الفنية إلى مكانة مرموقة وكانت تلك الاعمال ايقونات إبداع في ادب الشعوب .. الإلتزام بقواعد معينة وشكلية في أي عمل إبداعي سيكون ضد التجريب الذي سيقودنا بلاشك الى اساليب جديدة مبتكرة تعطي للنص سمته وطابعه العصري ، فالأدب يسير على ارض متحركة وعلينا مواكبة التغيرات الحاصلة وابتكار مقومات ثباتنا ووجودنا .. لقد تغيرت الأساليب الأدبية عبر التأريخ و بدأت تأخذ أشكالا متعددة بثورة تغيير عارمة بدأت في بدايات القرن المنصرم وهذا القرن وأطرت تحت مسميات كثيرة مثل الواقعية السحرية والأدب الواقعي وأدب الخيال العلمي والادب السيكولوجي وانسلخت من الملحمة الرواية ثم القصة والقصة القصيرة والومضة وتغيرت الاساليب الشعرية وتنوعت مدارسها ولكن كل هذه المسميات أسهمت برفد الثقافة الانسانية بالكثير من المواضيع الادبية والثقافية والفكرية التي تهم الانسان .. أهم شيء في النص هو مضمونه .. وتوظيف الأمثال اوبعض الجمل الفلسفية او الحكم في النص اوحتى استخدام الكلمات العامية قد يعطي النص قوة وقد يؤدي هذا التوظيف إلى تحقيق غايات أخرى قد لاتحققها اللغة الأم رغم غنى اللغة العربية بمفرداتها .شرط ان لاتكون تلك الامثال محشورة حشرا بلا وظيفة او معنى ..
                          وحتى لانقع في شرك الإبهام للمثل المراد توظيفه علينا ان تضع الترجمة اسفل النص .. أو ضمن اطار النص
                          .. مع تحياتي وتقديري لك استاذ ..
                          الرّسالة وصلت.
                          شكرا لأستاذنا الفاضل على هذه الاستفاضة الرّائعة والمفيدة وكل ما تفضّلتم به جدير بالاهتمام ومفيد، ومن أمثالكم نتعلّم.
                          سنحاول قدر الإمكان التحرّر من السلبيات المطروحة، والعمل بالنصائح والتوجيهات المقدّمة وما يتكرّم به الأدباء والنقّاد علينا في هذا الرّكن الجميل. غايتنا رضاكم و أن نكون عند حسن ظنّكم.
                          كل التقدير والاحترام.

                          التعديل الأخير تم بواسطة مصباح فوزي رشيد; الساعة 23-02-2021, 22:19.
                          لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ

                          تعليق

                          • سالم وريوش الحميد
                            مستشار أدبي
                            • 01-07-2011
                            • 1173

                            #43
                            أستاذي الفاضل مصباح .. كانت مداخلتي بخصوص الشخص الذي انتقد استخدام المثل الأجنبي في النص ..هو رد على من يحاول أن يقولب الإبداع بقالب ثابت .. دون ان يعطي الأديب حرية التجريب لذا قلت لا حدود للإبداع .. وأنت مبدع بلا شك ..واسلوبك راق .. ولي قراءة مستفيضة لما سطره يراعك .. تقبل تحياتي ..
                            على الإنسانية أن تضع حدا للحرب وإلا فسوف تضع الحرب حدا للإنسانية.
                            جون كنيدي

                            الرئيس الخامس والثلاثون للولايات المتحدة الأمريكية

                            تعليق

                            • مصباح فوزي رشيد
                              يكتب
                              • 08-06-2015
                              • 1272

                              #44
                              المشاركة الأصلية بواسطة سالم وريوش الحميد مشاهدة المشاركة
                              أستاذي الفاضل مصباح .. كانت مداخلتي بخصوص الشخص الذي انتقد استخدام المثل الأجنبي في النص ..هو رد على من يحاول أن يقولب الإبداع بقالب ثابت .. دون ان يعطي الأديب حرية التجريب لذا قلت لا حدود للإبداع .. وأنت مبدع بلا شك ..واسلوبك راق .. ولي قراءة مستفيضة لما سطره يراعك .. تقبل تحياتي ..
                              لا حرمنا منكم ولا من رأيكم.
                              مهما يكن فمشاركتكم الطيّبة مثرية ومفيدة لأمثالنا.
                              أشكركم جزيل الشكر والتقدير والاحترام على متابعتكم واهتمامكم الكريمين.

                              التعديل الأخير تم بواسطة مصباح فوزي رشيد; الساعة 25-02-2021, 09:04.
                              لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ

                              تعليق

                              • مصباح فوزي رشيد
                                يكتب
                                • 08-06-2015
                                • 1272

                                #45
                                الجزء الرّابع
                                (2)
                                ليس المرض وحده من أنهك والدتي ولكن كلام النّاس، وخاصة الأقارب منهم، الذين لم يرحمُوها.
                                بسبب الجهل والاحقاد صار المرض عندنا عيبًا من العيوب، و تابوًا من الطابوهات، ومصدرا للتشفّي ومجلبة للسّخرية. والمصيبة الكبيرة حين تجد من بين هؤلاء الحاقدين الشّامتين أقرباء من الدرجة الأولى والثانية.
                                الوالدة، أمّي الكريمة حنينة " بالزّاف"*، لكنها لا تمنّ. لستُ هنا بصدد تزكيتها، فكل قريب أو بعيد يعرف هذه الخصال التي تجذّرتْ* فيها؛ تراها تقتصد في كل شيء، وتخبّئ الشّيء تحرم نفسها منه، لكنها لحظة سماعها صوت الشحّاذ خلف الباب ينادي: " معروف ربّي يا لحباب"، تُسارع إلى إخراج كل ما كانت تخفيه وتحافظ عليه.
                                الزّوبعة التي أُثيرت حولي غمّتني وعمَتْني وحتى أنها لم تسمح لي بالاعتناء بأمّي، كما ينبغي، والتي قرّرت الانفصال عن أبي لتسكن وحدها، بعدما أخذتُ الأمر على عاتقي ووفّرتُ لها سكنا محترما.
                                لن نعرف قيمة الوالديْنِ إلا بعد افتقادهما!
                                ليتهما يعودان أُقبّل الأرض تحت قدميْهِما!
                                ليس هناك حبٌّ حقيقيٌّ سوى حبُّ الوالدين. وأمّا الحب الذي يتغنّى به المراهقون في هذه الأيام هو مجرد إعجاب لا غير، ورغبة في ممارسة الجنس لا اقل ولا اكثر.
                                "وهل يوجد حُبٌّ حقيقيُّ في هذه الأيام؟ بالمفهوم الذي يتغنّى به بعض من الفنّانين والفنّانات لكسب الشهرة والمال؟ أو كما في الأفلام والمسلسلات المدبلجة، و بعض الصفحات الفيسبوكيّة و المواقع الإفتراضية؟.
                                كتب أحد الأدباء ذات يوم يقول: " هل أستطيع القول إنّ الإنسان الذي يقف في شُبّاكه لمشاهدة المارّة ، لحظة مروري من هناك ، واقفٌ من أجل مشاهدتي ؟ كلاّ : لأنّه لا يُفكّر فيَّ بشكلٍ خاصٍّ . لكن الّذي يُحبُّ أحدًا بسبب جماله ، هل يُحبُّه فعلاً ؟ كلاّ ، لأنّ مرض الجدري الذي يقتُل الجمالَ دون قتلِ الشّخصِ ، يحولُ دون هذا الحبِّ"*.
                                لكن المرض الذي ألمّ بوالدتي جعل أطبّاء المستشفيات القريبة يقفون عاجزين أمامه. فقرّروا إرسالها إلى مستشفى "مصطفى باشا" بالجزائر العاصمة. أين واصلت رحلاتها المكّوكية في العلاج بقطع مئات الكيلومترات ذهابا وأيابا. وتزامن موعد زيارتها الأخير ولزومها السّرير بالمستشفى العاصمي مع دخولي السّجن بمدينة سدراتة، وكانت في مرحلة متقدّمة من المرض، ولستُ أدري كيف وصل إليها الخبر، فتشجّعتْ، وغادرتْ المستشفى دون إذن الطّبيب، وخرجتْ تتهادى من الوهن والمرض، وركبتْ سيارة، وتكبّدت عناء البعد والسفر ومشقّة الطريق، وجاءت إلى السّجن في غير مواعيد الزيارة، وسمحوا لها برؤيتي، وحين وقعتْ عيناها، المخضرّتان، المخضّبتان بلون الدّاء القاتل، على عينيّ، أجهشتْ بالبكاء وقالت لي بصوت مبحوح: " ما حبّوش اخلّوني ندخل عندك حبّيت انبوسك قبل ما نموت" *.
                                وتذكّرتُ حينها أني لستُ بأفضل حال من زملائي الآخرين؛ "ربّوح" ولد لغزالة الذي وجد في أغاني الشعبي ملاذا لنسيان الغربة و البعد عن والدته العجوز البائسة، و"عبدالله" الذي لا تكاد عيناه تفارقان المصحف الشريف حتى ينسى قليلا حالته مع تشرّد أسرته بكاملها، وتذكّرتُ في تلك اللّحظة الأليمة"علّوش"، ورحتُ أُكرّر على مسامع والدتي نفس الكلام الذي قاله "علّوش" لوالدته حين زارته آخر مرّة: "كل شيء في السّجن بالمجّان إلى آخر الكلام"(.../...) وما زلتُ بها أعدّد محاسن السّجن حتّى أزلتُ ما بها من لوعة وحرقة، وحتّى غلبها الضّحك، وعندها لم أتمالك بدوري ودمعتْ عيناي.
                                فلم تتمالكْ المرحومة وقامتْ إليّ تعاتبني، وقالتْ لي بصوت أجش: "حسَبْتَكْ راجل لكنّك تبكي كِما النّسا" *

                                رحم الله والدتي وطيّب ثراها فقد كانت " مُولاتْ نِيفْ" *
                                .ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـ ـــ
                                * بالزّاف: كثيرا جدّا
                                *(تَجَذَّر) على الفعل (تَأَصَّل) فكلاهما على وزن "تَفَعَّلَ"
                                * كلام مكرّر ذكرته في إحدى مقالاتي.
                                * لم يسمحوا لي بالدخول عندك كي أقبّلك لآخر مرّة قبل أن أموت.
                                * حسبتُك رجلا لكنّك تبكي مثل النّساء.
                                * مُولاتْ نِيفْ: صاحبة عزّة وأنفة.


                                التعديل الأخير تم بواسطة مصباح فوزي رشيد; الساعة 26-02-2021, 08:36.
                                لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ

                                تعليق

                                يعمل...
                                X