البيت الكبير
الصبي الذي رافقني حتى مشارف الطريق ، انفلت طائرا ، بعد أن لوح تجاهه ، مما ملأنى بالتردد ، وكأنى مقبلة على مغامرة غير محسوبة !
كانت مشاعر شتى ، وصور عديدة من زمن بعيد ، مغلفة بروائح البرتقال واليوسفى ، تهف على ذاكرتي بقوة ، و تكاد تحجب الطريق عنى ، و أنا أتعثر فى نقر وحفر ما أحمل ، نبضات قلبى تتعالى بشكل غريب ، كأننى مسوقة لموعد غرامى لأول مرة ، وكلما تماسكت ، عادت أقوى ، و صوته يتردد :" أليس من أخبار عن البيت الكبير ؟".
فلا يجد سوى كذبتى الدائمة :" بخير هو يا أبى .. و العائلة ترسل لك سلامها الحار .. استرح أنت ".
أتحسس انفعالاتي ، و مطبات مشاعرى ، أتحرك كأني مشدودة رغما عنى ، مرة واحدة وجدتني غير قادرة على الاستمرار ، توقفت التقط جأشى ، لكن مفاجأة رؤيته شلتني تماما ، ذهول ينحت ملامحي ، يأتي بنهر من دموع ، وتهتك دام يخذل جسدي : هل يكون هو بالفعل .. أليس من المحتمل أن الصبي ضللني؟
أرض يباب ممتدة ، يخيم عليها موت قاهر ، وتحوم فوقها جوارح ، يتوسطها البناء الضخم ، مهلهل الثياب ، و الملامح ، محطم الأبواب و النوافذ ، كأنه آثار لسفينة ضخمة أكلتها مياه البحر !
دفعت خطاى . كان حنين طاغ يستولى على ، و يدفعني إليه ، وشعور لا أدرى ربما غير مستوعب لهذا الانهيار القادم ، توتر يمزق أعصابي ..أصبحت أمامه أخيرا ، فلم أتمالك نفسي !
كان الخراب عصيا على تقبله أو تصوره ، نعم ، كأني أعيش كابوسا مريعا ؛ فأهرب لذاكرة بعيدة ، تأتى بصورها طازجة ، هناك ، حيث كنت ، هاهنا فى يسار المبنى ، وعلى يمينه ، وبين ردهاته ..كانت يد الفنان قد غرست الكثير من التحف و التماثيل ، التي مازالت محفورة على ملمس أصابعي ، وصدرى الصغير ..وأنا أعانقها ، و أقبلها بافتتنان ، و أشجار الجوافة و البرتقال واليوسفى ، تطوقنا من كل جانب ، أينا ذهبنا ، فنختفى بين تلافيفها ، وربما نسينا أنفسنا بين أوراق الورد البلدى ، الذي يعشقه أبى ، بل تعشقه العائلة كلها !
كانت غربة ما تزال تنحت ذاكرتي ، أي يد آثمة اجترأت على اغتياله ، ومن في مكنته أن يفعل ، من يا أبى .. قل لى ؟ بل أقول لنفسي : بأي شيء أجيبه حين يطلق على سؤاله المعهود ، حين يسألنى عن البيت ؟!
كم حكى لى حكاياه ، وقصصه الغريبة ، من هذا البيت .. وعنه ، كيف كان قلعة حين غزا البلدة غول الكوليرا ، و كيف حفظ لأهل البلدة الحياة وقتها ، فما نال الوباء ما يشتهى ، إلا من تخلف عن التحصن فيه !
كيف كانت العائلة تلتم بين ثناياه ، و فى أحضانه ، فى المناسبات ، و الأعياد ، و الأيام المدلهمة ، وعندما تدعو الضرورة لذلك ، فيصطحبون أولادهم ، و يقضون وقتا استثنائيا ، لا يجدونه فى بيوتهم الخاصة !
كان لا بد أن اقترب منه أكثر ، و كلما خطوت خطوة رجعتها ثانية ، كان فزع يأخذ بكل مكامني ، و ينتشر في مفاصلي .
:" من هذا البيت صغيرتي أقلعت صفوة المقاتلين ضد المحتل .. ومنه فرش العدل عباءته على هذه البلدة ".
كان قلعة بحق ، و كنت حينها صغيرة .. نعم .. كنت صغيرة ، كان الرجل منهم يجد فيه كل ما تطمح إليه نفسه ، من زاد ومال ، و عتاد .. كل شيء يا صغيرتي كان للجميع ، لم يكن لفرد دون آخر .. لم يكن .. كان حياة و مقبرة .. وتاريخا بينهما !!
لم أقدر على الاقتراب أكثر ، انفلت منى عكاز تماسكي ، و أجهشت ضيعتي ، و أنا أتخيل ما هو واقع أمامي ، مجرد كابوس لا أكثر . كيف أصدق مالا يصدق ، انهيار .. أن يكون هذا المهرجان مأوى للفئران و السحالى و الخفافيش ، وبيوتا للنمل و الصراصير .. كيف .. أين عائلة كانت هنا .. أين ذهبت و ذهبوا .. وكيف سمحوا ، يصرخ في رفضي ، و تهتز ريح نقمتي ، حتى خفت أن تلاحقني البلدة ، و تجتمع على وجعي !
فجأة اقشعر بدني ، حين حطت كف قوية على كتفي ، ارتجفت ، و فزع حزني :" لم أنت هنا إيزيس ؟!".
تنهد ، سحب يده ، و بقلق غريب ، أمام ما رأى فى ملامحي :" تعالى .. هذا أمر فات عليه وقت طويل .. عمر .. هيا بنا ".
لم يطاوعني موتى ، كأني أصبت بشلل ، أجهشت بلا سيطرة :" لا فائدة إيزيس .. ضاع كل شيء .. ضاع حين تقاطعت الأهداف ، واعتلت النوايا ".
أحس نارا تحرق عيني ،و تنهش كبدي ، فقد أبصرته يتراجع حين أطلقت أول رصاصاتي :" ألم تكن سيدي آخر من حمل أمانته .. ألم تكن ؟!".
دار حولي بتوتر ، أدركت تماما حاجته لرصاصة أخرى ، يراوغني ، نعم هو متواطىء :" ثم من أعلمك أنني هنا ، كيف كنت هنا .. وهناك فى السوربون ؟".
حاصرته ، دخلت فى ريحه :" أبى قال لي ، كان إجماعنا على تولى أمين أمر البيت الكبير ؛ فهو خريج السوربون ، ومعه الزمالة ".
اغتصب بسمة لها رائحة يود البحر :" إيزيس .. ما ترين الآن تم منذ أكثر من عشرين سنة .. ليس جديدا ".
هاجت مشاعري :" وظللت كل هذا الوقت ، تضحك على أبى حين يسألك ما أخبار البيت .. وعلى أيضا ؟".
دنا منى ، و مد ذراعيه ليحيطني ، تراجعت نافرة :" وما تظنين أقول لرجل فقد الإحساس بالوقت نهائيا ، إنه يتحرك كحالم ، لا يدرى ما يتم و يتغير في العالم .. ثم ما يعنى بيت .. ما يعنى .. ؟!هذه المساحة الشاسعة ، لو بيعت الآن أدخلت الملايين ، و أسعدت كل العائلة ، بل البلدة كلها ".
لا أدرى ، كيف واتتنى الجرأة ، على البصق فى وجهه ، ثم اندفعت مبتعدة ، و أنا أحس بأصوات بوم تأتى من داخلى .. ومن حولى غربان تنقر رأسى ، كيف لى تصور حجم الخراب ، كذبا مورس علينا ، ثقة طالت زرعتها ، تذبل ، و تسفيها الرياح .
معقول ما توصلت إليه الآن ، و أين ذهبت العائلة .. أين و فيهم .. العالم ، و المخترع .. و المعلم .. و العامل .. عقول و سواعد تستطيع نحت الموت ، ومنه تصنع الحياة ، بل عمل ماهو أروع .. كلهم ينتظر ، أصحيح هذا ؟ أكان الأمر محض واقع مفروض ، سرعان ما انهار أمام بادرة سخيفة ، تخريب باسم مصلحة العائلة .. أية مصلحة تقصد.. أية مصلحة ؟!
هذا تاريخ ممتد عبر السنين ، كيف ينهار هكذا .. كيف وهو أساس كيان أسرة عريضة، تمتد فى كل البلد ، هو البلد نفسها ، أنفاس الرجال تتردد من كل شرفاته ،و أبوابه ، صور كثيرة تتوقف ، ولا تنفض و تبتعد ، فى كل محنة كان هو، فى الخاص والعام .. و الآن ماذا ؟
أصبح لا يعنى سوى بضع ملايين من جنيهات رخيصة .. بضعة أوراق .. يا ربى ، لا أتصور ، أتفتت ، شيء ما داخلي ينهزم ، قناعاتى تتضاءل ، تصبح تحت قدمي ، معقول .. ارتجفت بقوة .. بقوة ، نما شيء غريب على ، أفشل في تحديده ، هاهو يتحكم في ، يشدني شدا لعمل ما ، من المستحيل أن يمر هذا الأمر هكذا ، نعم ، صرخة تتسلل من بين شفتي ، و بي رغبة مدمرة للموت ، شر ما عهدته من قبل ، وهذا السوربونى العجيب ، كيف تأتى له فعل هذا .. وهان عليهم .. كيف هان ؟ اللحظات الحميمة .. و الأمسيات التى حملت صخب الجميع .. بين لهونا ، و قهقهاتهم .. بين شقاوتنا و خطبهم الرنانة .. كيف لم أدر بالأمر من قبل ؟ ، فهل كنت متواطئة مع الجميع بالتغابى ؟!
و ما كان باستطاعتى أنا ؟ كنت على حسب ماقال ، مازلت صغيرة ، و البعثة أخذت من عمري الكثير ، وأعود لأجد أبى مقعدا هنا ، لا يغادر بيته ، و بالكاد يتحرك ،يأكل و يشرب ، و يشحذ من يتسقط الأخبار ، و لكن أمينا كان هنا دائما .. نعم .. بينا يموت كل يوم حنينا للبيت :" كيف حال العيال بالله عليك إيزيس ، أصدقينى القول حبيبتى .. كيف حال العائلة .. ؟ أنا سئمت من ردود زوجك .
كنت أحار ، لا أجد إجابة ، أتململ فى حضرته ، و لا ينقذني سوى أمين ، على غفلة يأتي ، كأنه سمع سؤاله ، فيغرد في وجهه و بكل بساطة ، و ربما سخرية :" بخير .. بخير يا عمى ، و العائلة تبلغك التحية .. كلها و الله ".
خدعت ، و خدعت أبى ، و شاركت أمينا جريمته ، كان يدرى ثقل أبى ، حب الناس له ، و هنا يطغى سؤال عجيب ، ما أمر الناس في البلدة ، تجنبوا زيارته ، تخلوا عنه ، و ماعادت أموره تهمهم .. ؟! كان يرى تماما ، كما يعرف ما يريد ، أحاول كظم ألمى ، أواريه ، أدفنه ، و أبى يراقبنى دون كلمة ، وبين وقت وآخر يهز رأسه ، و أنا لغفلتى ، وجهلى .. نعم جهلى ، أستبعد انغماسه فيما أعانيه ، سؤال أبى حيرني ، وأبقى على خيوط العنكبوت كما هى ، ووقفت أمامه بلا حيلة كالعادة ، ما أجيبه ، و ماله غير مهتم مثل كل المرات ؟ و أيضا أتى أمين ، وكان رده المعتاد ، لكنني أبصرت شيئا غريبا في ملامح أبى ، شيئا لم أستطع تحديده ، ظننته مجرد وهم ، والأمر لا يتعدى ما أصابني اليوم ، فجأة طلب أبى من أمين الانفراد به ، للحديث فى بعض الأمور الشخصية ، بينما أعد لهما فنجاني قهوة ، أحس بحزن المكان ، لا حزني ، بشيء غريب يحط هنا ، كأن شيئا غادرنى ، و لن يعود .. هل لاحظ أبى توتري ، حزني ، و اشتعال أعصابي ، أو لحظ نظرة الغضب التي سددتها لأمين ؟ لا أدرى .. كانت أصوات تأتى من حجرة أبى .. و حركة ربما تعودتها ، حين يكون قلقا ، فلم أهتم ، أكاد أنكفىء على الموقد من التعب ، حملت فنجاني القهوة ، و أنا أترنح كذبيح ، طرقت الباب ، ما رد أحد ، سكون عجيب يلف البيت .. طرقت مرة أخرى ،
وحين لم أجد ردا ثانية ، فتحت الباب ، فتساقطت ، و تساقط المكان ، كان أبى على الكنبة بيده سكين ، وقد سددها إلى قلبه ، بينا أمين يعوم فى بحر دمه !!
الصبي الذي رافقني حتى مشارف الطريق ، انفلت طائرا ، بعد أن لوح تجاهه ، مما ملأنى بالتردد ، وكأنى مقبلة على مغامرة غير محسوبة !
كانت مشاعر شتى ، وصور عديدة من زمن بعيد ، مغلفة بروائح البرتقال واليوسفى ، تهف على ذاكرتي بقوة ، و تكاد تحجب الطريق عنى ، و أنا أتعثر فى نقر وحفر ما أحمل ، نبضات قلبى تتعالى بشكل غريب ، كأننى مسوقة لموعد غرامى لأول مرة ، وكلما تماسكت ، عادت أقوى ، و صوته يتردد :" أليس من أخبار عن البيت الكبير ؟".
فلا يجد سوى كذبتى الدائمة :" بخير هو يا أبى .. و العائلة ترسل لك سلامها الحار .. استرح أنت ".
أتحسس انفعالاتي ، و مطبات مشاعرى ، أتحرك كأني مشدودة رغما عنى ، مرة واحدة وجدتني غير قادرة على الاستمرار ، توقفت التقط جأشى ، لكن مفاجأة رؤيته شلتني تماما ، ذهول ينحت ملامحي ، يأتي بنهر من دموع ، وتهتك دام يخذل جسدي : هل يكون هو بالفعل .. أليس من المحتمل أن الصبي ضللني؟
أرض يباب ممتدة ، يخيم عليها موت قاهر ، وتحوم فوقها جوارح ، يتوسطها البناء الضخم ، مهلهل الثياب ، و الملامح ، محطم الأبواب و النوافذ ، كأنه آثار لسفينة ضخمة أكلتها مياه البحر !
دفعت خطاى . كان حنين طاغ يستولى على ، و يدفعني إليه ، وشعور لا أدرى ربما غير مستوعب لهذا الانهيار القادم ، توتر يمزق أعصابي ..أصبحت أمامه أخيرا ، فلم أتمالك نفسي !
كان الخراب عصيا على تقبله أو تصوره ، نعم ، كأني أعيش كابوسا مريعا ؛ فأهرب لذاكرة بعيدة ، تأتى بصورها طازجة ، هناك ، حيث كنت ، هاهنا فى يسار المبنى ، وعلى يمينه ، وبين ردهاته ..كانت يد الفنان قد غرست الكثير من التحف و التماثيل ، التي مازالت محفورة على ملمس أصابعي ، وصدرى الصغير ..وأنا أعانقها ، و أقبلها بافتتنان ، و أشجار الجوافة و البرتقال واليوسفى ، تطوقنا من كل جانب ، أينا ذهبنا ، فنختفى بين تلافيفها ، وربما نسينا أنفسنا بين أوراق الورد البلدى ، الذي يعشقه أبى ، بل تعشقه العائلة كلها !
كانت غربة ما تزال تنحت ذاكرتي ، أي يد آثمة اجترأت على اغتياله ، ومن في مكنته أن يفعل ، من يا أبى .. قل لى ؟ بل أقول لنفسي : بأي شيء أجيبه حين يطلق على سؤاله المعهود ، حين يسألنى عن البيت ؟!
كم حكى لى حكاياه ، وقصصه الغريبة ، من هذا البيت .. وعنه ، كيف كان قلعة حين غزا البلدة غول الكوليرا ، و كيف حفظ لأهل البلدة الحياة وقتها ، فما نال الوباء ما يشتهى ، إلا من تخلف عن التحصن فيه !
كيف كانت العائلة تلتم بين ثناياه ، و فى أحضانه ، فى المناسبات ، و الأعياد ، و الأيام المدلهمة ، وعندما تدعو الضرورة لذلك ، فيصطحبون أولادهم ، و يقضون وقتا استثنائيا ، لا يجدونه فى بيوتهم الخاصة !
كان لا بد أن اقترب منه أكثر ، و كلما خطوت خطوة رجعتها ثانية ، كان فزع يأخذ بكل مكامني ، و ينتشر في مفاصلي .
:" من هذا البيت صغيرتي أقلعت صفوة المقاتلين ضد المحتل .. ومنه فرش العدل عباءته على هذه البلدة ".
كان قلعة بحق ، و كنت حينها صغيرة .. نعم .. كنت صغيرة ، كان الرجل منهم يجد فيه كل ما تطمح إليه نفسه ، من زاد ومال ، و عتاد .. كل شيء يا صغيرتي كان للجميع ، لم يكن لفرد دون آخر .. لم يكن .. كان حياة و مقبرة .. وتاريخا بينهما !!
لم أقدر على الاقتراب أكثر ، انفلت منى عكاز تماسكي ، و أجهشت ضيعتي ، و أنا أتخيل ما هو واقع أمامي ، مجرد كابوس لا أكثر . كيف أصدق مالا يصدق ، انهيار .. أن يكون هذا المهرجان مأوى للفئران و السحالى و الخفافيش ، وبيوتا للنمل و الصراصير .. كيف .. أين عائلة كانت هنا .. أين ذهبت و ذهبوا .. وكيف سمحوا ، يصرخ في رفضي ، و تهتز ريح نقمتي ، حتى خفت أن تلاحقني البلدة ، و تجتمع على وجعي !
فجأة اقشعر بدني ، حين حطت كف قوية على كتفي ، ارتجفت ، و فزع حزني :" لم أنت هنا إيزيس ؟!".
تنهد ، سحب يده ، و بقلق غريب ، أمام ما رأى فى ملامحي :" تعالى .. هذا أمر فات عليه وقت طويل .. عمر .. هيا بنا ".
لم يطاوعني موتى ، كأني أصبت بشلل ، أجهشت بلا سيطرة :" لا فائدة إيزيس .. ضاع كل شيء .. ضاع حين تقاطعت الأهداف ، واعتلت النوايا ".
أحس نارا تحرق عيني ،و تنهش كبدي ، فقد أبصرته يتراجع حين أطلقت أول رصاصاتي :" ألم تكن سيدي آخر من حمل أمانته .. ألم تكن ؟!".
دار حولي بتوتر ، أدركت تماما حاجته لرصاصة أخرى ، يراوغني ، نعم هو متواطىء :" ثم من أعلمك أنني هنا ، كيف كنت هنا .. وهناك فى السوربون ؟".
حاصرته ، دخلت فى ريحه :" أبى قال لي ، كان إجماعنا على تولى أمين أمر البيت الكبير ؛ فهو خريج السوربون ، ومعه الزمالة ".
اغتصب بسمة لها رائحة يود البحر :" إيزيس .. ما ترين الآن تم منذ أكثر من عشرين سنة .. ليس جديدا ".
هاجت مشاعري :" وظللت كل هذا الوقت ، تضحك على أبى حين يسألك ما أخبار البيت .. وعلى أيضا ؟".
دنا منى ، و مد ذراعيه ليحيطني ، تراجعت نافرة :" وما تظنين أقول لرجل فقد الإحساس بالوقت نهائيا ، إنه يتحرك كحالم ، لا يدرى ما يتم و يتغير في العالم .. ثم ما يعنى بيت .. ما يعنى .. ؟!هذه المساحة الشاسعة ، لو بيعت الآن أدخلت الملايين ، و أسعدت كل العائلة ، بل البلدة كلها ".
لا أدرى ، كيف واتتنى الجرأة ، على البصق فى وجهه ، ثم اندفعت مبتعدة ، و أنا أحس بأصوات بوم تأتى من داخلى .. ومن حولى غربان تنقر رأسى ، كيف لى تصور حجم الخراب ، كذبا مورس علينا ، ثقة طالت زرعتها ، تذبل ، و تسفيها الرياح .
معقول ما توصلت إليه الآن ، و أين ذهبت العائلة .. أين و فيهم .. العالم ، و المخترع .. و المعلم .. و العامل .. عقول و سواعد تستطيع نحت الموت ، ومنه تصنع الحياة ، بل عمل ماهو أروع .. كلهم ينتظر ، أصحيح هذا ؟ أكان الأمر محض واقع مفروض ، سرعان ما انهار أمام بادرة سخيفة ، تخريب باسم مصلحة العائلة .. أية مصلحة تقصد.. أية مصلحة ؟!
هذا تاريخ ممتد عبر السنين ، كيف ينهار هكذا .. كيف وهو أساس كيان أسرة عريضة، تمتد فى كل البلد ، هو البلد نفسها ، أنفاس الرجال تتردد من كل شرفاته ،و أبوابه ، صور كثيرة تتوقف ، ولا تنفض و تبتعد ، فى كل محنة كان هو، فى الخاص والعام .. و الآن ماذا ؟
أصبح لا يعنى سوى بضع ملايين من جنيهات رخيصة .. بضعة أوراق .. يا ربى ، لا أتصور ، أتفتت ، شيء ما داخلي ينهزم ، قناعاتى تتضاءل ، تصبح تحت قدمي ، معقول .. ارتجفت بقوة .. بقوة ، نما شيء غريب على ، أفشل في تحديده ، هاهو يتحكم في ، يشدني شدا لعمل ما ، من المستحيل أن يمر هذا الأمر هكذا ، نعم ، صرخة تتسلل من بين شفتي ، و بي رغبة مدمرة للموت ، شر ما عهدته من قبل ، وهذا السوربونى العجيب ، كيف تأتى له فعل هذا .. وهان عليهم .. كيف هان ؟ اللحظات الحميمة .. و الأمسيات التى حملت صخب الجميع .. بين لهونا ، و قهقهاتهم .. بين شقاوتنا و خطبهم الرنانة .. كيف لم أدر بالأمر من قبل ؟ ، فهل كنت متواطئة مع الجميع بالتغابى ؟!
و ما كان باستطاعتى أنا ؟ كنت على حسب ماقال ، مازلت صغيرة ، و البعثة أخذت من عمري الكثير ، وأعود لأجد أبى مقعدا هنا ، لا يغادر بيته ، و بالكاد يتحرك ،يأكل و يشرب ، و يشحذ من يتسقط الأخبار ، و لكن أمينا كان هنا دائما .. نعم .. بينا يموت كل يوم حنينا للبيت :" كيف حال العيال بالله عليك إيزيس ، أصدقينى القول حبيبتى .. كيف حال العائلة .. ؟ أنا سئمت من ردود زوجك .
كنت أحار ، لا أجد إجابة ، أتململ فى حضرته ، و لا ينقذني سوى أمين ، على غفلة يأتي ، كأنه سمع سؤاله ، فيغرد في وجهه و بكل بساطة ، و ربما سخرية :" بخير .. بخير يا عمى ، و العائلة تبلغك التحية .. كلها و الله ".
خدعت ، و خدعت أبى ، و شاركت أمينا جريمته ، كان يدرى ثقل أبى ، حب الناس له ، و هنا يطغى سؤال عجيب ، ما أمر الناس في البلدة ، تجنبوا زيارته ، تخلوا عنه ، و ماعادت أموره تهمهم .. ؟! كان يرى تماما ، كما يعرف ما يريد ، أحاول كظم ألمى ، أواريه ، أدفنه ، و أبى يراقبنى دون كلمة ، وبين وقت وآخر يهز رأسه ، و أنا لغفلتى ، وجهلى .. نعم جهلى ، أستبعد انغماسه فيما أعانيه ، سؤال أبى حيرني ، وأبقى على خيوط العنكبوت كما هى ، ووقفت أمامه بلا حيلة كالعادة ، ما أجيبه ، و ماله غير مهتم مثل كل المرات ؟ و أيضا أتى أمين ، وكان رده المعتاد ، لكنني أبصرت شيئا غريبا في ملامح أبى ، شيئا لم أستطع تحديده ، ظننته مجرد وهم ، والأمر لا يتعدى ما أصابني اليوم ، فجأة طلب أبى من أمين الانفراد به ، للحديث فى بعض الأمور الشخصية ، بينما أعد لهما فنجاني قهوة ، أحس بحزن المكان ، لا حزني ، بشيء غريب يحط هنا ، كأن شيئا غادرنى ، و لن يعود .. هل لاحظ أبى توتري ، حزني ، و اشتعال أعصابي ، أو لحظ نظرة الغضب التي سددتها لأمين ؟ لا أدرى .. كانت أصوات تأتى من حجرة أبى .. و حركة ربما تعودتها ، حين يكون قلقا ، فلم أهتم ، أكاد أنكفىء على الموقد من التعب ، حملت فنجاني القهوة ، و أنا أترنح كذبيح ، طرقت الباب ، ما رد أحد ، سكون عجيب يلف البيت .. طرقت مرة أخرى ،
وحين لم أجد ردا ثانية ، فتحت الباب ، فتساقطت ، و تساقط المكان ، كان أبى على الكنبة بيده سكين ، وقد سددها إلى قلبه ، بينا أمين يعوم فى بحر دمه !!
تعليق