الأخ الكريم محمد جابري : السلام عليكم وبعد :
فيما يخص المصطلح :قصيدة النثر ليس من اكتشاف الثقافة العربية ، وليست من وضعَتِ المصطلح ، إنها قصيدة جربت هناك في الغرب ونُظر لها هناك، ووُضع لها المصطلح أيضا هناك ، ودخلت الثقافة العربية في بداية الستينيات تنظيرا وإبداعا بعدما خاضت معارك مريرة مع النقد المحافظ ومع أنصار قصيدة التفعيلة ، وحسمت المعركة لصالحها منذ تلك الفترة، و أصبحت واقعا يقام له و لايقعد هنا وهناك ، بل تم تجاوزها أيضا، وظهرت كتابات إبداعية جديدة تتداخل فيها الأجناس الأدبية، وفرضت أيضا وجودها في سوق الإبداع والنقد العربيين. فهل نعود للوراء خمسين سنة لنحيي هذه المعارك من جديد ؟
إن قصيدة النثر أصبحت جزءا من التاريخ ، ومع ذلك لا بأس أن نعيد فتح النقاش حولها ، ليس بالإجابة على الأسئلة نفسها التي طرحت في الستينيات، و المتمحورة حول مشروعيتها و عدم مشروعيتها ، وإنما نطرح أسئلة جديدة تتمحورحول تقويم تجاربها ، وما أضافت من قيمة مضافة إلى الثقافة العربية. وكيف يمكن أن نطور نصوصها ونؤصلها وتصبح جزءا من النسيج الثقافي العربي الأصيل ؟
بهذه الأسئلة يمكن أن نتطور ونطور ثقافتنا، لا أن نجتر السؤال نفسه على امتداد قرون ؟
إن قصيدة النثر لم تظهر في الثقافة العربية لتشطب بجرة قلم على الأشكال السابقة، ولا يمكنها ذلك حتى ولو سعت إليه، وإنما تعبر عن ثقافة مرحلة من مراحل تطور الفكر العربي والإبداع العربي و الثقافة العربية. وهي الآن تتعايش مع كل الأشكال السابقة عليها ، وتمنح المبدع العربي مزيدا من الحرية في التعبير عن تجربته وأحاسيسه ، وله أن يعبر بالشكل الذي يرتاح له .
فأن تجد من يرفضها فهذا أمر طبيعي ، كما هو طبيعي أن تجد من يرفض كل شكل آخر، لأنه يراه رمزا للماضي المرفوض وتكبيلا للحرية . فهذا تطرف وذاك تطرف ، والمنطق السليم يقول بلسان الشاعر :
أيها النقاد ارفعوا عني شروطكم وقيودكم ، ودعوني أعبر كما أريد وبالشكل الذي أريد . انشغلوا بكتابة الإبداع بالشكل الذي يحلو لكم ،بدلا من ترفضوا إبداعي .
إن من يتحدث عن الرفض لأن قصيدة النثر شكل وافد ، وبدعوى عدم الأصالة ، عليه أن يعرف أولا بأننا لا نعيش في جزيرة ، وعليه أن يقف جليا ليحدد معنى الأصالة . فالأصالة لم ولن تعنيَ أبدا أن نسير على منوال القدماء، ونعيش في جلابيب الأسلاف . فذاك تقليد في تقليد ، كما أن المعاصرة لن تعنيَ أبدا استيراد واستهلاك ما ينتجه الغرب من أشكال إبداعية ، فذاك تبعية وتقليد أيضا . و إنما الأصالة والمعاصرة وجهان لعملة واحدة ، فالأصالة أن نبدع كما أبدع أسلافنا لا على مثال ، و المعاصرة أن يكون إبداعنا الأصيل حاملا لهمومنا مجيبا على أسئلة عصرنا ، فلا يمكننا أن نكون أصلاء ما لم نكن معاصرين، ولا أن نكون معاصرين ما لم نكن أصلاء ، لذا قلت: إنهما وجهان لعملة واحدة . ولن نتطور أبدا من الداخل، إذا عزلنا أنفسنا في جزيرة مغلقة لا تزورها رياح الضفة الأخرى ، و إنما نتطور ونتغير وفق منطق يتحكم فيه جدل الداخل والخارج ، الداخل يطرح الأسئلة التي تقلقنا وتؤرقنا ،وبواسطة تلاقح الثقافات وتأثرها ببعضها نبدع أشكالا جديدة . وهذا ما فعله أسلافنا دون أن ينكر عليهم لا رجال الدين ولا غيرهم ذلك ، ألم يتأثر النقد و البلاغة بالفكر الفارسي والفكر اليوناني والثقافة الهندية ؟ فعجنوا كل ذلك و نفخوا فيه من هويتهم العربية الإسلامية فأصبح جزءا من ثقافتهم وهويتهم ؟ لماذا إذن تستكثرون على الثقافة العربية الحديثة ما لم يستكثره القدماء على أنفسهم ؟
تقول ياسيدي : إن قصيدة النثر تحتاج إلى الدراسة السيميائية و قارئة الفنجان لفك طلاسمها . وهوكلام يحتاج إلى الكثير من التوضيح . فالسيميائيات علم قائم الذات وطريقة في التحليل لا لقصيدة النثروحدها ،وإنما لكل النصوص الشعرية وغير الشعرية بل وغير اللغوية قديمة وحديثة . ما دامت كلها عبارة عن علامات تحتاج إلى تأويل ، وقصيدة النثر ليست قمقما سحريا حاملا لكنز واحد ووحيد نحتاج إلى من يفك طلاسمه للفوزبالكنز .
لا يا سيدي . إن قصيدة النثر لغة إبداعية توحي أكثر مما تقول ، ولا تسلم إليك نفسها إلا إذا كنت كفؤا لها ،
والكفاءة تتجلى في قدرتك على طرح أسئلة دقيقة على النص ، ولن يجيبك النص إلا بقدر ما تطرح عليه من أسئلة، فيرشح بدلالات يتدخل المنهج الذي اخترته لينظمها وينتج معرفة بها .
لنختر نصا للماغوط مثلا ، ونطرح عليه السؤال التالي : ما الذي يجعل من هذا النص نصا حداثيا ؟ لا شك أن عينك لن تركز إلا على أوجه الاختلاف مع النص العمودي القديم ، فهذا الأخير بني على شرف المعنى وصحته، وجزالة اللفظ واستقامته ، و الإصابة في الوصف، والمقاربة في التشبيه ، ومناسبة المستعار للمستعارله ... وستجد أن نص الماغوط الذي اخترته ،بني على عكس هذه المبادئ الكبرى ، فتمرد عليها وحطمها فوجد الشعر في لفافة تبغ ، أو مومس أو ورقة سيجارة أو أي شيء آخر وضيع ، وكتب بلغة أقرب إلى لغة الشارع ،وأغرب في الوصف، وباعد بين مكونات التشبيه ، وجمع ما لا يقبل العقل بجمعه في الاستعارة .... فتصل إلي بناء موضوع يحدد تجليات الحداثة في شعر الماغوط .
ولو طرحت السؤال : ما الذي يجعل من هذا النص نصا شعريا ؟لكان جوابك مختلفا عن الجواب الأول . وتتعدد الأسئلة بتعدد القراء واهتماماتهم ؟
تتساءل أيضا : أليس الشعر مرآة للاهتزازات النفسية للمرء؟ ومن قال غير ذلك ؟ إن الشعر تجربة إنسانية في صياغة فنية ، تجربة بآلامها وآمالها وخيرها وشرها وحزنها وسعادتها وقلقها ومصيرها وحياتها وموتها .لكنه في الآن نفسه ليس اعترافا عاطفيا أوبوحا في عيادة نفسية وأمام طبيب نفساني. إنه بناء وفن يحتاج إلى مهارات وتقنيات وخيال واسع ، مادته الوحيدة هي اللغة ، وجماله بعد تراجع الإيقاع في الأشكال الجديدة هو الصورة التي تحتل أمامية القول . ولو طرحت على الصورة سؤالا يستقصي علا قتها بما هو نفسي لوجدت فيها ما يرضي فضولك . وأحيلك هنا على المقال الأول من كتاب جدلية الخفاء والتجلي لكمال أبو ديب و هو أحد نقاد الحداثة الذي يحلل فيه بيتين لابن المعتز مركزا على الفاعية النفسية والفاعلية البنيوية فيهما .
و إذا انطلقتُ من مقولة مولينو وتامين ، فلأن هذه المقولة هي التي تنسجم مع السؤال الذي طرحته على النص . الا وهو : كيف تتعالق الصور داخل النص لتشكل صورة فنية واسعة ؟ ولا أعتقد أن تصور النقاد والبلاغيين القدماء سيسعفني للإجابة على هذا السؤال .
في ختام هذا التدخل اقول : إننا لسنا في مجال المقارنة بين هذا الشكل وذاك ، وإنما نقارن بين الشكل الوحيد الذي يريد بعض المتدخلين الحفاظ عليه ، وبين تعدد الأشكال التي تسمح للمبدع بحرية أكبر في اختيار الشكل الذي يرتاح له .
وأختم كلامي بأن ليس كل ما يكتب في قسم قصيدة النثر هو قصيدة نثر ، إن قصائد النثر التي تستحق هذه الاسم قليلة وقليلة جدا ، لكنها بالتأكيد موجودة . ولكم واسع النظر
فيما يخص المصطلح :قصيدة النثر ليس من اكتشاف الثقافة العربية ، وليست من وضعَتِ المصطلح ، إنها قصيدة جربت هناك في الغرب ونُظر لها هناك، ووُضع لها المصطلح أيضا هناك ، ودخلت الثقافة العربية في بداية الستينيات تنظيرا وإبداعا بعدما خاضت معارك مريرة مع النقد المحافظ ومع أنصار قصيدة التفعيلة ، وحسمت المعركة لصالحها منذ تلك الفترة، و أصبحت واقعا يقام له و لايقعد هنا وهناك ، بل تم تجاوزها أيضا، وظهرت كتابات إبداعية جديدة تتداخل فيها الأجناس الأدبية، وفرضت أيضا وجودها في سوق الإبداع والنقد العربيين. فهل نعود للوراء خمسين سنة لنحيي هذه المعارك من جديد ؟
إن قصيدة النثر أصبحت جزءا من التاريخ ، ومع ذلك لا بأس أن نعيد فتح النقاش حولها ، ليس بالإجابة على الأسئلة نفسها التي طرحت في الستينيات، و المتمحورة حول مشروعيتها و عدم مشروعيتها ، وإنما نطرح أسئلة جديدة تتمحورحول تقويم تجاربها ، وما أضافت من قيمة مضافة إلى الثقافة العربية. وكيف يمكن أن نطور نصوصها ونؤصلها وتصبح جزءا من النسيج الثقافي العربي الأصيل ؟
بهذه الأسئلة يمكن أن نتطور ونطور ثقافتنا، لا أن نجتر السؤال نفسه على امتداد قرون ؟
إن قصيدة النثر لم تظهر في الثقافة العربية لتشطب بجرة قلم على الأشكال السابقة، ولا يمكنها ذلك حتى ولو سعت إليه، وإنما تعبر عن ثقافة مرحلة من مراحل تطور الفكر العربي والإبداع العربي و الثقافة العربية. وهي الآن تتعايش مع كل الأشكال السابقة عليها ، وتمنح المبدع العربي مزيدا من الحرية في التعبير عن تجربته وأحاسيسه ، وله أن يعبر بالشكل الذي يرتاح له .
فأن تجد من يرفضها فهذا أمر طبيعي ، كما هو طبيعي أن تجد من يرفض كل شكل آخر، لأنه يراه رمزا للماضي المرفوض وتكبيلا للحرية . فهذا تطرف وذاك تطرف ، والمنطق السليم يقول بلسان الشاعر :
أيها النقاد ارفعوا عني شروطكم وقيودكم ، ودعوني أعبر كما أريد وبالشكل الذي أريد . انشغلوا بكتابة الإبداع بالشكل الذي يحلو لكم ،بدلا من ترفضوا إبداعي .
إن من يتحدث عن الرفض لأن قصيدة النثر شكل وافد ، وبدعوى عدم الأصالة ، عليه أن يعرف أولا بأننا لا نعيش في جزيرة ، وعليه أن يقف جليا ليحدد معنى الأصالة . فالأصالة لم ولن تعنيَ أبدا أن نسير على منوال القدماء، ونعيش في جلابيب الأسلاف . فذاك تقليد في تقليد ، كما أن المعاصرة لن تعنيَ أبدا استيراد واستهلاك ما ينتجه الغرب من أشكال إبداعية ، فذاك تبعية وتقليد أيضا . و إنما الأصالة والمعاصرة وجهان لعملة واحدة ، فالأصالة أن نبدع كما أبدع أسلافنا لا على مثال ، و المعاصرة أن يكون إبداعنا الأصيل حاملا لهمومنا مجيبا على أسئلة عصرنا ، فلا يمكننا أن نكون أصلاء ما لم نكن معاصرين، ولا أن نكون معاصرين ما لم نكن أصلاء ، لذا قلت: إنهما وجهان لعملة واحدة . ولن نتطور أبدا من الداخل، إذا عزلنا أنفسنا في جزيرة مغلقة لا تزورها رياح الضفة الأخرى ، و إنما نتطور ونتغير وفق منطق يتحكم فيه جدل الداخل والخارج ، الداخل يطرح الأسئلة التي تقلقنا وتؤرقنا ،وبواسطة تلاقح الثقافات وتأثرها ببعضها نبدع أشكالا جديدة . وهذا ما فعله أسلافنا دون أن ينكر عليهم لا رجال الدين ولا غيرهم ذلك ، ألم يتأثر النقد و البلاغة بالفكر الفارسي والفكر اليوناني والثقافة الهندية ؟ فعجنوا كل ذلك و نفخوا فيه من هويتهم العربية الإسلامية فأصبح جزءا من ثقافتهم وهويتهم ؟ لماذا إذن تستكثرون على الثقافة العربية الحديثة ما لم يستكثره القدماء على أنفسهم ؟
تقول ياسيدي : إن قصيدة النثر تحتاج إلى الدراسة السيميائية و قارئة الفنجان لفك طلاسمها . وهوكلام يحتاج إلى الكثير من التوضيح . فالسيميائيات علم قائم الذات وطريقة في التحليل لا لقصيدة النثروحدها ،وإنما لكل النصوص الشعرية وغير الشعرية بل وغير اللغوية قديمة وحديثة . ما دامت كلها عبارة عن علامات تحتاج إلى تأويل ، وقصيدة النثر ليست قمقما سحريا حاملا لكنز واحد ووحيد نحتاج إلى من يفك طلاسمه للفوزبالكنز .
لا يا سيدي . إن قصيدة النثر لغة إبداعية توحي أكثر مما تقول ، ولا تسلم إليك نفسها إلا إذا كنت كفؤا لها ،
والكفاءة تتجلى في قدرتك على طرح أسئلة دقيقة على النص ، ولن يجيبك النص إلا بقدر ما تطرح عليه من أسئلة، فيرشح بدلالات يتدخل المنهج الذي اخترته لينظمها وينتج معرفة بها .
لنختر نصا للماغوط مثلا ، ونطرح عليه السؤال التالي : ما الذي يجعل من هذا النص نصا حداثيا ؟ لا شك أن عينك لن تركز إلا على أوجه الاختلاف مع النص العمودي القديم ، فهذا الأخير بني على شرف المعنى وصحته، وجزالة اللفظ واستقامته ، و الإصابة في الوصف، والمقاربة في التشبيه ، ومناسبة المستعار للمستعارله ... وستجد أن نص الماغوط الذي اخترته ،بني على عكس هذه المبادئ الكبرى ، فتمرد عليها وحطمها فوجد الشعر في لفافة تبغ ، أو مومس أو ورقة سيجارة أو أي شيء آخر وضيع ، وكتب بلغة أقرب إلى لغة الشارع ،وأغرب في الوصف، وباعد بين مكونات التشبيه ، وجمع ما لا يقبل العقل بجمعه في الاستعارة .... فتصل إلي بناء موضوع يحدد تجليات الحداثة في شعر الماغوط .
ولو طرحت السؤال : ما الذي يجعل من هذا النص نصا شعريا ؟لكان جوابك مختلفا عن الجواب الأول . وتتعدد الأسئلة بتعدد القراء واهتماماتهم ؟
تتساءل أيضا : أليس الشعر مرآة للاهتزازات النفسية للمرء؟ ومن قال غير ذلك ؟ إن الشعر تجربة إنسانية في صياغة فنية ، تجربة بآلامها وآمالها وخيرها وشرها وحزنها وسعادتها وقلقها ومصيرها وحياتها وموتها .لكنه في الآن نفسه ليس اعترافا عاطفيا أوبوحا في عيادة نفسية وأمام طبيب نفساني. إنه بناء وفن يحتاج إلى مهارات وتقنيات وخيال واسع ، مادته الوحيدة هي اللغة ، وجماله بعد تراجع الإيقاع في الأشكال الجديدة هو الصورة التي تحتل أمامية القول . ولو طرحت على الصورة سؤالا يستقصي علا قتها بما هو نفسي لوجدت فيها ما يرضي فضولك . وأحيلك هنا على المقال الأول من كتاب جدلية الخفاء والتجلي لكمال أبو ديب و هو أحد نقاد الحداثة الذي يحلل فيه بيتين لابن المعتز مركزا على الفاعية النفسية والفاعلية البنيوية فيهما .
و إذا انطلقتُ من مقولة مولينو وتامين ، فلأن هذه المقولة هي التي تنسجم مع السؤال الذي طرحته على النص . الا وهو : كيف تتعالق الصور داخل النص لتشكل صورة فنية واسعة ؟ ولا أعتقد أن تصور النقاد والبلاغيين القدماء سيسعفني للإجابة على هذا السؤال .
في ختام هذا التدخل اقول : إننا لسنا في مجال المقارنة بين هذا الشكل وذاك ، وإنما نقارن بين الشكل الوحيد الذي يريد بعض المتدخلين الحفاظ عليه ، وبين تعدد الأشكال التي تسمح للمبدع بحرية أكبر في اختيار الشكل الذي يرتاح له .
وأختم كلامي بأن ليس كل ما يكتب في قسم قصيدة النثر هو قصيدة نثر ، إن قصائد النثر التي تستحق هذه الاسم قليلة وقليلة جدا ، لكنها بالتأكيد موجودة . ولكم واسع النظر
تعليق