قطرتان من نهر الحياة !
كان النهر الجاري ينساب بهدوء أحيانا و بصخب أحيانا أخرى حسب تضاريس سريره، ينعطف مرة و يستقيم مرة، يتسارع في المنحدر و يتوانى في المنبسط، وهكذا إلى مصبه في البحر ! و بينما هو هكذا يجري و إذا بقطرتين تندان منه عند الشلال و تحطان على ورقة التوت البري فاهتزت لاستقبالهما مسرورة مستبشرة بقدومهما !
نظرت قطرة منهما و هي تضطرب بعصبية: أف من هذا النهر الجاري، إنه لم يرض بسحبنا في كل اتجاه من قمة الجبل خافضا رافعا لنا رغما عنا فقذفنا هنا على هذه الورقة التافهة ! أما كان جديرا به أن يتركنا نسبح مع أخواتنا حتى نصل البحر فنرى ما تراه و نذوق ما تذوقه ؟
التفتت إليها أختها بهدوء تام و قالت و هي تبتسم : هوني عن نفسك يا أُخية ! فهل استُشِرت قبلا لما نزلت من السماء قطرة بين ما لا يحصى من القطرات ثم ساقك السيل إلى هذا النهر الجاري ؟ هلا بقيتِ في السحاب هناك في العلا و منه يمكنك النظر إلى أبعد ما تصل إليه رؤيتك ؟
التفتت العصبية و قد زاد اضطرابها درجة و قالت: و هل كنت أستطيع ذلك و هذه الأرض تجذبني إليها بإلحاح لا أستطيع مقاومته ؟ إنني لا أحدثك عن ذلك و إنما عن هذا النهر الجارف كيف لم يرع لنا حرمة و قذفنا بعيدا عن أخواتنا. أيرضيك ما صرنا إليه و لا ندري عن مستقبلنا شيئا !
ابتسمت العاقلة و سرحت بنظرها بعيدا إلى الأفق و قالت : أما أنا فإنني رضيت بنصيبي فاطمأننت، فلعل في وجودي ها هنا ما ينفعني أو ينفع غيري مما هو في حاجة إلى قطرة ماء فأنديه أو أسقيه أو أحييه، إنني لن أعدم فائدة مهما كان الأمر ! إنني لن أفكر فيما مضى و انقضى، و لا فيما هو قادم، المهم عندي الساعة كيف أحيا و كيف أنفع ؟
كادت العصبية تتبخر من الغيظ فقالت: كيف تقولين أن في وجودنا هنا ما ينفعنا ؟ قد أفهم نفعنا لغيرنا و هذا مسلم به، أما ما ننتفع نحن به فإنني لا أراه، كفاك غرورا و استسلمي لمصيرك المشئوم و امكثي مثلي حتى تتبخري فتنعدمي تماما، اسكتي اسكتي !
ضحكت العاقلة ضحكة الشفقة على أختها الجاهلة و قالت : إنني تحدثت عن نفسي أنا و لم أتحدث عنك، و لم أرِد إقحامك فيما لا تؤمنين به و كل ما في الأمر هو أنني حاولت التخفيف عنك فقط !
و عند سماع الغضبى هذا الكلام ظنته انتقاصا من شأنها أو تجهيلا لها فلم تتماسك و كادت – هذه المرة – تنفجر فعلا لولا بقية برودة لا تزال تمسكها عن الطيش و قالت: ما هذا التعريض المزري ؟ هل تظنين نفسك أدرى مني و أعقل فلا أفهم تلميحاتك المغرضة ؟ هل نسيتِ أننا كنا معا على قمة الجبل ثم انحدرنا في هذا النهر و ها نحن على هذه الورقة ؟ فهل عندك من العلم بحالنا و مصيرنا أكثر مني ؟
سكتت العاقلة مدة و لم ترد ثم تنهدت تنهيدة حارقة كادت تتبخر منها هي و أختها لولا لطف الله بهما ثم قالت : يا مسكينة ، لو كنت تعلمين من حالك ما تدعين لما عتبت على النهر الذي قذفنا هنا، ألم تعلمي أن هذا النهر إنما هو مجموع أمثالنا من القطرات و لولانا لما كان و لما سال ؟ كل ما في الأمر أنني حدثتك عن قناعتي أنني حيثما كنت فأنا في خير، فإن كنت في النهر مع أخواتي كنت للري أو للسقي أو للشرب أو للطهي، و إن سرت إلى البحر كنت في خدمت السفن و المراكب و الناس، و إن تبخرت تحولت إلى مطر أو بَرَد أو ثلج ثم عدت إلى الأرض و هكذا على الدوام، أحول و لا أزول، فهل أدركت الآن لماذا أنا هادئة مطمئنة راضية ؟ فإن فهمتِ قولي فاهدئي أرجوك و دعيني أفكر كيف سأنفع الكائنات مهما كانت، ففي نفعي لها نفع لي أيضا ! أششششت ! أنصتي، أليس هذا طنين نحلة تقترب منا ؟ ليتها تمتصني فأكون عسلا فيه لذة و شفاء للناس !
بهتت العصبية و لم تحر ردا ثم حاولت الاعتراض كعادتها غير أن النحلة لم تمهلهما فارتشفتهما معا غير عابئة بعقلهما أو جهلهما و طارت بينما واصل النهر جريانه إلى البحر !
_________
رجاء : رحم الله امرأ أهدى إلي أخطائي مهما كانت!
تعليق