(8)
أغمضت عيني ثم فتحتهما لأتأكد من يقظتي فلم أجد أحدا .. فانتصبت واقفا وأنا التفت من حولي .. وكان أول شيء لفت انتباهي هو اختفاء العصفورة من العش الذي كان على مقربة مني .. هل هذا فأل سيء لي ؟ ولو أني لا أحب التطير إلا أن شيئا بداخلي جعلني أنقبض و أحال بهجتي الخاطفة التي أحدثتها رؤيتي لجدائل الشعر والعينين النجلاوين المبتسمتين إلى أسى .
لكني مع كل هذا الإحساس بالإحباط كنت اشعر بشيء ما يشدني لتتبع الجداول وامتطاء الربى .. فأخذت العش الفارغ من ساكنته و أعدته إلى مكانه في أعلى الشجرة حيث عشي لا يزال بانتظاري .. ألقيت عليه نظرة حنان و ابتسمت له في ود ..
من كان يتخيل أن ثورة الطبيعة في الليلة الماضية سوف تسفر عن كل هذه الروعة ؟ ومن كان يظن أن هذه الطبيعة ، وبعد كل ذلك الغضب و الغليان سوف تعود وقد ارتدت أجمل ما لديها من حلل .. كل شيء حولي ينطق .. يبتسم .. يضحك .. يعانق .. يحب ..
الجداول.. الربى .. الجبال .. العشب .. كل شيء يتلألأ ويمرح في دعة .. الأرض أحس بها رخوة تحت قدمي .. إلى أين تقودني خطواتي ؟ أرى نفسي مندفعا إلى قمة الجبل عابرا الغابة الكثيفة حيث يكاد يسود الظلام من شدة تقارب الأشجار و تشابك أغصانها .. كنت أحدث نفسي :"ماذا رأيت ؟ .. هل هي أضغاث أحلام ؟ .. أم هي الحقيقة ؟ .. كان في الجو شذا يجعلني متفائلا .. لأنه شذى مألوف لدي .. وهذا ما جعلني أنساق لخطواتي .. وبين الفينة و الأخرى كان ذهني يشرد إلى حيث كانت العصفورة تترقب مثلي عودة رفيقها .. هل تمثل لها شيئا مشابها لما حدث لي ، فطارت تبحث عن عصفورها مستدلة عليه بشذاه أيضا ؟
هل نلتقي هناك في قمة الجبل الجاثم فوق التلال و الوديان في جبروت صامت ؟
غريب هذا المزيج من الأحاسيس .. لهفة و أسى و أمل و سكينة وسط عالم موغل في الجمال و البهاء ..
مع اقترابي من القمة كانت الوقت ضحى .. وكان بإمكاني و أنا أنظر إلى أسفل أن أرى دوحتي التي تحضن عشي و هنا وهناك انتشرت التلال و الحقول في تناغم و انسجام ..
كان يحلق بين الفينة و الأخرى من فوقي سرب من الطيور ، فأتوقف عن الصعود و أحدق مليا واضعا يدي فوق على جبهتي لأحجب أشعة الشمس عن عيني وأهتف دون وعي : "هل أنت هناك ؟ .. هل وجدت عصفورك ؟ .. لعلكما الآن معا .. "
و أستريح قليلا على صخرة نبت العشب على بعض أنحائها .. مجيلا النظر عبر الحقول المترامية فأجد كدحا وعملا مضنيا من أجل القوت اليومي .. ثم أنتبه إلى دابة تنوء بحملها و نملة تصر على الصعود بحملها مرتفعا صغيرا ..وفي لحظة و جدت نفسي أتساءل و أنا أنظر إلى الطريق الصاعد نحو قمة الجبل : ماذا تطارد ؟ أخيط دخان تريد أن تمسك ؟ أم شبحا تريد أن تتبع ؟ أم سرابا تبتغي ؟.. أهذا هو الحب ؟ .. ما هو الحب ؟ .. أهو لهو ولعب وفراق ولقاء و تدلل ؟ .. هل يضاهي حبك هذا عشق ذاك المحب لحقله وتلك الحشرة لحملها وذاك العصفور لقوته و عشه ؟ .. هل فكرت يوما في أنين أو نحيب أو شكوى ؟ هل نسيت أم تناسيت ما يملأ الجو من صيحات يرزح أصحابها تحت نير الجور و الطغيان ؟ .. لا لشيء سوى لتفانيهم في حب الحرية و الكرامة المسلوبتين منهم .. هل صممت أذنيك عن آهات المعذبين في الأرض ، من أقصاها إلى أقصاها ؟ .. ما هذا الحب الذي يجعلك لا تفكر إلا في تحقيق نزوة من نزواتك أو بلوغ مأرب من مآربك؟ .. افتح عينيك جيدا و أصخ بأذنيك و أرهف قلبك .. تجد كل شيء ما حولك يستحق منك الحب .. أفق من غفلتك أيها العاشق السابح في دنيا الأحلام .. كل ما حولك يحب ، لكن لكي تستمر الحياة ، شكرا و امتنانا لمن وهبها ..
أفق .. أفق .. أفق ..
خلت للحظة أن الجبال المحيطة بي تردد صدى هذا النداء المنبعث من أعماق نفسي و جوارحي . فلم أملك إلا أن أنهض و أنحدر مسرعا غير مكترث بالأخاديد المنتشرة في طريقي نحو أسفل الجبل ..
هرعت إلى عشي متسلقا الدوحة .. ولبثت ردحا من الوقت ألهث مرتعبا وكأني كنت مطاردا من شيء لم أدر كنهه . احتضنت غصنا من أغصان شجرتي و صرت أنتحب ..
كان الأصيل يلون الأفق بصفرته الزاهية حين أفقت من غفوتي و أنا لا أزال أحتضن الغصن ، لأجد فوق رأسي عصفورتي ، وبجانبها رفيقها ، وهما لا يتوقفان عن الزقزقة و الحركة ..
شملني حبور كبير و ابتسمت لهما .. و أنا أمد يدي أتحسس جيبي لعلي أجد ما تبقى من بر ..
أغمضت عيني ثم فتحتهما لأتأكد من يقظتي فلم أجد أحدا .. فانتصبت واقفا وأنا التفت من حولي .. وكان أول شيء لفت انتباهي هو اختفاء العصفورة من العش الذي كان على مقربة مني .. هل هذا فأل سيء لي ؟ ولو أني لا أحب التطير إلا أن شيئا بداخلي جعلني أنقبض و أحال بهجتي الخاطفة التي أحدثتها رؤيتي لجدائل الشعر والعينين النجلاوين المبتسمتين إلى أسى .
لكني مع كل هذا الإحساس بالإحباط كنت اشعر بشيء ما يشدني لتتبع الجداول وامتطاء الربى .. فأخذت العش الفارغ من ساكنته و أعدته إلى مكانه في أعلى الشجرة حيث عشي لا يزال بانتظاري .. ألقيت عليه نظرة حنان و ابتسمت له في ود ..
من كان يتخيل أن ثورة الطبيعة في الليلة الماضية سوف تسفر عن كل هذه الروعة ؟ ومن كان يظن أن هذه الطبيعة ، وبعد كل ذلك الغضب و الغليان سوف تعود وقد ارتدت أجمل ما لديها من حلل .. كل شيء حولي ينطق .. يبتسم .. يضحك .. يعانق .. يحب ..
الجداول.. الربى .. الجبال .. العشب .. كل شيء يتلألأ ويمرح في دعة .. الأرض أحس بها رخوة تحت قدمي .. إلى أين تقودني خطواتي ؟ أرى نفسي مندفعا إلى قمة الجبل عابرا الغابة الكثيفة حيث يكاد يسود الظلام من شدة تقارب الأشجار و تشابك أغصانها .. كنت أحدث نفسي :"ماذا رأيت ؟ .. هل هي أضغاث أحلام ؟ .. أم هي الحقيقة ؟ .. كان في الجو شذا يجعلني متفائلا .. لأنه شذى مألوف لدي .. وهذا ما جعلني أنساق لخطواتي .. وبين الفينة و الأخرى كان ذهني يشرد إلى حيث كانت العصفورة تترقب مثلي عودة رفيقها .. هل تمثل لها شيئا مشابها لما حدث لي ، فطارت تبحث عن عصفورها مستدلة عليه بشذاه أيضا ؟
هل نلتقي هناك في قمة الجبل الجاثم فوق التلال و الوديان في جبروت صامت ؟
غريب هذا المزيج من الأحاسيس .. لهفة و أسى و أمل و سكينة وسط عالم موغل في الجمال و البهاء ..
مع اقترابي من القمة كانت الوقت ضحى .. وكان بإمكاني و أنا أنظر إلى أسفل أن أرى دوحتي التي تحضن عشي و هنا وهناك انتشرت التلال و الحقول في تناغم و انسجام ..
كان يحلق بين الفينة و الأخرى من فوقي سرب من الطيور ، فأتوقف عن الصعود و أحدق مليا واضعا يدي فوق على جبهتي لأحجب أشعة الشمس عن عيني وأهتف دون وعي : "هل أنت هناك ؟ .. هل وجدت عصفورك ؟ .. لعلكما الآن معا .. "
و أستريح قليلا على صخرة نبت العشب على بعض أنحائها .. مجيلا النظر عبر الحقول المترامية فأجد كدحا وعملا مضنيا من أجل القوت اليومي .. ثم أنتبه إلى دابة تنوء بحملها و نملة تصر على الصعود بحملها مرتفعا صغيرا ..وفي لحظة و جدت نفسي أتساءل و أنا أنظر إلى الطريق الصاعد نحو قمة الجبل : ماذا تطارد ؟ أخيط دخان تريد أن تمسك ؟ أم شبحا تريد أن تتبع ؟ أم سرابا تبتغي ؟.. أهذا هو الحب ؟ .. ما هو الحب ؟ .. أهو لهو ولعب وفراق ولقاء و تدلل ؟ .. هل يضاهي حبك هذا عشق ذاك المحب لحقله وتلك الحشرة لحملها وذاك العصفور لقوته و عشه ؟ .. هل فكرت يوما في أنين أو نحيب أو شكوى ؟ هل نسيت أم تناسيت ما يملأ الجو من صيحات يرزح أصحابها تحت نير الجور و الطغيان ؟ .. لا لشيء سوى لتفانيهم في حب الحرية و الكرامة المسلوبتين منهم .. هل صممت أذنيك عن آهات المعذبين في الأرض ، من أقصاها إلى أقصاها ؟ .. ما هذا الحب الذي يجعلك لا تفكر إلا في تحقيق نزوة من نزواتك أو بلوغ مأرب من مآربك؟ .. افتح عينيك جيدا و أصخ بأذنيك و أرهف قلبك .. تجد كل شيء ما حولك يستحق منك الحب .. أفق من غفلتك أيها العاشق السابح في دنيا الأحلام .. كل ما حولك يحب ، لكن لكي تستمر الحياة ، شكرا و امتنانا لمن وهبها ..
أفق .. أفق .. أفق ..
خلت للحظة أن الجبال المحيطة بي تردد صدى هذا النداء المنبعث من أعماق نفسي و جوارحي . فلم أملك إلا أن أنهض و أنحدر مسرعا غير مكترث بالأخاديد المنتشرة في طريقي نحو أسفل الجبل ..
هرعت إلى عشي متسلقا الدوحة .. ولبثت ردحا من الوقت ألهث مرتعبا وكأني كنت مطاردا من شيء لم أدر كنهه . احتضنت غصنا من أغصان شجرتي و صرت أنتحب ..
كان الأصيل يلون الأفق بصفرته الزاهية حين أفقت من غفوتي و أنا لا أزال أحتضن الغصن ، لأجد فوق رأسي عصفورتي ، وبجانبها رفيقها ، وهما لا يتوقفان عن الزقزقة و الحركة ..
شملني حبور كبير و ابتسمت لهما .. و أنا أمد يدي أتحسس جيبي لعلي أجد ما تبقى من بر ..
تعليق