العش الدافئ - في حلقات -

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • رشيد الميموني
    مشرف في ملتقى القصة
    • 14-09-2008
    • 1533

    #16
    (8)

    أغمضت عيني ثم فتحتهما لأتأكد من يقظتي فلم أجد أحدا .. فانتصبت واقفا وأنا التفت من حولي .. وكان أول شيء لفت انتباهي هو اختفاء العصفورة من العش الذي كان على مقربة مني .. هل هذا فأل سيء لي ؟ ولو أني لا أحب التطير إلا أن شيئا بداخلي جعلني أنقبض و أحال بهجتي الخاطفة التي أحدثتها رؤيتي لجدائل الشعر والعينين النجلاوين المبتسمتين إلى أسى .

    لكني مع كل هذا الإحساس بالإحباط كنت اشعر بشيء ما يشدني لتتبع الجداول وامتطاء الربى .. فأخذت العش الفارغ من ساكنته و أعدته إلى مكانه في أعلى الشجرة حيث عشي لا يزال بانتظاري .. ألقيت عليه نظرة حنان و ابتسمت له في ود ..
    من كان يتخيل أن ثورة الطبيعة في الليلة الماضية سوف تسفر عن كل هذه الروعة ؟ ومن كان يظن أن هذه الطبيعة ، وبعد كل ذلك الغضب و الغليان سوف تعود وقد ارتدت أجمل ما لديها من حلل .. كل شيء حولي ينطق .. يبتسم .. يضحك .. يعانق .. يحب ..
    الجداول.. الربى .. الجبال .. العشب .. كل شيء يتلألأ ويمرح في دعة .. الأرض أحس بها رخوة تحت قدمي .. إلى أين تقودني خطواتي ؟ أرى نفسي مندفعا إلى قمة الجبل عابرا الغابة الكثيفة حيث يكاد يسود الظلام من شدة تقارب الأشجار و تشابك أغصانها .. كنت أحدث نفسي :"ماذا رأيت ؟ .. هل هي أضغاث أحلام ؟ .. أم هي الحقيقة ؟ .. كان في الجو شذا يجعلني متفائلا .. لأنه شذى مألوف لدي .. وهذا ما جعلني أنساق لخطواتي .. وبين الفينة و الأخرى كان ذهني يشرد إلى حيث كانت العصفورة تترقب مثلي عودة رفيقها .. هل تمثل لها شيئا مشابها لما حدث لي ، فطارت تبحث عن عصفورها مستدلة عليه بشذاه أيضا ؟
    هل نلتقي هناك في قمة الجبل الجاثم فوق التلال و الوديان في جبروت صامت ؟
    غريب هذا المزيج من الأحاسيس .. لهفة و أسى و أمل و سكينة وسط عالم موغل في الجمال و البهاء ..
    مع اقترابي من القمة كانت الوقت ضحى .. وكان بإمكاني و أنا أنظر إلى أسفل أن أرى دوحتي التي تحضن عشي و هنا وهناك انتشرت التلال و الحقول في تناغم و انسجام ..
    كان يحلق بين الفينة و الأخرى من فوقي سرب من الطيور ، فأتوقف عن الصعود و أحدق مليا واضعا يدي فوق على جبهتي لأحجب أشعة الشمس عن عيني وأهتف دون وعي : "هل أنت هناك ؟ .. هل وجدت عصفورك ؟ .. لعلكما الآن معا .. "
    و أستريح قليلا على صخرة نبت العشب على بعض أنحائها .. مجيلا النظر عبر الحقول المترامية فأجد كدحا وعملا مضنيا من أجل القوت اليومي .. ثم أنتبه إلى دابة تنوء بحملها و نملة تصر على الصعود بحملها مرتفعا صغيرا ..وفي لحظة و جدت نفسي أتساءل و أنا أنظر إلى الطريق الصاعد نحو قمة الجبل : ماذا تطارد ؟ أخيط دخان تريد أن تمسك ؟ أم شبحا تريد أن تتبع ؟ أم سرابا تبتغي ؟.. أهذا هو الحب ؟ .. ما هو الحب ؟ .. أهو لهو ولعب وفراق ولقاء و تدلل ؟ .. هل يضاهي حبك هذا عشق ذاك المحب لحقله وتلك الحشرة لحملها وذاك العصفور لقوته و عشه ؟ .. هل فكرت يوما في أنين أو نحيب أو شكوى ؟ هل نسيت أم تناسيت ما يملأ الجو من صيحات يرزح أصحابها تحت نير الجور و الطغيان ؟ .. لا لشيء سوى لتفانيهم في حب الحرية و الكرامة المسلوبتين منهم .. هل صممت أذنيك عن آهات المعذبين في الأرض ، من أقصاها إلى أقصاها ؟ .. ما هذا الحب الذي يجعلك لا تفكر إلا في تحقيق نزوة من نزواتك أو بلوغ مأرب من مآربك؟ .. افتح عينيك جيدا و أصخ بأذنيك و أرهف قلبك .. تجد كل شيء ما حولك يستحق منك الحب .. أفق من غفلتك أيها العاشق السابح في دنيا الأحلام .. كل ما حولك يحب ، لكن لكي تستمر الحياة ، شكرا و امتنانا لمن وهبها ..
    أفق .. أفق .. أفق ..
    خلت للحظة أن الجبال المحيطة بي تردد صدى هذا النداء المنبعث من أعماق نفسي و جوارحي . فلم أملك إلا أن أنهض و أنحدر مسرعا غير مكترث بالأخاديد المنتشرة في طريقي نحو أسفل الجبل ..
    هرعت إلى عشي متسلقا الدوحة .. ولبثت ردحا من الوقت ألهث مرتعبا وكأني كنت مطاردا من شيء لم أدر كنهه . احتضنت غصنا من أغصان شجرتي و صرت أنتحب ..
    كان الأصيل يلون الأفق بصفرته الزاهية حين أفقت من غفوتي و أنا لا أزال أحتضن الغصن ، لأجد فوق رأسي عصفورتي ، وبجانبها رفيقها ، وهما لا يتوقفان عن الزقزقة و الحركة ..
    شملني حبور كبير و ابتسمت لهما .. و أنا أمد يدي أتحسس جيبي لعلي أجد ما تبقى من بر ..

    تعليق

    • رشيد الميموني
      مشرف في ملتقى القصة
      • 14-09-2008
      • 1533

      #17
      (9)

      و الآن .. ماذا تنتظرين مني أكثر مما قلته لك سواء في عشي أو على الربى و الصخور وبين الوديان و الخوانق .. عند الأصيل و في السحر .. سواء صحا الجو أو امطر ..؟ هل تريدين المزيد ؟ ألم أشبعك كلاما حتى أتخمت مسامعك ؟ أين تختفين ؟ ومتى ستظهرين من جديد ؟ كنت أحسب أن ذاك الصباح الذي تلا العاصفة إيذان بلقاء لن يعقبه فراق ..وتفاءلت حين وجدت العصفورين أمامي وقد التقيا بعد أن ذاقا مرارة الفراق مثلي .. لكنهما الآن ينعمان معا بالأنس و المودة هناك في عشهما المقابل لعشي .. هل تدرين أنني صرت أستوحشه كلما دنوت منه ؟ ولولا وجود العصفورين لكانت هذه الوحشة أشد و طأ على قلبي والجريح و نفسي المكلومة .
      هذا المساء ، وجدت في عش العصفورين قطعة من ورق كنت أكتب عليه بوحي وأنا أرسم صورتك .. لازالت جدائل شعرك الغجري وعيناك النجلاوان كما رسمتها و كأني بها قد قاومت ثورة الطبيعة و أمطارها و ريحها العاتية لتصمد و تبقى ملتصقة بالأغصان ..
      أنا أعلم أنك قريبة مني .. تسمع أنفاسي اللاهثة وأنا أذرع الربى و الوديان بحثا عنك .. و أعلم علم اليقين أنك تنتشين بملامح القنوط و اليأس التي تعلو محياي وكأنك تخشين أن يدب الفتور إلى لهفتي عليك متى ظهرت و وضعت حدا لهذا الفراق ..أنت تعرفين جيدا مدى حبي وعشقي لك و شوقي إليك .. ربما حملت لك أوراق الخريف الذابلة أجزاء هذا الحب لتلملميها و تشكلي أبهى صورة لهذا العشق الذي لا يزيد إلا تمكنا مني و من كياني .. حب غزا جوانحي وتغلغل في روحي عبر مسامي و سرى في شراييني مسرى دمي .. كم حاولت اجتثاثه واقتلاع جذوره لكني كنت أتراجع في اللحظة الأخيرة ، ولا أدري ماهي هذه القوة الخفية التي تجعلني أحتفظ به لك بين جوانحي .. ربما كانت كل لحظة أعيشها تذكرني بك .. سواء في الصباح أو المساء مرورا بالضحى و الزوال و الأصيل ، و انتهاء بالليل و السحر .. كل لحظة تسمعني منك ترنيمة أو تضوعني شذا أو تلهبني أنفاسا و همسا لا أفيق من سكرته ..
      حبك سيدتي شيء عذب ، أليم ، غريب .. حبك يدنو مني حتى يكون في متناولي و طوع إشارتي فقط حين أعرض عنه و أفكر في استئصاله ..
      لكنه يختفي كالسراب و ينأى كلما هفوت إليه أروم احتضانه و التنعم بدفئه .. لقد تعودت عليك .. وتعودت على نزواتك و أهوائك .. وصرت أتحملها عن طيب خاطر و بصدر رحب .. صرت أعرفك أكثر وأنت بعيدة عني .. أعرف طبائعك و طريقة تفيكرك .. اعرف متى تفرحين ومتى تغضبين .. أعرف متى تشتاقين إلي فتزهر الأشجار و تهتز التلال و تربو ، و حين تتبدل مشاعرك نحوي أعرف ذلك في ذبول أوراق الشجر و تساقطها .. بل إنك صرت ملمة لكل جزئيات نفسي المتعطشة دوما لرؤياك .. تحصين علي أنفاسي وتتظاهرين باللامبالاة .. تقتفين أثري ثم تكابرين لكي لا يبدو منك اي اثر للهفتك علي .. تتجاهلين نظراتي وأنت تتحرقين شوقا إليها .. تعرضين عن بوحي ، لكنك تغلين لهفة للمزيد .
      تبدين عدم اكتراثك لتهافت المعجبات ، لكنك تتميزين غيظا و غيرة وتودين لو صرخت فيهن كلهن أني لك .. لك وحدك .
      لم كل هذا ؟ .. ألا تعلمين أن هذا سيتعبك كما أتعبني ؟ .. وأنك ستتألمين كما اتألم ، فقط لأنك تريدين ذلك ..
      هاهو الخريف يمضي .. وتمضي معه ايامنا و ليالينا .. يمضي وفي جعبته بوحي لك منذ أن بدأ حبي لك وليدا ، فتعهدته بالرعاية و العناية رغم تجاهلك له .. فشب و ترعرع حتى صار يافعا .. جميلا بهيا .. وسيبقى بوحي يتردد هنا و هناك عبر الجبال ، بين الوديان .. عند الغدير .. ولن يتوقف ، بل سيستمر مع توالي الفصول .. وسوف أبقى هنا أنتظر الخريف الآتي .. فلربما حملتك نسائمه عن طواعية لننعم بلقاء ما بعده فراق .


      </i>

      تعليق

      • رشيد الميموني
        مشرف في ملتقى القصة
        • 14-09-2008
        • 1533

        #18
        (10)

        اليوم صرت طفلا .. أو على الأصح عدت طفلا ..كما كنت منذ الأزل .. هل كان القرار قراري ؟ لا أدري ، ولكني وجدت نفسي ألهو و أرتع هنا و هناك .. ألملم أشيائي الخاصة .. وأقطف باقات ورد حين أشتهي ذلك .. أو أقذف بالحجر بعيدا حتى يتوارى عن ناظري أو أرمي به على سطح الغدير لينط مرات ومرات قبل أن يهبط و يستقر في قعره ..
        استطابت نفسي هذا التحول المفاجئ ، وكان لا بد لي أن أبحث عنك كما اعتدت على ذلك في كل ضحى لنخرج سويا ممسكين بيدي بعضنا البعض .. نتحدث دون رقيب أو حسيب في داخلنا .. حين أغضب فإني لا أواري غضبي ، وحين تزعجك تصرفاتي تعبسين في وجهي وتنصرفين غير مكترثة ببقائي وحيدا .. لم يتنازل أي منا عن أنانيته الطفولية ، لكننا سرعان ما كنا نهدي بعضنا البعض أحلى و أجمل ما وقعت عليه أيدينا .. هل تذكرين كم باقة ورد أهديتك وكم إكليل زهر وضعته تاجا على رأسك أو طوقت به عنقك ؟
        صرت شقيا كما كنت ، بل أكثر شقاوة من ذي قبل .. وزادت مشاكساتي لك بقدر ما كنت تتدللين و تثيري غضبي بتصرفات ربما هي غريزة في الأنثى . كنت تغيبين في الوقت الذي كنت أبحث عنك متلهفا .. وكنت تظهرين دون أن يبدو عليك شيئا ينم عن لهفتك .. بينما أنا أتحرق شوقا لرؤيتك .. لكنك في المقابل كثيرا ما تأخذك نوبة من البكاء وعلى حين غرة ، فأفاجأ بك تلقين ما بيدك أرضا وتولين الأدبار ثم تهرولين لا تلوين على شيء .. فأغتم لذلك ، و أظل أنتظر إطلالتك من جديد حتى تقبلين علي ، ربما بعد يوم أو يومين مبتسمة مشرقة و كأن شيئا لم يكن .
        أنا الآن أنظر إليك من عشي .. تلتقطين بعض الأعشاب الجافة لنرمم بها أعشاش العصافير التي تضررت من الرياح العاتية التي هبت أمس .. أراقبك تنحين و خصلات شعرك تحجب الرؤية عن وجهك فتلوحين بها إلى الوراء .. يعجبني فيك ذاك الوجه الطفولي المشاكس .. عيناك أيضا تنطقان بشقاوتك .. لم أعرف قط كلمة حب .. ولم يذكرها لساني لأنني بكل بساطة لا أعرفه .. أو على الأقل لا أعرف هذا المصطلح .. قد أكون متلهفا إليك كلما غبت أو حضرت .. وقد آخذ بيديك وأنا في قمة سعادتي لأذرع بك هذه الربى ..وحتى حين أقطف لك وردة ، فإني لا أفعل ذلك سوى لأنك تحبين الورود و تسعدين بإهدائي لها إياك ..
        ألا ترين أننا نتحكم في كل شيء يخصنا ؟ .. نعدو حين نريد .. نجلس لاهثين حين يجد في الجلوس متعة .. نلتقي متى شئنا .. نفترق متى رأينا أنه علينا أن نفترق .. نلتقي في الصباح لأجدك في انتظاري أو العكس .. حتى أحلامنا ، ربما كانت تغوص في الليل على سجيتها .. فألتقي بك وأعيد صخب النهار و عربدة الضحى و تأملات المساء ونحن على ضفة الغدير الساكن في تأملاته مثلنا .
        لا أحد يمنعنا من التحدث طويلا عبر شباك نافذتينا .. حقا ، هناك زجر لكي نخلد إلى الراحة و نستعد للذهاب إلى المدرسة في الصباح الباكر .. فنظل نهمس حذرين ، ونكتم بين الفينة و الأخرى ضحكاتنا حين نتذكر شيئا مر بنا أثناء النهار .. أذكرك بالعجل الذي وخزته بإبرة فانطلق يخور عبر الحقول و صاحبه يتوعد بالويل و الثبور من تسبب في ذلك ، و أنت منبهرة بما فعلته .. كنت أستلذ أن أبدو أمامك رجلا بكل معنى الكلمة .. ثم تذكرينني بالهرة التي وضعت في قوائمها حناء و بالدجاجة التي ألبستها قبعة صغيرة حتى غطت عينيها و حجبت عنها الرؤية فلم تعد ترى طريقها . ثم نتساءل متى سنخرج إلى المدرسة في ذلك اليوم الخريفي الزاهي .. وهل سنتمكن من الجلوس جنبا إلى جنب مثل العام الماضي .. لا أنسى يوم فرق بيننا المدرس لأننا سهونا عن الدرس و أخذنا نتحدث عن جني البلوط ..كم كان ذلك التفريق بيننا قاسيا علي حتى كدت أبكي لأنني لا استوعب درسا إلا و أنت بجانبي .
        أنتظر الصباح بكل شغف رغم أنني هنا من نافذتي أسمع همسك الضاحك و أفهم إشاراتك .. تلوحين لي مودعة فأعلم أنك تعبت ..
        الطريق إلى المدرسة ممتع .. نجري هنا و هناك .. نلتقط بعض الحصى دون أن نعرف ماذا نفعل بها .. أو نتسلق أغصان شجرة صغيرة ، ونشرب من منبع في الطريق وأرش عليك الماء بحفنة من يدي فتولولين وتاخذين أنت أيضا حفنة منه وتظلين تلاحقينني حتى تفرغ راحتك من الماء .. ثم نصل إلى الجسر لنعبر فوق النهر .. أحدثك عنه كما حدثتني جدتي التي تهديني كل ليلة حكاية دون أن أسمعها إلى النهاية .. لكني أتلذذ بالبداية المعتادة : - سالتك .. فأجيب بحماس .. " سال لا تخاف " .. فتبدأ الحكاية .
        مرة واحدة استطعت مغالبة النعاس حتى النهاية .. كانت الحكاية لأميرة اغتسلت عند المنبع ، وحين أتى أخوها الأمير ليشرب حصانه ، علقت شعرتها بأسنانه ، فأقسم على أن يتزوج الفتاة صاحبة الشعرة .. وحين علمت الأميرة بقرار أخيها هربت وجلست على صخرة وطلبت منها أن تعلو بينما أهلها يترجونها أن تعود ، فتجيب أباها أولا :
        في الأول كنت أبي
        و الآن ستصير حماي
        اعلي بي يا حجرة
        فتصير الحجرة صخرة ثم تلا ، إلى أن تتحول إلى جبل .. ويتقدم كل فرد من أفراد أسرتها يستعطفها كي تنزل فتعيد قولتها كل حسب قرابته لها ..
        وحين تقترب الحكاية من نهايتها أسمع جدتي تقول :" وفي الطريق .. اشتريت حلوى .. وهي تذوب .. وتذوب .. وتذوب .. حتى صار كل شيء كذوب .( كذب ).
        أذكر يوما أنك طلبت مني أن أروي لك هذه الحكاية لكثرة ما حدثتك عنها .. وحين وصلت إلى ذكر الحلوى .. كنت قد وضعت رأسك على كتفي و نمت وظفيرتك مدلاة على صدري.. كم كنت جميلة في ذلك اليوم و نحن جالسان قرب النهر .. ربما شعرت بشيء غريب نحوك دون أن أدري ما هو ..
        سأبقى طفلا مادمت تدلينني وتشبعين غروري .. وستبقى الطفولة سمتي ما دمت تصفحين عن زلاتي وتقابلين إساءتي بابتسامة و رحابة صدر ..
        سأكبر يوما ما .. لكني سأبقى طفلا .. فكوني أبدا طفلة ودعي طفولتك تسكنك مثلي ..


        تعليق

        • رشيد الميموني
          مشرف في ملتقى القصة
          • 14-09-2008
          • 1533

          #19
          (11)

          قضيت اليوم في تعهد عشي بما يلزمه من عناية ، ثم نزلت أتمشى قليلا شارد الفكر حتى وصلت الغدير .. جلست على ضفته .. كانت هناك ضفدعة تراقبني بعينين جامدتين .. كنت على وشك أن أبدأ برمي الحصى على سطح الماء الراكد كعادتي ، لكنني عدلت عن ذلك خشية إزعاج الضفدعة الجاثمة على حجر بجانب الغدير .. لم يكن في الجو ما يشي بالجديد .. سكون تام ورتيب لكنه يسري في النفس فيكسبها حبورا و متعة ..
          لبثت على تلك الحالة إلى أن شد انتباهي رفرفة أجنحة أتية من ناحية شجرتي الكبيرة .. هل يكون عصفوري عاد مع رفيقته ؟ .. خفق قلبي بعنف فرحا و لهفة لرؤيتهما قرب عشي ، ونهضت مسرعا لأتسلق الدوحة بخفة .. وهناك في أحضان العش المقابل كانت عصفورتي مستلقية في وهن .. حسبت أن إطلالتي عليها ستجعلها تطير .. لكنها ظلت هناك تنظر إلي .. في عينيها ألم أحس به .. مددت يدي نحوها بحذر فلم تتحرك . وضعتها في كفي ، فإذا بريشها يصبغ يدي بلون قاني ..
          هكذا إذن .. عصفورتي جريحة .. وعودتها لعشها كانت فقط لتبتعد فرارا ممن آذاها و التماسا لمكان آمن تتألم فيه بكل هدوء .. لكن .. ألا تكون هذه العودة من وحي غريزتها الحيوانية لتلتجئ إلي ؟ .. هل كان إطعامي لها بداية للاستئناس و الثقة بي .. إذا كان كذلك ، فما أسعدني به .. و علي أن أعتني بعصفورتي و اتعهدها بالرعاية و الاهتمام ..
          عصفورتي .. لا تبالي . أعرف أنك تألمت كثيرا من جرحك هذا .. آه لو أعرف فقط من فعل بك هذا .. لكن لا يهم . أنت الآن معي و في حمايتي .. لن تصل إليك يد آثمة بعد الآن .. سأعالج جرحك و ستعودين كما كنت .. دعيني أنظر أين موقع جرحك .. ياللقساة وغلاظ القلوب .. كم هو غائر جرحك تحت هذا الجناح الصغير .. الحمد لله أن هذا الجناح لم يصب وإلا لكنت الآن طريحة الأرض ولعبثت بك أيدي العابثين .. طيب انتظريني هنا يا عصفورتي ولا تخافي .. سأعود إليك بعد قليل .. ماذا ؟ ما معنى هذه النظرة المفعمة رجاء و توسلا .. لا تريدين تركك لوحدك ؟ .. حسنا ، سآخذك معي ..
          كنت أهمهم و أنا في طريقي إلى المنزل لجلب ما يلزم من دواء .. ولم أتمالك من تقبيل عصفورتي المرتجفة في راحتي .. أحسست بخوف كبير وتساءلت : هل تموت عصفورتي ؟
          طردت عن ذهني تلك الأفكار السوداء وعدت إلى عشي بعد أن ضمدت جرح العصفورة .. وضعتها في عشها و نثرت بعض البر أمامها .. فلم تأكل في الحال .. حز في نفسي منظرها .. لم كل هذا الألم يا عصفورتي ؟ ألا يزال يوجعك جرحك ؟ أم أن ألما آخر يعصر قلبك كما يعصرني أنا أيضا ؟ .. ماالذي تريد قوله عيناك الصغيرتان ؟ أكاد أحس بما تعبران به عما يعتلج به قلبك الصغير .. أنا أعرف قلقك و خوفك من أن يكون مصير رفيقك مثل ما حصل لك أو اسوأ منه .. لا تقلقي عصفورتي .. سوف يعود إليك ليجدك قد شفيت وعادت إليك عافيتك لترفرفا عاليا .. فقط لا تياسي .. فيأسك يعديني ويجعلني فريسة للإحباط .. كوني قوية كما عهدتك دائما .. لا يوحشك منظر الغيوم الداكنة المعلنة عن حلول فصل الشتاء .. سأبني لك وكرا منيعا أضع فيه عشك حتى لا يكون في متناول العابثين و المتطفلين .. وسأظل ارعاك و أحميك حتى تتماثلي للشفاء ..أنا هنا معك ما حييت .. لأن عشي هو ملاذي وملجئي .. أنت تنتظرين عصفورك و أنا أيضا أنتظر عصفورتي .. لنحتفظ بالأمل حتى نتغلب على الألم .. فبعد الشتاء و صقيعه و مطره و برقه و رعده ، سيأتي الربيع زاهيا ليمحو ما علق بقلبينا من حزن و أسى .. وتتفتح ورودهما بكل الألوان ..
          هيا يا عصفورتي .. نامي الآن .. وسوف أظل هنا مادام الجو رائقا هذا المساء .. وسآخذك معي إذا بدا المطر لتؤنسي وحدتي و تشاطريني أحاسيسي .. هيا يا صغيري .. ها هو البر أمامك .. يا لفرحتي .. هكذا أريدك .. أن تأكلي وتنسي للحظة ألامك ..
          تصبحين على خير عصفورتي .


          </i>

          تعليق

          • خلود الجبلي
            أديب وكاتب
            • 12-05-2008
            • 3830

            #20

            [read]
            بستان ورد وريحان أنثره في عشك وأمضي بصمت يلائم هدوء تألقك وأبداعك

            حكاية وراء حكاية ولدت ونامت بسلام مطمئنة

            نحن هنا ننتظر
            [/read]



            لا إله الا الله
            محمد رسول الله

            تعليق

            • رشيد الميموني
              مشرف في ملتقى القصة
              • 14-09-2008
              • 1533

              #21
              المشاركة الأصلية بواسطة خلود الجبلي مشاهدة المشاركة

              [read]
              بستان ورد وريحان أنثره في عشك وأمضي بصمت يلائم هدوء تألقك وأبداعك


              حكاية وراء حكاية ولدت ونامت بسلام مطمئنة
              [/read]
              [read]

              نحن هنا ننتظر
              [/read]
              [read]
              [/read]



              خلود .. أيتها الأخت المتالقة التي تشع كلماتها دفئا و حميمية .. تضوع بستانك بريحانه وورده أريجا و شذا ..
              أرى نفسي محظوظا أن لاقت محاولاتي هذه كل هذه الحفاوة من أديبة متميزة مثلك ..
              تقبلي مني أختي كل تعابير المحبة و التقدير ..
              أشكرك من كل قلبي على تشجيعك و أرجو أن أظل دائما عند حسن ظنك .
              دمت بكل المودة .

              تعليق

              • رشيد الميموني
                مشرف في ملتقى القصة
                • 14-09-2008
                • 1533

                #22
                (12)

                عصفورتي الجريحة هناك قبالتي .. تضع راسها الصغير تحت جناحها لتحكه بمنقارها . تبدو عليها السكينة و الطمأنينة . تنظر إلي متفحصة كأنما تريد الإفصاح عن شيء يقض مضجعها ، أو تود أن تستفسر عن سبب توقفي عن الترنم بالقطعة الموسيقية الأثيرة لدي .. قد أكون صرت حقا ذكرى إنسان حين مر وقت طويل دون أن أحزن .. رغم أن حبها علمني أن أحزن كما كنت أردد دائما .. طال اشتياقي لتك المرأة التي تجعلني أحزن .. كنت في ما مضى أترنم ، وحين اصل إلى : لامرأة .. أبكي بين ذراعيها مثل العصفور .. أتوقف دون أن أدري لماذا .. كنت أحس بغصة و أستطيع الاستمرار .. هل يبكي العصفور ؟ .. كم وددت لو كانت لهذه الجريحة القدرة على النطق لنتبادل الحديث و أحكي لها كل ما يعتلج في نفسي من أحاسيس وما يتضارب في ذهني من أفكار .
                في كثير من الأحيان أجد نفسي محدثا إياها .. مشيرا بيدي .. محتدا و متوعدا بقبضة يدي .. وكأني عبرها أحادث عصفورتي الغائبة الحاضرة .. هي لم تفارق فكري ولا مخيلتي .. لكني لا ادري لماذا أتخيلها جريحة كهذه العصفورة الصغيرة .. ولا أعلم ايضا من الجريح منا ؟ هل هي التي اختارت البعد أم نفسي التي تتجرع مرارته وتذهب بعيدا في أحلامها و أمالها ، لكن سرعان ما تعود خالية الوفاض ، مهيضة الجناح ، مثخنة بالجراح .. أنت يا نفسي ربما لا تدركين كم آلم لألمك و أحزن لحزنك ، و كم هو موجع وخز الضمير الذي يقض مضجعي و يؤرقني فلا تعرف عيناي للنوم سبيلا .. حيرتي لا توصف .. فأنا اخترت أن أجد لغياب العصفورة أعذارا .. فتارة أبرره بكونها تريد أن يزيد حبنا قوة و صلابة ، و تارة أخرى ألتمس لها العذر لتعرضها المحتمل لما اصاب عصفورتي هذه .. لكني نسيت في خضم كل هذا أنك تئنين و تتالمين في صمت .. كم اعرضت عن ثورانك و احتجاجك على نسياني و إهمالي لك .. كم من مرة تردد صدى صوتك في أعماق قلبي وهو يصيح منبها إلى جراحك .. لكني لم أعمل إلا في نكإ هذه الجراح ، وصم أذني عن نحيبك .. وكأنك لست مني .. هو جحود ما بعده جحود ..
                أعلم أنك أحببتها كما أحببتها أنا .. و أنك تنتظرينها على أحر من الجمر مثلي .. لأننا منذ البداية ، كنا نسعد ونرتع و نلعب .. أنا كطفل مدلل غر لا يعرف من الحياة سوى اللهو و أنت بداخلي تسايرين شقاوتي و نزواتي ، وهي بكل فتنتها و عذوبتها تنسجم مع لهونا البريء وتعود إليها طفولتها .. أنت يا نفسي جديرة بالحب مثلها .. وتستحقين مني أن أتعهدك بالعناية و الاهتمام و أهدهدك كما أهدهد هذه العصفورة المسكينة التي طال عليها فراق أنيسها ..
                ما اغرب وضعنا نحن الثلاثة .. أنا و أنت و هذه العصفورة .. هي لا تقول شيئا يشفي غليلي ولا أعرف اين يسبح فكرها الصغير .. و أنت لا تكفين عن النواح و العربدة لتثيري اهتمامي .. و أنا هنا أنتظر الذي قد يأتي أو لا يأتي .. هل أنتظرا سرابا ؟ .. ربما هذه من علامات الجنون .. في بعض الأحيان أقهقه عاليا حتى تنتفض العصفورة المسكينة في عشها .. أضحك لأني تخيلت لحظة أنني و أنا أفحص جرحها ، أنظر إلى الأخرى .. وربما طاف بذهني اعتقاد بانها ربما تكون مسحورة و جاءت لتعيش معي وبالقرب مني .. أوهام و أوهام لا أدري هل ستغزوني يوما فلا أعود أميز بين الحقيقة و الخيال .. أو ربما يكون اعتقادي أمنية بأن تكون حقا مسحورة .. المهم أنها بجانبي ..
                و في انتظار الذي قد يأتي أو لا يأتي .. سأظل هنا أتعهد عشي بالعناية .. و أهتم بجرح العصفورة الصغير .. دون أن أغفل هذه المرة نداءات نفسي التواقة لشيء من الدلال ..


                التعديل الأخير تم بواسطة رشيد الميموني; الساعة 22-12-2009, 09:31.

                تعليق

                • رشيد الميموني
                  مشرف في ملتقى القصة
                  • 14-09-2008
                  • 1533

                  #23
                  (13)

                  اليوم قررت أن أغادر عشي بحثا عنك والعودة بك أنى كنت و حيثما وجدت .. كيف جال هذا بخاطري ؟ وكيف اتخذت هذا القرار و أنا اعتدت ملازمة عشي ليلا و نهارا تقريبا ؟ .. و ما الذي جعلني أطيق فراقه و تحمل البعد عن شجرتي و ما يحيط بها ، بل و هجر عصفورتي الجريحة و بومي العزيز الذي لم يكد يستأنس بي و يتعرف علي ؟

                  كان ذاك في سحر تلك الليلة .. بدأت الفكرة بذرة ثم امتدت جذورها في نفسي مع بزوغ ضياء الفجر .. كنت متكئا على الغصن المحتضن لعشي و أنا أرقب السماء تنزع عنها سواد الليل لترتدي أزهى الحلل .. أخذتني سنة وأغمضت عيني مستمتعا بهبة نسيم من جهة الشرق .. هناك الجبال المطلة من الناحية الأخرى على البحر .. حلمت أنني ألمح طيفك يبزغ في الأفق .. ناديتك فلم تردي و لم تلتفتي .. صرخت بكل ما أوتيت من قوة .. حاولت النهوض لكني بقيت مسمرا في مكاني .. انتحبت و أشرت إليك .. عندئذ رايتك تستديرين نحوي وتبتسمين .. نفس الابتسامة التي عهدتها من شفتيك .. ومن عينيك .. تكلمت عيناك وطيفك يبتعد و يتلاشى في الأفق .. تناهى إلي صوتك مع هبوب الريح .. أصخت السمع فلم أميز إلا كلمات قليلة تردد صداها حتى أفقت مرعوبا .. ّالحق بي إن شئت .. تعال حيث أنا إن كنت فعلا تحبني ..تتبع الغدران حتى تستقبلك النوارس ."
                  صدى كلماتك لا يزال يرن في أذني و تردده الجبال من حولي .. فما كان مني إلا أن نهضت أجري هنا و هناك .. أتسلق أعلى الشجرة لأراقب الأفق لعلي أراك من جديد .. لكن لا شيء .. ما ذا أفعل الآن ؟ هل أنبذ عن ذهني كل هذا و أعتبره أضغاث أحلام ؟ .. أم أني بهذا أخفي ضعفي و أتوارى خلف حجج واهية كي لا أغادر عشي و شجرتي وكل ساكنيها ؟ هل أنا جبان إلى هذا الحد ؟ ولكن ..أين أذهب ؟ و إلى أين أتجه ؟ .. الغدران .. يعني أنه علي السير بمحاذاة النهر الكبير .. و النوارس .. نعم .. وا فرحتاه .. هذا النهر يسري حتى يصب في البحر من وراء هذه الجبال .
                  هكذا قر عزمي على الرحيل .. رغم أن قلبي يتفطر على مغادرة عشي و هجران أحبتي قربه .. لكن ما العمل وحبك ينخر في الضلوع و يتغلغل في حتى النخاع ؟
                  قضيت اليوم كله وما تلاه في الاعتناء بعشي و تفحص عصفورتي الصغيرة .. فوجدت أن جرحها قد التأم و أنها صارت قادرة على الطيران من جديد .. صنعت لها وكرا خشبيا ثبته بإحكام فوق الغصن و أمددته بكل ما يلزم من بر و ماء .. ثم نزلت لأتفقد الزاد الذي سأحمله معي .. وقررت المبيت تلك الليلة الأخيرة في عشي حتى أهدئ من روع كل ما اعتدت عليه .. الشجرة .. العصفورة .. العش .. البوم .. حتى الجدول الذي ينساب بالقرب من شجرتي بدا لي حزينا فلم أشأ أتركه ليلة كاملة دون أن يراني ؟
                  وعند الفجر، نزلت بحذر حتى لا أوقظ جيراني فيصعب علي فراقهم و هم ينظرون إلي بعين كسيرة يعلوها الأسى . وانحدرت صوب النهر الكبير حاملا على كتفي زادي ..
                  ها أنت ترين أنني استجبت لندائك .. وغامرت بالذهاب إلى مكان لا أعرف حتى وجهته .. وفارقت أحب الأمكنة إلى قلبي لعلي أجدك و أضع حدا لغيابك .. لتعلمي فقط أنني لا أدخر وسعا في إرضائك و إرضاء نزواتك .. ما كان ضرك لو أتيت عن طيب خاطر ؟ .. هل تريدين اختبار حبي لك ؟ .. كان يكفي أن تأتي فتزهر الربى و تتراقص مياه الجداول احتفاء بك وتعبيرا عن مشاعري المتأججة نحوك .
                  هاأنذا عند الغدير والصبح قد تنفس .. خرير المياه يختلط بزقزقة العصافير المستيقظة لتوها من النوم ، الساعية للقوت و اللهو و الحب .. كم أغبطها على سذاجتها و فطرتها .. لم لا نكون مثلها ؟ .. لم لا نحب و نلهو و نقتات بكل تلقائية ؟ .. ألتفت حوالي فأجدني محاطا بالجبال الشاهقة و أنظر إلى النهر فيبهرني اتساعه و هدير مياهه . لكن هل يشعرني كل هذا بالضعف ؟ لا .. بل يزيني قوة و عنفوانا .. فأحث الخطى على الضفة المعشوشبة .. كم كنت أود لو أنك هنا معي نرتع و نلهو طول النهار ، ثم نعود عند الغروب إلى عشنا لنتسامر ونبوح ونتناجى .. بدل أن تتركيني أهيم على وجهي وحيدا تائها .
                  أنا لبيت نداءك لأنني قبلت التحدي .. أريد أن ابرهن لك على أنني لن أضعف ولا أجبن مهما كانت الصعاب .. سأظل أحاذي هذا النهر و ألتف حول الجبال حين يستحيل السير على ضفته بسبب الصخور الملساء على جانبيه .. سأوغل بين الأشجار مقتفيا أثر حوافر قطيع مر من هنا حتى أعود إلى النهر .. ها أنت ترين أن كل شيء يوجهني .. حتى أغصان الأشجار أخالها تشير إلى ناحية النهر .. وسرب الطيور يتجه نحوه .. الريح تهب تجاهه .. كل شيء يحس بنبض حبي وتأجج مشاعري ، فيسرع لمساعدتي .
                  عما قريب سأصل إلى مصب النهر .. لأني أحس بنسمات بدأت تبرد قليلا فتنعش جسدي الموهن .. وتطفئ لظى نفسي و لهيب شوقي إليك ..

                  تعليق

                  • غسان إخلاصي
                    أديب وكاتب
                    • 01-07-2009
                    • 3456

                    #24
                    أخي الكريم رشيد المحترم
                    مساء الخير
                    هلا والله ، وحياك الله .........
                    هل وجدت في عشك الدافئ ماكنت تبحث عنه ؟ .
                    هل تحتاج لامرأة كي تحزن ؟ . أأنت صادق في ذلك ؟ .
                    الحزن يا صديقي يُورث الندم !!!!!!!!!!!! .
                    صدقت في إسقاطاتك لعصفورتيك الجميلتين ، فصداقة الكائنات الحية خير من صداقة الإنسان الذي نسي كل القيم والمُثل في متاهات التناقضات ، إلا ما رحم ربي !!!!!!!!
                    ومع ذلك :
                    الدنيا جميلة ، ومهما كان مُصاب الإنسان داميا فيجب أن يكون قويا .
                    تبقى الأسمى !!!! .
                    تحياتي وودي لك .
                    دمت بخير .
                    (مِنْ أكبرِ مآسي الحياةِ أنْ يموتَ شيءٌ داخلَ الإنسانِِ وهو حَيّ )

                    تعليق

                    • رشيد الميموني
                      مشرف في ملتقى القصة
                      • 14-09-2008
                      • 1533

                      #25
                      المشاركة الأصلية بواسطة غسان إخلاصي مشاهدة المشاركة
                      أخي الكريم رشيد المحترم
                      مساء الخير
                      هلا والله ، وحياك الله .........
                      هل وجدت في عشك الدافئ ماكنت تبحث عنه ؟ .
                      هل تحتاج لامرأة كي تحزن ؟ . أأنت صادق في ذلك ؟ .
                      الحزن يا صديقي يُورث الندم !!!!!!!!!!!! .
                      صدقت في إسقاطاتك لعصفورتيك الجميلتين ، فصداقة الكائنات الحية خير من صداقة الإنسان الذي نسي كل القيم والمُثل في متاهات التناقضات ، إلا ما رحم ربي !!!!!!!!
                      ومع ذلك :
                      الدنيا جميلة ، ومهما كان مُصاب الإنسان داميا فيجب أن يكون قويا .
                      تبقى الأسمى !!!! .
                      تحياتي وودي لك .
                      دمت بخير .
                      أخي الكريم غسان .. حياك الله و رعاك .
                      تعليق ولا أبهى .. وتحليل ولا أشهى ..
                      أعطيت لبوحي ما يستحقه و أكثر ..
                      هو دفء استمده من تواصلكم أخي و تجاوبكم مع نصوصي المتواضعة ..
                      ولي اليقين أنني بتشجيعكم سوف أستمر ..
                      الحزن يا أخي وإن كان يورث في بعض الأحيان الندم ، فإنه ملازم للإنسان .. لكنه يجب أن يكون حزنا مقرونا بالنبل و العزة .
                      شكرا لك أخي من كل قلبي .
                      تقبل محبتي .

                      تعليق

                      • رشيد الميموني
                        مشرف في ملتقى القصة
                        • 14-09-2008
                        • 1533

                        #26
                        (14)

                        [align=justify]
                        عند المنحدر إلى النهر تراءى لي كوخ خشبي وسط الأشجار الكثيفة في تلك المنطقة من الجبل .. وكأني كنت محتاجا للحظات أستريح فيها من عناء المشي طول النهار ، خاصة و أن الشمس كانت تميل نحو المغيب و قد ران على المكان سكون شامل .. أحس بالجوع يقرص معدتي فأقترب من الكوخ لأجلس على عتبته .. و أبدأ في تناول بعض الزاد .. ثم يتناهى إلي وقع حوافر آتية من وراء الكوخ .. ألتفت فأجد قطيعا من المعز يتوجه نحوي و في مؤخرته أقبل راع وهو يمسك بعصا غليظة شدت إليها صرة كبيرة .. استطعت أن أستشف من هيئته فقرا مدقعا وبؤسا .. حياني بأدب جم ثم دعاني إلى الداخل لأقاسمه ما يحمله من طعام .. بينما كان القطيع يدخل الزريبة بجانب الكوخ .
                        كان في أحد الأركان مصطبة على شكل سرير وضعت عليه أغطية و مخدة .. و في وسط الكوخ كانت حفرة مملتئة رمادا .. وبالقرب منه إبريق أزرق شابه سواد وكرسي خشبي مهترئ .
                        تحدثنا باقتضاب في البداية ، وعرفت منه أنه يشتغل عند أحد أعيان القرية ، ويقضي أسابيع هنا لرعي المعز ثم سألني عن وجهتي .. حدثته أنني أيمم شطر البحر للبحث عن شخص عزيز لدي .. وكنت أحسب أن بداوته تعني سذاجة و غفلة عن أمور الحب و العشق .. لكن ابتسامته بدت لي ذات معنى .. وهز رأسه كمن يريد أن يبين لي أنه فهم كل شيء . ضحكت فضحك .. أحسست أن الكلفة زالت بسرعة بيننا ، ونظرت إلى عينيه الحزينتين وتساءلت هل يكون الفقر وحده سبب هذا الأسى المطل منهما أم أنه مثلي يعاني من لوعة الحب و مرارة الفراق .
                        شكرت له ضيافته ونهضت أستعد للرحيل فقال :
                        - إلى أين تذهب في هذا الوقت ؟ .. ألا ترى أن الظلام قد حل ، و انك لن تستطيع تمييز الطريق ؟
                        نظرت من خلال الباب إلى الخارج فتبين لي صواب قوله .. لكن أين أبيت ؟ .. و كأنه عرف ما يجول بخاطري ، فأشار إلى المصطبة ثم رأيته يأخذ غطاء من فوقها و يفرشه في ركن آخر .. حاولت منعه ، لكنه أصر على أن أنام على مصطبته ..
                        جلسنا على عتبة الكوخ وقد ساد السكون التام .. يتناهى إلينا هدير النهر من بعيد لكن الليل بدا جميلا هادئا . لا أدري كيف بدأت أحدثه عن عصفورتي و خروجي للبحث عنها وتصميمي على العودة بها .. كنت متحمسا وأتحدث كأنني أراها قبالتي .. أما هو فكان يبتسم دون أن تفارق محياه تلك المسحة من الحزن .. وعلى حين غفلة سألته إن كان هو الآخر يحب .. تنهد طويلا و نظر بعيدا أمامه قائلا :
                        - أنا لست مثلك .. أنا قريب جدا ممن أحب .. أراها كل يوم حين عودتي إلى البلدة .. لكن دون الوصول إليها الدنيا بطولها وعرضها .. لا أمل لي .. لأنها ببساطة بنت السيد الكبير.. هي لطيفة معي لكني لا أرى إمكانية أن تكون لي يوما ما .
                        - وما الفرق ؟ .. أنت إنسان طيب و وشهم ..
                        - لاشك أنك تقرأ القصص الغرامية كثيرا .. أنا اقرأها أيضا رغم توقفي عن الدراسة . لكني أضحك لتلك النهايات الغبية .. أميرة تتزوج راعيا ؟ أنا فقير و أعلم بحالي و أرضى بواقعي .. أحب فتاتي لكني لا أطمع فيها ولا أحلم بأن تكون من نصيبي .. هنا أعيش فترة من السنة و هذا يجعلني أتغلب على ما أحس به من لوعة لأنني هنا أعيش وحيدا مستمتعا بما حولي من جمال وبهاء خلقه الله .. في بعض الأحيان أشكو حبي لقطيعي .. لا تضحك .. فهذه البهائم تمنحني قوة و أنا انظر إليها في تصرفها حسب غريزتها .. هل تعلم أني سميت معزة باسم فتاتي ؟ .. هي الأجمل بين المعز .. سأريك إياها غدا صباحا .. هيه .. لا تنس أنك ستكون في ضيافتي حين نصل .. أليس كذلك ؟
                        رفيقي مجهد .. يتثاءب فأطلب منه الإخلاد إلى النوم لأنني أعلم أنه يقضي النهار كله في مرافقة القطيع من قمة الجبل إلى هنا .. أنا أيضا متعب ، لكن ذهني متيقظ .. أريد أن أعيش الليل كما يحلو لي .. أن اسهره و أناجيه .. الليل فرصة لي كي أطلق العنان لأفكاري و أحاسيسي .. وها أنذا وحيد أحضن ليلي و يحضنني . أحملق في سواده فتتراءى لي جذوع الأشجار كأشباح لكنها لا تخيفني ، بل إن أقربها إلي تتمثل لي قامة محبوبتي الممشوقة ، وتبدو لي أوراقها كجدائل شعرها .. حتى شكل هذه الأوراق يشبه عيون الحبيبة حين تبتسم فيخيل إلي أنها تغمضهما .. ثم أرفع بصري إلى السماء فيبهجني سوادها و قد رصعته النجوم المتراصة في بهاء قل نظيره .. أشعر بها قريبة من رأسي وألمح شهابا يمر فأسبح بحمد الخالق وألهج بذكره .. وأذكر عشي فأحس بالحنين يغزو قلبي .. كيف هو الآن و كيف هي شجرتي ؟ وهل لا يزال البوم ، الحارس الأمين مرابطا في أعلاها ؟ وماذا حل بالعصفورة المسكينة ؟ ترى هل عاد إليها رفيقها ؟ ليته يفعل .. صرت أربط مصيره بمصير محبوبتي ..
                        البحر لم يعد بعيدا .. لم تبق إلى ثلاث منعرجات جبلية و أصل .. لهفتي كبيرة للوصول لكن رفيقي يلح علي بالمكوث عنده بمنزله ليلة أخرى ونحن ننحدر من وراء القطيع .. أنط من صخرة إلى أخرى ، و أقف على جرف أتملى بالوادي و قد تناثرت في أرجائه دورا و أكواخا .. أحس بحب جارف تجاه كل من يسكن تلك البيوت المستسلمة في حلم للربى وهي تكتنفها من كل جانب . أفتح ذراعي وأملأ رئتي الهواء فإذا بصدري ينتعش ببرودته .. حبور طاغ يعم جسدي فأطلق صيحة تردد صداها الجبال وأعود للعدو و النط هنا و هناك .. ثم حين أنتبه إلى أنني سبقت القطيع و راعيه بمسافة كبيرة أجلس لأنتظره ، أو أستلقي على ظهري و أغوص في الأعشاب الكثيفة تاركا إياها تدغدغ عنقي و أذني .
                        كانت المعزة التي حدثني عنها تسير في المقدمة وقد علق جرس حول عنقها .. حقا هي معزة جميلة بيضاء الحوافر و بعض الأجزاء من وبرها وقد تدلت من عنقها قلادتان زادتاها بهاء .. ضحكت في سري من رفيقي الذي يرى حبيبته في معزته ، ثم انتبهت إلى أنني كنت أرى محبوبتي في العصفورة الجريحة .. متى أراك أيتها الحبيبة ؟ و هل ستكونين في انتظاري لتتكلل رحلتي بالنجاح أم أنك سوف تستسيغين هذه اللعبة .. لعبة المطاردة ، لتشبعي نزواتك وغرورك ؟ .. متى ستبددين هذا الخوف الذي يعتريك كلما صرت قريبا منك ؟
                        أنا آت .. و سأصل إلى البحر عما قريب .. أكاد أتخيل صخب موجه من هنا .. و يتمثل لي وجهك وأنت تذرعين الشاطئ المقفر بعيدا لألحق بك .
                        [/align]

                        التعديل الأخير تم بواسطة رشيد الميموني; الساعة 29-12-2009, 17:05.

                        تعليق

                        • رشيد الميموني
                          مشرف في ملتقى القصة
                          • 14-09-2008
                          • 1533

                          #27
                          [align=justify]

                          (15)


                          كثيرا ما نخطئ في حق شخص لا نعرفه حق المعرفة فلا نعطيه حقه من العناية أو التقدير اللذين يستحقهما .. ونحس بشيء من التعالي تجاهه فقط لأنه يزاول مهنة أو عملا مهينا في نظرنا ..
                          رفيقي الراعي تشبث بي وكأنه كان على موعد معي في الغابة ، و أصر على أن أقضي معه بضعة أيام ليريني أشياء هامة حسب قوله .. خجلت أن أقابل حفاوته بالإعراض و الرفض رغم شوقي لمتابعة الرحلة و الوصول إلى حيث يسبقني قلبي محموما متلهفا للقاء عصفورتي والعودة بها سريعا إلى عشي الذي طال فراقي له .
                          وصلنا القرية قبل المغرب بقليل .. اشتد نباح الكلاب من حولنا لكنها ما لبثت أن تراجعت عند سماعها لصفير تعودت عليه من رفيقي و أقبلت تتمسح بساقه .. وجدت نفسي محاطا بفتية و فتيات ينظرون إلي بفضول وقد علا سحنتهم سواد من أثر الغبار و بقايا حلوى مذابة التصقت حول شفاههم .. شعر أشقر منفوش و ثياب رثة .. لكن العيون كانت تنطق بالحسن و الجمال .. عيون كبيرة زرقاء بلون السماء .. أحببتهم سريعا و ابتسمت لهم .. جذبني رفيقي إلى واجهة أخرى من المنزل تطل على منحدر سحيق يبدو في نهايته مسرى النهر .. أشار لي إلى غرفته فولجتها لأجد لمسة تنم على ذوق رفيع .. كل شيء مرتب ومنظم بكل عناية .. قصص و مجلات أخبرني أنه يقتنيها من أخ محبوبته الذي يزورالمدينة أحيانا . كانت لوحة تزين صدر الغرفة الصغيرة عند رأس السرير تمثل صبايا و شبان يلعبون على العشب . أبديت إعجابي بكل ما رأيته ثم خرجت إلى الباحة المطلة على المنحدر لأجلس منهكا بينما انصرف هو لإعداد الأكل .. مرة أخرى أجد نفسي وسط سكون ينفث في كياني حبورا و طمأنينة .. نقيق الضفادع يتناهى إلي من المروج القريبة .. لا شك أن منبعا هناك .. أحسست بالحركة من حولي فوجدت رؤوسا صغيرة تطل من النوافذ ومن الباب ومن فوق السطح .. من كل مكان .. ابتسمت من جديد و أشرت إلى أحدهم بالاقتراب ففر بعيدا .. أخبرني رفيقي أنهم غير متعودين على غريب هنا .. حدثته عن رغبتي في أن يشاركونا طعامنا فنهض و نادى عليهم ..كنت متشوقا للتحديق في عيونهم دون أن ادري لماذا .. أثار انتباهي تعامل رفيقي مع إخوته السبعة .. يربت على رأس هذا و يقرص خد هذه و يحتضن هذه و يتفحص ذاك .. ثم يبدا الأكل فلا أراه يضع لقمة في فمه .. كل همه أن يطعم الصغار كأنهم عصافير .. آه .. العصفورة .. محبوبتي .. العينين .. الآن عرفت لماذا أحببت عيونهم ..
                          رفيقي لا يأكل .. ينظر دائما إلى الأفق مفكرا .. حتى وهو في سهوه ، يمد بقطعة خبز إلى هرتين تموؤان بالقرب من المائدة الصغيرة المستديرة .. تقبل علينا الأم ببعض القناديل الغازية و بعض الشموع فأحييها و ألحظ كبر عينيها .. تتحدث إلى ابنها البكر بمودة ظاهرة وتحمل صبيا لها بدأ يتثاءب من النعاس فتسرع إحدى بناتها لإعانتها .. شملني شعور بالحنان و المودة تجاه هذه الأسرة .. كل ما حولها ينطق بالحب .. الحب في الوجوه .. في العيون .. في الكلام .. في الحركة ..
                          نهضنا نتمشى .. تعمد أن نمر أمام منزل كبير تدل زخرفته و شرفاته عن ثراء فاحش .. نظرت إلى شرفة ينبعث الضوء منها وانتبهت إلى رفيقي يختلس النظر ثم يولي وجهه صوب الوادي .. كانت لهفتي كبيرة في معرفة هذه التي أخذت بلب مضيفي .. لكني تيقنت أنها ستكون قمة في الجمال لأن ذوقه لا يمكن إلا أن يوفق في اختياره ..
                          أخبرته برغبتي في الذهاب إلى المنبع فغير الاتجاه نحو صف من أشجار العرعر المصطفة على تلة صغيرة .. السكون شامل .. خرير المياه يتعالى كلما اقتربنا من المنبع .. السواد يلف المكان فيصعب تمييز الطريق الذي نسلكه .. جلسنا على صخرة تشق الماء شقين فينساب من جانبيها . رفيقي لا يمل من الحديث عن آماله و مشاريعه .. وكلها تصب في الاعتناء بأسرته و رعايته لها .
                          كم أود أن اسأله عن عواطفه و ما سيؤول إليه حبه المستحيل .. لكني أتراجع كي لا أثير همومه .. كنت أحس بنبضه و لهفته في أن يتحدث عن تلك التي لا يأمل بالفوز بها . نسيت للحظة لهفتي و شوقي لمن أحب و انشغلت بهذا القلب الكبير الذي ينبض حبا و ينفث حبا .. مسحة الحزن التي تعلو محياه انتقلت عدواها إلي فصرت أغالب دموعي في غفلة منه .. أشار إلى ربوة تطل على المنبع و أخبرني انه يحلم بإقامة بيت صغير خاص به .. كم أغبطه على اختياره و ذوقه .. أحس بتشابه في طبائعنا .. شرد فكري إلى عشي المطل على الوادي هناك أيضا .. كم تمنيت لو تحققت آماله في الفوز بمن يحب ، وعلى حين غرة وجدت نفسي أسأله :
                          - ما المانع من أن تبني مستقبلك من الآن ؟
                          سكت ولم يجب .. هل أزيد في معاناته ؟ .. صمته يجيبني أنه لا يمكن أن يفكر في نفسه و ينسى إعالة أسرة تكتظ بالأفواه الجائعة .. كم يبدو لي كبيرا .. تعلو هامته أمامي حتى تطال الأشجار المحيطة بنا في صمت و جلال وكأنها تعيش مشاعرنا و تشاركنا معاناتنا .
                          لم أدر كم لبثنا نتحاور في صمت .. لكني وجدت نفسي بعد ذلك مستلقيا على سريره الخشبي المحاذي لكوة تطل على الباحة .. استويت جالسا و صرت أطل من الكوة محدقا في الظلام .. شعور طاغ يدفعني للرحيل في هذه اللحظة .. الوقت مناسب لكي أنصرف .. لكن كيف أفعل هذا دون أن أعلم رفيقي ؟.. حسنا سأنتظره حتى يبزغ الفجر ثم أستأذنه .. شعرت براحة لاتخاذ هذا القرار و لبثت أنتظر ..
                          قد يكون من الإطناب التحدث عن اللحظة التي استيقظ فيها رفيقي و ما تلا ذلك من جولة قصيرة عبر القرية .. لكني أجد نفسي الان منطلقا عبر الوادي حاثا الخطى نحو البحر ..
                          ستبقى ذكراك أيها الراعي في قلبي .. وستبقى لي رمزا للحب و الوفاء والقلب الكبير .. تعلمت منك الكثير .. سوف أعود يوما ما لأجدك فزت بمن تحب .. الحب لا يعرف المستحيل .. لا يعرف الفوارق .. سوف تجني ثمار صبرك و شهامتك ايها الراعي الأمين .. كم أحبك .. كم أحبك ..
                          أصعد مرتفعا دون أن أحس بأية صعوبة .. نفسي في سباق محموم مع الزمن .. قلبي يوجعني بلهفته في الوصول سريعا .. وما هي إلا خطوات عبر أشجار تعلو قمة الجبل حتى وجدت نفسي أشرف على البحر .. و أخيرا ..
                          هاهو البحر .. صفحة ملساء يمتزج بالسماء هناك في الأفق البعيد .. الشاطئ يمتد بعيدا حتى يلفه الضباب .
                          أخيرا وصلت .. فهل تكون هنا بداية النهاية .. ؟
                          [/align]
                          التعديل الأخير تم بواسطة رشيد الميموني; الساعة 03-01-2010, 17:24.

                          تعليق

                          • رشيد الميموني
                            مشرف في ملتقى القصة
                            • 14-09-2008
                            • 1533

                            #28

                            16
                            [align=justify]

                            كم مر من الوقت و أنا أتأمل صفحة البحرالمنبسطة أمامي إلى ما لا نهاية .. وكم لبثت ألتفت تارة إلى اليمين و تارة أخرى إلى اليسار محاولا أن أميز شيئا على الشاطئ المترامي الأطراف .. ولا أدري لم انقلب حماسي و بهجتي بالوصول إلى شعور بالانقباض و القلق . هل لأن نهاية الرحلة توشك على الانتهاء و أنني على موعد قريب مع الفوز بمحبوبتي و العودة بها ؟ أم أني أتخوف لاشعوريا من الرجوع مرة أخرى خالي الوفاض .. هل يكون ما أعيشه الآن من أمل مجرد سراب وحلم لا ألبث أن استيقظ منه ؟ لماذا أنا مسمر القدمين هنا في أعلى الجبل ولا أسرع في الانحدار إلى الشاطئ ؟ ثمة شيء لا أدري كنهه يحثني على الرجوع و الاكتفاءبالانتظار هناك في عشي .. لكن هذا سيكون دليلا على عجزي وربما جبني و ضعفي أمام الشدائد .

                            ربما كان لما وصلت إليه من اقتناع جعلني أمد الخطى نحو المنحدر .. صعب أن تجد الطريق بين كل هذه الأشجار و النباتات الكثيفة .. لكني ، مدفوعا بحدسي وحاسة مشاعري، أسير بخطى ثابتة نحو الأسفل .. يغيب عني البحر لحظة ثم يظهر لي قبل أن يختفي مرة أخرى .
                            تغوص قدماي في الرمل الناعم وأنا أتجه نحو البحر .. و أقترب حتى أحاذي موضع انكسار الموج .. في صوت انكساره نغمة شجية تزيد النفس وحشة و حزنا .. لو كنت هنا في غير هذه الظروف لكنت أسعد حالا بما أرى و بما أسمع .. لماذا يتراءى لي كل شيء حزينا الآن ؟ .. أقترب من أحد قوارب الصيد وقد مال قليلا إلى اليمين .. المجذافان بداخله .. لمحت اسما أنثويا على جانبه فحرك أشجاني .. ترى لمن يكون هذا القارب ؟ وهل يكون صاحبه يكتوي مثلي بلظى الحب ؟ هل ينعم بالقرب ممن يحب أم أنه أطلق على قاربه اسم معشوقته كما فعل صديقي الراعي الذي سمى عنزته باسم محبوبته؟
                            نزعت حذائي وتقدمت أكثر وسط الموج المتداعي على الرمال المبللة .. أنعشتني برودته . نبهتني صيحات بعض النوارس إلى ما أنا بصدده الآن .. ومع تلك الصيحات و انكسار الموجوجدت نفسي أترنم :
                            ستفتش عنها يا ولدي في كل مكان
                            وستسأل عنها موج البحر...
                            وتسأل فيروز الشطآن
                            ثم ، وبدون وعي ،انتقلت إلى مقطع آخر :
                            وسترجع يوما يا ولدي
                            مهزوما مكسورالوجدان
                            وستعرف بعد رحيل العمر
                            بأنك كنت تطاردخيط دخان
                            زاد انقباضي وشعرت بحاجة للبكاء .. أدرت ظهري للبحر ورنوت إلى أعلىالجبل ، هناك من حيث أتيت فبدت لي القمم موحشة بقتامتها . هل علي أن أعود كل تلك المسافة ؟ ما الذي جاء بي إلى هنا ؟ وما الذي أنتظره سوى أوهام و سراب .. أخذت أتمشى على الشاطئ المبلل .. أجمع بعض الصدفات أو بعض الحصى و أرمي به بعيدا كأنني أفرغ ما بصدري من ضيق .. وجدت راحة في السير وصوت الموج لا يزال يمتزج بصيحات النوارس .. وهناك حيث بدأ الضباب يتلاشى قليلا لمحت شبح عجوز محدودب جالسا القرفصاء بالقرب من مركبه وهو يصلح شبكته .. أخيرا وجدت من يؤنس وحدتي .
                            بادرني برفع يده قبل أن أبدأه بالسلام فأثر في ذلك وشعرت بعطف ومودة نحوه .. جلست إلى جانبه أراقبه في انكبابه على شبكته ولم أرد أن أشغله عما هو فيه . نحافته تثيرالشفقة و سمرته تكاد تصير سوادا .. لكن مظهره يدل على صلابة عوده .. تبادلنا بعض الكلمات وربما حدثته عن مأربي بطريقة ملتوية .. ابتسم و كأنه فهم تلميحي . ذكرتني ابتسامته بتلك التي ارتسمت على شفتي صديقي الراعي عند لقائنا في الكوخ .
                            أحسست بالدم يكاد يفور من وجنتي و غضضت ببصري و أنا أتلاعب بقصبة على الرمل .. سألته عن بعض الدور المتناثرة على أطراف الشاطئ وساكنيها فابتسم من جديد وطفق يحدثني عن كل بيت و ساكنيه حتى دب الملل إلى نفسي .. لم يكن في حديثه ما يثير الفضول .. لكنه وقبل أن ينتهي من عمله و ينهض بخفة أثارت دهشتي ، قال لي وهو يشير إلى الشاطئ :
                            - هذا من نعم الله .. كنز ولا كل الكنوز .. إن أحببت أن تفوز بالاستمتاع به أو بأي شيءآخر ، عليك بالقدوم فجرا وترقب طلوع الشمس ..
                            لم يكن في كلامه شيئا جديدا ، لكن شيئااستوقفني وتساءلت عما يعنيه بقوله "أي شيء آخر ؟".. نظرت إليه فوجدته يجمع الشبكة ويلقيها في المركب .. ثم قال :
                            - اليوم أنت ضيف عندي.. غدا سآخذك في جولة عبر البحرلترى صنع الخالق .. لا تبتئس .. كل شيء يهون .. هيا بنا .
                            كم أغبط هذا العجوز على تلقائيته و خلو ذهنه من كل مشاكل الدنيا .. لكن مهلا .. علمتني التجارب و إن كانت قليلة ، ألا أثق بالمظاهر .. من يؤكد لي أن هذا الشيخ لا ينوء بعبء ثقيل ؟ .. ألا يكون يضاهي صديقي الراعي فقرا و بؤسا رغم نشاطه و تفاؤله البادي على وجهه الذي غزته التجاعيد ؟
                            علي أن أعترف أن مبيتي عند الشيخ العجوز و خروجي صحبته بعدالفجر بقليل خفف عني وطأة ما كنت أحس به .. سهرنا أمام الموقد . كان الرجل يعيش وحيدا . لم اسأله عن أهله . كنت أستمع إلى حكايته وأجد في طريقة سرده متعة أنستني ما أنا فيه من غم .. صوت الموج يسمع جليا بالقرب من البيت . لكن لا شيء يرى في هذاالظلام الدامس .. كانت على المائدة الصغيرة شمعة تتوهج و على ضوئها كنت ألمحالتجاعيد على وجع العجوز وقد زادت عمقا ..
                            نسيت نفسي و نحن نمخر عباب الموج الهادرفي هذا الصباح الندي .. البحر صار هائجا لكنه ليس لحد الخطورة .. الرجل يجذف بحيوية منقطعة النظير و أنا في مقدمة المركب أجيل النظر في الأفق متفحصا ما يحيط حولنا منصخور تبدو كجزر صغيرة .. كدت أسأله عن وجهتنا لكن ترنيمته الجبلية ألزمتني الصمت .. خلت نفسي أمام عشي و البدويات يترنمن من بعيد ..
                            كانبكي ونبكي
                            ونطيح فدموعي
                            أيلي يا للا
                            ايلي يالعيلا
                            قوللي علاش كتبكي
                            قوللي علاش كتبكي
                            حبيبك دابا يولي
                            صرت أغالب دموعي و اخفي تأثري عن مضيفي .. لكنه لم ينتبه إلى ما كنت أعانيه .. واستمر المركب يشق الماء شقا و النهار يطلع رويدا رويدا .. حقا .. لقد كان على صواب حين تحدث عن الكنز .. لم أشعر قط بما أشعر به الآن من رهبة ممزوجة بالإعجاب لصنعة الخالق الباري .. كل شيء ينطق بالعظمة و الجمال .. البحر .. السماء .. الجبال التي تتراءى من بعيد .. الصخور الناتئة .. النوارس .. وأخيرا الشمس التيتشرق الآن .. بنفسجية اللون كبيرة القرص .. كل شيء يسبح .. كل شيء يبتهل .. يصلي .. يحب ..
                            الآن .. أرى المركب يدور على نفسه ليستقبل الشاطئ البعيد هناك .. الغارق في ضباب الصباح .. أنتبه من جديد إلى ترنيمة الشيخ و أنا أحدق في المدى البعيد .. أحس بالأشياء تتنفس مع تنفس الصبح .. شهيتي تتفتح .. لكن العجوز كان قد أعد لكل شيءعدته .. توقف عن التجذيف ليناولني رغيفا بالعسل و بيضا مسلوقا .. التهمته بلذة وبصري لا يحيد عن الشاطئ ، كأنني على موعد مع حدث قريب ..
                            والحدث القريب كان رؤية .. وفي هذه المرة كانت حقيقة .. أو هذا ما خيل لي ونحن نقترب من الشاطئ .. لأنني لمحت عند أقصى الجهة اليمنى ، حيث ينتهي سفح الجبل على شكل جرفسحيق ، شيئا يتحرك ، تحيط به هالة من البياض . دققت النظر فبانت لي هيئة غادة مستقبلة البحر وقد عبثت الريح بجدائل شعرها.
                            قلبي يخفق بعنف .. وصرت أحث العجوز في نفسي على الإسراع بالتجذيف ، وتمنيت لو كان لي مجذافا آخر لأزيد من سرعة القارب .. كدت القي نفسي في اليم لأسبح .. لكني تمالكت نفسي .. من تكون ؟.. هل هي .. ؟ ماأسعدني إذا تحقق حلمي أخيرا ؟ .. وما أشقاني إذا كان كل هذا حلما .. أو كانت الغادة ليست من أبحث عنها .

                            [/align]




                            التعديل الأخير تم بواسطة رشيد الميموني; الساعة 11-04-2010, 21:30.

                            تعليق

                            • خلود الجبلي
                              أديب وكاتب
                              • 12-05-2008
                              • 3830

                              #29
                              رغم غيابك
                              مازالت الحروف يسكنها الجمال والدفء
                              ربما تتجه الروح نحو الغروب
                              ولم يعد ل سطوع الفجر إغراء


                              سيدي الكريم
                              اهلاً بهذه العوده
                              تقديرُ عميق
                              لا إله الا الله
                              محمد رسول الله

                              تعليق

                              • رشيد الميموني
                                مشرف في ملتقى القصة
                                • 14-09-2008
                                • 1533

                                #30
                                المشاركة الأصلية بواسطة خلود الجبلي مشاهدة المشاركة
                                رغم غيابك
                                مازالت الحروف يسكنها الجمال والدفء
                                ربما تتجه الروح نحو الغروب
                                ولم يعد ل سطوع الفجر إغراء

                                سيدي الكريم
                                اهلاً بهذه العوده
                                تقديرُ عميق
                                الأخت الغالية خلود
                                ممتن لك على هذه الالتفاتة و أؤكد لك أن غيابي كان قسرا ولظروف قاهرة ..
                                أسعدني ثناؤك و آمل ان أبقى دائما عند حسن ذائقتك الأدبية الرفيعة ..
                                شكرا لك من كل قلبي .

                                تعليق

                                يعمل...
                                X