[align=justify]
لم أنتظر حتى يقترب القارب من الشاطئ ..فألقيت بنفسي في اليم و سبحت بضعة أمتار غير مبال بالبلل الذي أصاب ملابسي و تسرب الماء إلى جسمي .. وما أن وطئت قدماي الرمل حتى عدوت في اتجاه غادتي وقد زادت الهالة التي تحيط بها بياضا .. وفي لحظة توقفت لاهثا .. ماذا لو كان ما أرى مجرد سراب أو أضغاث أحلام ؟ .. لكن غادتي هناك ولم تختف .. بل زادت ملامحها وضوحا و أنا أخطو ببطء نحوها ..
تتثاقل خطواتي و أنا أقترب منها .. ما هذا الشعور بالخوف الذي اعتراني فجأة ؟ أليس هذا الذي كنت أحلم به ليلا و نهارا ؟ أليس هذا سبب فراقي لعشي ومغادرتي لشجرتي و ساكنيها؟
ماذا سأقول لها و كيف سيكون وقع مقدمي على نفسها ؟ .. لكن لم كل هذا التساؤل ما دامت هي التي أوحت لي بالقدوم إلى هنا ؟
جلست على صخرة بجانبها ولزمت الصمت بينما جسدي يقطر ماء .. ثم ، بعد لحظات من التردد سألتها :
- تأخرت ؟
لم أتلق ردا .. خطفت نظرة إلى وجهها الساهم نحو البحر .. يا إلهي كم زادت فتنة .. حتى في حلمي لم تكن هكذا .. ماذا ننتظر ؟ .. ولم أتيت ؟ لم هي صامتة ؟ ..
- ها أنذاجئت لآخذك معي .. أمامنا طريق طويل ووعر ..
أخذ وجهها يتحرك نحوي فاستبشرت خيرا .. تأملتني طويلا قبل أن تعود لتنظر إلى البحر .. مددت ببصري إلى حيث ترنو فلم أجد إلا موجا متلاطما و قوارب متفرقة هنا و هناك ..
- لم ستأخذني معك ؟
ما هذاالسؤال ؟ هل تريد اختبار عواطفي نحوها أم أنها متلهفة لسماعي أردد كلمات الحب والغزل ؟
- لأنك طلبت مني ذلك .. و .. لأني .. أريدك معي .
- وما الذي يجعلك واثقا من أني سآتي معك ؟
- ألا تريدين أنت ذلك ؟ .. لقد رسمت لي الطريق إليك ،وهاأنذا أصل إليك كما كنت أرجو ..
يعود الصمت من جديد بينما يعلو حفيف الرياح حتى يقوى فيصير هديرا .. تأخذني سنة و أنا أتملى بجدائل شعرها المتطاير حاجبا جانبامن وجهها .. فتتركه حتى ينزاح لوحده .
- اسمعي .. لقد تحملت الكثير كي أصل إلى هنا و أجدك .. أريد فقط أن أعرف هل ما فعلته كاف لكي تثقي في مشاعري أم أنك تفكرين في شيء آخر تجربين به هذه المشاعر .. يكفيك أن تسمعي إلى هذه الرياح و هي تهدر .. وإلى تمايل الأشجار هناك على إيقاعها .. انظري إلى تلاطم الموج و صخبه .. حتى الرمال تحولت نقعا يخفي الأفق ويحجب الرؤية .. ألا يعني لك هذا شيئا ؟ .. تذكري فقط أنك كنت تستلذين حكاياتي وهي تروي عن الرياح و الأمطار وتصف لك الوديان وقد اندفعت عبرها السيول .. هل نسيت الليل وما كان يحمله من أمطار و عواصف تزيده بهاء و روعة ؟.. كنت تلتصقين بي وقصف الرعد يكاد يهد الأرض ويدك الصخور فأحس بارتعاشك و أعمل جاهدا لكي تطمئني .. كنت أحدثك عن ثورة الطبيعة التي ما هي في الحقيقة سوى تناغم بين عناصرها و تعبير عن الحب و الألفة بينها .. وكنت أؤكد لك أن هذه الطبيعة ما هي إلا انعكاس لما يعتلج في نفسي تجاهك ..
إذا كنت قد نسيت هذا فأنا أذكرك به .. انظري إلى ذاك الطريق المنحدر من الجبل .. من ورائه تركت قلوبا يعصرها الألم والحزن ، لكنها تحب .. و نفوسا هدها الفقر و الفاقة لكنها تحب .. وغلفها اليأس ولم يعد لها أمل في الحب نفسه ، لكنها مع ذلك تحب و تتشبث بالحب ..
سأنهض الآن لأرتب شؤوني وأعود من حيث أتيت .. سوف ألازم الشيخ بعض الوقت ريثما أستعد .. وسأنتظرك .. لك الخيار في أن تلتحقي بي .. أو تبقين هنا حيث تشائين .. لكن لتعلمي أنني إذاغادرتك فلن أعود .. ولن أستجيب لأية دعوة للحاق بك سواء كان ذلك حلما أو يقظة .. لقد عملت ما كان يتوجب علي عمله .. سأقضي الليلة هنا وسأنصرف عند الفجر ..
الشيخ العجوز منكب على شبكته عند مدخل البيت .. أو على الأصح بالقرب من الكوخ .. انتبه إلى وقوفي أمامه صامتا فلم ينبس ببنت شفة .. تأملته قليلا ثم نظرت إلى البحر متحاشيا الجهة اليمنى حيث تركت غادتي في تأملها .. لهفتي كبيرة لمعرفة هل لازالت هناك لكني كبحت جماح نفسي وعدت لأحدق في البحر ثم في الشبكة الملقاة عند قدمي ..
- هناك شاي لا زالا ساخنا .. وخبز و سمن . كل و استرح .. جسدك في حاجة إلى الراحة .. ونفسك أيضا .
أثار قوله شجوني و دلفت إلى الداخل .. كنت جائعا لكني اكتفيت ببعض اللقيمات أسد بها رمقي ثم استلقيت على غطاء صوفي في ركن البيت و نمت ..
لا أدري هل كان هدير البحر يدوي كالمعتاد حين أفقت مرعوبا و قد أسدل الليل ستاره ، أم أنني تخيلت أن أركان البيت ستنهار علي .. كنت أحس كأن الموج لن يلبث أن يجرفني لشدة هديره وقربه الشديد مني .
الشيخ متكئ على جنبه اليمن يحدق في الشمعة المتوهجة و هي تتوسط المائدة الصغيرة .. انتبه إلى حركتي و أنا أستوي جالسا فابتسم قائلا :
- نمت كثيرا يا بني .. لكن لا تقلق .. النوم راحة .. لا زال الليل طويلا ..
فركت عيني محاولا تذكر ما مر بي خلال النهار ، فشعرت بانقباض وبحاجة للبكاء .. غالبت دموعي كي لا يلحظها الشيخ .. لكنه ظل يبتسم .. وقال وهو لا يزال ينظر إلى الشمعة كأنه يستوحي منها أفكاره :
- لا تجعل الهم يسيطر عليك و لا تسمح لنفسك بالاستسلام للكدر و الغم .. ماذا تساوي هذه الدنيا كي نحملها في قلوبنا ؟ .. لا شيء .. كل لحظة نقضيها مهمومين تنقص من عمرنا .. لا شيء يستحق الحزن ..
صوته رخيم هادئ .. يتغلغل في أعماقي و يشعرني بالأنس .. سألته :
- ألم تحزن قط في حياتك ؟ .. لا شك أنك كنت دوما سعيدا ولم يحدث لك ما يعكر صفوك ..
سكت طويلا حتى خلت أنني جرحت مشاعره بتذكيره بأشياء يحاول نسيانها .. وكأنما قرأ أفكاري فقال وهويبتسم دائما :
- أنا ككل إنسان .. سعدت و حزنت .. أحببت و كرهت وعانيت الكثير ..
نظرت إليه و كلي تساؤل ولهفة لمعرفة ماضيه .. وسأعلم فيما بعد أن هذه الليلة كانت منعطفا حاسما في ما يلي من الأيام بل في حياتي كلها .. فأصخت السمع ووهج الشمعة يزيد من رهبة الموقف .
[/align]
[align=center](17)[/align]
لم أنتظر حتى يقترب القارب من الشاطئ ..فألقيت بنفسي في اليم و سبحت بضعة أمتار غير مبال بالبلل الذي أصاب ملابسي و تسرب الماء إلى جسمي .. وما أن وطئت قدماي الرمل حتى عدوت في اتجاه غادتي وقد زادت الهالة التي تحيط بها بياضا .. وفي لحظة توقفت لاهثا .. ماذا لو كان ما أرى مجرد سراب أو أضغاث أحلام ؟ .. لكن غادتي هناك ولم تختف .. بل زادت ملامحها وضوحا و أنا أخطو ببطء نحوها ..
تتثاقل خطواتي و أنا أقترب منها .. ما هذا الشعور بالخوف الذي اعتراني فجأة ؟ أليس هذا الذي كنت أحلم به ليلا و نهارا ؟ أليس هذا سبب فراقي لعشي ومغادرتي لشجرتي و ساكنيها؟
ماذا سأقول لها و كيف سيكون وقع مقدمي على نفسها ؟ .. لكن لم كل هذا التساؤل ما دامت هي التي أوحت لي بالقدوم إلى هنا ؟
جلست على صخرة بجانبها ولزمت الصمت بينما جسدي يقطر ماء .. ثم ، بعد لحظات من التردد سألتها :
- تأخرت ؟
لم أتلق ردا .. خطفت نظرة إلى وجهها الساهم نحو البحر .. يا إلهي كم زادت فتنة .. حتى في حلمي لم تكن هكذا .. ماذا ننتظر ؟ .. ولم أتيت ؟ لم هي صامتة ؟ ..
- ها أنذاجئت لآخذك معي .. أمامنا طريق طويل ووعر ..
أخذ وجهها يتحرك نحوي فاستبشرت خيرا .. تأملتني طويلا قبل أن تعود لتنظر إلى البحر .. مددت ببصري إلى حيث ترنو فلم أجد إلا موجا متلاطما و قوارب متفرقة هنا و هناك ..
- لم ستأخذني معك ؟
ما هذاالسؤال ؟ هل تريد اختبار عواطفي نحوها أم أنها متلهفة لسماعي أردد كلمات الحب والغزل ؟
- لأنك طلبت مني ذلك .. و .. لأني .. أريدك معي .
- وما الذي يجعلك واثقا من أني سآتي معك ؟
- ألا تريدين أنت ذلك ؟ .. لقد رسمت لي الطريق إليك ،وهاأنذا أصل إليك كما كنت أرجو ..
يعود الصمت من جديد بينما يعلو حفيف الرياح حتى يقوى فيصير هديرا .. تأخذني سنة و أنا أتملى بجدائل شعرها المتطاير حاجبا جانبامن وجهها .. فتتركه حتى ينزاح لوحده .
- اسمعي .. لقد تحملت الكثير كي أصل إلى هنا و أجدك .. أريد فقط أن أعرف هل ما فعلته كاف لكي تثقي في مشاعري أم أنك تفكرين في شيء آخر تجربين به هذه المشاعر .. يكفيك أن تسمعي إلى هذه الرياح و هي تهدر .. وإلى تمايل الأشجار هناك على إيقاعها .. انظري إلى تلاطم الموج و صخبه .. حتى الرمال تحولت نقعا يخفي الأفق ويحجب الرؤية .. ألا يعني لك هذا شيئا ؟ .. تذكري فقط أنك كنت تستلذين حكاياتي وهي تروي عن الرياح و الأمطار وتصف لك الوديان وقد اندفعت عبرها السيول .. هل نسيت الليل وما كان يحمله من أمطار و عواصف تزيده بهاء و روعة ؟.. كنت تلتصقين بي وقصف الرعد يكاد يهد الأرض ويدك الصخور فأحس بارتعاشك و أعمل جاهدا لكي تطمئني .. كنت أحدثك عن ثورة الطبيعة التي ما هي في الحقيقة سوى تناغم بين عناصرها و تعبير عن الحب و الألفة بينها .. وكنت أؤكد لك أن هذه الطبيعة ما هي إلا انعكاس لما يعتلج في نفسي تجاهك ..
إذا كنت قد نسيت هذا فأنا أذكرك به .. انظري إلى ذاك الطريق المنحدر من الجبل .. من ورائه تركت قلوبا يعصرها الألم والحزن ، لكنها تحب .. و نفوسا هدها الفقر و الفاقة لكنها تحب .. وغلفها اليأس ولم يعد لها أمل في الحب نفسه ، لكنها مع ذلك تحب و تتشبث بالحب ..
سأنهض الآن لأرتب شؤوني وأعود من حيث أتيت .. سوف ألازم الشيخ بعض الوقت ريثما أستعد .. وسأنتظرك .. لك الخيار في أن تلتحقي بي .. أو تبقين هنا حيث تشائين .. لكن لتعلمي أنني إذاغادرتك فلن أعود .. ولن أستجيب لأية دعوة للحاق بك سواء كان ذلك حلما أو يقظة .. لقد عملت ما كان يتوجب علي عمله .. سأقضي الليلة هنا وسأنصرف عند الفجر ..
الشيخ العجوز منكب على شبكته عند مدخل البيت .. أو على الأصح بالقرب من الكوخ .. انتبه إلى وقوفي أمامه صامتا فلم ينبس ببنت شفة .. تأملته قليلا ثم نظرت إلى البحر متحاشيا الجهة اليمنى حيث تركت غادتي في تأملها .. لهفتي كبيرة لمعرفة هل لازالت هناك لكني كبحت جماح نفسي وعدت لأحدق في البحر ثم في الشبكة الملقاة عند قدمي ..
- هناك شاي لا زالا ساخنا .. وخبز و سمن . كل و استرح .. جسدك في حاجة إلى الراحة .. ونفسك أيضا .
أثار قوله شجوني و دلفت إلى الداخل .. كنت جائعا لكني اكتفيت ببعض اللقيمات أسد بها رمقي ثم استلقيت على غطاء صوفي في ركن البيت و نمت ..
لا أدري هل كان هدير البحر يدوي كالمعتاد حين أفقت مرعوبا و قد أسدل الليل ستاره ، أم أنني تخيلت أن أركان البيت ستنهار علي .. كنت أحس كأن الموج لن يلبث أن يجرفني لشدة هديره وقربه الشديد مني .
الشيخ متكئ على جنبه اليمن يحدق في الشمعة المتوهجة و هي تتوسط المائدة الصغيرة .. انتبه إلى حركتي و أنا أستوي جالسا فابتسم قائلا :
- نمت كثيرا يا بني .. لكن لا تقلق .. النوم راحة .. لا زال الليل طويلا ..
فركت عيني محاولا تذكر ما مر بي خلال النهار ، فشعرت بانقباض وبحاجة للبكاء .. غالبت دموعي كي لا يلحظها الشيخ .. لكنه ظل يبتسم .. وقال وهو لا يزال ينظر إلى الشمعة كأنه يستوحي منها أفكاره :
- لا تجعل الهم يسيطر عليك و لا تسمح لنفسك بالاستسلام للكدر و الغم .. ماذا تساوي هذه الدنيا كي نحملها في قلوبنا ؟ .. لا شيء .. كل لحظة نقضيها مهمومين تنقص من عمرنا .. لا شيء يستحق الحزن ..
صوته رخيم هادئ .. يتغلغل في أعماقي و يشعرني بالأنس .. سألته :
- ألم تحزن قط في حياتك ؟ .. لا شك أنك كنت دوما سعيدا ولم يحدث لك ما يعكر صفوك ..
سكت طويلا حتى خلت أنني جرحت مشاعره بتذكيره بأشياء يحاول نسيانها .. وكأنما قرأ أفكاري فقال وهويبتسم دائما :
- أنا ككل إنسان .. سعدت و حزنت .. أحببت و كرهت وعانيت الكثير ..
نظرت إليه و كلي تساؤل ولهفة لمعرفة ماضيه .. وسأعلم فيما بعد أن هذه الليلة كانت منعطفا حاسما في ما يلي من الأيام بل في حياتي كلها .. فأصخت السمع ووهج الشمعة يزيد من رهبة الموقف .
[/align]
تعليق