العش الدافئ - في حلقات -

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • رشيد الميموني
    مشرف في ملتقى القصة
    • 14-09-2008
    • 1533

    #31
    [align=justify]

    [align=center](17)[/align]



    لم أنتظر حتى يقترب القارب من الشاطئ ..فألقيت بنفسي في اليم و سبحت بضعة أمتار غير مبال بالبلل الذي أصاب ملابسي و تسرب الماء إلى جسمي .. وما أن وطئت قدماي الرمل حتى عدوت في اتجاه غادتي وقد زادت الهالة التي تحيط بها بياضا .. وفي لحظة توقفت لاهثا .. ماذا لو كان ما أرى مجرد سراب أو أضغاث أحلام ؟ .. لكن غادتي هناك ولم تختف .. بل زادت ملامحها وضوحا و أنا أخطو ببطء نحوها ..
    تتثاقل خطواتي و أنا أقترب منها .. ما هذا الشعور بالخوف الذي اعتراني فجأة ؟ أليس هذا الذي كنت أحلم به ليلا و نهارا ؟ أليس هذا سبب فراقي لعشي ومغادرتي لشجرتي و ساكنيها؟
    ماذا سأقول لها و كيف سيكون وقع مقدمي على نفسها ؟ .. لكن لم كل هذا التساؤل ما دامت هي التي أوحت لي بالقدوم إلى هنا ؟
    جلست على صخرة بجانبها ولزمت الصمت بينما جسدي يقطر ماء .. ثم ، بعد لحظات من التردد سألتها :
    - تأخرت ؟
    لم أتلق ردا .. خطفت نظرة إلى وجهها الساهم نحو البحر .. يا إلهي كم زادت فتنة .. حتى في حلمي لم تكن هكذا .. ماذا ننتظر ؟ .. ولم أتيت ؟ لم هي صامتة ؟ ..
    - ها أنذاجئت لآخذك معي .. أمامنا طريق طويل ووعر ..
    أخذ وجهها يتحرك نحوي فاستبشرت خيرا .. تأملتني طويلا قبل أن تعود لتنظر إلى البحر .. مددت ببصري إلى حيث ترنو فلم أجد إلا موجا متلاطما و قوارب متفرقة هنا و هناك ..
    - لم ستأخذني معك ؟
    ما هذاالسؤال ؟ هل تريد اختبار عواطفي نحوها أم أنها متلهفة لسماعي أردد كلمات الحب والغزل ؟
    - لأنك طلبت مني ذلك .. و .. لأني .. أريدك معي .
    - وما الذي يجعلك واثقا من أني سآتي معك ؟
    - ألا تريدين أنت ذلك ؟ .. لقد رسمت لي الطريق إليك ،وهاأنذا أصل إليك كما كنت أرجو ..
    يعود الصمت من جديد بينما يعلو حفيف الرياح حتى يقوى فيصير هديرا .. تأخذني سنة و أنا أتملى بجدائل شعرها المتطاير حاجبا جانبامن وجهها .. فتتركه حتى ينزاح لوحده .
    - اسمعي .. لقد تحملت الكثير كي أصل إلى هنا و أجدك .. أريد فقط أن أعرف هل ما فعلته كاف لكي تثقي في مشاعري أم أنك تفكرين في شيء آخر تجربين به هذه المشاعر .. يكفيك أن تسمعي إلى هذه الرياح و هي تهدر .. وإلى تمايل الأشجار هناك على إيقاعها .. انظري إلى تلاطم الموج و صخبه .. حتى الرمال تحولت نقعا يخفي الأفق ويحجب الرؤية .. ألا يعني لك هذا شيئا ؟ .. تذكري فقط أنك كنت تستلذين حكاياتي وهي تروي عن الرياح و الأمطار وتصف لك الوديان وقد اندفعت عبرها السيول .. هل نسيت الليل وما كان يحمله من أمطار و عواصف تزيده بهاء و روعة ؟.. كنت تلتصقين بي وقصف الرعد يكاد يهد الأرض ويدك الصخور فأحس بارتعاشك و أعمل جاهدا لكي تطمئني .. كنت أحدثك عن ثورة الطبيعة التي ما هي في الحقيقة سوى تناغم بين عناصرها و تعبير عن الحب و الألفة بينها .. وكنت أؤكد لك أن هذه الطبيعة ما هي إلا انعكاس لما يعتلج في نفسي تجاهك ..
    إذا كنت قد نسيت هذا فأنا أذكرك به .. انظري إلى ذاك الطريق المنحدر من الجبل .. من ورائه تركت قلوبا يعصرها الألم والحزن ، لكنها تحب .. و نفوسا هدها الفقر و الفاقة لكنها تحب .. وغلفها اليأس ولم يعد لها أمل في الحب نفسه ، لكنها مع ذلك تحب و تتشبث بالحب ..
    سأنهض الآن لأرتب شؤوني وأعود من حيث أتيت .. سوف ألازم الشيخ بعض الوقت ريثما أستعد .. وسأنتظرك .. لك الخيار في أن تلتحقي بي .. أو تبقين هنا حيث تشائين .. لكن لتعلمي أنني إذاغادرتك فلن أعود .. ولن أستجيب لأية دعوة للحاق بك سواء كان ذلك حلما أو يقظة .. لقد عملت ما كان يتوجب علي عمله .. سأقضي الليلة هنا وسأنصرف عند الفجر ..
    الشيخ العجوز منكب على شبكته عند مدخل البيت .. أو على الأصح بالقرب من الكوخ .. انتبه إلى وقوفي أمامه صامتا فلم ينبس ببنت شفة .. تأملته قليلا ثم نظرت إلى البحر متحاشيا الجهة اليمنى حيث تركت غادتي في تأملها .. لهفتي كبيرة لمعرفة هل لازالت هناك لكني كبحت جماح نفسي وعدت لأحدق في البحر ثم في الشبكة الملقاة عند قدمي ..
    - هناك شاي لا زالا ساخنا .. وخبز و سمن . كل و استرح .. جسدك في حاجة إلى الراحة .. ونفسك أيضا .
    أثار قوله شجوني و دلفت إلى الداخل .. كنت جائعا لكني اكتفيت ببعض اللقيمات أسد بها رمقي ثم استلقيت على غطاء صوفي في ركن البيت و نمت ..
    لا أدري هل كان هدير البحر يدوي كالمعتاد حين أفقت مرعوبا و قد أسدل الليل ستاره ، أم أنني تخيلت أن أركان البيت ستنهار علي .. كنت أحس كأن الموج لن يلبث أن يجرفني لشدة هديره وقربه الشديد مني .
    الشيخ متكئ على جنبه اليمن يحدق في الشمعة المتوهجة و هي تتوسط المائدة الصغيرة .. انتبه إلى حركتي و أنا أستوي جالسا فابتسم قائلا :
    - نمت كثيرا يا بني .. لكن لا تقلق .. النوم راحة .. لا زال الليل طويلا ..
    فركت عيني محاولا تذكر ما مر بي خلال النهار ، فشعرت بانقباض وبحاجة للبكاء .. غالبت دموعي كي لا يلحظها الشيخ .. لكنه ظل يبتسم .. وقال وهو لا يزال ينظر إلى الشمعة كأنه يستوحي منها أفكاره :
    - لا تجعل الهم يسيطر عليك و لا تسمح لنفسك بالاستسلام للكدر و الغم .. ماذا تساوي هذه الدنيا كي نحملها في قلوبنا ؟ .. لا شيء .. كل لحظة نقضيها مهمومين تنقص من عمرنا .. لا شيء يستحق الحزن ..
    صوته رخيم هادئ .. يتغلغل في أعماقي و يشعرني بالأنس .. سألته :
    - ألم تحزن قط في حياتك ؟ .. لا شك أنك كنت دوما سعيدا ولم يحدث لك ما يعكر صفوك ..
    سكت طويلا حتى خلت أنني جرحت مشاعره بتذكيره بأشياء يحاول نسيانها .. وكأنما قرأ أفكاري فقال وهويبتسم دائما :
    - أنا ككل إنسان .. سعدت و حزنت .. أحببت و كرهت وعانيت الكثير ..
    نظرت إليه و كلي تساؤل ولهفة لمعرفة ماضيه .. وسأعلم فيما بعد أن هذه الليلة كانت منعطفا حاسما في ما يلي من الأيام بل في حياتي كلها .. فأصخت السمع ووهج الشمعة يزيد من رهبة الموقف .
    [/align]
    التعديل الأخير تم بواسطة رشيد الميموني; الساعة 25-04-2010, 08:13.

    تعليق

    • رشيد الميموني
      مشرف في ملتقى القصة
      • 14-09-2008
      • 1533

      #32

      [align=center](18)[/align]



      [align=justify]أي إنسان هذا الذي يحدثني ؟ و أي قلب هذا الذي يحمل كل هذه الأحاسيس ؟ وأية نفس هذه التي تحملت كل هذا الذي اسمعه ولا زالت تعرك الأيام ؟
      على وهج الشمعة الآيلة للذوبان ، أرنو إلى وجه الشيخ وقد زاد نور الشمعة تجاعيده غورا وعمقا .. بدت لي عيناه ساهمتين وهو يروي ماضيه وكأنه يعيشه .. بل أحسست أنه في لحظة من اللحظات قد انتقل إلى هناك ولم يعد أمامي سوى جسد نحيل تكاد عظامه تنفر من تحت جلده ..
      -" أنا يا بني عشت كما يعيش كل إنسان .. تمتعت بكل شيء .. بالحب و بالألفة و المودة مع من جعلهم الله سندي في هذه الدنيا .. لن أحدثك عمن أحببت وقد صارت فيما بعد زوجتي .. ولن أحدثك عن صغاري الذين لم يسلم جزء من هذه الرمال من موطئ أقدامهم الصغيرة .. أحسست في يوم من الأيام أنني بلغت كل المنى و أني قد حزت كل الدنيا .. كم تغنيت بذاك الحب الذي حمل الكثير من الغزل .. حتى صرت شاعر المنطقة .. وتهافت علي الكثيرون يرومون سماع مقاطع مما أنظمه .. يا إلهي كم كانت رائعة .. سنوات قليلة عشناها كانت بمثابة دهر .. ثم .. "
      نظرت إليه مستفهما و قد تأججت لهفتي ، فاستطرد قائلا :
      " في أحد الأماسي ، جاءني الخبر المروع ..احتضن البحر أجسادهم .. كلهم .. فلم يترك لي ولا واحدا منهم يسليني في وحدتي و ينسيني فاجعتي .. انقلب المركب الذي امتطوه صحبة عمهم بعد أن ثارت الريح فجأة وعلا الموج فصار كالجبال .. "
      صمت ولم أسأله عن الباقي .. كنت أحس بالألم الذي يعصر قلبه و تمنيت لو أعتذر له عن إثارتي لهذا الموضوع ذي شجون .. لكني اكتفيت بالنظر إلى الشمعة ، بينما ظل هو متكئا على مرفقه وهو يعبث بملعقة صغيرة ينقر بها على المائدة الصغيرة ..
      هدير الموج يشعرني بوحشية البحر ويتمثل لي كغول يريد أن يبتلعني .. التفت صوب الباب .. فابتسم قائلا:
      -" أنا مثلك صرت أهابه بعد الحادث ، بل صرت أمقته و أخرج كل صباح أتوعده بقبضة يدي .. وربما فاض بي الكيل و صرت أنظر إلى السماء وقلبي يتأجج غضبا و حنقا .. فلا أجد في نفسي سوى ضعفا أمام جبروت الطبيعة و عجزا أمام قوتها .. فاستسلمت يوما للبكاء وأنا جالس على الشاطئ أنظر إلى الأمواج العاتية و كأنني أنتظر أن تحمل لي جسد واحدا ممن ابتلعتهم .. ثم عاودت البكاء في الليلة الموالية .. وشيئا فشيئا بدأت الطمأنينة تدب إلى نفسي .. صرت أرى الأمور بعين أخرى .. وقضيت أياما أذرع الشاطئ ذهابا و إيابا .. وأصعد الجبل حتى القمة فأنظر إلى حيث كنت فأجد كل شيء صغيرا تافها .. هناك علمت أنني أحمل نفسي ما لا طاقة لها به .. وأنني أقترف إثما عظيما بحزني و ثورتي .. وانتهيت إلى قناعة أن الله أعطاني فشكرت و نزع مني فعلي أن أحمد .. وبدلا من أن أنصب العداء للبحر الذي ابتلع أحبتي و للريح التي أهاجت تلك الأمواج ، صرت أكن لهما من الحب ما لم أشعر به من قبل قط .. و بدأت علاقة جديدة تربطني بالبحر و بموجه .. و أخذت الرياح تبعث في قوة و تصميما ..
      تتساءل كيف أعيش و لماذا كل هذا الضنى ؟ أعيش من البحر .. كل ما أقتات به يأتيني منه أو بسببه .. راودتني أفكار سوداء في البداية لكني نجحت في إبعادها عن ذهني .. وها أنذا الآن أعيش لكن ليس من أجل نفسي فقط ، بل لأجل كل وحد و كل شيء .. البحر صار رفيقي و الرمال مقعدي .. الأسماك و الطحالب و الصدف أنسي .. هناك فتيان و رجال يقدمون بين الفينة و الأخرى لأعلمهم مهارة الصيد .. الصيد يعلم الصبر يا بني .."
      كنت أستمع إليه ساهما كأنني تحت تأثير سحر أو منوم .. ولم أشعر إلا وهو يسألني فجأة :
      - ترى لماذا – برأيك – حكيت لك كل هذا .. وقد آليت على نفسي ألا أسر به لأحد ؟
      ولما لم أحر جوابا ، تابع حديثه :
      - كنت سأتصرف بأنانية لو تركتك تتخبط في معاناتك و يأسك .. وخفت أن يستبد بك اليأس إلى ما لا تحمد عقباه فتخسر كل شيء .. هكذا تعلمت من محنتي .. أنت في مقتبل العمر يا بني ولا يجب أن تستسلم للقنوط عند أول عقبة أو تجربة .. نفسك صافية وقلبك طيب ما دمت تحب .. لا تحصر حبك في زاوية مغلقة .. اتركه يعشش و يفرخ و يطير .. اجعل حبك يحضن كل شيء .. انظر حواليك يبد لك كل شيء جميلا ينطق بجمال خالقه .. أنت قطعت المسافات و جبت الجبال و الوديان وأتيت هنا مشبعا بالآمال .. لكني أراك محبطا وحزينا .. وهذا ظلم لنفسك ولقلبك .. عد من حيث أتيت أو ابق معي إن شئت .. لكن أطلق العنان لمشاعرك تسبح في ملكوت الله .. واجعل حبك بعيدا عن كل نزوة طارئة ..وإذا كان شيء مقدرا في الغيب ، فسوف يكون حتما رغما عنا .."
      أستطيع القول أنني – و أنا الآن في طريق عودتي – أشعر كأنني أفيق من حلم أو أنني لا زلت أحلم .. لكن القوة التي أحس بها و الهدوء الذي تسلل إلى نفسي تجعلني أخطو بتؤدة بعد أن كنت أتلهف لطي المسافات كي اصل إلى عشي بأسرع وقت ممكن .. الآن ، صار كل ما حولي عشي ، بل أعشاشا متناثرة هنا و هناك تنتظر مني لمسة حنان أو نظرة ود .. حقا ، لا أنكر أنني ألتفت أحيانا ، رغما عني ، إلى الوراء متوقعا أن يتبعني طيف تحفه هالة بيضاء .. وقد أحسب حفيف الريح هفهفة أو جدائل شعر ..
      أصعد الجبل المطل على البحر وصدري يزيد انشراحا .. الأشجار تقف أمامي مصطفة كأنما تحييني و تعبر عن امتنانها لنظرتي الودودة إليها .. حتى العصافير التي انطلقت في ذلك الصباح الندي كانت تحوم حولي منتشية بما علا محياي من بشر و إشراق .. حاولت تمييز عصفورتي الجريحة بينها أو رفيقها الغائب فلم أفلح .. يا إلهي كم أنا مشتاق لعشي و شجرتي و عصفورتي التي هناك .. كم هي لهفتي كبيرة لمعانقة الربى من جديد و مجالسة الجداول والشرب من المنبع الصافي .. و الركض بين الوديان المكسوة بالغابات الكثيفة .
      على قمة الجبل أنظر .. إلى هناك .. حيث الكوخ الصغير و المركب المائل على الرمال .. يبدو لي شيء يتحرك ، فيتحرك قلبي معه .. ويطغى حبي له فتدمع عيني رغما عني ..
      وداعا أيه الشيخ الجليل .. قد يكون وداعي لك أبديا ، وقد تسعفني الأقدار في لقياك و التملي بمحياك .. وداعا أيها الشاطئ الطيب .. سوف أعود يوما لأستلقي على رمالك و أنعم بمياه بحرك ..
      الآن .. كل شيء اختفى عن بصري .. فلم أعد أرى إلا الجبال تحف بي من كل جانب .. هناك طريق يمتد إلى اليمين .. هل أسلكه و أعرج على منزل صديقي الراعي لأطمئن عليه أم أن لهفتي لمعانقة عشي ستدفعني لأحث الخطى كي اصل سريعا ؟[/align]



      </i></b></i>

      تعليق

      • رشيد الميموني
        مشرف في ملتقى القصة
        • 14-09-2008
        • 1533

        #33
        19


        [align=justify]
        هل حقا كان حديث الشيخ كافيا لكي يجعلني أنظر إلى الأمور بطريقة مختلفة و أصرف النظر عن كل شيء أم أنني فقط كنت أغالط نفسي وأتجاهل مشاعري الدفينة التي استطعت كبتها لفترة ؟ ..تساؤلي هذا ظل يلح علي و أنا أوغل في الغابة التي تغطي الجبل بكثافة فلا تسمح برؤية أي شيء .. إلا إذا اعتليت صخرة من الصخور الناتئة هنا وهناك ..غير أني مع تجاهلي لأحاسيسي المكبوتة ، كنت لا أمنع نفسي من الالتفات بين الفينة و الأخرى متوقعا أن أرى غادتي تسرع الخطى لتلحق بي .. فينتعش صدري و تتأجج أحلامي .. بل إني كثيرا ما تمنيت أن أكون حالما لأستيقظ و أجد نفسي متجها نحو البحر لألتقي بها هناك على الشاطئ و أعود بها .. وربما نسيت أو تناسيت أنها لم تغب عن ذهني قط .. فكان كل جذع شجرة يذكرني بقوامها فأهرع إليها ألقي بنفسي عليه و أحضنه بكل ما أوتيت من قوة ، وكانت كل حركة من أوراق العرعر و الصنوبر تحيل ذاكرتي إلى شعرها المتموج مع الرياح .. بل كثيرا ما استلقيت على ظهري وسط حقل من حقول الذرة التي تتوسط الغابة و أوراقها تداعب وجهي .. وكل حفيف لهذه الأوراق كان يجعلني أنتشي كأنما كنت استمع إلى أنفاسها وهي تهمس في أذني ..
        الآن تأكدت أنني لن أنساها و لن أتخلى عنها .. فهل أعود أدراجي و أنحدر من جديد إلى الشاطئ ؟ .. حائر أنا وسط هذه الغابة .. لا يجيبني سوى رقرقة مياه جدول صغير ينساب بين الأعشاب .. يتناهي إلي نباح كلب فيخفق قلبي طربا .. معنى هذا أن أحد الرعاة قريب مني .. وربما يكون رفيقي .. يا إلهي كم اشتقت إليه و لنظرته الحزينة .. في نفسي شوق كبير لمعانقته و مبادلته الحديث .. أحس بلهفة لمعرفة كل شيء عنه و عن محبوبته ، أو ربما كنت أنا في حاجة لأنفس عن صدري ما يعتلج فيه من مشاعر القنوط و الأمل ..
        وعلى غير وعي مني ، سلكت طريقا يؤدي إلى الكوخ .. ممنيا النفس بلقاء الراعي الطيب .. وشعرت في لحظة أن مجرد اللقاء به و محادثته سيعيد إلي البسمة التي افتقدتها منذ مدة ..
        أقفز بين الصخور و أمد يدي لألمس بعض الأغصان المتدلية نحوي كأنها تحييني .. وأنزع حذائي و أمسكه بيدي ثم أشمر عن ساقي و أعدو وسط الجدول فأثير رذاذا حتى يبلل ركبتي .. منذ متى لم أحس بكل هذه السعادة دون أن أدري مبعثها ؟.. هناك إحساس دفين يتردد صداه في قلبي ممنيا نفسي بشيء تشتهيه و تتلهف إليه ، و إلا فما هذا الحبور المفاجئ الذي غمرني وأنا الذي كنت لساعات فقط فريسة القنوط و اليأس ؟
        انقلب كل شيء رأسا على عقب .. وصرت أتخيل ما أتمناه و أحلم به قاب قوسين أو أدنى مني ..
        عرفت الآن أن حبي لغادتي لم يتغير قيد أنملة .. بل زاد تأججا .. و إنما كانت مغادرتي لها وهي على الشاطئ مجرد انفعال ليس إلا .. بل كان لا وعيي يتوقع أن أجدها من ورائي تقتفي أثري .. هل كان ذلك غرورا مني ؟ .. ربما .. ولكني متيقن الآن أنني متلهف إليها و غير مبال بصدها أو وجومها .. قد أكون أخطأت في عدم الإنصات إليها إلى آخر المطاف .. وكان علي الصبر و الأناة لمعرفة كل شيء .. تسرعي أفسد كل شيء وفوت علي فرصة الاطلاع على حقيقة تصرفها معي .. هي ولا شك قلة تجربة لي في مجال العواطف .. وانعدام خبرة في عالم المرأة .. كم كان الشيخ العجوز يتكلم عمن أحب بثقة رغم أنه لم يحدثني طويلا عنها .. ترى كيف كان حبه وطريقة تعامله معها قبل و بعد الزواج بها ؟
        الأسئلة تتضارب في ذهني و أنا أشرف على الكوخ .. لا أحد هنا .. لكن قشور البرتقال عند الباب و تناثر بعض قنينات العصير تنم عن تواجد رفيقي منذ لحظات قليلة هنا .. سأحث الخطى لأدركه قبل أن يصل إلى بيته .. حتى يتسنى لي التحدث إليه بكل حرية ..
        - فعلت حسنا بعودتك ..
        التفت إلى مصدر الصوت لأجده واقفا غير بعيد واضعا عصاه خلف رقبته وقد وضع كلتا يديه عليها .. قهقهت عاليا و أسرعت إليه أضمه قائلا :
        - ألا يمكن أن تتركوا أحدا يرتاح من خلقتكم أيها الرعاة ؟
        قهقه بدوره وهو يربت بشدة على ظهري وقال :
        - ألا يمكن أن تريحوا الغابة و أهلها من إزعاجكم أيها المتطفلون ؟ ..هيه.. قل لي أيها العاشق الولهان .. ماذا تم من أمرك ؟ وأين الأمانة التي ذهبت لتأتي بها ؟
        - بل أنت حدثني عن الأميرة ابنة ولي نعمتك .
        - هي هناك تنتظر عودتي على أحر من الجمر .. و أنا أتدلل لأصل متأخرا ..
        ضحكنا معا و انحدرنا حيث كان القطيع يتجمع ليأخذ وجهة البلدة الصغيرة وقد أخذ المساء يتلون بصفرة بهيجة .. صفرة كانت ستبعث في نفسي انقباضا لو كنت في موقف غير هذا ..
        صديقي الراعي يعيش الحلم كما أعيشه .. بل إن حلمه أقرب للغرابة .. كدت لا أصدق ما رواه لي عن أن فتاته متعلقة به لولا معرفتي بصدقه و سلامة طويته .. كيف ؟ .. هذا ما حدث .. صار يجدها لدى عودته من المرعى خارج البلدة متذرعة تارة بالتنزه ، وتارة بالبحث عن عنزتها المدللة ، و أحيانا بانتظار عودة أبيها من السوق الأسبوعي فيحييها و يلحظ حمرة وجنتيها .. ثم صارت تبحث عنه لتشكو إليه مرض عنزتها أو هروب جدي من الحظيرة حتى صار يشك في أنها هي التي أطلقت سراحه ..
        صديقي لا يبدو عليه أنه سعيد بهذا التحول لدى محبوبته .. بدا لي رزينا وهو يحدثني بتلقائية عما حدث ..
        - ها قد نلت المبتغى .. ماذا تريد أكثر من هذا ؟
        - أي مبتغي يا أخي ؟ .. هل أنساق مع عواطف فتاة لا تعرف من الحياة شيئا ؟ .. حسنا هي تحبني و لا يمر يوم دون أن تأتي لتراني .. وبعد ؟ .. هل تظن أن كل شيء انتهى ؟ .ز ألا ترى وضعي ووضع أسرتي المتأزم ؟.. لا وقت لي للحب .. رغم أني أعيش هذا الحب .. لكني لا أتركه يبدو للعيان .. ولن يرى النور حتما .. فمثلي لم يخلقوا إلا للشقاء و الضنك .. لكن الحمد لله على كل حال و أنا راض بما قسمه الله لي .
        - لا تيأس .. الله قادر على تغيير الأحوال .. و أنت شاب طيب وشهم ..
        حديثنا لم ينته ونحن نلج من جديد البيت ليستقبلنا الإخوة وقد انتفى عنهم الشعور بالرهبة التي انتابتهم في المرة السابقة .. بل و أقبل أصغرهم مادا يده إلي بتفاحة لم يبق منها سوى القليل ..
        من جديد أجد نفسي أمام مشهد يزخر بالحب رغم البؤس .. لا شكوى و لا زجر و لا تذمر .. وكأن الكل عرف ما له و ما عليه .. حتى الصغار تصرفوا و كأنما حفظوا دورا أملي عليهم .. والأب الذي لم يتسن لي لقاءه سابقا بدا لي أهدأ من الجميع .. كثير التأمل .. لا تفارق البشاشة وجهه .. كان يأمر دون أن يتكلم و ينهى بدون إشارة .. بينما زوجته تصول و تجول بين الحجرات ومن خارج البيت إلى داخلة في حركة لا تعرف الكلل ولا الملل .. تبدو كخادمة ، لكنها محور كل شيء .. تشبه زوجها في أمره و نهيه دون أن يصدر عنها صوت ..
        أتى دوري لأشبع فضول صديقي .. و أحدثه عن غادتي وعن الشيخ و ما جرى على الشاطئ .. لم يقاطعني و إنما اكتفى بهز رأسه و الابتسام كعادته .. ولم أجد حرجا في الحديث بعفوية .. وشعرت بحماسي يزداد مع ازدياد أملي في أن يتغير كل شيء دون أن أعرف كيف و متى .. كل ما أدريه هو أن عودتي هذه لا بد و أن تتكلل بما يسر .. وأن مفاجأة تنتظرني في عشي .. فهل كان تلكئي في الوصول بعد أن كنت أتحرق شوقا لمعانقة أشيائي العزيزة هناك ، مبعثه الخوف من خيبة الأمل ، أم لتمديد فترة الاستمتاع بهذه الطمأنينة التي تشملني أطول وقت ممكن ؟ ..
        في بعض الأحيان يعتريني شعور أنني سأجد هذه المفاجأة في عشي أو في طريق عودتي ، بل أحس أنها قريبة مني وتحوم حولي كلما خرجت مبتعدا عن بيت صديقي ..
        اليوم نحن على موعد مع باقي الرعاة لنتغذى في قمة الجبل .. أسر لي صديقي أننا حين نعود سوف أرى محبوبته في انتظاره .. وهذا ما أجج فضولي .. سأرى أخيرا تلك التي سلبت قلب الراعي الطيب .. وصرت منذ الآن أقارن بينها و بين غادتي رغم أني لم أر الأخرى قط .. لكن خيالي دائما ما يسرح بعيدا ..
        [/align]
        التعديل الأخير تم بواسطة رشيد الميموني; الساعة 06-05-2010, 15:55.

        تعليق

        • رشيد الميموني
          مشرف في ملتقى القصة
          • 14-09-2008
          • 1533

          #34

          20



          [align=justify]في هذه اللحظة و أنا وسط الرعاة نتحلق حول قصعة حوت أرنبا بريا ومرقا و بطاطس ، نسيت كل شيء واندمجت في حديث تقطعه بين الفينة و الأخرى قهقهة أو ترنيمة .. جو ممتع و بعيد عن كل كلفة و كأننا أصدقاء من عهد بعيد .. وأجمل ما انتبهت إليه هو خلو الحديث من أي تعريض بأحد أو الشماتة به حتى وهو يبتعد عنا بحثا عن الماء أو حطب لتبقى النار مشتعلة .. الكل يترنم بأغنيته ، بل يكمل ما بدأه صاحبه وكأنهم يتناوبون في نظم قصيدة غزل .. وأتساءل في صمت : هل يعيش كل واحد من هؤلاء البسطاء الطيبين حكاية حب مثلي ومثل رفيقي ، أم أن ترنيمتهم عفوية تنطق بها سجيتهم البدوية الميالة للحب العشق العذري البريء ؟ بيد أني ما لبثت أن عدت إلى واقعي وهاجت في لحظة أشجاني فأبديت لصاحبي رغبتي في العودة إلى البيت متعللا بالتعب .. نظرته إلي توحي بأنه فهم ما أحس به فنهض ينفض يده و ينتزع ما علق بين أسنانه من لحم بواسطة أعواد رقيقة كان يشذبها بعناية و نحن جالسون قبل الغذاء ..
          ألقينا التحية على الباقي من الرعاة ثم انحدرنا نحو البلدة التي كانت تبدو لنا من بعيد بدورها القليلة المتناثرة . الأصيل يزيد من هيبة الطبيعة وهي تستعد لمفارقة الشمس الجانحة نحو المغيب .. لم نقل أية كلمة .. وقع خطواتنا يبدو رتيبا وسط هذا السكون الشامل .. ما الذي يفكر به صديقي ؟ هل يشاركني ما أحس به من لوعة أم أنه غارق في معاناته التي لا يرجو من ورائها شيئا ؟
          تمر بنا مجموعة من الغيد وهن يحملن جرارا ملأنها بالماء عند المنبع .. يطرقن وقد اضطربت خطواتهن ، حتى إذا ابتعدن تناهت إلينا ضحكاتهن .. كنت متلهفا للتحديق في أية واحدة منهن لعلي أجد من يحبها رفيقي، لكن إعراضه و اكتفاءه بالرد باقتضاب على تحيتهن أوحى لي أنها ليست بينهن . بصره شاخص نحو المنعرج المؤدي إلى المنبع وقد بدا الطريق كدرب وسط صفين من أشجار السنديان ..
          - هل نستريح قليلا ؟
          أجبت بحركة من رأسي .. فصعدنا على تلة بجانب الطريق وهي تشرف من جهة على المكان الذي مرت به الفتيات منذ قليل و من الجهة الأخرى على البلدة .. و أمامنا امتدت المروج بعيدا حتى سفح الجبل الجاثم على شكل هرم و قد غطته الغابات كليا .. مرور القطعان لا ينتهي عند أسفل التلة ، وفي كل مرة أجد نفسي أرد بالتحية على صاحب القطيع وقد بدا التعب على وجهه .. بينما كان صديقي يرد على استفسار البعض عن ولادة عجل أو مرض بقرة ..
          ومع أفول آخر شعاع من الشمس ، لمست حركة لا إرادية من رفيقي ، فوجدته يلتفت نحو المنبع .. هناك انبرت فتاة متوسطة الطول .. تمشي الهوينى وهي تترنم ببعض الأهازيج المعروفة في المنطقة .. ابتسمت في سري و أنا أحدق في صديقي وهمست له :"شمس تغيب و شمس تشرق.." .. ابتسم رغم شروده ، وحول بصره نحو الجبل بينما تتبعت أنا خطوات الغادة المقبلة نحونا وملامحها تزداد وضوحا .. شرد ذهني وزادت دقات قلبي .. يا إلهي .. لولا أني تركت غادتي هناك على الشاطئ لخلت أنها هي بلحمها ودمها .. نفس العينين .. نفس الشفتين .. نفس القوام الذي أبرزه تمنطقها بمنديل مخطط بالبيض و الأحمر.. حتى الشعر المطل من تحت شاشيتها العريضة ينم عن غجريته .. حتى مشيتها كانت تحاكي مشية غادتي و تضاهيها رشاقة .. هل يمكن أن يكون التشابه إلى هذا الحد ؟
          أيقظني صوتها وهي تحيي رفيقي وقد بدت على محياها علامات الانزعاج ، ربما من تواجدي .. هل كانت تمني نفسها بلقائه وحيدا لتعترف له بشيء ما ، فجئت أنا وأفسدت كل شيء ؟ .. حز في نفسي أن أكون سببا في إفلات مثل هذه الفرصة وتفويتها على محبين .. لكن صديقي هو الذي أتى بي إلى هنا لأراها .. فلا مجال للوم النفس .
          رد التحية عليها باقتضاب ، ثم قال :
          - ألا تحيين ضيفنا ؟ ..
          - مرحبا بالضيف الكريم .. على الرحب و الساعة .. هل هو باق هنا مدة أطول ؟
          نظر إلي صديقي فارتج علي ولم أدر ما أجيب لشدة وقع أثر صوتها علي، لكني استطعت بعد جهد جهيد أن أقول :
          - سوف أغادر البلدة غدا إن شاء الله ..
          - هل أعجبتك منطقتنا ؟ ..
          - بلدتكم جنة ..
          ضحكت فزاد اضطرابي ، ثم توجهت بالحديث إلى الآخر :
          - هل التقيتم بأبي ؟ .. لن يتركه يرحل قبل ثلاثة أيام من الضيافة .. و أنت تعرف هذا .. لن يسامحك ..
          أجاب صديقي بالنفي وقد علت الحمرة وجنتيه .. أضحكني موقفنا و اضطرابنا أمام غادة في مقتبل العمر.. وعذرت لصاحبي ذلك .. لكن ماذا علي أنا ؟ .. وما سبب ارتباكي ؟ ..
          غادرتنا الفتاة و نحن نحدق تارة فيها .. نتابع خطواتها كالبلهاء .. وتارة نحدق في بعضنا البعض .. كنا واقعين تحت ما يشبه السحر .. وفي لحظة انفجرنا ضاحكين ونحن نشد على يدي بعضنا بشدة .. وقلت :
          - معذور و الله يا صديقي .. كنت أعرف أنها رائعة لكني لم أكن أتوقع مثل هذه الروعة ..
          - حقا ؟ .. ولكن .. كما ترى .. لا أمل .. أعيش على الوهم و أعرف أنه وهم ..
          أردت أن أذهب عنه ما اعتراه من غم فقلت ضاحكا :
          - حسنا .. مادمت تعرف أنه وهم و بما أني فشلت في أقناع غادتي بمرافقتي .. فأنا الأولى بها الآن ..
          التفت إلي شاردا وهو يبتسم قائلا :
          - حقا .. لقد لاحظت سهومك و أنت تنظر إليها .. ما الذي جذب اهتمامك ؟
          أربكني سؤاله و خشيت أن اذهب أفكاره بعيدا فقلت :
          - غادتك رائعة يا صديقي .. وقد وجدت تشابها بينها و بين غادتي .. وأنا أرى في هذا فألا حسنا في ما ينتظرني هناك في عشي .. هل أصارحك بشيء ؟
          - قل ..
          - لدي إحساس بأنك ستفوز بها .. كل الشروط متوفرة .. و أهمها حب الفتاة لك .. المهم أن تعرف كيف تتصرف لتحقق أمنيتك و تذهب عنك هذا الإحساس باليأس الملازم لك .. قم و انفض عنك غبار القنوط وافتح ذراعيك للدنيا .. و أطلق عصافير حبك تصدح شدوا .. واترك الأمل و التفاؤل يغزوان قلبك .. تفاءل بكل شيء واعلم أن ما قدره الله سيكون شئت أم أبيت ..
          هل كنت أحدث نفسي عبر صديقي .. هذا ما بدا لي وأنا أسترجع ما قلته حين أطفئت الشموع وأخلد الجميع إلى النوم .. بقيت جالسا على حافة السرير الخشبي أتطلع إلى الكوة وقد ساد الظلام و ازداد حلكة مع اقتراب السحر .. كنت أتخيل البدوية مارة قرب البيت وهي تتطلع إلي بعينيها النجلاوين .. فتصيبني رعشة و أهم بسؤالها .. عماذا أسألها ؟ .. هل تعرفين فتاة تشبهك و تقيم على الساحل ؟ .. يا له من سؤال غبي ؟ .. ستكتشف أنني أسألها فقط لمجرد السؤال أو لغاية ما بنفسي ..ما الذي حدث لي ؟ ..هل أكون وقعت بشركها ؟ هذا محال .. لأني لا زلت أهفو إلى الشاطئ و من تلازم الشاطئ .. هل يكون لتشابهمها سببا في تعلقي بغادة رفيقي ؟ .. هذا محتمل .. لكنه تعلق بالأخرى عبر هذه .. صرت أتفلسف وقت السحر .. هل ينتهي بي كل هذا إلى الجنون ؟
          الفجر يبزغ و أنا أنظر عبر الكوة إلى الخارج الذي بدأ يتنفس على وقع نور الصباح .. تبدأ حركة العصافير و زقزقتها إيذانا بعودة الحياة إلى إيقاعها المعتاد .. و تصدح الديكة في تناد متواصل .. ليسمع وقع حوافر القطعان و هي تخرج للمرعى .. تدب الحركة في البيت وتملأ خياشيمي رائحة القهوة و البيض المقلي ..
          أجلس مع الأسرة وأجيل النظر عبر أنحاء البيت ثم أتطلع إلى ما يحيط به كأني ألقي نظرة وداع أخيرة .. إلحاح الأسرة كبيرها و صغيرها على البقاء لمدة أطول يحرجني وأنا المتلهف للوصول سريعا إلى عشي.
          الجو أصبح غائما وغطت السحب قمم الجبال .. حدثني صديقي عن أخبار تناقلها الوافدون من ناحية عشي أن العاصفة كانت قوية في بعض المناطق و أن السيول جرفت معها الكثير من الأشجار .. فتمثلت لي دوحتي شامخة لا يؤثر فيها إعصار ولا سيل .. لكن بالي لبث مشوشا على عشي و عش العصفورين .. وقلقت لمصير البوم .. فكان هذا حافزا لي على مغادرة البلدة بأسرع وقت ممكن حتى أقف على حجم الدمار الذي خلفته العاصفة ..
          العناق و البكاء و التواعد على تبادل الزيارات كان آخر ما ميز فراقي عن صديقي العزيز .. شددت على يديه و أنا أنظر بقوة إلى عينيه محاولا أن أنفث فيهما قوة .. لكني كنت أيضا أحوج ما أكون إلى من يزرع في آمالا بقرب تحقيق مناي ..
          مع وصولي إلى آخر قمة تشرف على عشي كانت السحب قد بدأت بالانقشاع .. فصرت أحدق نحو الأسفل حيث انتصبت الدوحة في إباء .. لكني لم أستطع تمييز ما يحيط بها .. فأسرعت بالانحدار وقد عاد إلي الشعور بالابتهاج .. أخيرا عدت إلى عشي الذي طالت غيبتي عنه .. سأتعهده من جديد و أهتم بشأنه أكثر من أي وقت مضى .. وها أنذا أسير على ضفة النهر الصغير الذي يمتد هناك حتى يحاذي الدوحة ليميل نحو اليمين و ينزل شلالا ..وجدت في طريقي أكوام من الحجارة التي جرفتها المياه و أكوام من الطين الذي لم يجف بعد ، لكن الذي لفت نظري هو انتفاء أي أثر للدمار بالقرب من شجرتي .. بل أحسست كأنما يد خفية امتدت لتزيل كل أثر لذاك الدمار .. حتى شجرتي وجدت عليها لمسة رقيقة تتمثل في طلاء جذعها بالجير الأبيض وكذلك بعض الأحجار التي صفت عن اليمين و الشمال لتشكل ممرا أنيقا نحو المنبع و آخر إلى البيت . عجبا .. من كان يظن أنني سوف أجد كل هذه الأناقة التي تحف بعشي بعد العاصفة التي تحدث عن قوتها الكثيرون ؟ .. أسرعت بتسلق شجرتي لأجد عشي بأبهى ما يكون من حلة .. بينما احتضن الغصن المقابل له عشا خشبيا طلي بالبياض أيضا .. ومن داخله بدت لي كومة صغيرة من التبن وبعض العيدان وقد توسطتها ثلاث بيضات صغيرة .. كدت أطير فرحا .. و أسرعت بالنزول لأتابع الاستكشاف .. كأنني أعيش حلما .. لكن داخلي كان يهتف و يصيح : لا .. ليس هذا بحلم .. بل حقيقة .. اجر و اركض واستمتع ..
          وجريت و ركضت و استمتعت بمعانقة كل ما تركته .. الربى .. الجداول .. المنبع .. حتى وصلت إلى حافة الشلال لأجلس لاهثا أنظر إلى الوادي وقد غمرني فرح لم أشعر به قط من قبل ..
          السكون يبعث في نفسي طمأنينة .. وهدير السيل هناك في الأسفل يشعرني بقوة ..
          - هل أعجبك منظر عشك ؟
          لم ألتفت .. فقد هبت نسمة محملة بأريج مألوف عندي لتملأ خياشيمي .. وتلقى مسمعي صوتا ليس غريبا عني .. فأحدث هذا خدرا في جسدي ولبثت مطرقا أعبث ببعض الحصى .. بينما كانت بداخلي قوة هائلة تدفعني للنهوض والانقضاض على صاحب الصوت .. أو على الأصح .. صاحبة الصوت .
          [/align]

          تعليق

          • رشيد الميموني
            مشرف في ملتقى القصة
            • 14-09-2008
            • 1533

            #35
            [align=justify][/align]21

            في كثير من الأحيان ، تتبدى لنا الطبيعة بألوان نميزها دون عناء ولا يشكل لنا ذلك أية صعوبة .. فالأخضر اليانع أخضر ، و الأصفر الفاقع أصفر ، و الأحمر القاني احمر . ونفس الشيء ينطبق على ما يحيط بنا من جبال شاهقة تكللها الثلوج وروابي تتعانق في ما بينها ومروج تهتز وتربو محتضنة جداول و غدران تصطبغ بلون السماء .. حتى الأصوات تكاد تكون مألوفة من هبوب رياح وحفيف أوراق وخرير مياه و زقزقة عصافير و هدير نهر ونقيق ضفادع ..
            لكن كل هذا اختفى في لحظة و أحسست أنني أعيش في عالم تنتفي الأصوات فيه و الألوان .. بل إن جميع الأصوات اجتمعت و امتزجت لتشكل ترنيمة غريبة .. و تداخلت كل الألوان لتحيك خيوطا متشابكة .. هل هو الأصيل أم هي ساعات الصباح الأولى ؟ .. هل أعيش السحر أم بداية المساء ؟ .. ترن في أذني عبارة "هل أعجبك منظر عشك ؟ّ" .. فلا أدري هل أستدير و احتضن من نطقت بها أم ألزم مكاني لأنتظر .. أنتظر ماذا ؟ .. هل هو الخوف من أن تتكرر التجربة الأولى من جديد فلا أمسك إلا بسراب ، لتبدأ معاناتي من جديد و أتيه في دوامة من الوهم ؟ ..
            يطول الصمت و أحس بالحرج .. هي ولا شك تنتظر مني جوابا و إلا فسرت صمتي بجفاء و نفور فأكون بذلك قد أهنتها ، وربما تختفي إلى الأبد .. ولكني في قرارة نفسي و مع خوفي من أن أستدير و لا أجدها كنت تحت تأثير قوة لا قبل لي بها ، تدفعني لكي أمارس لعبة التشفي و .. لم لا .. الانتقام ؟
            هكذا إذن طفت أحاسيس طالما تجاهلتها و داريت حدتها .. أحاسيس تتقد غضبا و ثورة لم يطفئها إلا حديث العجوز بهدوئه و حلاوة سرده .. لكن ذلك كان مؤقتا فقط .. والآن لم يعد هناك ما يمنع من أن تطفو من جديد وأرد الكيل كيلين و الصاع صاعين .. لكن .. هل من شيمة المحب الانتقام و التشفي ؟ .. وهل كنت أنتظر هذه اللحظة بلهفة و شغف لكي أصفي الحساب مع من ملكت القلب و الروح ؟ وهجرت من أجلها عشي و جبت القفار و الغابات و سلكت الوديان كي أصل إليها وأعود بها ؟ .. ماذا أنتظر ؟ .. أن تركع أمامي متوسلة منتحبة ؟ لا لشيء إلا لأرضي غروري و نزعة التسلط الكامنة في قرارة نفسي ؟ .. هل يهون علي رؤيتها بذلك الانكسار و التذلل و أنا لا أعرف من الحب إلا الأنفة و الشموخ و العزة ؟ .. ثم من يضمن لي إن هي استعطفت و اعتذرت ألا ينقلب حبي لها و عشقي إلى شفقة ؟ .. و الشفقة كما يقال دخان الحب .. فإذا انجلى الدخان ، لم يتبق من ورائه إلا رمادا دافئا يبرد مع مرور الوقت .. علي إذن أن أتصرف سريعا و أتخذ موقفا واضحا .. فإما أن أدخل متاهة اللوم و العتاب وأستسلم لشيطان التحدي و العناد ، و إما أن أسامح و أعفو لتصفو الحياة و نعيش في وئام ..
            - لقد زاد بهاء وكان محتاجا لذلك منذ زمان ..
            رغم ما حرصت عليه من نبذ اللوم فإني وجدت نفسي أحشو الكلام به دون أن أعي ما أقول .. الصمت يزيدني عذابا .. لحد الآن لم ألتفت إليها .. ترى هل لا زالت بجانبي أم أنها رحلت ؟.. إن كانت فعلت ذلك فعلي و على الدنيا السلام .. سأهجر كل شيء و أعتكف في ذلك الكهف و أعزف عن كل مباهج الدنيا .. لا حب ولا عشق ولا أي شيء من هذه التفاهات .. يمر لقلاق متجها نحو عشه فوق برج عتيق فتسنح الفرصة و أنا أتابعه لأحيد ببصري إلي يميني وقلبي يزيد خفقانا .. لا أحد بجانبي .. هذا ما كنت أخشاه و أتوقعه .. ضاع كل شيء .. فقط بسبب أنانيتي وغروري .. هذه نهاية حتمية للغرور و الاعتداد بالنفس .. يا إلهي ما أشقاني .. ما العمل الآن ؟
            التفت بعنف نحو عشي القابع هناك فوق الشجرة فاستبدت بي رغبة جامحة في تدمير كل شيء .. وبدا لي الممر المجير بالأبيض وكأنه أفعى تهم بلدغي .. اسودت الدنيا في عيني و نهضت وقد تبددت كل الألوان و اختفت كل الأصوات فلم أعد أرى إلا السواد ولم يعد يطرق أذني سوى طنين خلته آتيا من عالم آخر .. أصوات هي شبيهة بنعي .. هي النهاية كما أظن .. لأرحل من هنا فورا .. لكن قبل ذلك لألقي نظرة وداع أخيرة على شجرتي و عشي .. إذ رغم ما طاف بذهني من فكرة التدمير فإني أحسست بالشفقة عليهما .. العش ينظر إلي بحسرة و كأنما علم مآله .. و عش العصفورين الخشبي استكان في حزن فلم يبد منه ذاك البياض الناصع ..
            تأملته في صمت واقتربت منه كي أنظر إلى داخله ففوجئت بالعصفورة جالسة تحتضن بيضاتها .. لم تهرب ولو يبد عليها أنها انزعجت من حضوري .. فقط بدرت منها حركة فهمت منها أنها تستجمع البيض كلها تحتها لتحس بها و تنفث فيها دفئها .. ظلت ترمقني تارة بعينها اليمنى و تارة بالأخرى فابتسمت لها .. لكنها ابتسامة لا معنى لها ، إذ كان ذهني شاردا و أفكاري مشتتة . مددت بأصبعي أداعب منقارها فنقرته بخفة كأنها تستجيب لمداعبتي .. بل أطبقت عليه وهي تلويه يمينا و شمالا .
            استلقيت على الغصن المقابل و أنا أنظر إلى الأسفل .. شعرت برغبة ملحة في التمشي نحو المنبع فنزلت واتجهت نحو المنبع .. لم أسلك الممر ، لكني حاذيته وأنا أتحاشى النظر إليه .. المكان يترقرق ماء و قد علا خريره حتى لا يكاد يسمع صوت آخر .. ينساب الماء بين الصخور فأختار إحداها و أجلس .. تأخذني سنة ويتابع بصري حركة الماء دون أن أعي ذلك ..
            - يبدو أن العش لم يرقك بمنظره الجديد ..
            في هذه المرة التفت يمينا و شمالا .. ثم نظرت إلى الخلف لأجدها على صخرة قريبة .. كانت تبتسم وكأنها تعلم ما يعتلج بداخلي ..
            - حقا .. شيء رائع .. لم أكن أتصوره بهذا البهاء ..
            - و المسلك الذي طليته بالأبيض .. لم تحاشيت المرور منه ؟
            ارتج علي لحظة ، ووجدت نفسي أجيب دون تردد :
            - خفت أن أفسده .. ربما كنت أنتظر أن نسلكه معا ..
            يبدو أن جوابي أعجبها ، فمالت برأسها لتخفي ابتسامة ارتسمت على شفتيها ..
            - هل أنت غاضب مني ؟
            - غاضب ؟ .. معاذ الله .. من قال لك هذا ؟
            - تلكؤك في الرد علي حين سألتك في المرة الأولى عن العش .
            - كنت فقط تحت وقع المفاجأة .. لكن قولي .. كيف ومتى أتيت إلى هنا ؟
            ضحكت ضحكة أخذت بمجامع قلبي ومادت بي الأرض حتى خشيت أن يغلبني الدوار و أسقط وسط الماء ..
            - لذلك حكاية طويلة سأرويها لك عندما تحكي لي ما جرى لك منذ رحيلك عن الشاطئ ..
            تعود الألوان لتشرق من جديد .. وتعود الأصوات كما كانت ، ونحن نغادر المنبع نحو عشي .. عفوا عشنا، وقد لزمنا الصمت و تركنا ما حولنا ينوب عنا في انتقاء الكلمات .. كانت تسير بجانبي دون أن أحيد النظر عنها وكأني أخشى أن تختفي فجأة ، أو أستيقظ من حلم فأجد نفسي عند صديقي الراعي أو في بيتي .. لكنها ظلت معي .. لم تختف .. وكانت تختلس النظر حين ألتفت إلى جهة لأريها شيئا .. و أفاجئها وهي تحدق في فتحمر وجنتاها و أخال الشفق قد اصطبغ بحمرتهما ..
            كنا نسير على غير هدى .. نذرع الحقول ونصعد تلة تشرف على الوادي فيثير فينا منظره أحاسيس أعجز عن وصفها .. أشعر أني ممسك بزمام حبي بقوة حتى لا يفلت مني ..
            - هل أنت سعيدة معي ؟
            لم تجب و إنما كان كل شيء يصيح بداخلها ما يغني عن الجواب . كنت متلهفا لسماع صوتها ، لكن من حولي كان يرن صدى كلامها الصامت .. ووجدت نفسي أسال من جديد :
            - ألا زلت خائفة مني ؟
            - بصراحة .. أخاف من هذا الحب ومآله .. كنت أخشى أن يأتي يوم أتساءل فيه .. وماذا بعد ؟ .. أحسست أن الانتظار و الأمل في اللقاء مع ما يحمله من معاناة خير من اللقاء و التوجس من الأتي المجهول .. أحاول ما بوسعي أن أبعد عني هذا الشعور بالخوف ..
            سكتت قليلا وعضت شفتيها كأنها تتردد في قول شيء يحيرها ثم سألت :
            - ألم يساورك نفس الشعور ؟ لم لا تبوح لي بكل شيء ..
            لم أرد .. كنا على مشارف العش ونحن عائدين من جولتنا .. وهناك في أعلى الشجرة وقفت عصفورتي وبجانبها رفيقها وهما لا يتوقفان حركة و زقزقة .. بينما كان آخر سرب من الطيور يجوب السماء في رحلة عودته المسائية .. تفاءلت بعودة العصفور وزاد انشراح صدري .
            - طبعا سأبوح لك بكل شيء مادمت ستفعلين مثلي .. لكن .. لتعلمي فقط أني رغم غيابك ورغم خيبة الأمل التي عدت بها من الشاطئ .. ورغم إحساسي بالقهر و القنوط ..
            ران الصمت و أحسست بها متلهفة لسماع بقية الكلام ..
            كنت منشغلا بالنظر إلى العصفورين وقد تشابك منقاراهما .. وعلت زقزقتهما .. فابتسمت و نظرت إليها لأجدها تبتسم مثلي وقد دمعت عيناها وعادت الحمرة تصبغ وجنتها وجدائل الشعرالغجري يغطي جزءا منها. وهناك في الأفق كان الشفق يتخذ لونا أرجوانيا ساحرا .

            تعليق

            • رشيد الميموني
              مشرف في ملتقى القصة
              • 14-09-2008
              • 1533

              #36
              22



              اليوم أنا على موعد مع غادتي عند الغدير .. موعد هو الأول من نوعه منذ عرفتها .. افترقنا بعد لقائنا الأخير ، فذهبت هي حيث تقيم .. وعدت أنا إلى عشي بعد أن ودعتها وشيعتها بنظري حتى غابت بين الحقول وقد شملها ضباب كثيف أضفى على الليل سحرا و غموضا .. اختفت و قد تضوع الجو بعبيرها المألوف لدي .. غادتي تسكن في كل مكان و في تظهر في كل زمان .. كان وداعها لي أرق من النسيم العليل و أدفأ من خيوط شمس الخريف .. انسلت كما ينسل الصبح عن دجى الليل .. و لبثت أحدق في الظلام لعلي أميز شيئا من وراء الضباب الكثيف الذي غطى الحقول ..
              وعدت لا تسعني الدنيا سعادة و حبورا .. أكاد أطير من الفرحة .. وبدت الأشياء من حولي تنتفض لفرحتي و تتمايل لسعادتي . فطغا حبي لكل شيء ، وشعرت بأني أرغب بمعانقة الشجر والحجر والطير وازددت أنسا
              بالليل رغم لهفتي لانتهائه كي ألتقي بغادتي من جديد .. بدا لي الليل حنونا فلم تهب ريح ولم تغط سحابة سماءه المتلألئة .. وتعالت أصوات كأنها ترانيم تشدو بما أشعر به من ابتهاج .. فهذه الصراصير تعالت أصواتها في تواصل بدد الصمت الذي كان سيبدو لي موحشا في غير هذا الموقف ، وهذه الضفادع يتردد نقيقها عبر المروج .. وهذا الجدول يسمح لمائه بخرير ممتع .. كل يشدو و يترنم فيشعرني بالأنس و يملأ نفسي بالأمان و الأمل .. سألت غادتي متى نلتقي ؟ .. فلم تجب و إنما نطقت عيناها بما كنت أهفو إليه . عينا غادتي تنطق دونما حاجة إلى الكلام . قالت لي العينان : انتظر عند السحر حتى بزوغ الفجر .. وقالت لي ابتسامتها اصبر حتى يطلع أول شعاع للشمس ..
              وانتظرت إلى السحر و أنا في عشي .. لم أطق فراقه لأجد نفسي من جديد حبيسا بين الجدران .. كم غفوت و استسلمت لسنة طافت بي أصقاع المعمور .. وفي كل مرة أنتفض خشية أن أكون استسلمت للنوم فتفلت مني فرصة اللقاء المرتقب .. وجاء السحر و تيقظت حواسي مترقبة متوثبة .. الآن توقفت الأصوات كلها وكأنها تشاطرني ترقبي و انتظاري .. وهفا كل شيء مثلي إلى ذاك المنعرج الذي يختفي بين الحقول الهامدة حركتها ..ربما همدت لتسمعني خطوات غادتي إذا أقبلت . وكعادتي حين تستبد الأشواق بي ، صرت أترنم :


              سكن الليل


              و في ثوب السكون
              تختبي الأحلام
              وسع البدر
              و للبدرعيون
              ترصد الأيام
              فتعالي
              يا إبنة الحقل
              نزور كرمة العشاق
              علنا نطفي
              بذياك العصير
              حرقة الأشواق
              أسمع البلبل
              ما بين الحقول
              يسكب الألحان
              في فضاء
              نفخت فيه التلول
              نسمة الريحان
              لا تخافي
              يا فتاتي
              فالنجوم تكتم الأخبار
              و ضباب الليل
              في تلك الكروم
              يحجب الأسرار
              لا تخافي
              فعروس الجن
              في كهفها المسحور
              هجعت سكرى
              و كادت تختفي
              عن عيون الحور
              و مليك الجن
              إن مر يروح
              و الهوى يثنيه
              فهو مثلي
              عاشق كيف يبوح
              بالذي يضنيه
              الآن .. حان وقت نزولي من أعلى شجرتي .. علي أن أهيئ استقبالا يليق بمقدمها .. أعلم أنها مفتونة بورق الزيتون ، فأسرعت بنسج إكليل تخيلتها مثل آلهة الإغريق و أنا ألبسها إياه .. كم ستبدو رائعة ، بل فاتنة و قد عقصت شعرها الغجري إلى الوراء و انزاحت خصلات منها بعض وضع إكليلي على رأسها الجميل .
              أقف عند الغدير وفي يدي إكليل من ورق الزيتون .. فرشت الضفة ببعض الأوراق الذابلة التي أطاح بها الخريف ووقفت أتأمل الأفق منتظرا أول خيط أبيض من الفجر .. وبحركة لا إرادية صوبت بصري نحو المنعرج و كأن هاتفا يهتف بي أن انظر إلى هناك فعن قريب سوف ينجلي الضباب عن غادتك .. ومن هناك سمعت وقع خطوات خفيفة تقترب .. وترنيمة شجية تعلو فتكسب المكان و الزمان رونقا و سحرا ..
              يتلون الأفق ببياض باهت بينما تزداد الخطوات اقترابا .. أحس برعشة تسري في كياني فأضم الإكليل إلى صدري وأحدق في المنعرج .. هناك تبدت الهالة التي رأيها عند الشاطئ فعادت بي الذكريات إلى تلك اللحظات التي تجرعت فيها مرارة اليأس و القنوط .. لكن اليوم ليس كالأمس .. اليوم احتفال .. وانتصارعلى اليأس .. مرحبا بك أيتها الغادة الفاتنة .. ومرحبا بك من جديد في عشي الذي طالما هفا إلى مقدمك و حن إلى معانقتك .. تعالي إليه ، فهو رغم هروبك و اختفائك لا زال يصبو إلى طلعتك و يأمل في وصالك ..
              لا أكون مغاليا إذا قلت أني لا أتذكر كيف كان لقاؤنا من جديد في ذالك الصباح الندي ، و متى جلسنا على حافة الغدير ، ومن بدأ منا الكلام ، أو على الأصح هل تحدثنا حقا .. لكني وجدت نفسي في لحظة أستمع بشغف إليها وهي تعود بذاكرتي إلى الشاطئ ولقائنا المثير هناك ..
              "كان قلبي يتمزق ألما و أنا أراك تنصرف غير عابئ بنظراتي وهي ترجوك البقاء .. كنت أراك مندفعا تحت تأثير ثورة خفت أن تؤدي بك إلى ما لا تحمد عقباه .. لكني أيضا كنت لا أملك من أمري شيئا .. كنت فقط أتضرع سرا أن تبقى حتى تمنيت في لحظة من اللحظات أن تمرض أو تصاب بالتواء خفيف ليحول ذلك بينك و بين رحيلك .. لكنك انصرفت لتفضي بأحاسيسك إلى العجوز بينما أنا لم أجد أحدا يسمعني إلا بعد رحيلك .. ولو انتبهت لوجدتني قريبة منكما تلك الليلة وهو يحدثك عن حكايته الحزينة .. خفت أن ينعكس نور الشمعة على وجهي و أنا أقرب إليك مما تتصوره .. خشيت أن تفضحني دموعي و شهيقي فآثرت الابتعاد وأوغلت في الليل الذي لم يتبق لي غيره لأشكوه همي و حسرتي ..
              رأيتك تصعد الجبل فاقتفيت أثرك ، وحمت حولك و أنت تتوقف لتستريح وقد بدت عليك آثار الطمأنينة .. فرحت لأنك لم تعد حزينا لكني حزنت لأنك لم تعد تفكر بحالتي و أحاسيسي .. وكنت عازمة على تتبع خطواتك إلى ما شاء الله ، لكني رأيتك تعرج على كوخ صاحبك وتلتقي به .. فعدت أدراجي منتحبة وقد استبد بي القنوط .. لكني لم أستطع الابتعاد عنك ، فسلكت الطريق المؤدي إلى بلدة رفيقك الراعي لإحساسي بأنك ربما تقضي عنده بعض الوقت .. وكان ما توقعت .. وصرت أحوم من جديد حولك ، إلى أن رأيتك منبهرا بمحبوبة صديقك .. حقا أبهجني انها تشبهني و أن افتتانك إنما هو دليل على أنيي اسكن ذاكرتك .. لكن إحساسي تحول إلى غيرة فلم أعد أطيق المقام هناك وقفلت راجعة إلى الشاطئ وحيدة لا أنيس لي .. ولم أجد إلا العجوز أبوح له بآلامي و معاناتي .. ما أعظمه من رجل .. الآن علمت كيف استطعت محو آثار لقائنا الحزين و اندفعت نحو الجبل بروح مرحة .. قضيت معه النهار كله وأخذني معه كما فعل معك ، في رحلة بحرية قصيرة و هو لا يفتأ يذكرني بضرورة التحلي بالصبر و التفاؤل .. ولم تنته جولتنا حتى كنت أتأجج شوقا للحاق بك رغم أن ذاك الخوف من المجهول لم يفارقني ..
              - عجبا لهذا الخوف الذي لا تريدين إزاحته عن صدرك ..
              - آه لو أستطيع .. ليس بيدي .. قد تعجب لو قلت لك أنني وفي صعودي للجبل من جديد كان الخوف يزداد مع ازدياد شوقي للقاء بك .. وبقدر ما كان هديل اليمام ينعش فؤادي ، بقدر ما كان نعيق الغراب يشعرني بالرعب .. فأعود أدراجي ، لكني سرعان ما أنفض عني هذا الإحساس بالتشاؤم و أستمر في السير مهتدية بما يمليه علي حدسي .. وقر رأيي أخيرا على التوجه إلى عشك لأنتظرك هناك بعد أن أكون أعددته و أزلت ما خلفته العاصفة من دمار و خراب .. وجدت العصفورين فتفاءلت باجتماعهما و منيت نفسي بلحظات هناء نقضيها سويا.. حتى إذا قدر لنا الفراق من جديد ، كان لنا في ذكرياتنا خير العزاء ..
              - أولا زلت تذكرين الفراق ؟
              - رغما عني .. الحياة لا أمان فيها .. اليوم لقاء .. وغدا فراق ..
              - ما أشد ما يحزنني ذكر الفراق .. ألا يمكن أن ننسى ذلك و نعيش لحظتنا ؟
              - لا تسئ الظن بي ولا تحسبن أني أهوى النكد .. لكني أضع في الحسبان ما يمكن أن يحدث .. فإذا وقع ما لم يخطر ببالنا لن يشكل ذلك صدمة لنا .. أنا لا اقل عنك لهفة في الوصال و العيش معا طول عمرنا .. لكني أخشى المجهول .. ربما كان مللا .. لا أستطيع تحمل حياة تطبعها الرتابة و الضجر ..
              - ولكن حبنا سيبعد كل هذا ..
              - ربما .. لكني تعودت أن أعيش طليقة .. نفترق لتكون لهفتنا إلى اللقاء كبيرة .. استمتاعنا بهذه اللهفة و الانتظار لا تقل عن متعتنا باللقاء .. صدقني .. وكلما بعدت المسافات بيننا كلما ازداد حجم الشوق وتأججت نار الحب في قلبينا ..
              كم هو عذب حديث غادتي رغم ما حواه من نذير بفراق جديد .. تضاربت أحاسيسي بين السعادة بقربها وبوحها ، وبين الأسى لاحتمال الفراق من جديد ..
              - على الأقل .. اخبريني حين تزمعين الرحيل ..
              ضحكت فتألق الكون من حولنا وافتر ثغرها عن أروع ابتسامة ارتسمت على شفتين .. وقالت :
              - لا تستدن الرحيل من الآن .. ولنعش حاضرنا بعيدا عن كل ما ينغص صفونا ..
              امتدت يدي في حركة غير إرادية إلى الإكليل الذي نسجته من ورق الزيتون ووضعته على رأسها .. كانت حركة مفاجئة لها .. لكن عينيها نطقتا ببهجة لم أعهدها فيها من قبل .. امتنان وعرفان و بريق غريب جعلني ارتعش .. كان بريقا يغني عن كل قول ..
              وصمتنا .. لم ننبس ببنت شفة .. لكن كل شيء فينا كان يتحدث .. يصيح .. يتوهج .. الوقت يمر سريعا .. و الشمس تميل من جديد إلى المغيب .. لا أدري كم مر من الزمن ونحن جالسان علي حافة الغدير .. ربما ساعات أو أيام .. لكن غادتي لا تفارقني وأزداد تشبثا بها محاولا بكل ما أوتيت من قوة طرد شبح الخوف عنها و إرجاء الرحيل إلى أجل لا أدري متى يحين .. قالت لي إنها قد ترحل مع هجرة الطيور نحو الجنوب أو مع بداية العواصف عند انتهاء الخريف .. بل وحددت السحر موعدا لرحيلها .. فصرت أستفيق دائما عند السحر وأنتظر متوجسا أن تأتيني الرياح بخبر هذا الرحيل .. ثم أنظر إلى السماء عند المساء لأرقب مرور أسراب الطيور المهاجرة و أحدق في الأفق كي أميز عارضا ممطرا ينبئ بقدوم العاصفة .
              [/align]
              التعديل الأخير تم بواسطة رشيد الميموني; الساعة 01-01-2011, 18:21.

              تعليق

              • رشيد الميموني
                مشرف في ملتقى القصة
                • 14-09-2008
                • 1533

                #37
                23
                قل لي . . من أنت ؟!!!
                حين أتذكرك . . تذوب الكلمات ... في فمي . .
                ويرغد في الحياة . . قلبي
                . . . . قل لي من أنت !؟ . . .
                . . . بل . . . دعني ابكي . .
                دعني ابكي.. وألجم نفسي
                لئلا يغيب في حضورك .. عقلي
                لئلا استجدي من أوقاتك . . اللحظات
                ومن حروفك . . الكلمات
                فقد أودعت بين الجوارح . .
                لتبدع فيمعزوفة عشق
                .. تدق بألم بين الضلوع
                كان هذا آخر ما همست به غادتي و نحن نودع معا آخر شعاع الشمس قبل أن تختفيا معا .. الشمس تهوي من وراء الجبل الذي استحال لونه إلى سواد .. و غادتي توغل بين أشجار الصنوبر التي اصطفت في خضوع لتحيي مرورها .. تأملت الكلمات و أنا أردد كل حرف منها ..هل أطلب منها أكثر من هذا ؟ طبعا لأني أعلم أن روح العاشق طماعة و تهفو دائما للمزيد .. في الحقيقة لم أكن في وعيي حين كانت تردد كلماتها .. كنت واقعا تحت تأثير قوة لا مناص لي منها .. كان كل شيء في كياني في حالة خدر واسترخاء .. حتى الأصيل الذي غالبا ما كنت أهفو لتأمل شمسه وهي تزداد اصفرارا ، سهوت عنه وتعطل تفكيري .. وشلت حركة دماغي .. حتى الزمن توقف للحظة .. كان الأصيل .. وصار أصيلا وخلته سيبقى أصيلا سرمديا .
                كل حركة توقفت من حولي .. فلا الريح عادت لتسمعني حفيف الأوراق .. ولا الجدول استمرت مياهه الرقراقة في شدوها .. ولا العصافير كما عهدتها ملأت الجو بزقزقتها ..
                ألتفت إليها فأجد حقا دمعة تسري في هدوء على خدها الأسيل .. وأتساءل : لماذا تبكي ؟ .. هل هو إيذان باقتراب الرحيل ؟ أم أنه الوجد بلغ بها إلى هذا الحد ؟ .. إن كان هذا صحيحا ، فما أسعدني .. و إن كان الرحيل آن أوانه ، فما أشقاني .
                ابكي يا غادتي ولا تتساءلي من أنا .. أنا قدرك الذي لا مفر لك منه .. أنا العاشق السرمدي .. أزلي أنا في حبي و أبدي في عشقي .. أنا ظلك الذي يلازمك في الحل و الترحال .. أنا الريح العاتية التي تثور حيت يستبد الشوق بالنفس و أنا النسيم العليل حين تهدأ ثورة الحب .. ابكي ودعي دموعك تروي نفسك المتعطشة كما نفسي للحب .. دعي أنفاسك تسري عير مسامي كمعزوفة عشق و ترنيمة حب .. اتركي نفسك تنساب مع هبات النسيم العليل لتتغلغل في أعماقي و تلتحم مع كياني .. اتركيها تنصهر في مهجتي و تسري في دمي .. حتى إذا آن أوان الرحيل ، رحلت و رحلت أنا معك .. بكل ما في من نبض .. ليكن الوداع ، فلم أعد أخشاه ، لكني أريده وداعا يليق بحبنا .. أريد أن يشهده كل من شهد ولادة حبنا بين الأحراش و الوديان .. لن أفزع للوداع ولن أجزع للفراق ، لأنك ستبقين بداخلي و أنا سأرحل معك .. فاجعليه وداعا لا ننساه أبدا .. وداعا تتحدث عنه كل الطبيعة بما فيها و بمن فيها ..
                أعرف أنك سترحلين قريبا .. فهاهي أسراب الطيور مقبلة تتجه نحو الغرب وفي زقزقتها ما يشي بدنو لحظة الفراق.. وها هو الأفق يتلبد بالغيوم فتسود الدنيا و يهتز كل شيء على وقع الريح و الرعد .. لم يبق إلا أن أنتظر السحر .. لم يعد الغروب يؤجج الوحشة في نفسي .. فقد اعتدته ، بل صرت أستدنيه كل يوم منذ جلسنا على الصخرة نتأمل الوادي و رأسك مستند على كتفي .. كنت أشير إلى أسفل الوادي حيث يتهادى زوج من الحمام في ود و انسجام .. ثم نتابعه ببصرنا حتى يقتربا و يحطا على غصن قريب منا .. كم كانا رائعين و هما ينظران إلينا بفضول .. وحين لا تبدر منا حركة يبدآن في طقوس العشق الخاصة بهما فأرنو إليك لأجد عينيك الحالمتين تسرحان إلى الأفق البعيد .. و أسرح بدوري فأخالنا تحولنا إلى هذا الزوج من الحمام ، نفرد جناحينا لنحلق بعيدا بين الأودية و الخوانق ثم نعود إلى عشنا لنحط على الغصن المقابل له لنبدأ بدورنا في طقوس العشق غير مبالين بمن حولنا .. لأن ما حولنا كان يعيش طقوسه أيضا ..
                هذه الليلة ليست ككل الليالي .. لا أعرف إن كانت قد طالت أكثر من اللازم أم أن ساعاتها انصرمت بسرعة لم أشعر بمرورها .. وقت السحر مألوف عندي .. حين يأزف ، أشعر بأن شيئا ما بداخلي يتأجج و أنني على موعد مع شيء ما .. كل شيء يستيقظ الآن .. ربما لأن العش و العصفورين و الشجرة و الجدول و المنبع و المرج و التلة كانوا يعلمون بموعد رحيلك الجديد .. حركة دائبة هنا وهناك .. الأوراق يشتد حفيفها مع اقتراب العاصفة .. وأولى قطرات المطر تنقر على أنفي و جبهتي كأنها تنبهني من غفوتي .. حسنا .. أنا انتظرك الآن يا غادتي لنقوم بطقوس وداع لم يشهد الماضي لها مثيل ..
                بالأمس أعددت لك باقة من كل ما وقعت عليه يدي عند المرج الأخضر و فوق التلال القريبة .. زهور وورود و رياحين .. حتى العشب أبى إلا أن يلتحق بالباقة و يجد له مكانا بها .. أوراق الصنوبر و السنديان و العرعر تتوسل أن أضيفها إلى الباقة .. ماء الجدول يصيح ، فلا أملك إلى أن أغمس الباقة فيه ليبللها .. وفي غفلة من الجميع وقبل أن تظهري ، وضعت قبلة طويلة دافئة على باقتي لأني أعلم انك ستحملينها معك دوما وتحتفظين بها حتى إذا قدر لنا اللقاء مرة أخرى ، كانت لنا ذكرى نستحضر بها أيامنا و ليالينا .
                في هذه اللحظة ، يطبق الصمت .. أعلم أن غادتي ستظهر بعد قليل .. كل ما حولي يغض الطرف احتراما لمشاعرنا المتأججة في هذه اللحظة الحرجة .. تقبل علي متهادية كعادتها في خطوها لتجدني وقد غادرت عشي ووقفت بجانب الشجرة .. لا نأبه للمطر المتزايدة حدته و لا للريح العاتية و هي تميل الشجر و تكاد تقتلعه .. تنظر إلى أعلى حيث العش و ألمح شبه ابتسامة حزينة على شفتيها المبللتين بماء المطر وقد ألصق شعرها الغجري على جبهتها .. مددت يدي بالباقة .. تفحصتها بحنو ولم أدر إن كان المطر المنساب على وجنتها مختلطا بدمعها ، لأني لمحت في عينيها بريقا و احمرارا .. هل تبكي غادتي ؟
                آخذها من يديها و أسير بها نحو الغدير .. لا أدري لماذا أحب أن يكون اللقاء أو الوداع عند هذا الغدير الغارق في صمته وكأنما يصلي .. تستسلم ليدي وهي سارحة النظر مشتتة الفكر .. ربما ندمت على قرارها بالرحيل ولا تريد التخلي عن كبريائها .. أو لأنها لم تكن تريد أن تعيش هذه اللحظات ..
                وفي لحظة .. ترفع الباقة إلى شفتيها وتقبلها في خشوع .. بل و تمرغ وجهها في زهورها و رياحينها و عشبها وأوراقها .. ثم تلتفت إلي و قد توهج عيناها وجدا .. كانت لحظة التحام .. أحسست أن روحينا تمتزجان و تنصهران في بوتقة واحدة .. بينما كان كل شيء من حولنا يهدر و يصيح بل ويغلي على إيقاع غليان روحينا و جسدينا .. حتى لم أعد أرى شيئا إلا ما يظهر لي من خلال وميض البرق ، لأجد نفسي في لحظة من اللحظات وحيدا قرب الغدير مستسلما للمطر يغزو جسدي .. واضعا يدي على شفتي و كأن المطر لم يكن كافيا لإطفاء لهيبهما ..
                ماذا علي فعله الآن ؟ .. هل انتهى كل شيء ؟ .. هذا ما يبدو لي .. لكني في قرارة نفسي لم أستسلم لفكرة النهاية .. كنت لا أزال تحت تأثير لحظة الوداع .. وقد تضوع الجو بشذا غادتي .. حتى قطرات المطر الغزيرة خلتها تلونت بكل ألوان الطيف .. الآن علي التفكير في عشي .. لقد أقبل الشتاء .. ومحال أن يصمد أمام عتو رياحه و زخات مطره .. أين ألجأ الآن ؟ .. حانت مني التفاتة إلى الجبل وتذكرت كوخ صديقي الراعي .. هناك أيضا بالقرب مني أكواخ منتشرة بالجبل .. فلم لا ألجأ إلى أحدها لقضاء فترة من الشتاء الذي يبدو أنه سيكون عاتيا هذه السنة .. حدثتني جدتي يوما أن منازل الشتاء تكون قاسية خصوصا "الليالي" وأيامها الأربعين .. وحين تنتصف و تأزف ليلة "حاكوزة" يولد الربيع ويكون كحشرة ، ثم ينمو مع مرور الأيام حتى يصير فصلا كاملا .. وروت لي أيضا أن أصعب المنازل هي "سعد ذابح" .. فلا "وجه صبيح و لا كلب نابح" ، من شدة البرد .. آه يا جدتي كم أحن إلى حكاياتك و أنا في وحدتي هذه .. كم اشتاق إلى خبزك المرصع زبيبا و فستقا و لوزا في ليلة "حاكوزة " .
                سآخذ كل لوازمي من أعلى الشجرة و سأصحب معي وكر العصفورين الخشبي ليكونا في مأمن من العاصفة هناك في الكوخ .. سيشعرانني بالأنس و يبددان وحشتي ووحدتي بعد رحيل غادتي في انتظار أن تجود الأقدار بلقاء آخر .

                تعليق

                • رشيد الميموني
                  مشرف في ملتقى القصة
                  • 14-09-2008
                  • 1533

                  #38


                  24



                  والآن ماذا تبقى لي سوى عشي وعصفوري الإثنين وما يحيط حوالي من هضاب و جبال غارقة في صمت قاتل ؟ و كأنما استوحشت وجومي واستثقلت شرودي و أنا أهيم على وجهي تارة عبر المروج المثقلة ماء بعد العاصفة الأخيرة ، وتارة بين الوديان الموغلة في الغابات الكثيفة ، أو على صخرة تعتلي قمة الجبل الجاثم في جبروت على الوادي الهادر .. تلازم صورتها البهية مخيلتي في حلي و ترحالي و أقضي وقتا في تأملها مغمض العينين فتتراءى لي كحورية تزهو بحسنها الأخاذ وبهائها المنقطع النظير ..
                  انتهى كل شيء .. على الأقل في المستقبل المنظور .. وصار علي أن أنتظر شهورا أو سنين ، و ربما دهرا قبل أن تجود علي الأقدار ببلسم يشفي جراح نفسي المكلومة .. بلقاء صار يبدو لي الآن أقرب منه للخيال أو بنسيان ينقذني من أتون هذا الذي يسمونه حبا .. ما الذي جعلني أقحم نفسي فيه كغريق لا يعرف من السباحة شيئا ؟.. ماذا جنيت على نفسي غير الوهم و الجري وراء السراب ؟ .. لماذا تركت غادتي ترحل ولم أتشبث بها رغم إلحاحها ؟.. ربما كانت فقط تجربني ، وحين رأت انسياقي مع رغبتها ، لم تجرؤ على تغيير قرارها ؟.. لكن كم كان علي أن أحلل و أفسر أدق تفاصيل تصرفاتها ؟.. ألا يكفي ما عانيته من فراق كاد يعصف بكل آمالي ؟ هذا إن لم يكن ذلك قد حدث بالفعل .. ثم ، لم أحمل نفسي دائما تبعات هذا الذي يحدث و أنا الذي أهفو دائما إلى اللقاء و أعزف عن الفراق ، بينما هي تكون دائما من وراء كل هذا الذي نعانيه .. أو على الأصح أعانيه أنا لوحدي ؟ .. أنى لي السلوان الآن وقد غدوت كالمجنون ، أعتلي القمم لأنظر إلى الأفق ؟
                  أنصت لعقلي فأجد نداء بالتعقل و نبذ الأوهام .. و أصغي لقلبي فأسمع نحيبا و توسلا فأترنم :
                  أنت قلبي فلا تخف
                  و أجب : هل تحبها ؟
                  و إلى الآن لم يزل
                  نابضا فيك حبها ؟
                  لست قلبي أنا إذن
                  إنما أنت قلبها ..
                  وأستعيد ذكرياتي فلا أجد غير الآلام و الأحزان رغم فترات من السعادة العابرة و الخاطفة مع غادتي .. هل تتلذذ بعذابي أم أنها تتعذب مثلي ؟ لم كل هذا ؟ .. لا افهم .. يقولون إن المرأة صعبة الفهم و نزواتها أكبر من أن تحصى .. ورغم ذلك استكنت إلى غادتي و سلمتها قلبي دون شروط .. و نسيت كل ما بدر منها من تصرفات كان يمكن لأحد غيري أن يقابلها بالمثل . لكني سلكت طريقا رمت به المودة و المسامحة .. وأصر هذا القلب المتمرد على التشبث بها و هذا الخيال بصورتها حتى لا أجد سبيلا للنسيان ..
                  كيف يا قلب ترتجي
                  طعنة الغدر في خشوع
                  وتداري جحودها
                  برداء من الدموع
                  لست قلبي و إنما
                  خنجر أنت في الضلوع ..
                  ترى أين تكون الآن ؟ وهل تعاني كما أعاني أنا من وطأة الفراق و الوحدة ؟ أم أنها وجدت ما تسلو به و أنا آخر من يشغل بالها في هذه اللحظة ؟ .. ألتفت من حولي فأجد كل شيء يرنو إلي بوجوم .. وكأن ابتسامتي الغائبة عن شفتي منذ الرحيل الأخير قد ألقت بظلالها على عشي و عصفوري و أيضا على الكوخ الذي صار مأواي الجديد .. نسيت أن أذكر أنني لزمت هذا الكوخ ثلاث ليال متتالية .. لأن العاصفة لم تفتر ولم يتوقف هديرها .. و لأنني كنت أشعر بالخجل و أنا أفكر في الخروج كعادتي تحت المطر .. كنت أخجل من نظرة الجدول و الشجر و المرج المليئة شماتة على خيبتي .. فلم أغادر الكوخ ولبثت أطل من نافذة صغيرة ، ملتفا بغطاء صوفي ، مسترقا النظر إلى الخارج و العاصفة في أوجها .. سرحت بنظري إلى أسفل الوادي و تأملته و هو يرغي و يزبد وكأنه يتوعد بالويل و الثبور كل ما اعترض سبيل مياهه الهادرة .. لم لا أكون مثله ؟ ماذا ينقصني كي أتحلى بهذه القوة بدل أن أظل هنا خانعا مستكينا أنتظر في عجز مقيت ؟ ..
                  لم أشعر إلا و انا أنتفض من فراشي الخشبي و ألقي عني الغطاء الصوفي ، ثم أرتدي ملابسي الشتوية المعلقة على نصف عمود ناتئ في أحد أركان الكوخ .. إلى أين ؟ وجدت بداخلي نداء خفيا يجذبني إلى حيث رحلت غادتي .. لكني طردت عن ذهني هذه الأفكار و وقفت بباب الكوخ أنظر إلى العاصفة .. سرني أنني مثل الوادي ..أغلي ثورة و وبداخلي هيجان لا يعرف الحدود .. اقتحمت ستار المطر الذي حجب عني الرؤية واندفعت تحت السيل العارم أغرس حذائي المطاطي في الوحل فأحس بالمتعة .. تركت كل شيء وسهوت حتى عن وكر العصفورين .. لكني حين تذكرت ذلك كنت مطمئنا إلى أن من خلقهما لن يتخلى عنهما .. و أنهما سوف لن يحتاجا إلي بعد أن ضمنا مقرا آمنا من العواصف .
                  إلى أين ؟ .. لا يهم .. لأسر فقط و لأتمش دون توقف . ولأندفع مع السيول المنهمرة من كل جانب . أحس بنشوة الانطلاق وبلذة الانعتاق من ذاك الوضع النشاز الذي لا يلائم طبيعتي التواقة للتحرر من أغلال الجمود و السلبية . فقط ، أنا محتاج في هذه اللحظة لمن أحدثه و ألقي على مسامعه ما يقض مضجعي ويقلق نفسي .
                  صديقي الراعي. ياللفرحة.. كيف غاب عني ذكره ؟ ولماذا لم أفكر في اللجوء إليه بدل أن أستكين لوحدتي ؟ وفي غمرة هذه الفرحة العارمة توقفت فجأة .. ماذا لو كان تفكيري في صديقي له وجهة أخرى غيره ؟ ألا يكون لا وعيي قد سلك طريقا ملتويا ليتملى بطلعة غادته و يستأنس بقربها ؟ .. فتر حماسي لحظة ووقفت أفكر غير مبال بالماء المنهمر من فوقي .. علي أن أحدد سبب وجهتي الجديدة .. إذا كانت مشاعري كما تخيلت فعلي أن أعود أدراجي ..لأن أعيش وحيدا أهون علي من أنس صديقي بينما نفسي تهفو لغيره .. بل تغتصب منه حقا من حقوقه و تقضي على أمله و إن كان هذا الأمل مفقودا ..
                  اضطررت للتوقف مرات و سلوك طريق آخر معاكس كي أعطي لنفسي الفرصة و الوقت الكافي كي تحدد ما تصبو إليه حقيقة .. فما شعرت إلا بحاجة ملحة لصديقي مع أمنيتي أن أجده في الكوخ بدل منزله ، فكان هذا دليلا على أن ذهني منشغل فقط بصديقي و بما سوف ألاقيه منه من مؤازرة و دعم بفضل ما جبل عليه من رزانة و حكمة و تأن في إصدار أي حكم أو قرار .. صديقي بخلافي، و أنا أعترف بذلك ، رجل نضج قبل الأوان .. يرى الأمور ببصيرته ويحللها بكل هدوء بعيدا عن كل انفعال .. يعيش تجربته بألم .. لكنه ألم بلغ شأوا كبيرا في النبل و الشهامة .. ما أحوجني اليوم ، بل الآن ، لشخص مثله يدثرني برداء من الكلمات تسبغ على نفسي طمأنينة و سكينة و تبعد عن نفسي شعورها بالوحشة و القنوط ..
                  كنت أسير .. وجسمي يشتعل حرارة لا أدري إن كانت حمى أو دفئا يتنامى مع كل خطوة أخطوها نحو المنعرج الأخير المطل على الكوخ .. بيد أني انتبهت و أنا أضع يدي على جبهتي لأوقف تساقط قطرات المطر على عيني ، أنها ملتهبة أيضا .. بينما كانت أطرافي ومفاصلي تؤلمني .. الطريق أمامي يمتد طويلا بين أشجار البلوط و تملؤه بعض الحفر و أكوام التراب المبلل ، وهذا يعني أن خنزيرا بريا مر من هنا .. لا شيء يخيفني منه إلا إذا كان مجروحا ، أما في ما عدا ذلك فيكفي أن أتنحى جانبا و أترك له الطريق .. المشكلة في الأنثى وخاصة إذا كانت مصطحبة صغارها ، فهي تثور وتهجم .غريزتها تدفعها لحمايتهم .
                  ها أنذا أصل ، وهاهو الكوخ الوديع يتوسط الغابة على سفح الجبل .. لا أحد هنا .. أشعر بالانقباض بينما آلامي تزداد حدة و جسمي التهابا و ارتعاشا .. هل هي النهاية ؟ .. هل قضي علي أن أعيش آخر أيامي هنا منبوذا ؟ أشعر برغبتي في الرقاد و البلل يسري إلى كافة جسدي . تزداد الظلمة حلكة و تميد الأرض بي فأحس بالغثيان .. الألوان تختلط في ذهني و أسمع أصواتا لا أميز مصدرها ولا ماهيتها .. نداء و صياح ثم نباح أشبه بالعواء .. هي ولا شك ذئاب ستجد في جسدي النحيل فريستها في هذا الفصل القاسي .. الجوع سيجعلها تمزقني إربا إربا و تهرب بأشلائي في كل اتجاه .. كم رأيت من الذئاب بفروها الرمادي المهيب وأنا أعبر هذه الغابة ، فتفر لرؤيتنا و رؤية الكلاب معنا .. كانت عيونها تقدح شررا .. و آذانها منتصبة في قسوة بينما كانت تكشر عن أنيابها .. لكنها كانت تدبر لا تلوي على شيء . الآن لن تجد من يمنعها مني . لكني أراها في مخيلتي وديعة . ربما لأنها ستريحني من العذاب و تطفئ لهيب جسدي المتأجج حين تغرس أنيابها لتنهشه وتنهي فصلا هزليا من حياة عشتها متعلقا بخيوط واهية من السراب و الوهم .. لوقع أنيابها في لحمي أخف وطأ من هذا الإحساس بالمرارة و الإحباط .. النباح أو العواء يقترب .. تتصلب ضلوعي في انتظار أول عضة من أنياب الذئاب الجائعة .. بينما يغوص وعيي في متاهة لا نهاية لها .


                  التعديل الأخير تم بواسطة رشيد الميموني; الساعة 17-02-2011, 08:42.

                  تعليق

                  • رشيد الميموني
                    مشرف في ملتقى القصة
                    • 14-09-2008
                    • 1533

                    #39
                    صحوة الموت ما أرى
                    أم أرى غفوة الحياة ..
                    كانت إغفاءة أشبه بسبات عميق ..أو ربماكانت كذلك .. رأيت نفسي في مواضع و أماكن غريبة .. ولاقيت أناسا لم يخطر ببالي قطأني سوف ألتقي بهم يوما ما .. لكن ما أرعبني حقا هو زيارة عصفورتي وحيدة دون رفيقووقوفها على حافز الكوة الصغيرة .. كانت مضرجة بالدماء كما رأيتها يوم وجدتها جريحة .. كان الدم يقطر منها فيخصب ريشها و جانبا من حوصلتها . تناهي إلي أنينها و لم يكنزقزقة كعهدي بالطيور، لكنه كان نحيبا . كانت تترنح والريح تعبث بها .. حاولت النهوضلكني لم أستطع .. وفي لحظة تحولت العصفورة إلى غادتي .. فزاد رعبي و أنا أرى الدملا يزال ينز منها .. صحت مرتعبا لكن الصوت انحبس في حلقي .. وتجمدت أطرافي .. بينماكان العواء يبتعد .. هل خافت الذئاب من حضور غادتي ؟ أم أنها انقضت عليها و حملتأشلاءها بعيدا في الغابة .. لم أعد أراها . اختفت فزاد ألمي و رعبي .. كنت أحسبجسمي ملتهبا .. لكن جبهتي بدأت تنتعش .. لمسات باردة تمسح العرق المتصبب عنهافتنتعش و ينتعش معها جسدي .. وشيئا فشيئا أخذت عيني المغمضتين تتفتحان لتلفي ضبابايحجب الرؤية عما حولي ، بينما كانت جبهتي تزيد انتعاشا .. تتراءى لي يد ممسكة بقطعةقطن وهي تمسح عن جبهتي العرق ..
                    يتلاشى الضباب قليلا فأميز جدرانا غير جدران الكوخ .. ويبدو لي وجه باسم من فوقي فأكاد أنتفض فرحة .
                    غادتي معي .. وتسعفني بالماء البارد علىجبهتي .. يا ليتها كانت يقظة و ليس حلما .
                    تململت في مكاني محاولا القعود ، لكنصوتا رخيما أتاني من فوقي يدعوني لمتابعة الرقاد .. صوت مألوف عندي .. لكنه ليس صوتغادتي .. أصابني إحباط ، لكني أحسست بالنشاط يدب في أوصالي وحمدت الله أن الذئاب لمتنهش جسدي .. كنت أتمنى ذلك من قبل ، لكني الآن متلهف للحياة .. أريد أن أعرف ماذاحصل و أين أنا .. ولمن هذا الوجه الجميل الذي يشبه وجه غادتي ..
                    أستطيعالقول أني رغم حالة اللاوعي التي كنت أستفيق منها فإن حواسي كانت تنشط بشكل سريع ،وامتلأت خياشيمي برائحة أعرفها حق المعرفة .. هي خليط من رائحة الحليب و روثالماشية .. ثم شد انتباهي منظر المنديل المخطط بالأحمر و الأبيض فاستكانت نفسيوشملني شعور بالطمأنينة بأني بين أيدي أمينة .. الآن عرفت أن تلك الفتاة ما هي إلاغادة صديقي و أن هذه الحجرة هي حجرتها .. إذ رغم طابع البداوة التي يغلب عليهافإنها حملت لمسة أنثوية واضحة .. لكن كيف وصلت إلى هنا ومن جاء بي من الكوخ حيث كنتأمر بما يشبه الاحتضار ؟
                    لم يطل بي الانتظار .. إذ سرعان ما عاد الوجه الباسميتأملني بحنو و يسألني :
                    -
                    كيف تجد نفسك اليوم ؟
                    -
                    بخير و الحمد لله .. لكن كيف وصلت إلىهنا ؟
                    -
                    استرح الآن .. يبدو أن منزلنا لم يعجبك ..
                    -
                    حاشا لله .. لكني استغرب ..
                    -
                    سيأتي أبي بعد قليل و يخبرك .. أنا سأذهب إلى الحقل الآن .
                    كدتأسألها عن صديقي لكني أحجمت تجنبا للإحراج . لكن من هيئتها و لمعان عينيها و أيضامن استعجالها للخروج دون أن تخبرني بما حدث أوحى إلي أنها ستلقاه هناك .. دعوت لهمافي سري و اطمأنت نفسي إلى أن الفتاة لا تزال ولهة بصديقي العزيز .. ما اشد شوقيللقياه و معانقته ..
                    الحجرة شبه مظلمة ولا أدري له هو المساء بدأ يجثم على البلدة أم أنهالصباح الباكر .. أشعر بالجوع يقرص معدتي بينما رائحة الشاي المنبعثة من خارجالحجرة تستفز خياشيمي .هي ولا شك وجبة المساء "لامرييندا". لكن صياحا و نداء أميزمن خلاله دعوة للغذاء .. ما هذا ؟ هل تأخروا بالأكل إلى هذا الوقت أم ماذا؟
                    يدخلالأب بقامته الفارعة و هو يبتسم .. ما أشبه ابنته به . وما أشبههما بغادتي ؟ أحسبالألفة نحوه ، لكن إحساسا بالانقباض يتملكني كلما رنوت إلى عينيه النجلاوين .. هللأنهما تذكرانني بغادتي ؟ أأصبحت أمقت ذكرها إلى هذا الحد ؟ أم أنه فقط شعوربالاستياء النابع عن الفراق الذي ظلت تتمسك به حتى ونحن في أوج ألفتنا و انسجامنا ؟
                    تناولناالغذاء .. الدنيا مظلمة في الخارج . سحب و أمطار .. كان الله في عون من يعمل فيالحقل . ما أشد ما يقاسيه صديقي الآن وهو مع قطيعه وحيدا في الغابة .. بينما أناهنا قرب غادته أتنعم بالفراش الوثير و الغطاء الصوفي .
                    الأبرجل لطيف رغم خشونة صوته و أوامره التي لا تنتهي .. لا أحد يجرؤِ على مناقشته سوىحليمة .. عرفت أن اسمها حليمة حين ناداها والدها فأقبلت وقد ابتل منديلها المخطط . تبدو مدللة لديه .. ونظراته لا تخفي إعجابه بدرايتها بأشغال البيت ، فهي الآمرةالناهية بعد أمها ..
                    حدثني الرجل كيف اكتشف صديقي الراعي وجودي بالكوخ و أنا مغمى علي .. وكيف حملني على ظهره إلى البلدة .. وكيف التقى به في الطريق و اقترح عليه إيوائيبمنزله .. صديقي قبل مرغما ولم يجرؤ على معارضة سيده .. كان يريد أن يحتفظ بي فيحجرته .. غادته أقنعته أيضا أنني سوف ألاقي العناية اللازمة عندها .. ما أشد ماتثير في حالة صديقي من شجن .. تمنيت لو كان هنا بجانبي أستمتع بحديثه و يستمتع هوبالقرب من غادته و التملي بطلعتها بدل الضنك و الكدح في هذا الفصل القاسي .
                    -
                    هل ليأن أرى صديقي ؟
                    البغتة تعلو محيا الإثنين .. هو ينظر إلي باستغراب لكون حالتي لا تسمحلي بالخروج في هذا الجو البارد و أنا على هذه الحالة من الوهن .. وهي تتشاغل بالنظرإلى إبريق الشاي وقد احمرت وجنتاها من جديد ..
                    -
                    ما الذي تقوله يا ابني .. نحن لم نصدقبعد أنك عدت إلى الحياة .
                    أطلق ضحكته الهادرة وهو يفتل شاربيه الضخمين ، ناظرا إلىالنافذة بالقرب منه ..
                    -
                    عما قليل سوف يسقط الثلج .. أنا أعرف هذا الجو .. لمنعشه منذ سنوات طويلة .. سوف يكون علينا تخزين المؤن .. كل الطرق ستقطع وسنعيشمنعزلين عن العالم .. لكن لا تخف .. لن نموت جوعا .. الحمد لله .. الخير وفير ..
                    وهناك .. حيث الصغار ذوي الشعر الأشقر و العيون النجلاء ؟ كيف يعيشون .. وكيف سيتحملونهذا الشتاء الذي لم يعهدوه منذ زمن .. أتخيل أجسادهم المقرورة و هي تتعرض لسياطالبرد القارس ، وليالي الزمهرير الطويلة .. وتتمثل لي سحنة صديقي و قد علاها الهم والألم .. تغلبني دموعي فأخفيها عن مضيفي .. لكن نظرة من حليمة جعلتني أتأكد مناطلاعها على حالتي .. هي أيضا تبدو حزينة رغم اصطناعها للمرح ..
                    -
                    عليأن أقابل صاحب الشاحنة التي ستزودنا بالمؤونة قبل أن تقطع الطريق .. استرح و لاتخرج .. أنت في ضيافتنا حتى تمل منا .. أما صديقك ، فسوف يأتيك قريبا .. اطمئن .
                    وأطلقضحكته الرنانة التي تردد صداها عبر المنزل الشاسع ثم خرج .. تزحزحت من مكاني أرومالاقتراب من النافذة .. منظر جميل و حزين في نفس الوقت .. شبه هالة بيضاء تلفالمكان رغم اكفهرار الجو .. هو الثلج . بدأت نذفه تتساقط بهدوء فتكسو الأرض حلةبيضاء .. وسرعان ما يختفي شكل الجبال و تتداخل مع السماء فلا أعرف مداها ولا أميزموضع قممها .
                    حليمة ترفل كالفراشة من مكان إلى آخر .. تهيئ كل شيء .. في حركتها مايشي بالحبور .. وكأني أستمع إلى صدى فرحتها بداخلها .. لم تكن تتخيل أن يلج صديقيعتبة بيتها .. كان يأتي ويلتقي بسيده قريبا من المنزل ليتحادثا في شأن الماشية ، أوليأخذ أجرته .. اليوم سيكون بإمكانه الجلوس معي في هذه الحجرة الأنيقة .. أشعربالسعادة .. هناك حركة غير عادية في المنزل .. الكل يعدو .. ماذا يحدث ؟ .. أتطاولبعنقي نحو النافذة دون أن أرى شيئا .. فتأتي حليمة مسرعة و تجدني نصف مغطى .. وتضحك ..
                    -
                    عنزتنا ولدت توأمين .. هذا فأل حسن ..
                    -
                    هلهي العنزة ذات القلادتين ؟
                    سألت دون أن أعي ما أقول .. نظرت إلي باستغراب وقد توردخداها .. هل تعلم بما أسره إلي صديقي عن العنزة ؟ .. جاء دوري ليصعد الدم إلى وجنتي .. طأطأت راسي و نظرت إلى النافذة ..
                    -
                    مبارك عليكم هذه النعمة .. و أفاض اللهالخير عليكم ..
                    -
                    شكرا لك .. لو كنت معافى لرأيت العنزة و التوأمين .. لكن لا تهتم .. سوف أجيء إليك بهما حالما يشتد عودهما .. اشرب الشاي مادام ساخنا ..
                    وما بينانتظاري للقاء صديقي و قبوعي في هذه الغرفة الأنيقة أجد نفسي ساهيا عن سبب وجوديهنا و مغادرتي لعشي .. هل هي بداية النسيان ؟ .. هل أستطيع نسيان كل شيء ؟ .. إذاكان هذا صحيحا فمعناه أن الحب زائل لا محالة من قلبي .. و أنه – أي هذا القلبسيكون عليه أن يعيش ،على غير عادته ، خاليامن عاطفة الحب التي لم أكن أتخيل نفسييوما ما مجردا منها .. وحين أقول الحب .. لا أعني أنني صرت ذا قلب جامد . فمجردالنظر إلى هؤلاء الناس وهو يحيطونني بحفاوتهم دون مقابل ، ثم سعيهم و كدهم و تآلفهمالرائع يشعرني بدفء الحب و عذوبة الحب ..
                    هل أنا على موعد مع فترة فراغ عاطفي ؟ .. وهل ستكون لي تجربة أخرى غير تلك التي لم أجن منها سوى المعاناة و الإحباط .

                    تعليق

                    • رشيد الميموني
                      مشرف في ملتقى القصة
                      • 14-09-2008
                      • 1533

                      #40
                      26

                      [align=justify]كان اليوم مشهودا .. لا أدري هل كنت أكاد أطير فرحا لرؤية صديقي الراعي وهو يهل علي من باب الغرفة الضيق ، أم أني صدمت للهزال الذي اعتراه .. عانقته وكل كياني ينتحب .. أطلت العناق حتى لا يلحظ دمعي .. ثم نظرت إليه مليا .. عينان غائرتان ، وجفنان حفتهما هالتان سوداوان .. رباه .. كم تغير . جلسنا على حافة السرير ونحن صامتان .. ثم سألته متصنعا المرح :
                      - أين كنت كل هذه المدة أيها – ثم همست – العاشق الولهان ؟ .. ألم تأكل صدرك الغيرة و أنا هنا ؟
                      ابتسم ابتسامة باهتة و هو يرنو عبر النافذة إلى الخارج وقال :
                      - البركة فيك .. على الأقل أنا مطمئن إلى أنها بيد أمينة ..
                      - هيا حدثني عن كل شيء .. إيه .. نسيت أن أشكرك على ما تحملته من أجلي .. لولاك لكنت مت هناك ..
                      - الفضل لله تعالى و ما أنا إلا سبب ..
                      تحدثنا طويلا بينما كانت حليمة تدخل علينا بين الفينة و الأخرى لتحمل إلينا إبريق شاي أو لتأخذ شيئا من الغرفة .. وفي كل مرة ألاحظ أن صديقي يطأطئ رأسه و يغض بصره .. بدت واضحة حالة اليأس و القنوط التي وصل إليها وتمنيت في قرارة نفسي أن أفعل شيئا من أجله .. تخيلت أنني أنهض مسرعا و امسك بتلابيب الأب متوسلا إليه أن يبارك الحب الذي يجمع الاثنين .. و أتيه في حلمي الوردي فأراها متأبطة ذراعه و هما يبتسمان في سعادة . لكني أعود إلى واقعي فأجدني عاجزا عن فعل شيء .. همست في أذنه :
                      - ألم يحن الوقت لكي تفوز بعنزتك المدللة ؟
                      بدا سؤالي غريبا وذا صدى غير مألوف .. لم يبتسم كعادته .. بل سرح من جديد ناظرا إلى الأفق ، ثم التفت إلي فجأة قائلا :
                      - دعك من هذا الآن .. واحك لي عما جد من جديد لديك ..
                      - ماذا تنتظر من واحد يلازمه النحس وسوء الطالع ؟ فشل وإحباط و .. لاشيء .
                      - لماذا لا تتغلب على حالتك هذه بالكتابة في انتظار أن تلتقي بها ؟ كنت تحدثني عما كنت تكتب لها من أشعار ..
                      وكأنما أيقظتني فكرته من سبات عميق . انتفضت وقلت على الفور :
                      - عندك حق .. لكن أصارحك أنني لم أعد آمل في لقاء جديد .. ثم .. ماذا سأكتب الآن لها و قد غادرتني عن طواعية ؟
                      - المهم أن تكتب .. لتخفف عما بك ..
                      - بشرط ..
                      نظر إلي مستفهما فقلت :
                      - أن تأتي كل يوم إلى هنا لكي نقرأ سويا ما كتبت .. ما رأيك ..
                      كنت أحاول أن أجد طريقة ما لأجعله بالقرب ممن يحب .. لكنه نظر غلي نظرة لن أنساها ما حييت .. نظرة امتزج فيها الألم و اليأس .. وقال :
                      - ومن أدراك أننا يمكن أن نلتقي يوميا هنا ..
                      - أنا أعرف أن هذا سيسبب لك حرجا و أن لك أشغالا ستمنعك ..لكن .. ممكن أن نحدد أوقاتا بالقرب من المنزل ..
                      من جديد ينظر إلي تلك النظرة الرهيبة وقال بوهن :
                      - ربما هناك أشياء خارجة عن إرادتنا .. المهم أنني مطمئن على حالتك .. سأودعك الآن ..
                      رنت كلمة الوداع في أذني حتى خلتها طنينا يسبب لي دوارا .. ما ذا يعني ؟ .. هل سيرحل من هنا ؟
                      - بل قل إلى اللقاء .. سنلتقي عما قريب .. أليس كذلك ؟
                      - كل بمشيئة الله ..
                      - ونعم بالله ..
                      تعانقنا من جديد و لا أدري لم أحسست أنني أودعه فعلا و أن هذه اللحظات هي آخر عهدي به .. قلت له دون أن أحاول إخفاء دموعي هذه المرة :
                      - أنا لن أنساك ابدا ، فلا تنسني ..
                      وانصرف تتبعه نظراتي ويرتمي قلبي من ورائه .. وحين تدخل حليمة بالشاي يبدو لي شحوبها و سهوم عينيها .. نظرت إلي مليا وأنا أمسح دمعي بكم قميصي .. تشجعت و قلت :
                      - مسكين .. كأنه لم يخلق إلا للمعاناة ..
                      لم تجب ولكني أحسست أن داخلها كان يصرخ مؤيدا قولي .. ولتبدد أجواء الحزن الذي ران على الغرفة قالت و في نبرتها ما يشبه الإجهاش بالبكاء :
                      - هل تحب أن ترى العنزة و صغيريها ؟
                      - أجل ..
                      - لكن عليك بالتدثر جيدا لئلا تصيبك نزلة برد ..
                      عند عتبة الباب .. كانت العنزة تقف في وداعة و بقربها صغيراها .. انحنيت و لامست جبهتي خطمها فجعلت تتشمم وجهي وأنا أداعب الصغيرين اللذين التصقا بها .. تارة يتمسحان بها وتارة يقبلان على ضرعها بكل قوة .. نظرت إلى عينيها الوديعتين و خلتني أرى فيهما حليمة . كان الجو قد بدأ يصفو في الوقت الذي ابيضت فيه جوانب البيت بالثلج .. ووجدت نفسي أخاطبها في همس :
                      - ما أشقاك أيتها الجميلة ، و ما أتعس من يحبك .. كتب عليكما الشقاء مثلي .. لكني لست مثلكما .. على الأقل أنتما تستطيعان رؤية بعضكما البعض .. أما أنا فقد اختارت هي الفراق .. قد تعود وقد لا تعود .. صرت أخشى عودتها لأنها تكون نذيرا بالفراق من جديد .. لم أعد أثق بوعودها ولا بمبررات غيابها .. هي تحاول الهروب في كل مرة و أنا اعتدت على ذلك ..أحاول أن أنسى رغم أن هذا صعب ، بل أقرب للمستحيل . أرجوك .. كوني لطيفة معه كما أنت دائما .. هو يحبك فأحبيه . لن تجدي قلبا يضاهي قلبه طيبة و حنانا . لن تكوني سعيدة إلا معه .. "
                      العنزة مستمرة في تشمم جبهتي لكني أنتبه فجأة إلى قدمين مسمرتين إلى جانبي .. حليمة تنظر إلي بفضول .. ترى هل سمعت ما كنت أهمس به للعنزة ؟ .. لا شك في ذلك .. فعيناها ترمشان دامعتين و قد تورد خداها وجدا و تأثرا ..
                      [/align]

                      تعليق

                      • رشيد الميموني
                        مشرف في ملتقى القصة
                        • 14-09-2008
                        • 1533

                        #41
                        [align=center]27
                        [/align]

                        [align=justify]يبدو أن الإقامة عند غادة صديقي قد استهوتني ، واستعذبت حالة الركود الجسدي و النفسي .. لكن شيئا بداخلي كان يدفعني للرحيل من جديد .. تاقت نفسي للانطلاق عبر الأحراش و الوديان .. وهفت نفسي لمعانقة الغابة وأنسام سندياناتها و صفصافها .. واشتقت للمسير عبر الأودية والجلوس لحظات على ضفاف الغدران ، خاصة و أني بدأت أشعر بأن الجو بدأ يتغير مع أولى تباشير الربيع التي تلوح في الأفق .
                        ومع كل ما كان يعتلج في نفسي من لهفة لمغادرة البلدة الوديعة و أهلها الطيبين ، فإن شعورا بالذنب كان يقض مضجعي و أنا أتخيل صديقي في محنته .. وكثيرا ما كنت أمني النفس بالتسلل ليلا إلى منزله و مسامرته في غرفته الأنيقة أو اللحاق به في الكوخ .. لكني أتراجع خشية أن أزعج النائمين أو أن أسبب لهم قلقا حين يستيقظون صباحا و لا يجدونني في فراشي .
                        لاحظت حليمة سهومي و تطلعي نحو البروة المقابلة للمنزل حيث يسكن صديقي لكنها لم تعلق على ذلك .. وكثيرا ما كانت تقول مازحة :
                        - أرى أنك مشتاق إلى هناك .. أبي لا يعترض ولكنه لا يرى في ذهابك فائدة ما دام صديقك ليس متواجدا ..
                        - ليس متواجدا ؟ أين ذهب ؟ للرعي ؟.. أريد اللحاق به في الكوخ ..
                        أطرقت هنيهة ثم رفعت رأسها وهي تقول بوجوم :
                        - ولا هناك .. ذهب للعلاج ..
                        خفق قلبي بعنف :
                        - للعلاج ؟ .. هل هو مريض إلى هذا الحد ؟ ولم يخبرني ؟ أين يعالج ؟
                        - اهدأ .. لقد ذهب عند أحد معارفنا المشهورين ببركته .. سيعود عما قريب إن شاء الله .. هل تريد الخروج للتجول قليلا ؟ لا شك أنك سئمت الجلوس بين الحيطان ..
                        أحنيت رأسي أن نعم .. ثم انطلقت بين السواقي تحفني أشجار السنديان حتى وصلت إلى المنبع و تراءت لي الربوة التي حدثني عنها صديقي .. ترى هل ألغى فكرة بناء مسكنه هناك ؟ .. الهدوء يسود المكان إلا من خرير المياه .. فكرت في العروج على منزل أبويه لكني خشيت أن أصل و والده غائب .. قفزت إلى صخرة تحف بها المياه من كل جانب وجلست أتملى بمنظر النهر الهادر وقد أخذتني سنة فلا أنتبه إلا و بصري قد وصل إلى أسفل حيث تكونت بحيرة وسط الأشجار ، فأعود أنظر إلى ما تحت قدمي ، وسرعان ما أجدني من جديد أنظر إلى البركة .. ولأول مرة لا يثير في منظر الطبيعة أي إحساس .. هل هو القنوط و اليأس من لقاء غادتي ؟ لكن .. الم أعاهد نفسي على عدم التفكير بها من جديد ؟ .. متى عاهدت نفسي ؟ .. لا أدري إن كنت نسيت أو تناسيت .. ثم إني حتى ولو حاولت التفكير بها ، فسوف أكون قد سببت لنفسي قلقا و عدم استقرار .. أين هي ؟ و كيف السبيل إليها ؟ .. الأفضل أن أعرض عن كل هذا .. هل هو حزني على صديقي و تأثري بحالته ؟ .. ربما .. لكني في قرارة نفسي كنت أحس بشيء مبهم يقض مضجعي كلما تراءى لي وجه حليمة و هي بدورها تعاني في صمت .. كنت أستأنس بشبهها الكبير بغادتي ، وكان هذا يؤلم ضميري و أنا أرى نفسي في مكان كان صديقي أولى به مني .. ما الذي يشدني للبقاء هناك .. ولم لا أغادر البلدة ؟ أين أذهب ؟ .. الشيخ العجوز .. البحر .. شعرت بفرحة غامرة و أنا أتخيل نفسي من جديد في كوخ الصياد مستمعا إلى أحاديثه التي لا تنتهي .. إذن قضي الأمر وما علي إلا أن أخبر حليمة و أباها ثم انتظر الصباح لأنطلق نحو البحر .. نهضت للتو و قفزت من جديد من أعلى الصخرة .. فعادت أصوات المساء تشنف أذني بأنغام الخرير و زقزقة العصافير و خوار البقرات العائدة من الرعي وكأني أسمعها لأول مرة..
                        وجدت والد حليمة متكئا على مخدة في إحدى الحجرات و عيناه على الخارج يراقب قطيع المعز وهو يهرول نحو الحظيرة .. كدت أبكي من جديد و أنا ألمح العنزة تتقدم القطيع برشاقة .. هل أحست بغياب سيدها ؟
                        دعاني الوالد إلى الجلوس قائلا :
                        - أخبرتني حليمة أنك خرجت للتجول .. حسنا فعلت .. أرض الله واسعة و جميلة .. والدنيا عندنا هنا جنة .
                        - أجل عمي .. وهذا ما جعلني أبقى هنا طيلة هذه المدة .. وقد آن الأوان لكي أغادركم .. لقد كنتم في منتهى الطيبة و الكرم ..
                        - أعوذ بالله ..لا تقل هذا ..أنت ابني و ما فعلنا شيئا يستحق كل هذا الشكر .. لكن قل لي .. إلى أين ستذهب ؟
                        هل لك وجهة معينة أم أنك فقط سئمت منا ؟
                        و أطلق ضحكته الرنانة في الوقت الذي دخلت فيه حليمة بإبريق الشاي وبعض القطائف بالسمن و العسل .
                        لمحت منها إشارة خفية تدعوه للنهوض .. لا شك أنها تريد أن تفضي غليه بشيء هام يخص الأسرة .. نهض و هو ينظر بأسف إلى الإبريق و القطائف و خرج ، لكن كان بإمكاني رؤيته في الفناء و هو يصغي باهتمام إلى حليمة و قد علت وجهه البغتة .. أما هي فلم أكن المح إلا منديلها المخطط بالأحمر و الأبيض ، وجزءا من كتفها .. ثم شعرت بحركة غير عادية في البيت .. الكل يهرول ..ذهابا وجيئة .. وفي لحظة .. ساد الصمت .. فلم أعد اسمع شيئا و كأن الأرض انشقت عن ساكنيها و ابتلعتهم .. أين يكونون قد ذهبوا وما هذا الأمر الذي جاءت حليمة لتسر به إلى والدها ؟
                        نهضت بدوري لأستطلع الخبر فلم أجد أحدا .. خرجت و الظلام قد بدأ يسدل ستاره .. وقفلت أتملى بمنظر الليل وقد تلألأت النجوم في السماء الضاربة في السواد .. و أحسست برهبة المنظر خاصة حين رأيت شهابا يشق عنان السماء وخيل لي أن تراتيل شجية تنبعث من الفضاء المترامي الأطراف .. هل هي لحظة صعود روح من الأرواح إلى خالقها ؟
                        تراءى لي شبح يقترب من المنزل .. لا بد أنه لم يرني لأني لمحته يبحث عن شيء أمام الفرن .. هي حليمة .. ماذا تفعل و عم تبحث ؟ و ما هذا الاختفاء المفاجئ لكل أفراد الأسرة ؟ .. حليمة لن تدخل إلى البيت و تدل حركتها على أنها لا تريد أن يعلم أحد بمجيئها .. هل تريد أن تخفي عني قدومها كي لا اسألها ؟ ..
                        - حليمة .. ماذا هناك ؟ ماذا يجري ؟ خيرا إن شاء الله ؟
                        و كأنما لسعتها عقرب .. فانتفضت في مكانها و التفتت إلي غير مصدقة وجودي على عتبة الباب .
                        - لا شيء .. سوى أن أسرة المفضل طلبت منا مساعدتها في ..
                        - في ماذا ؟ ..
                        - لقد عاد المفضل منذ قليل .. صحبة فقيه .. و ..
                        لم تكمل .. فقد غلبها البكاء ..
                        - مالك حليمة .. وما الذي جرى ؟ ولم البكاء ؟ هل المفضل بخير ؟
                        - هو مريض .. مريض جدا .
                        شعرت بدوار و طنين يملأ أذني و سألتها :
                        - لماذا لم تأخذوني معكم لرؤيته ؟ أين هو الآن ؟
                        وفي اللحظة التي خطوت دون وعي نحو المنزل الآخر في الجانب الأعلى من البلدة ، لمحت شبحين يقتربان في تؤدة وهما منهمكان في الحديث بينما انسلت حليمة من جديد وغابت في الظلمة .. ميزت قامة والد حليمة و شخصا عرفت أنه إمام البلدة .. فلم أشعر إلا و أنا أتقدم نحوهما قاطعا همسهما :
                        - السلام عليكم .. اسمح لي عمي .. كيف حال المفضل ؟ وهل يمكنني رؤيته ؟
                        سكتا هنيهة و هما ينظران إلى بعضهما البعض ثم قال صاحب البيت :
                        - صبرا ابني .. لا تتعجل وعد إلى المنزل كي لا تصيبك نزلة برد .
                        ثم ابتعدا وهما لا يزالان يتحدثان في همس .. التفت إلى جانب الفرن لأجد حليمة قد عادت من جديد ..
                        اقتربت منها ، و على ضوء النار التي أشعلتها لمحت عينيها المنتفختين من البكاء ..
                        - حليمة أرجوك .. قولي لي ما الذي يحدث و كيف هو المفضل ؟
                        في هذه المرة .. نظرت بإمعان في عينيها فتناهت إلي من أعماقهما صرخة مدوية أعقبها نحيب متواصل .
                        مادت الأرض تحت قدمي .. التفت إلى المنزل هناك ثم عدت أنظر إليها متسائلا فلم أجد غير الجواب نفسه ، و أسمع نفس الصيحة و نفس النحيب .. عادت بي الذاكرة إلى ما كنت أتخيله من ترنيمة شجية تنبعث من السماء فوقف شعر رأسي و أحسست أن قدمي لم تعودا تستطيعان حملي فاستندت إلى كرسي خشبي مرمى إلى جانب الفرن كي لا أسقط .. ثم تلا ذلك مجيئا و ذهابا و هرولة من جديد .. كنت أريد أن أسمع كلاما يطمئنني و يبعد عني ما تمثل لي من حقيقة لا مراء فيها .. لكني ، على العكس من ذلك ، لم أسمع إلا همهمة و لم أر إلا إشارات مبهمة زادت من شجوني .. حتى جاء الضربة القاضية من إمام المسجد وهو يودع والد حليمة قائلا في أسى :
                        - إنا لله و إنا إليه راجعون .."
                        بالأمس اختفت غادتي .. و اليوم يغيب صديقي .. فماذا تخبئ لي الأيام ؟
                        [/align]

                        تعليق

                        • رشيد الميموني
                          مشرف في ملتقى القصة
                          • 14-09-2008
                          • 1533

                          #42
                          [align=center]28[/align]

                          [align=justify]كل شيء ينطق ربيعا .. في كل مكان يطل علي الربيع هامسا مبتسما .. تهتز الأرض و تربو .. وتينع مفترا ثغرها عن ابتسامة ساحرة .. تنظر إلي الأزهار بدلال و الأشجار تومئ إلي بحنو ، و الجدول يتطلع إلي في نشوة .. أنطلق بعيدا موغلا في الغابة المطلة على البلدة و كأني أسابق الزمن كي أصل إلى هناك .. صار هناك ملجئي كل أصيل ..
                          هل كان لا بد من مساحة زمنية كافية لكي أنتبه إلى ما يحيط بي من جمال و الربيع يطرق الأبواب معلنا عن وصوله بأبهى حلة ؟ .. كم مر عي من الوقت و أنا حبيس الغرفة الأنيقة حيث اعتكفت تماما و عزفت عن رؤية كل كائن ؟ .. وبينما كانت الدنيا في الخارج تتشكل خيوطا بأزهى الألوان و أبهاها ، كنت أنا طريح الفراش أعاني من صدمة أشد وطأ مما عانيته و أنا في الكوخ صريع الحمى أنتظر أن تنهشني الذئاب بأنيابها الحادة ، قبل أن يسعفني صديقي المفضل ويحملني إلى البلدة .. المفضل ؟ .. كأنه اسم غريب يتردد على شفتي .. من يكون هذا المفضل ؟ .. ولم كل هذه المرارة التي تصاحب النطق به ؟ .. كنت أحاول أن أركز ذهني كي أعرف ما الذي حدث لكني أعجز و أجد نفسي موغلة في ضباب كثيف يلفني ثم يكتنفني سواد مرعب .. كنت أتذكر فقط لحظة انطلقت كالمجنون نحو بيت صديقي لأقتحم حشد الجالسين حول الجسد المسجى و أنزع عن الوجه الحبيب الغطاء أمام ذهول الجميع .. ياااه ..كم كان بهيا وكم زادت وسامته حين وقع بصري عليه .. بل إن وجنتاه بدتا لي أنضر وخيل إلي أنها دافئة موردة .. انهلت عليها تقبيلا و دموعي تبللها .. ثم مسحت بكفي على جبينه قبل أن أغطي الوجه من جديد و انهض و أتمشى قليلا مترنحا ، ثم أتهاوى عند عتبة الباب ..
                          كانت غيبوبة لم أستفق منها إلا بعد أيام من مواراة جثمان صديقي الثرى .. كنت أستمع إلى حليمة و هي تحدثني عن هذياني و عصبيتي أثناء غيبوبتي حتى صار الكل يخشى أن ألحق بالمفضل ..
                          ترى ماذا كنت أقول أثناء هذياني ؟ وهل تلفظت بما يشير إلى حب صديقي وعشقه لغادته ؟ .. كنت أنظر إلى حليمة بريبة وهي تحدثني عن هذياني ، فتبتسم و تحمر وجنتاها .. و أعلم أني أفرغت كل ما كان يحويه صدري من أسرار صديقي .. لكن ، لماذا أسميها أسرارا ؟ ألا تكون حليمة أعلم و أدرى مني بما كان يكنه لها المفضل من حب صامت ؟ .. أعترف أن انتهائي إلى هذه الفكرة جعلني أتنفس الصعداء مؤقتا ، لأني خشيت أن أكون تحدثت عن غادتي الهاربة أيضا .
                          طبعا تأجل رحيلي عن البلدة .. لم يكن لدي خيار .. فحالة الوهن التي وصلت إليها لم تكن تسمح لي حتى بالنهوض فبالأحرى صعود الجبال و اقتحام الوديان .. ثم إني كنت سأصطدم بالمعارضة القوية لوالد حليمة فيما لو أعلنت عن نيتي في الرحيل .
                          بدأت أولى خطواتي المحتشمة تقتصر على محيط البيت لأجلس ساعات تحت أشجار الإجاص و المشمش التي بدأت تزهر. وكثيرا ما حملت معي الكرسي الخشبي بجانب الفرن لأتابع حليمة و هي تضع الخبز فيه .
                          وشيئا فشيئا صرت أقوى على السير بالقرب من البلدة ، فأصعد إلى المنبع و أقف طويلا عند الربوة التي كانت محط آمال صديقي و أحس بقلبي يعتصر ألما .. ولطالما هفت نفسي لصعود الجبل و ألج إلى الكوخ الذي ولا شك صار يشكو من فقدانه لصاحبه .. ترى هل صار موحشا الآن ؟ إذن علي بالعودة إليه و ترتيبه إكراما لروح المفضل الحبيب .. في تلك اللحظة بدت لي الفكرة صعبة المنال لكني كنت أعلم أن لا شيء سيردعني و يوقف جموح نفسي للوصول إلى هناك إن عاجلا أو آجلا ..
                          الحزن و الأسى كانا يوغلان في النفس و القلب ، ومقابل ذلك كانت الدنيا تتفتح و تزدهي احتفاء بالربيع ، ثم إن عناية أهل حليمة بي خفف علي مصابي . لكن الشيء الحاسم الذي جعلني أنفض عني ما علق بي من شجن هو إصراري على فعل شيء من أجل صديقي .. فكرت في العناية بالكوخ و صرت أهتم بالعنزة أكثر من ذي قبل و نظرات حليمة تتابعني في فضول .. سرح خيالي إلى الربوة و تمنيت لو يكون هناك عشي الجديد .. بل إني و في غمرة حماسي بالبحث عن كل شيء أفعله إكراما لروح الفقيد ، صرت أركز اهتمامي أكثر بحليمة فأساعدها في بعض أعمالها الشاقة كالسقي و جمع الحطب و إشعال النار بالفرن .. وكانت تتمثل لي نظرات المفضل المليئة حزنا و أستشف منها رضا و طمـأنينة .. فأجد في مساعدة غادته ..
                          زياراتي للربوة لا تنتهي .. أجد نفسي كل يوم جالسا عند الجانب الأيمن حيث دفن صديقي .. أتأمل استطالة القبر بينما يسود سكون تام .. لا شيء يتحرك ولا شيء يهمس أو ينبس بصوت .. ربما احتراما لهذا الراقد في سلام الآن .. هل أغبطه لأنه ارتاح من كل هذا العناء ؟ على الأقل ، ارتاح وارتاحت نفسه وقلبه من هذا الذي نسميه حبا .. أقارن بين حالتي وحالته فأجده أوفر مني حظا ، لأنه بكل بساطة كان ينظر بواقعية إلى حبه مع يأسه منه ، بينما أنا أغرق في مستنقع اليأس ومع ذلك أعيش هذا اليأس و أجري وراء السراب .
                          اليوم .. أنا هنا في الكوخ .. قدمت إليه باكرا بعد أن أعلمت الأسرة برغبتي في ذلك .. حملت معي الزاد الكافي .. وانطلقت أذرع الأرض المخضرة مشيا حثيثا تستقبلني نسمات الصباح الباردة قبل أن تطل الشمس من أعلى الجبل .. توقفت كثيرا عند بعض الجداول لأنعش جبهتي بمائها البارد .. ثم أتابع السير وقد شملني حبور لا يوصف ، وكأني لم أكن بالأمس صريع الحزن على فقدان صديقي .. كنت انظر إلى ما حولي من أشجار تحجب عني رؤية الجبال و أتخيل أن روح صديقي تتعقبني فأتوقف قليلا و أصيخ السمع مترقبا نداء أو ضحكة .. لكن لا شيء كان يملأ الجو سوى حفيف الأوراق و هي تتناغم مع النسيم و رقرقة الجداول المنسابة مياهها في إيقاع رتيب لكنه ممتع .. زقزقة العصافير و تنقلها في خفة من غصن لآخر جعلني أحس ببراءتها و انسياقها مع غرائزها دون تكلف .
                          ربما طافت بمخيلتي غادتي بسرعة كلمح البصر و أتساءل : هل حقا نسيتها ؟ أم أني أحاول جاهدا على تناسيها ؟ لماذا أريد نسيانها ؟ هل وجدت ما يعوضني عنها ؟ هل يكفيني تأمل وجه حليمة لأتذكرها و أعيش على ذكراها ؟ قد يكون هذا صحيحا ، لكني سرعان ما كنت أطرد عني مثل هذه الأفكار احتراما لذكرى صديقي . هل أذهب للبحث عنها ؟ لم لا تبحث عني هي الأخرى ؟ لم أحمل نفسي مسؤولية الفراق بينما كانت هي من ورائه ؟ ترى هل تكون نهايتي مثل صديقي فأرحل دون أن أفوز باللقاء ؟
                          وصولي إلى الكوخ بدد ما بدأ يشملني من أسى .. ووقفت على مقربة منه .. نتبادل النظرات .. أحس به يبكي و ينتحب في صمت .. يبدو أنه يعلم بمصير من كان يسكنه طيلة فصل الربيع و بعض من الصيف . تقدمت بحذر احتراما لمشاعره و لمست بابه برفق فانفتح دون عناء .. أثارت رائحة المكان أشجاني و جال بصري بأنحائه .. هناك الغطاء الصوفي الذي دثرني به أول مرة و المصطبة التي تنازل لي عنها عند أول لقاء لنا هناك .. كل شيء يهتف باسمه .. كل شيء ينطق بحضوره وكأنه لا يزال هنا .
                          قضيت النهار كله في إزاحة ما تراكم عند الباب من تراب بفعل السيول و الرياح و نفضت الغبار عن الباب ثم رششت الماء على جوانبه فبدا متلألئا .. جلست أستريح و أتناول زادي .. كانت شهيتي كبيرة فالتهمت طعامي بشراهة .. ثم استلقيت قرب الكوخ مستظلا بأشجار السنديان الجاثمة من فوقي في حنو .
                          أخذتني سنة و جسدي يغلي حبورا ، تعمه سكينة تامة .. يتناهى إلي ثغاء بعيد يصاحبه نباح .. أين يكون هذا القطيع ؟ .. تمنيت لو اصطحبت معي العنزة .. عنزة المفضل كما صرت أسميها .. أو حليمة كما كان يحلو لصديقي أن يناديها . ستذكرني دائما به .. فقط ؟ أم أن هناك شيئا آخر لا أريد الإفصاح به و أحاول تجاهله ؟
                          كانت للمعزة مكانة رفيعة عندي .. المعزة كانت تشكل رمزا لحب صديقي تجاه غادته .. حليمة تشبه غادتي تماما .. إلى أين يوصلني هذا الهذيان ؟
                          انتبهت فجأة على مأمأة بالقرب مني .. استويت جالسا والتفت نحو المنحدر لأجد فعلا العنزة تركض نحوي ..
                          ومن ورائها بدت حليمة .
                          [/align]

                          تعليق

                          • رشيد الميموني
                            مشرف في ملتقى القصة
                            • 14-09-2008
                            • 1533

                            #43
                            [align=center]29[/align]
                            [align=justify]
                            لم أحرك ساكنا و أنا أترقب وصول حليمة إلى حيث أنا .. مغمض العينين ، تسري في جسدي نشوة الهدوء و المتعة بمنظر الأشجار المحيطة بي من كل جانب .. أحسست بها تتوجه أولا إلى الكوخ و تتوقف .. طال وقوفها ففتحت عيني و استويت جالسا .. بينما أقبلت العنزة تتشممني وكأنها اشتاقت لأن أربت على وبرها .
                            - مساء الخير ..هل كنت نائما ؟ .. لم أشأ إزعاجك .. يبدو أنك سبقتني إلى الكوخ وتعهدته بما يلزم ..
                            - مساء الخير .. لم أكن أعلم أنك آتية إلى هنا . عملت اللازم ، لكن ذلك يبقى ناقصا .. تلزمه لمسة خاصة .
                            ضحكت ثم أضافت :
                            - ما هو إلا كوخ يستريح فيه الرعاة لمدة محددة .. وما عملته يكفي ..
                            لكني شردت و أنا أتمتم في سري :
                            - ليس كوخا عاديا .. بل هو أكثر من ذلك ..
                            - هل قلت شيئا ؟
                            نظرت إليها طويلا ، و اعتقد أنها فهمت ما أعنيه رغم عدم سماعها لما قلت .. تضرج خداها احمرارا وأشاحت بوجهها كي لا ألاحظ ذلك ، ثم قالت مغيرة موضوع الحديث :
                            - يبدو أن العنزة اشتاقت إليك ..
                            - نعم .. كما اشتقت إليها أنا .. كنت أحس برغبة في مداعبتها منذ وصولي .. قولي .. هل أتيت قصد إعداد الكوخ ؟
                            - أجل .. كلفني أبي بإعداد الزاد للراعي الذي ... سوف ... يأتي .. أعني الراعي الجديد ..
                            ساد الصمت .. ولا شك أن ما كان يدور بخلدها هو نفسه الذي كنت أفكر فيه .. كانت لحظات قاسية و أليمة لكلينا .. الراعي الجديد ؟ .. مرة أخرى يرن اسم المفضل كالطنين حتى ليكاد يصم أذني .. واستطردت حليمة قائلة دون أن تنجح إخفاء تهدج صوتها :
                            - وكلفني بإبلاغك ضرورة العودة باكرا حتى لا تضل الطريق .. ستعود معي .. و أظن أن الوقت قد حان .. سيأتي الراعي بعد قليل .. بل .. إنه أتى .. هاهو ..
                            فعلا جاء الراعي صحبة القطيع . شاب في مقتبل العمر و يفور حيوية . ذكرني بالمفضل . هكذا كان حين التقينا أول مرة .. آلمني حضوره وشعرت نحوه بالنفور .. لكنه أقبل علي يحييني مبتسما ، فلم أملك أن مددت يدي وشعوري يتبدد ليحل محله إحساس بالود .. ما ذنبه هو إن أخذ مكان المرحوم ؟ .. حدثتني نفسي أن ألازمه بضعة أيام ، أو على الأقل هذه الليلة ، لكن منظر الشمس وهي آيلة للمغيب ، و ضرورة عودة حليمة جعلني أخجل من تركها تعود وحيدة عبر الأدغال .. هي لن تهاب شيئا ولكن الأصول تلزمني بمصاحبتها .. ماذا ستقول عني أو ماذا سيقول عني والدها حين يراها مقبلة وحيدة ، و تخبره أنني قررت المبيت هنا ؟.. يعني أنني رفضت دعوته .. وفي هذا نكران للجميل الذي غمرني به هو و أسرته منذ وصولي عندهم ..
                            ترى هل كان هذا المونولوج يعبر فقط عن الحرج الذي كنت أشعر به تجاه أسرة حليمة أم أن لا وعيي كان يبحث عن الأسباب التي تجعلني أرافق حليمة في طريق عودتها دون الشعور بالذنب تجاه صديقي الراحل ؟
                            تحدثت حليمة إلى الراعي و أبلغته تعليمات والدها ، ثم ناولته الزاد قبل أن تتوجه نحوي منتظرة ما سأفعله .
                            - هل نذهب ؟
                            التزمت الصمت قليلا و أنا أداعب العنزة التي لم تتوقف من مص شحمة أذني ، لكني قلت أخيرا :
                            - أجل .. يجب أن نذهب قبل أن تغيب الشمس و يحل الظلام ..
                            سلمت على الراعي الذي بدا مبتهجا بعمله الجديد .. وتركناه يجمع بعض الحطب ليشعل النار و يصطلي عندما ينزل الظلام و يبرد الجو ..
                            لم نتبادل أثناء الطريق كلمة .. كنا نسمع فقط وقع خطواتنا وهي تدوس بعض الأوراق الجافة محدثة خشخشة ممتعة .. كنت امشي أمامها و كثيرا ما ألتفت لأجدها بعيدة من ورائي فأتوقف حتى تصل .. إمارات التعب بادية عليها و هي تلهث . لا أدري لم كنت أتعجل الوصول . هل كنت خائفا من شيء أجهله ؟ أم تراني كنت أتجاهل ذلك ؟ لكن منظرها أثر في فقلت :
                            - نحن نقترب من الوصول كما ترين .. لكن إذا رغبت في التوقف لتستريحي قليلا ..
                            - أجل .. قدمي تؤلمني من المشي طيلة النهار .. شكرا لك .
                            كانت هناك صخرة تحاذي الطريق .. ومنها نستطيع رؤية البلدة و هي تستكين في دعة وطمأنينة بين الروابي و الحقول اليانعة .. وبالقرب منها كان النهر وقد التف من حولها كالحزام .. جلسنا نتأمل في صمت المنظر وقد غرب آخر شعاع من الشمس من خلفنا .. وهدأ النسيم التي كانت يهب بعد الظهر فلم يعد هناك شيء يتحرك من حولنا .. نظرت إلى الشجر فرأيت الأوراق جامدة .. ولا حركة .. حتى الطيور آبت إلى أوكارها وتوقفت زقزقتها .. صمت سمح لنا أن نسمع نباحا بعيدا و خوارا آتيين من البلدة التي كنت أجول عبر أنحائها ببصري و أتوقف طويلا عند الربوة حيث قبر صديقي .. ولا أدري ما الذي دفعني للالتفات فجأة نحو حليمة لأجدها تنظر بدورها إليه .. تلاقت أعيننا في ما يشبه التساؤل وكأننا ضبطنا بعضنا البعض متلبسين بشيء كان علينا تجنبه .. فلم أملك إلا أن أقول محاولا تبديد وقع المفاجأة :
                            - رحمه الله .. كان نعم الصديق المخلص ..
                            بينما همست هي بصوت أقرب ما يكون من الإجهاش بالبكاء :
                            - رحمه الله ..
                            التفت إليها من جديد .. فلم تملك نفسها من البكاء وقد علا نحيبها .. ربما كانت تنتظر مثل هذه الفرصة لتنفس عما حاولت كبته منذ فترة طويلة من المعاناة و اليأس. بكت طويلا ، بينما كنت أغالب دموعي . ثم لم أشعر إلا و رأسها يميل على كتفي .. كنت أنظر إليها واجما و أنا أفكر في أمرنا نحن الاثنين وأرثي لحالنا ..
                            تعيسان التقيا .. محب أعياه البحث عن غادته ، و عاشقة حرمت ممن تحب قبل وفاته و بعدها .. ترى هل وجدت في ما يذكرها بالفقيد الغالي ؟ وهل يمثل لي شبهها بغادتي عزاء لفشلي و خيبتي ؟
                            كانت هذه التساؤلات تغزو فكري وأنا أتأمل عينيها النجلاوين الصافيتين مثل صفاء عيني غادتي تماما . ولو خيرت في تلك اللحظة لاخترت تأملهما طويلا دون ملل .. هنا أدركت أن شوقي الدفين لغادتي لا يمكن أن ينسى سريعا و أن حبي لها لا يمكن أن ينمحي بسهولة حتى ولو طال غيابها دهرا . وما زلت أرنو إلى عيني حليمة حتى تزحزحت من مكانها و انتصبت واقفة وهي تمسح دمعها بكم قميصها . ثم انحدرنا لا نلوي على شيء وقد بدأ الظلام يحجب عنا رؤية الطريق .. لكننا كنا قريبين من المنزل حين ساد الظلام تماما . أسرعت هي إلى غرفتها بينما لبثت أنا على عتبة الباب أحدق في سواد الليل مترنما بصوت خافت :
                            سألت عقلي فأصغى
                            وقال لا .. لن تراها
                            وقال قلبي أراها
                            ولن أحب سواها .
                            ما أنت يا قلب قل لي
                            أأنت نعمة حبي ؟
                            أأنت نقمة ربي ؟
                            إلى متى أنت قلبي ؟
                            [/align]

                            تعليق

                            • رشيد الميموني
                              مشرف في ملتقى القصة
                              • 14-09-2008
                              • 1533

                              #44
                              30

                              [align=justify]الأيام تمر رتيبة .. لكني لا أحس بأي ملل . فنهاري أقضيه في صعود الجبال أو السير عبر الوديان وفي بعض الأحيان ألتزم منطقة قريبة من البلدة وأجلس على حافة الغدير أتملى بمرأى المياه وزبدها عند الصخور وهي تجري في صخب .. لم يتغير أي شيء .. ولبثت على عادتي في زيارة الكوخ حيث تمتنت علاقتي بالراعي الجديد الذي وجد في مجيئي عنده فرصة للاستئناس .. ثم أعود لأمر على قبر صديقي المفضل .. لم يتغير شيء سوى أنني لم أعد أرى حليمة منذ ذاك المساء عندما عدنا من الكوخ .. كأنما انشقت الأرض و ابتلعتها .. خرجت مرارا ألف حول المنزل أو أنتظر بالقرب من الفرن ، ثم أذهب إلى المنبع و أظل أترقب ظهورها مع صويحباتها . لكنهن كن يمررن بدونها .. حتى خجلت من كثرة وقوفي على التلة القريبة من المنبع .. كنت أتخيل ابتسامة السخرية أو الشفقة على شفاههن فأعود حزينا .. وألج المنزل متعمدا أن أذهب إلى المطبخ تحت ذريعة الشرب أو غسل يدي .. دون جدوى .. أين تكون ذهبت ؟ وهل هناك سبب وراء اختفائها ؟ هل يكون لعودتنا الأخيرة وما تخللها من مواقف أثر في هذا الاختفاء ؟
                              حاولت أن استشف من الأب شيئا أو ألمح من تصرفاته تغيرا من ناحيتي ، لكني لم أجد إلا اللطف و العناية و الترحاب .. لم يحدثني عنها وعن غيابها بينما كنت أتأجج فضولا ولهفة لمعرفة أين تكون .
                              نحن الآن جالسان على سطح المنزل .. جو ربيعي ممتع .. الليل حالك لكن النجوم تتلألأ ببهاء في سماء بدت لي كقبة مطرزة .. و في الأفق بدت هالة فوق الجبل تعلن عن قرب بزوغ القمر .. تحدثنا طويلا و تعمدت أن أنطق باسم حليمة بعفوية وأنا أتحدث عن مشقة العمل في الحقل .. ودون أية مقدمات قال الرجل :
                              - إيه .. مسكينة حليمة .. لشد ما تعبت .. ولم تعد تطيق العمل فاختارت أن تذهب عند خالتها لتستريح قليلا .
                              خفق قلبي بعنف حتى خشيت أن يسمع الأب نبضاته ، وقلت بلا مبالاة :
                              - الله يكون في عونها و عون كل العاملين هنا .. يجب أن ترتاح ..
                              - هكذا قلت لها .. لكني أعرفها .. لن تستمر طويلا هناك .. وستعود سريعا .. المشكلة أنها في القرية التي تقع وراء هذا الجبل .. وسأضطر للذهاب لكي أعود بها .. لكن .. لم لا تذهب أنت ؟ ..
                              - أنا ؟
                              قلتها بلهجة اختلط فيها الفرح بالدهشة .. كنت تحت وقع المفاجأة ولم أدر بما أجيب ، فتابع الأب قائلا :
                              - أعرف أنني سأثقل عليك .. و لك الخيار .. لكني لن أجد أحسن منك بخصوص يصحبها إلى هنا ..
                              أطرقت صامت و أنا أتخيل ما سوف تقوله لي حليمة عن هذا الغياب المفاجئ .. طبعا لن أصدق أن التعب وحده كان من وراء ما أسميه أنا هروبا . هل تتوقع أن أذهب لأعود بها ؟ كيف سيكون موقفها ؟ هل هي مناسبة لكي أعتذر للأب و أغادر هذه البلدة دون رجعة ؟ ما الذي يشدني إليها ؟ وما الذي تبقى لي فيها بعد رحيل من كان الفضل له في التعرف على البلدة ؟
                              عادت فكرة الذهاب عند العجوز على الشاطئ .. فتنازعني إحساسان .. واحد بالسعادة لما سوف ألاقيه عنده من ترحاب و حكمة في القول و العمل ، وآخر بقلق لا أدري كنهه و أنا أرى نفسي مغادرا مكانا عشت فيه فترة من السعادة و الطمأنينة . لبثت أفكر في أي القرارين أتخذ لكني عجزت عن حسم موقفي .. وفضلت أن أؤجل ذلك إلى ما بعد عودة حليمة ..
                              ارتاح الأب لموافقتي الضمنية و هيأ لي بغلا لامتطائه .. رفضت في بادئ الأمر لأنني أعشق السير مشيا عبر الطبيعة .. لكنني فكرت في حليمة و مدى التعب الذي سوف تكابده وهي تصعد مرتفعا أو تنزل منحدرا .. فما كان مني إلا أن استلمت لجام البغل و انطلقت .. لحسن حظي أن أحد خدمه كان سيرافقني في ذهابي وعزمت على أن يمتطي هو البغل بدلا مني .. فكان هذا مثار دهشته .. لكني شرحت له الأمر ورجوته أن يقبل ففعل ..
                              الأماكن تكاد تتشابه .. لكني لم أر في حياتي قط مثل هذه المنطقة التي أتواجد فيها .. الجبال لها شكل موحش وهي تبدو على هيئة صخور منحوتة .. يغلفها لون أسود يزيدها وحشة و هيبة .. أما حين أسير محاذيا الوادي فإن صخور النهر الملساء تطل من الماء كرؤوس الشياطين .. ولم أكن ادري هل حقا كانت الجبال بذاك المنظر الموحش أم أنها حالتي النفسية التي بدأت توغل من جديد في متاهة قاتمة من اليأس . ورغم هذا المنظر الذي كان يبعث في النفس قشعريرة فإني كنت شارد الذهن مشتت الفكر لا أدري ما يجري من حولي ولا ما يقوله رفيقي عن المنطقة و عادتها ..
                              عند أحد الغدران توقفنا .. نزلت إلى حيث بعض الصخور الصغيرة وجعلت أنط عليها حتى صرت في وسط النهر .. و صرت أملأ الماء بكفي و أرش على وجهي الملتهب من شدة الحرارة التي ارتفعت مع توسط الشمس كبد السماء .. و أيضا لتضارب أحاسيسي و اضطراب أفكاري .. كان الماء يهدر من حولي و أنا أرش بدون انقطاع .. انتعشت كثيرا و التفت إلى رفيقي الذي ظل يراقبني على ضفة الغدير ، فوجدته يضحك .. وتناهى إلي صوته من خلال هدير الماء وهو يصيح :
                              - الأفضل لك أن تغطس بدل ذلك .. الماء وفير و الحمد لله ..
                              ضحكت أيضا .. لكن شيئا ما أوقف ضحكتي .. لا أدري لم تمثل لي وجه صديقي المفضل .. نفس الضحكة الرنانة التي كان يطلقها حين كنا بالكوخ .. وجم رفيقي لرؤيتي على تلك الحالة ونهض يحث البغل على المسير .. لم يشأ أن يركب بدوره .. وسرنا طويلا دون أن نتبادل كلمة .. أحسست أنني أخطأت حين وجمت أمامه .. ربما يحاسب نفسه الآن على ذنب لم يقترفه ، ووجدت نفسي اسأله دون وعي :
                              - هل كنت تعرف جيدا المفضل ؟
                              - رحمه الله .. كنا نلتقي أحيانا بالكوخ و نتقاسم الطعام .. لم يكن لي عمل قار .. أشتغل اليوم عند هذا و غدا عند ذاك .. حتى تدخل هو لدى السيد و توسط لي .. فقبلني عنده .
                              - مسكين .. لم يمهله المرض حتى يعيش حياته مثل الناس جميعا .. حتى حلمه ببناء منزله على الربوة لم يتحقق .. كنت أمني نفسي برؤيته عريسا ..
                              لا أدري لم فهت بمثل هذا الكلام ؟ هل كنت أريد استدراج الآخر لمعرفة مدى اطلاعه على أسرار زميله .. حمى الفضول تنتابني .. ما الذي أريد معرفته بالتحديد ؟ هل كانت أشياء بداخلي لا أجرؤ على البوح بها ؟ ومن جديد شعرت بجسمي يتقد حرارة حتى خشيت أن أقع فريسة الحمى كما حدث لي في الكوخ من قبل .. ولحسن الحظ بدت طلائع القرية التي نقصدها تبدو لنا عند سفح الجبل مما جعلني أنفض عني هواجسي و أحس بنوع من الحبور لا أدري كنهه ..
                              تركت الخادم يسير إلى حيث منزل خالة حليمة لإخبارها بالأمر .. وبقيت مستندا عند جذع شجرة .. أقبلت صبية تدعوني في حياء إلى حيث البيت الكبير .. نهضت في إعياء و ذهبت إلى هناك لأجد خالة حليمة قد أعدت لبنا و دقيقا مفتولا .. سألت عن صاحب البيت فأخبرتني أنه خرج للصيد و أن حليمة تستعد للعودة ..
                              - حسنا .. سوف أنتظرها عند الدوحة الكبيرة ..
                              عدت أدراجي بعد أن شربت اللبن بشهية .. كانت الشمس قد مالت إلى الزوال .. إذن فسوف نصل عند الغروب لأنني كنت اعرف أن حليمة لن تتحمل المشي الحثيث الذي مشيناه أنا و الخادم ، رغم أنها ستكون راكبة البغل ..
                              أخذتني سنة و أنا مستند إلى جذع الدوحة أرنو إلى أغصانها وقد بدأ حفيفها يزداد مع ارتفاع هبوب الريح .. انتبهت إلى أن الأفق بدأ يظلم .. ماذا ؟ .. هل ستمطر السماء من جديد ؟ .. لا شيء يدعو للعجب .. فأيام الربيع لا تستقر على حال و إن كانت أيام الصفاء أطول .. أغمضت عيني قليلا منتشيا بمداعبة الريح لشعر رأسي .. ولبثت هكذا حتى أيقظني صوت حليمة ضاحكا :
                              - إذا كنت تأمل في العودة باكرا بهذه الطريقة .. فلا تحلم بذلك ..
                              - أهلا بك .. لم أكن نائما و إنما كنت أنتظرك و أخذتني سنة ..
                              - يعني أنني لو لم آت في هذه اللحظة للبثت تنتظر إلى ما شاء الله ..
                              ضحكت بدوري و قلت و أنا أنهض وأمسك بلجام البغل :
                              - طبعا كنت سأذهب للمناداة عليك لو تأخرت قليلا .. هيا لنسرع .. فربما تمطر السماء عما قليل ..
                              - هل تخاف المطر ؟ أم أن الرعد يفزعك مثلي ؟
                              - لا ولكني أخاف عليك من البلل .. وقد تمرضين ..
                              - من قال لك إن المطر يؤثر في .. أنا أحبه .. وكثيرا ما كنت أسير تحته فيمتعني .
                              بدت لي أكثر إشراقا من ذي قبل ولاحظت أن مسحة الحزن التي لازمتها منذ رحيل صديقي ، قد انتفت عنها وحل محلها بشر و حبور .. شعوري نحوها كان متضاربا .. فمن ناحية كنت آخذا عليها نسيانها لذكرى من كان يحبها حتى العبادة .. ومن جهة كنت مفتونا بشبهها الكبير بغادتي .. هذا الشبه الذي صار يزداد مع مرور الوقت حتى صرت أخال نفسي أمام الأخرى ..
                              في هذه اللحظة و نحن نصعد الجبل ، بدأ الرعد يسمع جليا بين الوديان وصارت السماء ملبدة بالغيوم الداكنة .. ولم تلبث قطرات المطر أن بدأت تهطل .. شددت اللجام بقوة حتى لا يجمح البغل خوفا من قصف الرعد والتفت إلى حليمة لأجدها قد أغمضت عينيها منتشية بالمطر .. تذكرت ما كنت أفعله هناك قرب عشي وتذكرت الليلة الماطرة حين كنا نعيش أنا وغادتي أجمل لحظات العشق قبل أن ينتابها جنون الرحيل وترحل ..
                              مع اشتداد هطول المطر اضطررنا للجوء إلى أقرب كهف محاذي للطريق الذي كنا نسلكه .. وهناك انهالت الذكريات تغزو فكري وكأنما أعيشه في هذه اللحظة كان وليد الأمس فقط .. تذكرت حين كنت بباب الكهف هناك بالقرب من عشي الدافئ أنظر إلى ثورة الطبيعة برقا و رعدا و مطرا .. و إلى جانبي كانت العصفورة المبللة تقبع في طمأنينة .. الآن .. أنا بباب هذا الكهف الرهيب .. و بداخله كانت حليمة تعصر منديلها المبلل ، بينما بدت جدائل شعرها من تحت غطاء رأسها ، ملتصقة بجبينها ..
                              جلسنا ننتظر انتهاء العاصفة العابرة .. و في لحظة ظننا أنها قد ابتعدت ، هز المكان دوي هائل بعد أن أضاءت السماء بنور يخطف الأبصار .. خلت أن السماء ستقع على الأرض .. ارتج الكهف ارتجاجا ولم أنتبه إلا و حليمة تقبل نحوي لتمسك بذراعي وهي ترتجف .. أردت أن أخفف عنها مازحا فقلت ..
                              - ألا زلت مصرة على المسير تحت المطر ؟ .. هيا اخرجي ..
                              لكن قولي لم يجد الأثر المنتظر .. بل خيل إلي و أنا انظر إلى وجهها أن قطرات الماء المنسكبة من شعرها قد اختلطت بعبراتها .. هل تبكي ؟ .. أهي خائفة ؟
                              - أعتذر .. لم أكن أقصد السخرية ..
                              - أريد أن أعود إلى البيت .. أخاف أن أموت هنا ..
                              كانت تقول ذلك و جسمها ينتفض .. كنت أحس به يزداد التصاقا بي وكأنها تبحث عن الأمان .. فلم أملك إلا و أنا أحيطها بذراعي بوجل .. بينما كان ذهني شاردا .. أتأمل الأفق حيث تمثل لي وجه صديقي الراحل .. حاولت أن استشف من ملامحه شيئا فلم أنجح ..
                              [/align]

                              تعليق

                              • رشيد الميموني
                                مشرف في ملتقى القصة
                                • 14-09-2008
                                • 1533

                                #45
                                [align=center]31[/align]
                                [align=justify]
                                [align=justify]
                                كم من الوقت لبثنا ننتظر هدوء العاصفة ؟ لا أدري .. ربما لأني كنت في غيبوبة ولا أفقه ما يدور من حولي .. كنت مشتت الذهن ، شارد الفكر .. وفي لحظات استرددت فيها وعيي ، كنت أحدق في الظلام الذي حل ، منزعجا مما قد يسببه تأخرنا عن البيت من قلق لأسرة حليمة .. حليمة نفسها لم يكن يبدو عليها أنها في أتم وعيها .. كنت أسترق النظر على وميض البرق إليها فأجد عينيها ساهمتين وكأنها تحلم ..
                                الآن هدأ كل شيء .. ومرت العاصفة تاركة سكونا تاما .. إلا من رقرقة الجداول و السواقي التي اندفعت في نشوة نحو الوادي .. وبدت السماء متلألئة من جديد بنجوم تنتشر عبرها كأنها لآلئ .. وحين أحدق مليا إلى الأعلى ، أجد بعضها على شكل ضباب يغطي مساحة شاسعة من الفضاء .. هل نسير في هذا الظلام الدامس ، أم ننتظر الصبح ؟ .. في كلا الحالتين ، لن أشعر بالاطمئنان . أريد أن أتزحزح قليلا لكني لا أريد أن أزعج حليمة وهي مستندة برأسها على كتفي .. أحس بأنفاسها وأعود لأحدق في الظلام أمامي في الأفق لعل وجه الراحل يطل من جديد و أتفحص ملامحه .. حليمة بدورها تنظر إلى الأفق .. هل أؤاخذها إن فعلت ذلك ؟ .. ما شأني بها و ما دخلي بعواطفها .. ما يهمني هو احترام ذكراه و الاطمئنان على أنني لم أقم بشيء يسيء إلى هذه الذكرى .. وفي لحظة ، فاجأتني حليمة و رأسها لا يزال مستندا كتفي :
                                - هل رأيته أنت أيضا ؟
                                - نعم .. لكنني لم أتبين ملامحه جيدا .. و أنت ؟
                                تنهدت طويلا ولم تجب ..
                                - كان يحبك كثيرا .. لكنه كان يائسا ..
                                رأيتها تطرق .. هل أثرت أشجانها .. يا لي من غبي .. بل يالي من سادي أتلذذ جراح الآخرين ..
                                - اعذريني .. لم أكن أقصد تذكيرك بالماضي .. قولي لي .. هل تعرفين الطريق جيدا ؟
                                - لماذا ؟ هل أنت مستعجل ؟
                                - لا .. ولكني خائف مما سوف نسببه لأسرتك من قلق ..
                                سكتت قليلا وهي تلتفت حولها ..
                                - اسمع .. منذ زمان و أنا أتوق لأعيش مثل هذه اللحظات بين الطبيعة ليلا .. بعيدا عن البيت و ضوء الشموع و الفنانيس .. وها قد واتتني الفرصة لأفعل ذلك .. ما ضرني لو قضيت ليلة أرتع و العب على هواي ، قبل أن أعود إلى البيت و أنهمك في العمل ؟ .. هذه الرحلة جعلتني أحيا من جديد وأستعيد حيويتي بعد فترة كدت أموت هما و غما ..
                                كنت أستمع إليها متعجبا من تعابيرها ، وكأنني كنت أستصغرها في نفسي فلا أرى فيها سوى بدوية ساذجة لا تعرف من الحياة سوى الحقل و أمور البيت .
                                رأيتها تتجه إلى الجدول الصغير بالقرب من الكهف و تغوص قدماها الحافيتان فيه .. كنت أحس بتأجج مشاعرها في تلك اللحظة وكأني بها كانت تريد إطفاء جذوتها الملتهبة في أنحاء جسدها .. فجلست أتأملها و أتابع حركاتها بفضول .. حتى إذا انتهت من طقوس لهوها البريء عادت إلى جانبي وجلست .. كان القمر قد بزغ .. غير أنه لم يكن يبدو منه سوى نصفه ونحن في بداية العشر الأواخر من الشهر .. بدت لي ملامحها تحمل كل البشر وقد افترت شفتاها عن ابتسامة مشرقة .. ثم التفتت إلي وقالت :
                                - الآن .. يمكننا الذهاب .. الطريق واضحة .. هيا بنا .. سترى كيف هو ممتع السير ليلا ..
                                - أعرف .. فقد جربته من قبل ..
                                - أراك منقبضا قليلا .. هل ندمت على مجيئك لمرافقتي ؟
                                - لا .. بالعكس .. ما الذي يدعوك لقول هذا ؟
                                - لا شيء .. في الوقت الذي أشعر بمتعة السير ليلا وسط القفار ، لا أراك تحس بنفس الشيء ..
                                - لا أخفيك أنني لا زلت .. اقصد .. لا زال ذهني منشغل بـ...
                                قاطعتني قائلة :
                                - المفضل ؟ .. رحمه الله .. هذا وفاء منك .. لكن هل معنى هذا أنك ستبقى طول حياتك مرهونا بذكراه ؟
                                صدمني قولها لأول وهلة ، لكنني بعد تفكير و تأمل وجدت أن عقلها هو الذي يتحدث .. وبدأت أحس بوخز الضمير يتلاشى ويحل محله شعور بالحبور و اللهفة على الحياة ومتعها بعيدا عن كل ما يعكر صفوها .. وعدت أنظر إلى الأفق الصافي و قد زادته هالة القمر بهاء .. فلم يبد لي شيء .. تنفست الصعداء و ذهبت حيث ربطت البغل بباب الكهف ، ثم انطلقنا أنا وحليمة جنبا إلى جنب .. وفي كل خطوة أخطوها ، كانت تتمثل لي غادتي وقد علت مسحة الحزن وجهها و عينيها النجلاوين .. لكني كنت عاجزا عن التفكير و إدراك ما يعتريني من أحاسيس متضاربة .. وجدت نفسي أوغل في متاهة لا نهاية لها .. غير أنها متاهة مرصعة بشتى الألوان .. كنت أسير و أشعر أني محاط بدوامة من آلاف النجوم .. هل علي الآن أن أتخذ قرارا و أحسم أمرا صار أكثر إلحاحا ؟ .. أم سأبقى هكذا مترددا فأخسر كل شيء .. هل أعود إلى عشي من جديد و أقضي بقية عمري هناك بعيدا عن الحب و معاناته أم أستسلم لهذه الموجة العاتية التي أشعر بها تجتاحني وتجرفني إلى هاوية لا قرار لها دون أن أستطيع مقاومتها أو السير عكسها ؟
                                لم اعد اسمع إلا وقع أقدامنا و هي تطأ بعض البرك المائية فتحدث صوتا خافتا بينما حوافر البغل تحافظ على إيقاعها الرتيب. يتناهى إلينا نباح الكلاب من بعيد فأعلم أننا قاب قوسين أو أدنى من الوصول ويشملني انقباض لا ادري سببه .. أيكون قرب وصولي إلى البلدة و مروري أمام قبر صديقي من وراء كل هذا الانقباض المفاجئ ؟ أم أن نفسي استلذت الرحلة و صارت تتوق لأن تطول ؟ .. لكن ظهور بعض المنازل و الأكواخ إلى جانب المنبع قطع علي تفكيري وصرت أتساءل في قرارة نفسي كيف سيكون دخولنا في هذه الساعة و الكل نيام .
                                لم يكن يبدو على حليمة أنها منشغلة بما أنا فيه .. توقفت فجأة وقالت مبتسمة :
                                - لن نستطيع دخول البيت الآن .. فلا أحد مستعد ليستيقظ كي يفتح الباب .. هيا بنا فوق الدويرة لننتظر .. أظن أن الفجر قريب ولن يطول انتظارنا ..
                                صعدنا سلالم ضيقة من الطين وافترشت حليمة أغطية و جلودا كانت مكومة قرب إحدى النوافذ ..ثم جلسنا ننظر أمامنا . صياح الديكة يوحي فعلا بأن الفجر قريب رغم ظلمة السحر .. الجو ليس باردا و السكون تام .. كنت أفكر في شيء أقوله لأبدد الصمت فلا أجد شيئا .. إلا أن حليمة انتزعتني من حيرتي قائلة و بدون مقدمات :
                                - هل حقا تريد مغادرة بلدتنا ؟
                                - سأكون مضطرا لذلك طال الزمان أم قصر ..
                                - ولم ؟ هل ينقصك شيء هنا أم أنك مللت منا ..
                                - لا تقولي هذا .. فأنت تعلمين مدى معزتكم عندي .. و أنا مدين لكم كما تعرفين .
                                - هل اشتقت لعشك الدافئ ؟
                                التفت إليها مندهشا .. كيف علمت أنني قدمت من عشي ؟ المفضل ؟ لا أعتقد ..
                                - لا تندهش .. فقد اطلعت أثناء مرض المرحوم على ما كنت تكتبه .. لا تحسبني أمية ..
                                أطرقت ساكتا لا أحير جوابا ..
                                - ألا زلت تحبها ؟
                                ارتج علي ولم أعد أدري ما أقوله .. يا لجرأتها .. لكن .. هي محقة في سؤالها الذي لا زلت لم أجد له جوابا .. هل لا زلت أحبها ؟ أم أنها في طريق التلاشي من ذهني و من قلبي .. نظرت إلى الأفق فإذا به كفوهة بركان .. هو الفجر إذن .. نظرت إلى حليمة فوجدتها تنظر إلي بدورها .. لبثنا لحظات نحدق في عيني بعضنا البعض وكأننا نحاول أن سبر أغوارها و نستشف ما وراء نظراتنا .. أستطيع القول رغم ما أصاب ذهني من بلبلة أنني وجدت في عينيها بريقا غريبا لم أعهده قط فيهما .. بريق ذكرني بغادتي حين تواعدنا على اللقاء على ضفة الغدير في تلك الليلة الممطرة قبل أن ترحل ..
                                - هل سترحل ؟
                                في سؤالها إلحاح .. بل رجاء و ضراعة كي لا أفعل .. نظرت إليها من جديد فوجدت عينيها تتوسلان .. حاولت قول شيء لكن الحركة دبت في المنزل و ظهرت أشباح تسير هنا وهناك .. نهضنا إلى الباب حيث وقف الأب يتثاءب .. رآنا فأقبل نحونا مبستما :
                                - الحمد لله على السلامة .. متى وصلتما ..
                                قبلت حليمة يديه دون أن ترد .. بينما شددت على يديه قائلا :
                                - لم نشأ أن نزعجكم .. كنا هنا قبل الفجر ..
                                - حسنا .. سنصلي الفجر إن شاء الله و نتناول الفطور . سيكون يوما جميلا كما يبدو . إيه .. نسيت ..كان عندنا ضيوف أمس.. بل قل ضيفة .. جاءت و سألت عنك .. حاولنا استبقاءها لكنها لم تقبل وانصرفت بعد أن استراحت ..
                                نظرت إلى حيث كانت حليمة تستمع إلى أبيها بفضول كبير .. تبادلنا النظرات .. أشاحت بوجهها عني و دخلت البيت .
                                [/align]

                                [/align]
                                التعديل الأخير تم بواسطة رشيد الميموني; الساعة 14-03-2011, 21:50.

                                تعليق

                                يعمل...
                                X