[align=center]هذه ليلتي[/align]
[align=right] هاتَفها مستبشراً من وراء مكتبه الوظيفيّ: استعدّي للنزهة، أُطلق سراح السيارة المتعَبة، لقد تمّ إصلاحها، وسوف آتيك بها نهاية الدوام أعدّي لنا الأطباق الشهيّة كما وعدتني يا زوجتي العزيزة.
وما كادت تُغلق السمّاعة حتى سابقتْ الزمن بإعداد الوجبة المحبّبة إليه، وهي تشدو بأغنيات لكوكب الشرق لا تملّ من سماعها، وتحت النافذة انتظرها ترافقه أصوات متقطّعة من زمور السيّارة.
أوقفت جهاز التسجيل عند أغنية كانت تحبّها..
الأغنية تردّد: (بعد حينٍ يبدّل الحب داره.. والعصافير تهجر الأوكار.. وديارٌ كانت قديماً ديارا.. سترانا كما نراها قفارا..)
أخذتها لزمنٍ جميلٍ كانت تحبُّه في فترة الخطوبة، وفي الخطوات الأولى لدرب حياتهما الزوجية ،عندما كان يسمعها تلك المقاطع الغنائيّة عبر الهاتف ،مشفوعة بزفرات الحبّ اللاهبة، الواعدة بأجمل ليالي العمر امتدّت يدها برشاقة لتنتزع شريط التسجيل وتحشره في حقيبتها على عجلٍ..
تحاملتْ على نفسها وهي تعدو نحو السيارة مترنّحة بحملها الذي أوهنها، تجرُّ بيمناها طفلها الصغير.. وبالأخرى زوَّادة الطعام..
جلست ملاصقةً لزوجها في المقعد الأمامي.. لتبثَّ شوقاً غير معلن يتجدّد كل يوم ولا ينتهي.. كالماء والهواء..
بعد برهةٍ من الصمت تطلَّبتها زحمة المدينة.. بدأت أشجار الغوطة تنادي عابريها فتوحي بالهدوء، والسّكينة، والشجن، وتغرّد الذكريات الحلوة في النفوس فيسري انشراحٌ في شرايين الحياة..
هاهي الأغنية التي تحبُّ تصدح بعد أن أدارتْ جهاز التسجيل . حاول أن يخفضه وهو يبادرها السؤال عن قسط المدرسة الخاصة لابنهما فيما إذا سدّدته.؟ أومت برأسها إيجاباً.. ابتلع ريقه وهو يتلّمس بمخيلته ما تبقّى من مرتّبه حتى آخر الشهر..
ثم عادت تسرح من جديدٍ ، محاولةً أن تتشاغل عن مسؤوليات الحياة بهروبها إلى هذه الحقبة من الزمن الجميل..
امتدت يده أيضاً ليخفض جهاز التسجيل، وهو يجيب على هاتفه النّقال، فهمت من حديثه أنه سوف يحضر لقاء الجمعية في موعده وسوف يقوم بتدبير ما ترتّب عليه من أقساط المنزل الذي يقطنه..
حاولت مرة أخرى أن توحي له أن الأمر لا يستحقّ كل هذا القلق.. وأن كلَّ شيء سيكون على ما يرام ،لأنها استعدّت للأمر مسبقاً.. وعادت لتدمدم من جديد مع الأغنية.. رمقها بطرف عينه مبتسماً.. صادفه مطبٌّ إسمنتيٌّ مفاجئ في عرض الشارع..
قفزت به السيارة بسرعة أوجعتها، فأسندت ظهرها حاضنةً بطنها المتكوّر أمامها، وكأنها تحمي جنينها من الفزع الطارئ ، طالبته بالهدوء، مسح جبينه معتذراً..
نغمة هاتفه المحمول تعلو ،تولول، صوت رئيس دائرته كان ينبعث مفهوماً مرة، غامضاً مرة أخرى، أوقفت الشريط حملقتْ في ملامح وجهه الحائر في الإجابة.. يدفع تهمة التقصير عن إنجاز ما في عمله.. ويعدُ خيراً إلى اليوم التالي..
أصرَّتْ في سرّها على عدم إفساد نزهتهما مهما كلّف الأمر، أرادت أن تسترق من الزمن ومضات تسعدها كما كانت ، عادت تنتشي بمعاني الكلمات في الأغنية التي تحب: (ياحبيبي طاب الهوى ما علينا لو حملنا الأيام في راحتينا.. صدفة أهدت الوجود إلينا وأتاحت لقاءنا فالتقينا..)
صوت طفلها من المقعد الخلفيّ ،قطع رحلتها مع الذكرى مستنجداً فهمت منه مقصده، طالبت زوجها بالتوقّف في أقرب مكان مناسب حيث أن ابنهما يشعر بالغثيان وبأشياء أخرى..
ضحك قائلاً: أشياء أخرى إذن...
انتظرت في السيارة تسرح من جديد، عاد زوجها يمسك يد ابنه الصغير، تأمّلته مبتسمةً في سرّها وهي تتفحّصه من وراء زجاج النافذة وقد تطايرت خصلات شعره بشكلٍ مشوّش، واكتنز جسده وتبسّطت ملابسه...
أشفقت عليه من همومٍ كانت تثاقل خطواته.. أمور الحياة.. تعقيداتها.. لقمة العيش...
قطعت بهما السيارة مسافات أخرى، المكان الموعود بات مقترباً.. وقبل لحظاتٍ من وصولهما توقّفت السيارة وهي تئنّ بلا حراكٍ، حاول مراراً، استعمل كلَّ مهاراته في تصليحها كالعادة علَّها تستجيب.. ولكنها خذلته، حاول بعض الرجال دفعها معه، ولكنها أضربتْ عن المسير لم يعد لديه أي بارقة أمل فيها..
انتظر سيارة أخرى لتقلَّ أسرته إلى المنزل، ووقف قبالة سيارته المركونة جانباً والشريط يشدو وحده...
غادرته تحمل زوّادة الطعام بيدٍ ، وتجرّ ابنها باليد الأخرى..
تنوء بحملها الذي أوهنها ..تُحاول أن تقهر دمعتها..
وفي قلبها ،تموت كلمات الأغنيّة حرفاً إثر حرفٍ...
[/align]
تعليق