تعلو بين حين وآخر دعوات الغرض منها إبعاد المسلمين عن دينهم، وتفتيت وحدتهم الدينية، وإن اختلفت توجهاتهم الدنيوية. وتلك الدعوات التي لم ينزل الله بها من سلطان لا يخفي أصحابها توجهاتهم، وهم أبعد ما يكونون عن دين الله، بل أكثرهم لا يدينون إلا بدين من صنع أهواءهم. ومنهم من يعلن إسلامه، وهو في حقيقته كافر به غير مدرك لمدى شططه وانحرافه عن الطريق. فالمسلم الذي يقول "إني مسلم مؤمن بالله ورسوله" ثم ينكر الصلاة أو الصيام أو ما هو معلوم من الدين بالضرورة مثلاً، لا يكون مسلماً حتى وإن حلف بالله أنه مسلم. فالعبرة ليست بالكلام.
وأصحاب تلك الدعوات الهدامة ليسوا هم في حد ذاتهم الخطر الأكبر على الدين وأهله، بل إن الخطر يكمن فيمن يرون فيهم دعاة حق من أبناء هذا الدين على اختلاف أجناسهم وجنسياتهم وألوانهم ولغاتهم، ولا يلبثون أن يقولوا بقولهم، ويدافعوا عن عقائد الغير بعد أن تبنوها عقائد لهم، وهم لا يدركون مدى الزيغ الذي طالهم. ولا يحدث هذا إلا عن جهل واضح، وتقصير مقيت في تحصيل العلم النافع الذي ينبغي ألا يجهله أحد مهما كان تخصصه.
فالمسلم عموماً عليه أن يعرف أي نوع من أنواع الماء يجوز الوضوء منه؛ لأنه مطالب بالصلاة خمس مرات في اليوم. وعليه أن يعرف نواقض الدين؛ لأنه قد يخرج نفسه منه وهو غير مدرك. ومن أشكل عليه أمر عليه التوجه لأهل العلم. وفي هذا يستوي الجاهل وحامل أعلى الدرجات العلمية؛ لأن العلم الشرعي –مثله مثل غيره- له رجاله. ورب حامل فقه لمن هو أفقه منه.
ومرجع الأمة جميعاً هو الكتاب والسنة. وأجمع علماء الأمة على أنه لا يجوز الاجتهاد مع النص، وأنه لو قال أحدهم قولاً يخالف ما عليه الكتاب والسنة فإن "مذهبه" هو الكتاب والسنة. بمعنى أنهم قالوا لا تأخذوا بأقوالنا إن خالفت الصحيح الثابت. فالاجتهادات تخطئ وتصيب، ومعيار الصحة والخطأ في الإسلام هي نفس معيار الحلال والحرام. فالحلال هو ما أحله الشرع، والحرام هو ما حرمه الشرع.
ولكننا –كما أسلفت- نجد من يتصدون لدين الله، وسنة نبيه ومصطفاه صلى الله عليه وسلم، فيفسرون ما شاءوا وفق أهواءهم، ويردون ما شاءوا إذا لم يعجبهم. وينسى هؤلاء أنهم ليسوا أهل ذكر، ولا اختصاص، وينبغي لهم ألا يخاطروا بنشر آرائهم على أنها الصواب ودونها زيغ عن الحق وخاصة حين تكون تلك الآراء التي يعارضونها أحكاماً شرعية مبنية على ما ثبت في كتاب الله وصحَّ في سنة نبيه (صلى لله عليه وسلم). وتراهم وهم يقولون بأقوالهم يدافعون عن حقهم في التعبير وحرية الرأي، ثم يصادرون آراء غيرهم وحريتهم. ويجعلون من أنفسهم قضاة وخصوماً، ويرفضون الرأي المخالف لهم. وهم مع كل هذا يظنون أنهم يخدمون دين الله، وينسون –أو بالأحرى يجهلون- أن الله عز وجل يقول في سورة الكهف "قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا". فهؤلاء عاشوا حياتهم يجهلون أنهم في ضلال وضلالة وقد بذلوا جهوداً مضنية ظنوا واهمين أن الله يكافئهم عليها، ثم إذا بهم حين يلقونه عز وجل لا يجدون لهم عنده شيئاً؛ لأنهم قد أحبطوا أعمالهم. وهذا أشبه بقوله تعالى في اليهود "هل أتاك حديث الغاشية؟ وجوه يومئذ خاشعة، عاملة ناصبة" فهؤلاء خشعوا وعملوا وأصابهم النصب والتعب الشديد في عبادتهم، ويحسبون أن يوم المكافأة هو يوم لقاء الله. فماذا يكون مصيرهم بعد كل ذاك النصب؟ مصيرهم جهنم وبئس القرار؛ فقد قال الله عنهم بعد ذلك "تصلى ناراً حامية، تسقى من عين آنية، ليس لهم طعام إلا من ضريع لا يسمن ولا يغني من جوع". ويعجب المرء من هذه الآيات. ألم يكن يكفي أن يقول الله عز وجل "تصلي ناراً حامية" وينتهي الأمر؟ فليتنبه كل صاحب لب لهذه اللطيفة في كتاب الله.
وأمثال هؤلاء موجودون في كل ملة ونحلة وديانة. وفي الإسلام هم الخوارج الذين قالوا فيهم النبي (صلى لله عليه وسلم): "يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية". وهؤلاء المارقين على درجات فمنهم من تشققت أرجلهم من قيام الليل، وجباههم من السجود، ويحقر المرء صلاته إلى صلاتهم، وقراءته للقرآن إلى قراءتهم كما ورد في ذات الحديث وصفاً لهم. فهؤلاء لم تَصْفُ نياتهم لله، ولم ينووا بأعمالهم وجهه، وظنوا أن أعمالهم تنجيهم يوم العرض عليه، ورأووا أنهم خير من غيرهم من عباد الله، وحدثتهم نفوسهم بذلك، فخيَّب الله مسعاهم، وأحبط أعمالهم. ومن نفس الفصيلة أيضاً أولئك المستجيبون للدعوات الهدامة من أبناء ديننا الذين يرددون أقوال غيرهم وقد خدعتهم لجهلهم بالحق، أو لهوى في نفوسهم. وهناك فرق كبير بين من يقر بأن عملاً ما هو من المعاصي التي حرمها الشرع وهو مرتكب له، ومن ينكر أن ذاك الفعل معصية أصلاً. فالأول ضعيف النفس، يُرجى صلاحه، والآخر جاحد منكر يأبى أن يقر بوجود الشمس وقد غشيه نورها. وشتان بين هذا وذاك. ولا نملك لمثل هؤلاء إلا أن ندعو لهم بالهداية فيرون الحق حقاً، والباطل باطلاً، قبل أن يغتر بكلامهم خلق كثير كما اغتروا هم بدعاة الباطل قبلهم فيبوءون بذنبهم وذنوب من يتبعهم في غوايتهم إلى يوم الدين، لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا كما ورد في الحديث الصحيح.
ومن هؤلاء أيضاً من ورد ذكرهم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه موصوفين بالتفاهة، وهم الرويبضة. فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " سيأتي على الناس سنوات خدَّاعات، يُصَدَّق فيها الكاذب، ويُكَذَّب فيها الصادق، ويُؤتمن فيها الخائن، ويُخَوَّن فيها الأمين، وينطق فيها الرُّويبضة"، قيل: وما الرُّويبضة؟ قال: "الرجل التافه (يتحدث) في أمر العامة" (رواه ابن ماجة في سننه).
ولنضع المقدمة أعلاه موضع التطبيق وضرب الأمثال حتى تتضح الصورة.
يعترض بعض الناس على أقوال "أهل العلم" في ختان الإناث. وقد وضعت "أهل العلم" بين علامتي تنصيص؛ لأن هناك أهل علم صادقون، وأهل علم كاذبون. أهل علم يتقون الله ويرجون رحمة الخالق، وأهل علم يتقون الحاكم ويرجون رضا المخلوق. وشتان بين هؤلاء وهؤلاء. ولكن كيف يعلم المرء من منهم على حق، ومن منهم على ضلالة، ومن منهم يتأرجح بين الاثنين؟ الإجابة ببساطة أن تنظر في الدليل. فما كان موافقاً لكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم قبلنا به، وما لم يكن كذلك طرحناه وراء ظهورنا. هذا هو المعيار الصائب. أما إطلاق الكلام دون دليل، ووصف المخالف للرأي مع امتلاكه للدليل بأنه مخطئ فهو قول لا يقول به عاقل.
ولننظر الآن فيما قاله نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر، ولن أقول قال فلان، بل الكلام للمعصوم خير البشر صلوات ربي وسلامه عليه:
في الحديث المتفق عليه (رواه البخاري ومسلم): "الفطرة خمس: الختان، والاستحداد، وقص الشارب، وتقليم الأظافر، ونتف الإبط".
وهنا نجد لفظة "الختان" دون تحديد لجنس المختتن. فهو هنا للذكر والأنثى على حد سواء. وهذا قول الإمام مالك في الكتاب الجامع أيضاً.
وفي حديث السيدة عائشة الذي صححه الألباني وورد في سنن أبي داوود، وسنن ابن ماجة وصحيح الترمذي "قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا جاوز الختانُ الختان"، وفي رواية: "إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل".
وهنا أيضاً نجد "الختانان" و"الختانُ الختان" أي موضع الختان وعضوه. فالإشارة إلى الذكر والأنثى على حد سواء.
وفي حديث شداد بن أوس الذي أخرجه الطبراني، وأخرجه أبو الشيخ والبيهقي عن ابن عباس، وأخرجه البيهقي أيضاً من حديث أبي أيوب مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الختان سنة للرجال مكرمة للنساء".
وهنا يرد ذكر الختان صراحة في أنه مكرمة للنساء، مسنون للرجال.
وفي حديث أنس، وحديث أم أيمن عند أبي الشيخ، وذكره البيهقيّ عن الضحاك بن أنس أن أم عطية "خاتنة الأنصار" أتت النبي صلى الله عليه وسلم تسأله عن كيفية الختان، فقال صلى الله عليه وسلم: "اخفضي ولا تنهكي، فإن ذلك أحظى للمرأة وأحب إلى البعل".
وهنا نجد أن أم عطية كانت خاتنة، وجاءت تسأل عن كيفية الختان، ولم ينهها الرسول عنه، وأنه صلى الله عليه وسلم أوضح لها ما تفعل فقال "اخفضي ولا تنهكي"، أي الختان المسموح به في دين الله إنما يكون خفضاً لا انتهاكاً. وهذا يعني كذلك أنها كانت تختن من قبل، وأن النساء كن يختتنَّ من قبل، وأنهم يعرفون الختان، ومنهن من يحترفنه، وأنها أتت الرسول تسأله عن كيفية الختان في الإسلام فربما يكون هناك حكم أو طريقة مخالفة لما كان العرب يفعلونه من قبل.
ولا نجد في أي من هذه الأحاديث ما يدعم قول القائلين بأنها عادة مقيتة أو منبوذة أو مدسوسة، لا علاقة بينها وبين الإسلام ... إلخ اللهم إلا إذا كانوا يرون أن محمداً صلى الله عليه وسلم ليس مسلماً، ولا نبياً، ولا أقواله حجة في دين الله. وهناك من يقولون هذا القول بالفعل، ولكنهم ليسوا بشيء هنا، ولا نبالي ما يقولون، إنما حديثنا لمن يرون أنهم مسلمون مؤمنون بالله ورسوله، فهم من نبالي بهم، وبصحة عقيدتهم لأنهم إخوة وأخوات لنا، ولهم علينا حق النصيحة كما ورد في حديثه صلى الله عليه وسلم "الدين النصيحة".
أما من يقولون إن فلاناً قال كذا، والدكتور فلان ذكر كذا ... إلخ فنقول لهم: جاء رجل من أهل مصر إلى الإمام الشافعي فسأله عن مسألة، فأجابه الشافعي بقوله "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم... " فقال المصري للشافعي "أوَ تقول بهذا؟".
فهل رأيتم غباءاً أكبر من هذا؟ يخبره الشافعي بقول النبي صلى الله عليه وسلم فيسأله الرجل عن رأيه. ويمكنكم أن تتخيلوا غضب الشافعي من رد الرجل.
ورغم هذا فإن من قالوا بوجوب ختان الأنثي من أهل العلم الشعبي، والشافعي، والأوزاعي، والإمام أحمد في المشهور عنه، والإمام مالك، وشيخه ربيعة بن أبي عبد الرحمن، والإمام أبو حنيفة، (أي المذاهب الأربعة كلها) وشيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم، وسحنون، ومنصور بن يونس المصري، وغيرهم.
أما من يعارضون الختان لأنه يتم في بعض الأماكن بطريقة وحشية فينبغي أن ينصب اعتراضهم على الطريقة، وليس على أصل الختان، الذي هو مكرمة للمرأة. فلتقيموا الدنيا وتقعدوها حتى تصحح طريقة الختان، فتكون وفقاً لتعليم الشرع، أما أن تعارضوه تماماً فإنكم بهذه الطريقة تعارضون قولاً ثبت عن رسول الله، فتخرجون من ملته ودينه دون أن تشعروا.
ومن يعارضون الختان من المسلمين لهوى في أنفسهم، أو لجهل أو لغير ذلك فقد وجب عليهم حين نقول لهم "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" أن يقولوا "سمعنا وأطعنا"، حتى وإن لم تتبين لهم الحكمة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن ينطق عن الهوى. لقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يقولون "ماذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟" فيسرعون بالاستجابة إلى كلامه وتعليمه. أما نحن اليوم فنقول "لماذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟" فنجعل من أنفسنا رقباء وقضاة على كلام المصطفى صلى الله عليه وسلم، وكأن الله قد منحنا علماً وعقلاً يفوق ما أسبغه على نبيه وخاتم رسله صلى الله عليه وسلم، بل وعلماً يزيد عن علمه عز وجل ذاته، والعياذ بالله. فلنستح من الله ورسوله، ولا نقول في دين الله بغير علم، وما جهلناه نسكت عنه إلى أن نستفتِ فيه أهل العلم. ولنتأدب بأدب القرآن في حضرة الله عز وجل القائل "ما قدروا الله حق قدره"، ورسوله صلى الله عليه وسلم القائل "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئتُ به".
ويقول عز من قائل في سورة الأحزاب "وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم، ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبينا".
ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد.
والله من وراء القصد.
وأصحاب تلك الدعوات الهدامة ليسوا هم في حد ذاتهم الخطر الأكبر على الدين وأهله، بل إن الخطر يكمن فيمن يرون فيهم دعاة حق من أبناء هذا الدين على اختلاف أجناسهم وجنسياتهم وألوانهم ولغاتهم، ولا يلبثون أن يقولوا بقولهم، ويدافعوا عن عقائد الغير بعد أن تبنوها عقائد لهم، وهم لا يدركون مدى الزيغ الذي طالهم. ولا يحدث هذا إلا عن جهل واضح، وتقصير مقيت في تحصيل العلم النافع الذي ينبغي ألا يجهله أحد مهما كان تخصصه.
فالمسلم عموماً عليه أن يعرف أي نوع من أنواع الماء يجوز الوضوء منه؛ لأنه مطالب بالصلاة خمس مرات في اليوم. وعليه أن يعرف نواقض الدين؛ لأنه قد يخرج نفسه منه وهو غير مدرك. ومن أشكل عليه أمر عليه التوجه لأهل العلم. وفي هذا يستوي الجاهل وحامل أعلى الدرجات العلمية؛ لأن العلم الشرعي –مثله مثل غيره- له رجاله. ورب حامل فقه لمن هو أفقه منه.
ومرجع الأمة جميعاً هو الكتاب والسنة. وأجمع علماء الأمة على أنه لا يجوز الاجتهاد مع النص، وأنه لو قال أحدهم قولاً يخالف ما عليه الكتاب والسنة فإن "مذهبه" هو الكتاب والسنة. بمعنى أنهم قالوا لا تأخذوا بأقوالنا إن خالفت الصحيح الثابت. فالاجتهادات تخطئ وتصيب، ومعيار الصحة والخطأ في الإسلام هي نفس معيار الحلال والحرام. فالحلال هو ما أحله الشرع، والحرام هو ما حرمه الشرع.
ولكننا –كما أسلفت- نجد من يتصدون لدين الله، وسنة نبيه ومصطفاه صلى الله عليه وسلم، فيفسرون ما شاءوا وفق أهواءهم، ويردون ما شاءوا إذا لم يعجبهم. وينسى هؤلاء أنهم ليسوا أهل ذكر، ولا اختصاص، وينبغي لهم ألا يخاطروا بنشر آرائهم على أنها الصواب ودونها زيغ عن الحق وخاصة حين تكون تلك الآراء التي يعارضونها أحكاماً شرعية مبنية على ما ثبت في كتاب الله وصحَّ في سنة نبيه (صلى لله عليه وسلم). وتراهم وهم يقولون بأقوالهم يدافعون عن حقهم في التعبير وحرية الرأي، ثم يصادرون آراء غيرهم وحريتهم. ويجعلون من أنفسهم قضاة وخصوماً، ويرفضون الرأي المخالف لهم. وهم مع كل هذا يظنون أنهم يخدمون دين الله، وينسون –أو بالأحرى يجهلون- أن الله عز وجل يقول في سورة الكهف "قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا". فهؤلاء عاشوا حياتهم يجهلون أنهم في ضلال وضلالة وقد بذلوا جهوداً مضنية ظنوا واهمين أن الله يكافئهم عليها، ثم إذا بهم حين يلقونه عز وجل لا يجدون لهم عنده شيئاً؛ لأنهم قد أحبطوا أعمالهم. وهذا أشبه بقوله تعالى في اليهود "هل أتاك حديث الغاشية؟ وجوه يومئذ خاشعة، عاملة ناصبة" فهؤلاء خشعوا وعملوا وأصابهم النصب والتعب الشديد في عبادتهم، ويحسبون أن يوم المكافأة هو يوم لقاء الله. فماذا يكون مصيرهم بعد كل ذاك النصب؟ مصيرهم جهنم وبئس القرار؛ فقد قال الله عنهم بعد ذلك "تصلى ناراً حامية، تسقى من عين آنية، ليس لهم طعام إلا من ضريع لا يسمن ولا يغني من جوع". ويعجب المرء من هذه الآيات. ألم يكن يكفي أن يقول الله عز وجل "تصلي ناراً حامية" وينتهي الأمر؟ فليتنبه كل صاحب لب لهذه اللطيفة في كتاب الله.
وأمثال هؤلاء موجودون في كل ملة ونحلة وديانة. وفي الإسلام هم الخوارج الذين قالوا فيهم النبي (صلى لله عليه وسلم): "يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية". وهؤلاء المارقين على درجات فمنهم من تشققت أرجلهم من قيام الليل، وجباههم من السجود، ويحقر المرء صلاته إلى صلاتهم، وقراءته للقرآن إلى قراءتهم كما ورد في ذات الحديث وصفاً لهم. فهؤلاء لم تَصْفُ نياتهم لله، ولم ينووا بأعمالهم وجهه، وظنوا أن أعمالهم تنجيهم يوم العرض عليه، ورأووا أنهم خير من غيرهم من عباد الله، وحدثتهم نفوسهم بذلك، فخيَّب الله مسعاهم، وأحبط أعمالهم. ومن نفس الفصيلة أيضاً أولئك المستجيبون للدعوات الهدامة من أبناء ديننا الذين يرددون أقوال غيرهم وقد خدعتهم لجهلهم بالحق، أو لهوى في نفوسهم. وهناك فرق كبير بين من يقر بأن عملاً ما هو من المعاصي التي حرمها الشرع وهو مرتكب له، ومن ينكر أن ذاك الفعل معصية أصلاً. فالأول ضعيف النفس، يُرجى صلاحه، والآخر جاحد منكر يأبى أن يقر بوجود الشمس وقد غشيه نورها. وشتان بين هذا وذاك. ولا نملك لمثل هؤلاء إلا أن ندعو لهم بالهداية فيرون الحق حقاً، والباطل باطلاً، قبل أن يغتر بكلامهم خلق كثير كما اغتروا هم بدعاة الباطل قبلهم فيبوءون بذنبهم وذنوب من يتبعهم في غوايتهم إلى يوم الدين، لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا كما ورد في الحديث الصحيح.
ومن هؤلاء أيضاً من ورد ذكرهم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه موصوفين بالتفاهة، وهم الرويبضة. فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " سيأتي على الناس سنوات خدَّاعات، يُصَدَّق فيها الكاذب، ويُكَذَّب فيها الصادق، ويُؤتمن فيها الخائن، ويُخَوَّن فيها الأمين، وينطق فيها الرُّويبضة"، قيل: وما الرُّويبضة؟ قال: "الرجل التافه (يتحدث) في أمر العامة" (رواه ابن ماجة في سننه).
ولنضع المقدمة أعلاه موضع التطبيق وضرب الأمثال حتى تتضح الصورة.
يعترض بعض الناس على أقوال "أهل العلم" في ختان الإناث. وقد وضعت "أهل العلم" بين علامتي تنصيص؛ لأن هناك أهل علم صادقون، وأهل علم كاذبون. أهل علم يتقون الله ويرجون رحمة الخالق، وأهل علم يتقون الحاكم ويرجون رضا المخلوق. وشتان بين هؤلاء وهؤلاء. ولكن كيف يعلم المرء من منهم على حق، ومن منهم على ضلالة، ومن منهم يتأرجح بين الاثنين؟ الإجابة ببساطة أن تنظر في الدليل. فما كان موافقاً لكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم قبلنا به، وما لم يكن كذلك طرحناه وراء ظهورنا. هذا هو المعيار الصائب. أما إطلاق الكلام دون دليل، ووصف المخالف للرأي مع امتلاكه للدليل بأنه مخطئ فهو قول لا يقول به عاقل.
ولننظر الآن فيما قاله نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر، ولن أقول قال فلان، بل الكلام للمعصوم خير البشر صلوات ربي وسلامه عليه:
في الحديث المتفق عليه (رواه البخاري ومسلم): "الفطرة خمس: الختان، والاستحداد، وقص الشارب، وتقليم الأظافر، ونتف الإبط".
وهنا نجد لفظة "الختان" دون تحديد لجنس المختتن. فهو هنا للذكر والأنثى على حد سواء. وهذا قول الإمام مالك في الكتاب الجامع أيضاً.
وفي حديث السيدة عائشة الذي صححه الألباني وورد في سنن أبي داوود، وسنن ابن ماجة وصحيح الترمذي "قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا جاوز الختانُ الختان"، وفي رواية: "إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل".
وهنا أيضاً نجد "الختانان" و"الختانُ الختان" أي موضع الختان وعضوه. فالإشارة إلى الذكر والأنثى على حد سواء.
وفي حديث شداد بن أوس الذي أخرجه الطبراني، وأخرجه أبو الشيخ والبيهقي عن ابن عباس، وأخرجه البيهقي أيضاً من حديث أبي أيوب مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الختان سنة للرجال مكرمة للنساء".
وهنا يرد ذكر الختان صراحة في أنه مكرمة للنساء، مسنون للرجال.
وفي حديث أنس، وحديث أم أيمن عند أبي الشيخ، وذكره البيهقيّ عن الضحاك بن أنس أن أم عطية "خاتنة الأنصار" أتت النبي صلى الله عليه وسلم تسأله عن كيفية الختان، فقال صلى الله عليه وسلم: "اخفضي ولا تنهكي، فإن ذلك أحظى للمرأة وأحب إلى البعل".
وهنا نجد أن أم عطية كانت خاتنة، وجاءت تسأل عن كيفية الختان، ولم ينهها الرسول عنه، وأنه صلى الله عليه وسلم أوضح لها ما تفعل فقال "اخفضي ولا تنهكي"، أي الختان المسموح به في دين الله إنما يكون خفضاً لا انتهاكاً. وهذا يعني كذلك أنها كانت تختن من قبل، وأن النساء كن يختتنَّ من قبل، وأنهم يعرفون الختان، ومنهن من يحترفنه، وأنها أتت الرسول تسأله عن كيفية الختان في الإسلام فربما يكون هناك حكم أو طريقة مخالفة لما كان العرب يفعلونه من قبل.
ولا نجد في أي من هذه الأحاديث ما يدعم قول القائلين بأنها عادة مقيتة أو منبوذة أو مدسوسة، لا علاقة بينها وبين الإسلام ... إلخ اللهم إلا إذا كانوا يرون أن محمداً صلى الله عليه وسلم ليس مسلماً، ولا نبياً، ولا أقواله حجة في دين الله. وهناك من يقولون هذا القول بالفعل، ولكنهم ليسوا بشيء هنا، ولا نبالي ما يقولون، إنما حديثنا لمن يرون أنهم مسلمون مؤمنون بالله ورسوله، فهم من نبالي بهم، وبصحة عقيدتهم لأنهم إخوة وأخوات لنا، ولهم علينا حق النصيحة كما ورد في حديثه صلى الله عليه وسلم "الدين النصيحة".
أما من يقولون إن فلاناً قال كذا، والدكتور فلان ذكر كذا ... إلخ فنقول لهم: جاء رجل من أهل مصر إلى الإمام الشافعي فسأله عن مسألة، فأجابه الشافعي بقوله "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم... " فقال المصري للشافعي "أوَ تقول بهذا؟".
فهل رأيتم غباءاً أكبر من هذا؟ يخبره الشافعي بقول النبي صلى الله عليه وسلم فيسأله الرجل عن رأيه. ويمكنكم أن تتخيلوا غضب الشافعي من رد الرجل.
ورغم هذا فإن من قالوا بوجوب ختان الأنثي من أهل العلم الشعبي، والشافعي، والأوزاعي، والإمام أحمد في المشهور عنه، والإمام مالك، وشيخه ربيعة بن أبي عبد الرحمن، والإمام أبو حنيفة، (أي المذاهب الأربعة كلها) وشيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم، وسحنون، ومنصور بن يونس المصري، وغيرهم.
أما من يعارضون الختان لأنه يتم في بعض الأماكن بطريقة وحشية فينبغي أن ينصب اعتراضهم على الطريقة، وليس على أصل الختان، الذي هو مكرمة للمرأة. فلتقيموا الدنيا وتقعدوها حتى تصحح طريقة الختان، فتكون وفقاً لتعليم الشرع، أما أن تعارضوه تماماً فإنكم بهذه الطريقة تعارضون قولاً ثبت عن رسول الله، فتخرجون من ملته ودينه دون أن تشعروا.
ومن يعارضون الختان من المسلمين لهوى في أنفسهم، أو لجهل أو لغير ذلك فقد وجب عليهم حين نقول لهم "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" أن يقولوا "سمعنا وأطعنا"، حتى وإن لم تتبين لهم الحكمة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن ينطق عن الهوى. لقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يقولون "ماذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟" فيسرعون بالاستجابة إلى كلامه وتعليمه. أما نحن اليوم فنقول "لماذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟" فنجعل من أنفسنا رقباء وقضاة على كلام المصطفى صلى الله عليه وسلم، وكأن الله قد منحنا علماً وعقلاً يفوق ما أسبغه على نبيه وخاتم رسله صلى الله عليه وسلم، بل وعلماً يزيد عن علمه عز وجل ذاته، والعياذ بالله. فلنستح من الله ورسوله، ولا نقول في دين الله بغير علم، وما جهلناه نسكت عنه إلى أن نستفتِ فيه أهل العلم. ولنتأدب بأدب القرآن في حضرة الله عز وجل القائل "ما قدروا الله حق قدره"، ورسوله صلى الله عليه وسلم القائل "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئتُ به".
ويقول عز من قائل في سورة الأحزاب "وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم، ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبينا".
ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد.
والله من وراء القصد.
تعليق