موضوعي هذا ليس رسالة ، لكنه فسحة ذكرى نعيشها مع الرسالة لم أجد له مكانا غير هذه الصفحة .
أولا :
أنا وساعي البريد .

في الساعة العاشرة صباحا كان موعده المعتاد ، كنت أحرص على ألا أبتعد أبدا عن الباب ، كلما كلفتني أمي ـ رحمها الله ـ بعمل أنجزه بسرعة البرق لأعود وأتخذ مكاني هناك قرب الباب ، ولا يمنع الأمر من أن ألتص بين الفينة والفينة على الشارع أطل برأسي وأسترجعه على عجل إلى خلف الباب قبل أن أُضبط متلبسة فيُفهم فِعْلي على ما لا تحمد عقباه .
ولم يكن ليخيب ظني وأنا المترصدة لما أنتظر وقد حسبت له حسبته الصحيحة ولا بد من وصول المعلوم إما في يوم ترصدي أو في غده .
إيه ما أجمل تلك اللحظة !!! التي أجزم بأنني ينعدم فيها الوزن عندي وتصل دقات قلبي إلى المليون وتأخذني الفرحة إلى الباب بلا أقدام ، وتعيدني نشوى وقد استقر في يدي ما استقر من حبيب طال انتظاره وربما كان أكثر من حبيب قد يصل في المرة الواحدة إلى ثلاثة .
إيه ما أجمل تلك اللحظة !!! التي أجزم بأنني ينعدم فيها الوزن عندي وتصل دقات قلبي إلى المليون وتأخذني الفرحة إلى الباب بلا أقدام ، وتعيدني نشوى وقد استقر في يدي ما استقر من حبيب طال انتظاره وربما كان أكثر من حبيب قد يصل في المرة الواحدة إلى ثلاثة .
أسرع بيدين مرتجفتين وعينين متلهفتين تكادان تخترقان ما التحفَ به من ثياب ورق التصقت أطرافها وأخفت الكنز الذي تسعى عيناي محترقة النظرات إليه على عجل . ويداي مع هذا كله مضطربتا الحركة سريعتان بلهفة تسيّرهما عيناي المحترقة شوقا لنزع هذا الستر عن الحبيب .
هكذا كنت أنتظر ساعي البريد ، وهكذا كان حالي كلما توقعت وصول خطاب حبيب ، كنا ننتظره كما يقولون ـ فيما اعتدنا من القول ـ على أحر من الجمر .
ووالله لقد كان جمرا حقا أن تنتظر شهرا لتصل رسالتك إلى جَدّيْن لم يكن لهما سوى أمي من الأبناء بلغا من العمر ما بلغا ، وقد كتب الله على ابنتهما الوحيدة السفر والغربة . وهما هناك قابعان في غرفتهما يعدان الأيام وأحيانا الشهور لوصول ما يمكن أن يريا فيه ترطيبا لكبد احترقت بمُرِّ ما قضاه عليها القدر .
وكم أحس برغبة شديدة في أن أحكي لكم قصتنا مع الرسالة حين كنا نرسلها إلى فلسطين حين كنا نضع الرسالة في غلاف نكتب عليه
Israel
West bank
الضفة الغربية . [ ...... ]
، ثم نأتي بمبلغ ريال سعودي سرعان ما تضاعف إلى ريالين بعد ذلك ، ثم نلفهما بورقة بيضاء حتى لا يظهر وجودهما داخل الغلاف ، لأنه يُمنع وضع الأوراق النقدية في الرسائل ، لنعود من بعد إلى وضع الرسالة والريالين المغلفين في ظرف آخر ونكتب عليه :
هكذا كنت أنتظر ساعي البريد ، وهكذا كان حالي كلما توقعت وصول خطاب حبيب ، كنا ننتظره كما يقولون ـ فيما اعتدنا من القول ـ على أحر من الجمر .
ووالله لقد كان جمرا حقا أن تنتظر شهرا لتصل رسالتك إلى جَدّيْن لم يكن لهما سوى أمي من الأبناء بلغا من العمر ما بلغا ، وقد كتب الله على ابنتهما الوحيدة السفر والغربة . وهما هناك قابعان في غرفتهما يعدان الأيام وأحيانا الشهور لوصول ما يمكن أن يريا فيه ترطيبا لكبد احترقت بمُرِّ ما قضاه عليها القدر .
وكم أحس برغبة شديدة في أن أحكي لكم قصتنا مع الرسالة حين كنا نرسلها إلى فلسطين حين كنا نضع الرسالة في غلاف نكتب عليه
Israel
West bank
الضفة الغربية . [ ...... ]
، ثم نأتي بمبلغ ريال سعودي سرعان ما تضاعف إلى ريالين بعد ذلك ، ثم نلفهما بورقة بيضاء حتى لا يظهر وجودهما داخل الغلاف ، لأنه يُمنع وضع الأوراق النقدية في الرسائل ، لنعود من بعد إلى وضع الرسالة والريالين المغلفين في ظرف آخر ونكتب عليه :
Headpost office king Edward street
London .e.c .i
وهكذا ، كنا نحتال على حِرماننا من وصول رسائلنا إلى فلسطين ، لعدم وجود وسيلة مراسلة فورية بيننا وبينهم ، فنضطر لإرسال رسائلنا إلى لندن إلى هذا العنوان ، ومن ثم يعيد أهل العنوان في لندن إرسالها إلى العنوان الذي نسجله على الظرف الداخلي .
London .e.c .i
وهكذا ، كنا نحتال على حِرماننا من وصول رسائلنا إلى فلسطين ، لعدم وجود وسيلة مراسلة فورية بيننا وبينهم ، فنضطر لإرسال رسائلنا إلى لندن إلى هذا العنوان ، ومن ثم يعيد أهل العنوان في لندن إرسالها إلى العنوان الذي نسجله على الظرف الداخلي .
وأذكر أنني كنت في بعض الأحيان بعقل طفلة أضع ورقة أيضا أكتب عليها رجاءا حارا لمن تقع في يده رسالتي أن يرسلها إلى العنوان المكتوب على المغلف الداخلي .
ولم أكن أعي أن من تصله رسائلي تلك لم يكن يعنيه من أمري وأمر رسائلي أكثر من [ الريالين ] اللذين أضعهما داخل مغلفي كما أنه من أين له أن يفهم لغتي العربية ؟؟ !!
وهكذا كنا نعيش قلق انتظار وصول الرسالة إلى لندن أولا ، ومن ثم قلق التساؤل إن كانت ستصل أم لا إلى جدي وجدتي في فلسطين ، وترقب الرد من جديد الذي سيمر هو الآخر بفترة حضانة لا تقل عن شهر حتى يصل سالما إلى بيتنا بيد ساعي البريد الذي أدمنت انتظاره عند بابنا الخشبي الموجود في حارة عتيقة لمدينة كم غدوت أحبها إذ غدت وطني البديل ، واسمحوا لي أن أذكر اسمها عرفانا وحبا وشوقا لثرى وطئته قدماي حين كنت طفلة صغيرة ، وخرجت منها أمّا لأطفال غدو كبارا . إنها مدينة عنيزة الحبيبة في منطقة القصيم في المملكة العربية السعودية .
ولم أكن أعي أن من تصله رسائلي تلك لم يكن يعنيه من أمري وأمر رسائلي أكثر من [ الريالين ] اللذين أضعهما داخل مغلفي كما أنه من أين له أن يفهم لغتي العربية ؟؟ !!
وهكذا كنا نعيش قلق انتظار وصول الرسالة إلى لندن أولا ، ومن ثم قلق التساؤل إن كانت ستصل أم لا إلى جدي وجدتي في فلسطين ، وترقب الرد من جديد الذي سيمر هو الآخر بفترة حضانة لا تقل عن شهر حتى يصل سالما إلى بيتنا بيد ساعي البريد الذي أدمنت انتظاره عند بابنا الخشبي الموجود في حارة عتيقة لمدينة كم غدوت أحبها إذ غدت وطني البديل ، واسمحوا لي أن أذكر اسمها عرفانا وحبا وشوقا لثرى وطئته قدماي حين كنت طفلة صغيرة ، وخرجت منها أمّا لأطفال غدو كبارا . إنها مدينة عنيزة الحبيبة في منطقة القصيم في المملكة العربية السعودية .
كنا أطفالا ستة في ذاك الوقت وكنت كبرى البنات ، وكان والدي يمنحني من الاهتمام ما لم يمنحه لبقية أخوتي ، حتى غدوت شبه صديقة فكره ، وأصبح يوكل إلي مهمة الرد على ما يصلنا من رسائل ، ويجعلني أقرؤها عليه ، وربما أعجبته فرأيت في عينيه نظرة الفرح والاعتزاز ، وربما وجد ما يحتاج تصويبا فلا يدعه قبل أن يناقشني فيه لأعود على عجل أصوب ما رآه خطأ ليكون عملي على ما يسعد والدي ويفخر به أمام أهلي ممن كنا نبعث لهم الرسائل في فلسطين والأردن .
وهكذا على حين طفولة لم تتعد الثانية عشرة من عمري توثقت علاقتي بهذا الحبيب [ الرسالة ]
وأصبحتُ لأبي كما كان عبد الحميد الكاتب لبني أمية .
وهكذا على حين طفولة لم تتعد الثانية عشرة من عمري توثقت علاقتي بهذا الحبيب [ الرسالة ]
وأصبحتُ لأبي كما كان عبد الحميد الكاتب لبني أمية .
واليوم أعيش حنينا يتقد في حناياي على تلك اللحظة التي كنت أقف فيها خلف الباب أرصد ساعي البريد ، وعيناي لا تستقران شوقا ويداي تفرك كل منهما الأخرى اضطرابا .
كم أشتاقه وأشتاق لحظة استقرار الرسالة بين يدي وأنا أفض سترها لأنهش بعينيّ كل حرف استقر على ورقتها .
كل هذا العناء كنا نعيش لأجل رسالة ، واليوم وألف آه من اليوم !!!
كيف غدا أمر الرسالة ؟؟ هل يصلكم إلى الآن رسائل من ورق ؟؟؟
كم أشتاقه وأشتاق لحظة استقرار الرسالة بين يدي وأنا أفض سترها لأنهش بعينيّ كل حرف استقر على ورقتها .
كل هذا العناء كنا نعيش لأجل رسالة ، واليوم وألف آه من اليوم !!!
كيف غدا أمر الرسالة ؟؟ هل يصلكم إلى الآن رسائل من ورق ؟؟؟

نعم ، قد آن لساعي البريد أن يستريح قسرا في عصر غدت الرسالة فيه أسرع من البرق تصل إليك كلمات قد لا تتجاوز العشرة . بدون بسملة ولا تحية ولا خاتمة .
دون أن يكون فيها العبارة المعتادة [ نحن بخير ولا ينقصنا سوى مشاهدتكم ]
دون أن تضطر لوضعها في ظرف أو تلصق عليها طابعا بريديا ، ودون تضطر للخروج مشيا تحت المطر ، أو قيظا تحت شمس لاهبة لتضعها في مركز البريد .
دون أن يكون فيها العبارة المعتادة [ نحن بخير ولا ينقصنا سوى مشاهدتكم ]
دون أن تضطر لوضعها في ظرف أو تلصق عليها طابعا بريديا ، ودون تضطر للخروج مشيا تحت المطر ، أو قيظا تحت شمس لاهبة لتضعها في مركز البريد .
وبعد هذا وذاك وهو الأسوأ عندي ، دون أن تقف مثلي خلف الباب وقد أخذ الشوق بمجامع فؤادك لطرقات ساعي البريد وهو يقول : لكم رسالة .

الآن وبعد أن قرأتم قصتي فهل كان لكم مثلي مع الرسالة حكاية ؟؟؟؟
ثانيا :
أنتم وساعي البريد

تعليق