ليس عبر قناتي
...
...
ولكن ..
ما علاقة هذا الحب ببغضي الشديد للحقائب المصنوعة من الجلد الطبيعي !؟ ..
حدسي يحدثني بأني لست في جانبٍ راقِ من جوانب المدينة التي نطلق عليها بلا أية ترميمات لغوية (العاصمة) ..
معايير التمدن لا تعنيني ..
قبل حضوري إلى هذا المكان كنت أعيش في منزل تنساب فيه الماء كشلالات (فكتوريا) كلما ضغط أحدهم على زرٍ فضي اللون يتوسط سطح صندوق أبيض مستطيل الشكل يقبع بجوار الثقب الذي أختبئ فيه ..
شلالات الماء تلاحقني، وبخفة تحسدني عليها قبيلة القوارض المنقرضة أركض، وبمخالب مدربة أتشبث على الجانب الآخر من الأنبوب الخارج من الثقب والداخل في بطن الأرض، وعندما تصل آخر قطرة ماء إلى القاع أتسلل وأمكث قليلا في جوف التجويف، ثم أشرع في تفقد قصري المنيف ..
لم أعد أذكر عدد المرات التي يفتح فيها الباب في اليوم الواحد، ولكن صريره يكون أكثر نعومة حينما تفتحه تلك الفتاة الغضة ذات السبعة عشر عاما ..
حالما تدخل تلتقط حواسي رائحة الفرح، مقارنة بالخوف الذي يجلبه ذلك الرجل المغطى بشعر كثيف يحتل كل سنتميتر في جسده العاري عندما يرمي ظله فوق التجويف المحيط بالثقب ..
الفتاة التي أفرح بوجودها فوقي، يترك حجم مؤخرتها الضئيل مساحات للضوء كي يتسلل ويضيء جدران التجويف ..
أختبئ منها نصف اختباءة ..
الموسيقى التي تنبعث من هاتفها المحمول تجعلني في حالة من النشوة تقارب حد وهج الثمالة، وبانتهاء آخر مقطع من الأغنية تهمس وكأنها تخاطب كائنا آخر لا أراه ..
- نعم كن صديقي ..
تقف في استقامة كاملة، ترفع قطعة قماش صغيرة معلقة أسفل ساقيها وتغطي ما كان قريبا مني من جسدها، تتجه صوب المرآة، تنحني وتقترب من الحوض، تغسل يدها اليسرى جيدا، تتناول خرقة قطنية (مشرورة) في عمود فضي منصوب بشكل أفقي، تمررها على أجزاء متفرقة من جسدها، تزيح زجاجا عالقا في الجدار، تخرج قارورة شبه مضلعة، تضغط بسبابتها على رأسها، تحتضن مساماتها القطرات المنبعثة من فوهتها، تخرج وتغلق الباب بذات الرفق الذي دخلت به ..
اتحسر على هذا الخروج السريع ..!
أقول لنفسي ..
قطعا أنه الخروج قبل الأخير ..
أخرج من ثقبي، أتجول بحرية مطلقة لا ينقصها سوى هذا الافتقاد العارم لأم الأولاد.
....
....
لا أدري ..
حفرة مكشوفة لا حاجز يقيها من الشمس، عميقة وكأنها بلا قاع، لا مياه تنهال لتنعش فروة ظهري، مجرد قطرات قليلة تنثال فوقي من فوهة إبريق لا لون له. الحائط الذي يلتف حول مدخلها يحتضن ثقوبا ملطخة بطين يابس. الأرض مبتلة ببقايا بول تسبح فيه كائنات زاحفة لا تكف عن الأنين ..
الليل هو الليل ..
لم يفكر صاحب البيت أن يضيء شمعة واحدة عندما يحتاج لحفرتي الجديدة ليلا. سمعته يعلن عن تمرده لشخص لا أراه ..
- الحياة التي أعيشها يا ولدي ليست هي بالحياة التي أحلم بها، ويجب عليك وأنت تعيش في أمريكا أن تتخيل أنك تعيش في بيت لا يضم بين جنباته سوى حفرة قمئية المظهر ..
هل تسمعني يا .. ؟
آلو .. آلو .. آ ..
تسللتُ جهة الحفرة فرحا، استخدمت أدواتي الاستشعارية، أدركت أن الابن الهائم في الجانب الآخر من العالم حتما سينقل والده بعيدا عن هذا الإخراج غير المتحضر..
صراخ حفيد صاحب المنزل ليلة كل جمعة يقلق منامي ..
أخرج من الحفرة وأختبئ في أحد الثقوب الكامنة في سور المنزل. تدخل أم الحفيد، تقف أمام أبيها، يترجل الحفيد أولا عن خصرها، تشرع في وضع أكياس منتفخة بالفجل والبصل والليمون وقطعة كبيرة من اللحم الأبيض على طاولة وحيدة منصوبة في عمق الصالة. يمد الأب ذراعه صوب شاشة التلفاز، يهز رأسه أكثر من مرة، يرسم ابتسامة خفيفة فوق ملامحه ويرسلها لابنته، ينهض ويتجه صوب الحفرة، يمسك برأس الإبريق بأصابعه الخمسة، يهزه هزة واحدة، يخرج من فمه ألفاظا حادة تخيفني حتى وأنا مختبيء في بطن الحائط، يركل الإبريق ثم يقف برهة، يضع يديه في خصره، ينحني، يلتقطه ويخرج ..
أعود، أمكث أسفل الحفرة ..
ساعة من الوقت الاضافي تتلاشى، لأجد بعدها الأب يتنفس بعمق فوق رأسي ..
لم استنشق رائحة الشواء بعد، أثق تماما في حاسة الشم لديّ. صاحب البيت لا يترك لي مساحة وافية كي احترمه، فما أن تضع ابنته ما تحمله من مواد غذائية حتى تركض أكثر من مرة جهة المتجر القابع في طرف الشارع، بينما هو لا يجيد شيئا سوى التذمر كلما اتصل به ابنه من أمريكا ..
ما أن اعتزمت ممارسة رياضة الركض، وقبل أن أضع رجلي الأمامية فوق حافة الحفرة، حتى دخل الحفيد بسرعة ضاغطا أنفه بأصبعيه، رمى الكرة التي في يده، شرع في نزع ملابسه الداخلية، لم يتأكد من محتويات الإبريق، اندفع جهة الحفرة، تمعن فيها، وقعت عينه في عيني، أطلقها داوية، صرخة جعلتني أنزلق داخل الحفرة. مزج الصراخ بكلمات لاهثة لا تنتمي لعائلة اللغة ..
- (فأر، فأر، فأر يا أمي ..، أمي فأر ..)
لم تفارق كلماته أذني قط، حتى وأنا داخل هذه الحقيبة المصنوعة من الجلد الأصلي، ومن يومها أدركت بأني فأر وابن فأر.
...
...
الابن يهبط بمهارة فائقة من سماء أمريكا وكأنه ينتمي لكتيبة من كتائب جيش المظلات، يقع في حضن أبيه فجأة. يمد الأب ذراعه جهة التلفاز، يهز رأسه أكثر من مرة، يرسم ملامح ابتسامة قبل أن يسبح في بركة من الدموع ..
لأول مرة أدرك أن للربيع ساقين يدخل بهما البيوت. الطاولة التي في عمق الصالة تبدلت واصطفت فوقها خيرات هذا البلد. لا يزعجني شيئا سوى مكوث الحفيد أسبوعا كاملا معنا، وكلما التقى بي صرخ ذات الصراخ وكأنه يراني لأول مرة ..
- (فأر، فأر، فأر يا أمي..، أمي فأر ..)
الفضول يبعثر كياني حول محتويات الحقيبة الجلدية الناعمة الملمس الواصلة للتو من أمريكا. جميع الأشياء لا تستطيع أن تصمد أمام أسناني الحادة وقدرتها على التمزيق، عدا هذه الحقيبة التي باءت محاولتي لتمزيقها بالفشل.
في أمسية باردة انتاب الحقيبة نعاسا مفاجئ ..
انتهزتُ فرصة تثاؤبها، انزلقت داخلها، اختبأت بين كنوزها. لا أعلم كم من الزمن مكثت ولكن أشعر بها تدور ثم تعلو وتستقر بين السماء والأرض ..
تذكرت في لحظة مضيئة بأني قارض سوداني لا تفتر همته عن الوصول إلى الهدف الذي يريده ..
تفقدت جدران الحقيبة من الداخل، اخترت أكثر المواقع هشاشة. لم تمر ثلاث ساعات إلا وأنا خارجها منهك القوى. تمدّت قليلا فوق سطحها، رفعت رأسي ..
جبال من الحقائب وأشياء أخرى لا أعرفها تملأ كل فراغ في المكان ..
تجولت ..
اصطدمت عيناي به ..
داخل قفص جميل مصنوع من الحديد الصلب كان جالسا في هدوء تام ..
وكأني أرى نفسي في مرآة مشروخة ..
كان أكثر جمالا ونظافة مني ..
ذهبي اللون ..
يشبه تلك الأرنب التي عادة ما تتجول في تلك المنطقة الراقية التي كنت أسكن فيها قبل أن أنتقل للحفرة القمئية ثم إلى هذه الطائرة الضخمة ..
طفت حوله. لم أر له ذيلا. أصغر حجما مني وله آذان قصيرة للغاية، ولا يعاني من سوء التغذية. قلت لنفسي عن فارق التغذية بيني وبينه ..
ربما بسبب جيوبه التي يخفيها في تجاويف فمه ..!
تساءلت مستاءً :
كيف لفأر ضئيل الحجم كهذا أن يحمل متجرا كاملا للحبوب في فمه الصغير !؟
سرني هذا التبرير، وبأني أكثر تحضرا منه. وقفت أمامه وجها لوجه، تبادلنا نظرات الفضول. لا تبدو عليه علامة من علامات الفرح بوجودي ..
أقتربت أكثر ..
وجدت نفسي أقف بين جملتين أيهما أكثر تمدنا ..
هل أقول له :
عاشت الأسماء ، أم تشرفنا ..؟
...
...
- (صمت أُس نص × صمت أُس نص = ...)
حتى صاح طفلي الصغير فرحا وكأنه في روضة القيصر النموذجية ..
- يساوي، يساوي يا أبي ..، يساوي واحد صحيح من الخوف المطلق ..
ما أن أكمل جملته حتى رمى الإنجليزي ظله القاتم في عمق الكهف. أخفيت الصغار في ركن قصي وبقيت في الواجهة أدعو ربي أن يبعد عنا شر هذا الأشقر ..
الأظافر المتسخة تنغرز فوق فروة ظهري، ترفعني إلى أعلى كحبة ليمون لم تنضج بعد. تربعتُ في راحته، تحسس كل ثقب في جسدي، ثم أدخل يده في حقيبة جلدية داكنة اللون تتدلى من على كتفه الأيسر، قبض حفنة من ثمار لم أذق طعمها من قبل، فتح فمي ورماها في جوفي، وضعني في إناء مثقوب من كل الجهات وأحكم من فوقي الغطاء، انحنى وبعثر بمخالبه محتويات بيتي، أخرج كتيبة العائلة دون أن يدع لها الفرصة لتأخذ أغراضها. لم أرفع نظري عن أصغرهم وكأني أراه لآخر مرة ..
سلم الإنجليزي أفراد عائلتي لشخص آخر يشبهه كثيرا وهو يلوح بفرح غامر لمرافقه ..
- إنها نوع جديد من الفئران يا (توماس). أنظر للونها الذهبي، لهذه الآذان القصيرة ..
تأمل يا (توماس) الجيوب الكامنة داخل فم هذه الأنثى ..
سأطلق عليها اسما ..
دعني أفكر قليلا ..
تأملها يا (توماس) وقل لي ما رأيك في اسم (الهامستر الذهبي) ..
لم يكف مرافقه عن البحلقة إعجابا بعبقرية أستاذه القدير، وبابتسامة صفراء خرجت كلماته ..
- نعم ..
إنه لاسم مميز أستاذي (جورج روبرت ووترهاوس) ..
...
قادم هو من أقصى الشمال ..، شمال سوريا ومن مدينة حلب تحديدا في قفص جميل لا يحجب عنه الهواء، وأنا الهارب هروبا شرعيا من قلب الخرطوم في حقيبة أمريكية مصنوعة من الجلد الأصلي ..
لم أكن أدري أن صاحبي الجديد بكل هذا الذكاء حينما قرأ أفكاري. فتح فمه الصغير بعد صمت طويل، تكلم بكلمات مضغوطة عن وضعه الراهن، وأنه من قبيلة اختارها علماء أوربا ليقيموا عليها تجارب علمية بأكثر الأجهزة الطبية تقدما في العالم الأول علها تنفع الإنسان في يوم من الأيام ..
استوعبت كلامه الذي يدل على انتهاك واضح لحقوق الفئران ..
أفصحت عن رؤيتي للأشياء ..
وأن لا شيء يجمعنا يا صديقي بهذا الكائن الغريب المدعو الإنسان ..
فليعالج ضموره العضلي ..
وهشاشة قلبه ..
وسمنته ..
وشلله بمعزل عنا.
سيحتفظ كلانا بكبده وبقناته الصفراوية، ولن نهب لهم قطرة من سائلنا (المعثكل)، ولن نصل إلى أمريكا مهما كان الثمن، ولا أريد أن أضعك أمام معادلة ليست بموزونة، وعليك أن تختار بين الموت في المختبرات الطبية والموت حرا بين السماء والأرض. لم أعر نظراته الخائفة اهتماما، ولن يقف حاجزا بيني وبين أسلاك القفص ..
اتجهتُ صوب الحقيبة المصنوعة من الجلد الطبيعي، دخلت بسهولة عبر الفتحة التي صنعتها بأسناني، تناولت آخر وجبة كاملة الدسم في حياتي القصيرة واقتربت منه، نهشت أسلاك القفص، تهشمت مقدمة أسناني وسقطت على الأرض ..
سخر مني (الهامستر) واعتبرني ساذجا، ضحك وكأنه فخور بسجنه الذهبي ..
لم ترق لي عباراته التي تحاول عبثا أن تبث فيّ روح اليأس والإحباط ..
لا فرق عندي إذا كان هذا القفص مصنوعا من مادة لا تتآكل أو صنع خصيصا لحبس الفئران المخبرية ..
نهضت وحاولت مرة أخرى، ولكن بإشارة توعد مخيفة أخافني السجين الذهبي اللون الذي أحاول أن أحرره. توقفت وتركته يكمل حيرته ..
- لماذا لا تفر بجلدك أيها الفأر السوداني؟!
دعني أواجه مصيري كما واجهه أجدادي من قبل ..
لماذا تعرض نفسك للهلاك من أجلي؟
إياك أن تحدثني عن العروبة التي تجري في دمك ..!
ثم أنك سجين مثلي !
فكيف لسجين أن يحرر سجينا !؟ ..
لن انزلق في عباراته اللزجة وأسقط في فخ الاستسلام، ولن تحرك كلماته العاجزة ساكنا في سهول قناعاتي ..
رتبت حروفي جيدا وبلغة عربية سليمة حاولت معه ..
- إذا كنت أنا سجينا في طائرة لا أعرف إلى أية جهة تنتمي، فأنت سجين في القفص وفي الطائرة أيضا !.
فلِمَ لا نوحد سجننا أولا ؟، ثم نجلس على طاولة شبه مستديرة ونفتح بابا واسعا للحوار ..
لم يقتنع الهامستر الذهبي اللون باقتراحي وتركني وحدي أنهش بأسنان هشة أسلاكا لا أعرف متى ستتآكل ؟!.
تعليق