الماضي يعود غدا...
آهٍ لو ألتقيه يوما هذا الذي اخترع الربطة .. سألفّها حول عنقه و أشنقه بها , بيديّ هاتين !
يفكّر ساخطا . يعيد المحاولة . دون جدوى . مائلة إلى اليسار الآن .
لم يحب ربطة العنق أبدا رغم حبّه للأناقة ... يعتقد أنّ من ابتكرها شخصٌ مختل كان في حقيقة الأمر ينوي الإنتحار.
كأنْ لا تكفي هاته الأربطة حول حياتنا و حرّياتنا ! .
يستنجد بزوجته ، و بأصابعها الطويلة النحيلة التي تزينها خواتم ذهبية لامعة , تنهي الأمر بكل سهولة , و في لمح البصر .
- شكرا لك ..
يا الله ! كائن عجيب هي المرأة !
لم يكن عبد الرحيم يبدي ذلك دائما و لكنه يعترف لزوجته بالقدرة و المهارة . و كثيرا ما حدّث نفسه و هو مستلق على الأريكة , ينفث دخان سيجارته و يراقب حركاتها و هي تدب في البيت , تروح و تجيء في أرجاء عالمها الوحيد , تبعث فيه من روحها , تنظّف هنا , و ترتّب هناك , ملمّة بكل كبيرة و صغيرة , حاملة همّ كل شيء..
يا للمرأة ! كم تدهشني قدرتها العجيبة على الاضطلاع باحتياجاتها هي كأنثى و باحتياجاتنا نحن الرجال أيضا ! . لا أدري ماذا كنا نفعل لولا وجودها في حياتنا .
يا للمرأة ! كم تدهشني قدرتها العجيبة على الاضطلاع باحتياجاتها هي كأنثى و باحتياجاتنا نحن الرجال أيضا ! . لا أدري ماذا كنا نفعل لولا وجودها في حياتنا .
يقف أمام المرآة يتأكد من أناقته , يحاول التغلب على شعور غامض من التوجس و القلق يزحف فوق صدره .
ربما لأن هذا اليوم من الأيام الهامة في حياة عائلته الصغيرة .
لا أصدق أنّك كبرت بهذه السرعة يا ابني ؟ مازلت أراك طفلا يمرح و يملأ البيت صخبا و حياةً .
مرّر راحة يده اليسرى على الربطة الحريرية البراقة . طاف على شفتيه شبح ابتسامة سرعان ما تبخرت عندما ارتطمت يده بكرشه البارزة .
تعكس له المرآة صورة أقرب إلى المثالية لولا هذه الكرش .
لقد تقبّل على مضض غزو البياض لمفرقيه و وسط رأسه محاولا إقناع نفسه بأن الشيب مرادف للوقار , و لكنه يجد حرجا كبيرا في تحمّل مظهر كرشه .
أمران يفضحان عمر الرجل منا يا صاحبي , مهما حاولنا إخفاءه...الصلع و الكرش البارزة .
كما يحلو لأصدقائه التندّر به .
كان عبد الرحيم دائما رجلا أنيقا , وسيما , جميل الملامح , متناسق الجسم , عريض الصدر , مفتول العضلات , كثيف شعر الحاجبين و لكن في غير بشاعة . أيام الجامعة كان الرّفاق يترجّوه ألا يظهر معهم حين يتعلق الأمر بغزو قلوب الفتيات , لأنّه يستحوذ على اهتمامهن و يخطف عقولهن بخفة دمه و لباقة حديثه و سحر ابتسامته .
تلك أيام ولّت و لن تعود .
والحق أنه اليوم ، في نظر الجميع ، رجل سعيد . أليست السعادة منزل و ولد و وظيفة و زوجة مطيعة ؟
لكن لا أحد يدري مرارة تلك اللحظات حين ينتابه الإحساس بأنّ الحياة نسيته معلّقا بأهدابها الفاتنة... ذلك المساء ، و أنه لا يعيش حقا و إنما يأكل و يشرب و ينام و يراقب قافلة أيامه تمر متباطئة متخاذلة ، خائرة ... ينتابه الضجر من الإستقرار ، تخنقه رتابة الزمن ، و يحلم بأن تتعثّر خطاه بحدث ما ، أيّ حدث ، ينتشله من مستنقع الروتين و الملل و يمحو قتامة الأمسيات التي يقضيها بين المقهى و شرفة البيت .
آهٍ ...يا حبيبة العمر كم هي أيامي في غيابك تافهة و سخيفة و بلا إيقاع !
يتصوّر الحياة مختلفة تماما... رحلةً مثيرة ، ساحرة ...نهارات مشرقة معشوشبة بالفرح ، و ليالٍ دافئة مطرّزة بالحب و النشوة ... لو... أنها معه , لو لم يحرمه والده منها و يقف في طريق سعادته .
يطيل النظر في المرآة كأنما يدقّق في ماضيه البعيد ... يحس باللوعة و الأسى و تغرورق عيناه بالدمع .
يعتصر الهمّ قلبه .
ريحانة ... حبّه الأول و الأخير , أحلامه , فرحة القلب الوحيدة , أغنية الروح الخالدة ..النوتة التي لا تستقيم بدونها سمفونية الوجود و لا يكتمل بسواها اللحن ...الدرّة التي فاز بها و اختارته و فضّلته على كل الخطّاب و المعجبين .
حب العمر الذي ضاع مع الريح يوم تحطّمت آماله عند قدمي والده .
و يطلّ عليه السؤال مرّة أخرى ... ترى على أي شاطئ رست بها الأيام ؟
و هل أمر بخاطرها أم أنني نسيًا منسيَا ؟
لم يستطع نسيانها أبدا ، ظل يتمنى لو يلتقيها مرّة ، و لو صدفة ، أن يلمحها و لو من بعيد .
كم هدّه الشوق و راوده الحنين لنظرة منها تزرع يباب روحه بالنور و الخضرة و لكنه لم يرها ، منذ تلك الأمسية ...يوم كان جبانا ، ضعيفا ، خائر الإرادة حتى أنه لم يجد الشجاعة لإخبارها برفض والده فاكتفى برسالة وضعها في كفّها قبل أن يغادر كسير القلب ممزّق الروح ، مؤكّدا لها أنها تستحق رجلا أفضل منه .
يكتم آهة حزينة و تغشى سحنته سحابة حزن .
كلمات والده تتردد في رأسه , بل يكاد يراه الآن ، واقفا على عتبة البيت يلوّح بعصاه الخيزرانية الغليظة , عيناه جاحظتان ترسلان شررا و وجهه بؤرة غضب .
صوته يجلجل , يصل إلى مسامع الجيران و الرذاذ يتطاير من شدقيه .
- مستحيل أن أوافق على زواجك منها ..عائلتها لا تناسبنا . هل تريدني أن أصبح أضحوكة أصحابي و معارفي ؟
كل الوسائل فشلت أمام غلظة قلبه ...لم ينفع تدخل أعمامه , و لا دموع والدته تتوسل إليه أن يرأف بابنه الوحيد و يوافق على من اختارها قلبه .
لا فائدة ..والده لا يلين .
كيف يزوّج ابنه الوحيد و وريثه من فتاة عادية والدها رجل فقير لا يملك مالا و لا جاها ؟
كيف يزوّج ابنه الوحيد و وريثه من فتاة عادية والدها رجل فقير لا يملك مالا و لا جاها ؟
و يأتي القرار كحد المقصلة :
- لست ابني و لا أعرفك و غير راضٍ عنك إلى يوم القيامة لو تزوجتها !
- ما بك ؟ هل هذه سحنة أب سيتعرّف اليوم على عروس ابنه ؟
يفيق من شروده ، يفتعل الابتسام :
- أبدا .. كنت ...كنت أفكّر كيف كبرنا بسرعة و أصبحنا عجائز . ابننا سيتزوّج ..تصوّري !
- أنت العجوز . أنا مازلت شابة !
و تطلق ضحكة عالية ..
كان مساءً شتوياً باردا ينذرُ بكل أسباب التعاسة حين أخبرته والدته أن والده عثر له على الفتاة المناسبة . ابنة أحد أصدقائه الأثرياء ..من عائلة عريقة ، مقبولة الشكل ، و على قدر من التعليم .
لم يستطع إلا الإذعان و الرضوخ لإرادة والده . و كان الزواج الذي استمر لسنوات على نفس واحد و وتيرة واحدة ، الفتاة هادئة مطيعة و ربة بيت و فوق ذلك أنجبت له الولد .
دخل الإبن يستعجلهم و قد جلب باقة ورد جميل و علبة كعك .
فغر فاه دهشة ..
- أمي .. ما كل هذا التأنّق ؟
- يا ابني الانطباع الأول مهم جدا .
- أخبرتكم أنها من عائلة متواضعة جدا..ثم هذه زيارة تعارف و ليست خطوبة رسمية .
- و لو ... هل تريدنا أن نبدو بمظهر بائس أمام من سيصبحون أصهارنا ؟
استقلّوا السيارة و انطلقوا .
و كان عبد الرحيم يحدّق في ابنه و هو يقود كأنّه غير مصدّق أن الزمن مرّ بهذه السرعة .
و كان عبد الرحيم يحدّق في ابنه و هو يقود كأنّه غير مصدّق أن الزمن مرّ بهذه السرعة .
- هل ....
و يختنق السؤال في صدره . كان يريد أن يسأله " هل تحبّها ؟ "
- هل ..هل أنت واثق من قرارك ؟
- نعم , أبي ..لكن سبق و أخبرتك ليست من عائلة كبيرة أو معروفة ..و الدها متوفي ،و و الدتها امرأة بسيطة .. - حسنا..المهم أنكما متّفقان .. والدتك و أنا نرغب في أن نراك سعيدا .
توقّفت السيارة أمام احدى العمارات في الجانب الغربي من المدينة .. و فتحت باب الشقة في الطابق الثاني سيدة جميلة ، هادئة الملامح ، محتشمة ، متأنّقة في غير تبرّج و قادتهم إلى غرفة متوسطة الحجم ، فيها أثاث متواضع ينم عن ذوق رغم بساطة الديكور .
و بينما السيّدة تتمتم بعبارات الحفاوة و الترحيب كان عبد الرحيم يترنّح ، يكاد يسقط من هول المفاجأة ، يحاول التماسك بصعوبة...و السيطرة على نفسه .
هذه المرأة ... يا الهي ! ...إنها ريحانة !
هل هي أخرى تشبهها ؟...مستحيل ..إنها هي ..لن يتوه عنها و لو كانت بين آلاف النساء .
جلس الجميع ..السيدة و أخوها الأكبر و ابنها و عم أبنائها ، و جلس عبد الرحيم بين زوجته و ابنه و قد أطبق عليه الذهول فلم يستطع أن يركّز فيما كانوا يتحدّثون فيه .
كان مندهشا ، مأخوذا ، ينصت في فرح و حيرة إلى همس روحه و دقات قلبه كأنما يكتشف لأول مرّة أنّ له قلبا يدق .. إنّها هي ..هنا .... حضورها يملأ المكان و هي لم تتغيّر.. ربما قليلا فقط ، بل إنه يجدها أجمل و أكمل و أروع مما كانت عليه ... لم تنل منها يد الأيام و لم تعلق بها شوائب الزمن، حتى أنها تبدو فقط في الثلاثين من العمر أو أقل .
بعد قليل دخلت الإبنة فسلّمت .. ثم وزّعت العصير و قد تورّدت وجنتاها من فرط الحياء... تشبه أمها كثيرا ..في لون العينين و الإبتسامة الخجولة ..و القامة الهيفاء .
و لكي يخفي عبد الرحيم ارتباكه و اضطراب جوارحه ، انشغل بالحديث مع عم الفتاة ، محاولا تجاهل رغبة ملحّة في أن يلتفت إلي حبيبته ، يحتضنها ، يقبّل بعينيه عينيها ، و وجهها و ثغرها...انتقاما لقلبه من والده و من قسوة الغياب و من الزمن البخيل ...الضنين .
و على حين التفاتة تسمّرت نظرته فوق صورة كبيرة في إطار ..على الحائط .
أخذ يقلّب عينيه بين الصورة و السيدة و هو في حالة من الذهول و الحيرة .
أخذ يقلّب عينيه بين الصورة و السيدة و هو في حالة من الذهول و الحيرة .
و تقطع عليه السيدة حبل الدهشة :
- آه ... هذه أنا مع أختي ريحانة .. أنت أكيد مندهش من الشبه ..نحن توأم ..لكن ظروف صعبة فرّقتنا منذ الصغر..فتربيت أنا عند خالتي بعيدا عن العائلة و لم تكن إحدانا تعرف بوجود الأخرى إلا من بضع سنوات .
ثم تضيف :
- بالمناسبة ..هي ستعود غدا من فرنسا ..أتمنى لو تشرّفوني بالحضور لأعرّفكم عليها ..و نتعشى معا .
غاص قلبه في صدره و تمتم بكلام لا يدري معناه .
قبيل المغرب ، غادروا و قد اتّفقوا على أن تكون الزيارة القادمة أكثر رسمية ، و يتم فيها تحديد موعد الخطوبة و الزفاف .
و لم ينم عبد الرحيم ليلتها ، استبدّ به الأرق و هو يرى الماضي بكل تفاصيله يغزو مساحات الحاضر.
صورتها ملأت فكره و وجدانه ، هيّجت حبّه ، و تقلّص الزمن ليصبحَ جزءًا من الثانية ...هي لحظة التقاء عيناه بعينيها...من سنين... قبل الفراق .
كيف يمكن للحظة أن تساوي العمر ؟
خلا بنفسه في غرفة متعلّلا بالتعبو قد ثارت براكين ذاكرته الخامدة... لافظةً حِمَمَ الشوق و العشق .
خلا بنفسه في غرفة متعلّلا بالتعبو قد ثارت براكين ذاكرته الخامدة... لافظةً حِمَمَ الشوق و العشق .
و طفا الماضي على سطح حياته كأنّه حدث بالأمس فقط ..
يا إلهي ... أيعقل هذا ؟ بعد كل هاته السنين ؟ ما هذا الإحساس ..هذه النشوة السابحة في دمي لمجرّد هفهفة اسمها و حديث عابر عنها ؟
هذا الدفء في عروقي ..و الدماء في شراييني... أخرى ... جديدة ... نقيّة !
أيّ إنتشاء ! كأنّه البعث بعد الفناء ! الآن أفهم لمَ لم أستطع أن أستمتع بحاضري " السعيد "..
كيف يكون لحاضرك معنى حين ينقصك الماضي ؟
آهٍ ...يا حبيبتي... أما سافرتِ طويلا في الصمت وأبعدتك دروب الغياب ؟ أما انتهينا ؟
فكيف أجدك الآن هنا ... ملء الأنفاس و الرئة ، ملء قلبي و قدري ...ماالذي يحدث لي ؟ كأنّني ما توقّفت عن حبك أبدا.. كأنّك ما رحلت يا مليكتي ... ما ترجّلت عن صهوة القلب و لا غادرتِ شرفة الروح يا حبيبة العمر الذي أبحر بعدك في الفراغ .
و بات ليلته طريح الأفكار ، صريع الوجد ..يتقاذفه الشوق و الذكرى و الخوف من الآتي .
لم يغمض له جفن إلا مع انبلاج الفجر حين استطاع أن يغفو قليلا و هو على يقين بأنّ لقاءه بها سوف يقتلع حصون ذاته ، و يشرّع الأبواب للعاصفة .
تعليق