ما يزال مشهده البطيء, وهو يتسحب إلى ركن القاعة الضيقة ليحتفظ بلقيماته اليابسات, وحبات الزيتون الأسمر, فوق أريكته الخشبية.
يا فرحتي بك, وأنت تشذب شاربك وتهندم قوامك, تمرر فرشاة "سحب الوبر" على جاكتة آمالك الفستقية, وتشدني شدا ناحية النافذة, تأمرني أن أنظر.. هناك في البلكونة البعيدة فتاة أحلامك.. أحلامك القرنفلية.. ويا عدم اكتراثك وأنا أُبعد ذراعك, أطوحها أكاد أقضمها, وتكاد تصل إلى السماء وتقترب, أظنك فرحا, عرفتك تعشق الزهو والتلميع, ستسعد حينما أطوحها؟ نعم أعرفك لا يهمك سوى الطبقات العليا.
أعود وأجذبك ناحية النافذة نفسها, وبنفس الأمر أطلب منك أن تنظر.. إلى هناك .. حيث السقف الخشبي والجدران المستورة بأكياس البلاستيك, وخشخشاتها إن جاءت ريح أمشير الباردة, هل ترى هذا المنزل؟ عبارة عن قاعة واحدة, لو افترضنا أنها قاعة يرتضيها البشر سكنا, انظر كيف تتساقط عليها الأمطار بغزارة, وكيف تنكمش القطة فزعا حينما تندفع القازورات مع وسخ المزاريب إليها, حتى المنحدر الأرضي استقصدها, ترك الميل المتجة نحو فيلا "السمادوني" وغير اتجاهه نحوها..
السواكن أصبحت طيّعة ورهن إشارتهم..؟
بخطى فيلية كان يتحرك بثقل رغم نحافته, يبذل أقصى جهده كي لا يخسر وجبة العشاء المتبقية من وجبة الإفطار, فوجبة الغذاء مشطوبة من برنامجه الغذائي, حبات من الزيتون الأسمر, شريحة لانشون تزن خمسين جراما ونصف, لقيمات من الخبز المقدد, ولا أضواء يستنير بها ليطرد القطة المشاكسة التي زاحمته القاعة.. الولد "فستق" ابن الذين آمنوا ولم يعملوا الصالحات صوّب "بالنبلة" على لمبة الجاز.. هااااه يفرجها ربنا.
الراديو "الترانزسيتور" – صُنع الصين – في بيانه الصبحي صرح أن إنارة العشوائيات في أولويات الحكومة الجديدة.. ومذيعة الشرق الأوسط غسلت فيه الأمل بصوتها الرقراق في برنامج "بصبح عليك".
عم سنوسي حاول مرارا مقابلة رئيس الحي.. عم سنوسي يلتحف البرد غطاء كل ليلة, عم سنوسي يُكمل عشاءه نوم, عم سنوسي لديه بطانية واحدة من صوف الغنم _ أرسلها له فاعل خير _ وحصيرة وكلب مربوط أمام المنزل, رئيس الحي لم يخبره أحد بشكواه.. رئيس الحي يصلي ويصوم, وحج بيت الله ثلاث مرات.. رئيس الحي لا يقصر أبدا مع المواطنين, ولا يتوانى لحظة في أداء واجبه الوطني.. رئيس الحي لا يعرف عم سنوسي, لكنه يعرف الكلب المربوط أمام منزل عم سنوسي, فكلما مرت به سيارة الوحدة أمام المنزل نبح وثار, وشب على قدميه فرحا بالحكومة الجديدة.
على مكتب الموظف المختص بتلقي شكاوى المواطنين, ترك الرجل شكواه مدعومة بختمه المدوّر, فهو يجهل القراءة والكتابة, ولا يستطيع نقش التوقيع بالطريقة التي ينقشها الأساتذة, والمرسومة كرسمة أولاد الزوات. هل تعلم فحوى الطلب؟ عم سنوسي اعتاد على البطانية الوبر ولا يكره قطته, وأنت معتاد على فرشاة سحب الوبر وتنزعج من صوت الكلب.. الغريب أنك لاتنزعج هكذا من "ماستيف" ذي الفراء القصير الناعم.. والأغرب أنك تشتري له الكبدة المشوية بنفسك, وترجع بها من الشارع الخلفي كي لا يشمها كلب عم سنوسي, تقف مصلوبا تحت نافذتها كأن عليك ذنبا, لا تجرؤ على الحركة حتى تتأكد أن "ماستيف" شبع تماما.. ثم تمنحك الإذن فتنصرف.. فهل عرضت الطلب على رئيس الحي؟
في صباح دافيء قليل المطر, كان أمشير هادئ الطبع في ذلك اليوم, جاء عم سنوسي إلى المكتب آملا في وجه الموظف خيرا, وحينما رأيته, اختبأتُ خلف ستار النافذة "الطحيني" اللون.. لكن الشجار الذي علا ونشب بين الرجل ورئيس الحي أجبرني على مواجهة المسئولية, فالخطأ كان خطئي بالتأكيد.. وجلّ من لا يسهو.. رغم أن الأمر لا يستحق كل هذا الصوت العالي, إلا أن الرجل حقا ما طلب المستحيل, ورأيت من اللائق أن أحل أنا الموضوع بعيدا عن جعجعة رئيس الحي, سألته:
- كم مترا يكفيك ياعم سنوسي؟
- يا ولدي هي نومة أم أكثر؟
وفور إجابته, ترقرقت دمعة خفيفة في مقلتيه, وبرقت, حاولتُ أن أطيّب خاطره, لكن رفض أية محاولة, كان تمسكه أشد حتى تتم الموافقة على الطلب الذي قدمه منذ أكثر من ثلاث سنوات, ثم سرح طويلا, كأنه يتخيل جثته المرمية على آريكة خشبية في قاعة ضيقة, لا يسكنها سوى حيوان هزيل, لو تذكره عزرائيل في ليلة قارسة من ليالي أمشير, أو في سنة من السنوات الماضية قبل أن يوافق له رئيس الحي على الطلب, ما مصير جثته إذن؟
- يا ولدي أنا لم أطلب قصرا, كل ما طلبته مترا بالطول × نصف متر بالعرض, ورحمة بعجوز مثلي مقطوع من شجرة أرجوكم وافقوا على الطلب.
- غدا سيكون جاهزا, وسأذهب معك بنفسي أسلمك المكان والتصريح بالبناء.
ما استعصى البكاء هذه المرة, رغم كمية الفرح التي خرجت مع الدموع من مقلتيه, ثم صافحني وانصرف, يمطرني وابلا من دعوات تفريج الكرب, كأنه يسابق أمشير الذي أعلن عن نيته السيئة أخيرا.
لم أكن أعلم أنك بهذه الشفقة, تمتلك وفرة من الرحمة, وتأكد لي أن علاقتك بـ"ماستيف" ليست إلا واجبا نجم عن ضعف إنساني.. تراها أحبتك لطيبة قلبك؟ أم أن لعلاقة الرئيس بالمرؤوس دورها في إنجاح صفقة تبادل القلوب..؟
كم كنت فزعا حينما رأيتك بهذا الغم عشية أمس! اقتربت منك على غير عادة.. وضعت على يسارك فنجان القهوة المخلوطة بالهيل والقرنفل.. حاولت أن أخفف عن أكتافك زكائب الهم التي حطت عليك فجأة.. رأيت أن أبحر معك في نفس الطقس, وبكل قوتي ضغطت على الدمل: - ما أخبار "ماستيف" ؟ ومن الطبيعي أن ترفض الإجابة, حاولت أن أستنطقك وأفكك من هذا الأسر, لكن ساديتك نحو نفسك كانت أقوى, كيف تطيق وتتحمل هذا التعذيب؟ اعتبرها ماتت أو لم تكن, واعتبره كلبا وراح.. هناك كلب آخر, أكيد هو أحوج لأي رعاية من "ماستيف".. وستكون فرحة عم سنوسي بك أكبر محرض على النسيان.. ما رأيك؟
وضعت التصريح في جيب الجاكتة, مرفقا بالموافقة على الطلب, قصدت "الحاتي" قبل أن أذهب له مباشرة.. لم أنتظر هدوء أمشير, ولم أكترث بالهطول, شعرتُني فقاعة تطير وتراوغ حبات المطر, كأنني فجأة تخففت من أوزاري, وعدت لتوي من أرض الله الحرام.
طلبت من "الحاتي" نصف كيلو زيادة, سيكون للغذاء شهية مختلفة تحت أكياس البلاستيك, وللمرة الأولى سيتناول عم سنوسي وجبة الغداء.. قبل اقتربي من الباب بخطوات, شب الحارس الوفي على قدميه الخلفيتين, مراقصا ذيله, غمرتني نشوة فرح عارم, وسعادتي الأكبر أنني لم أنزعج منه, وضعت له طبق الكبدة المشوية, واستغربت عندما رفضه..
تأكدت من سلامة التصريح وورقة الموافقة.. جهزتهما.. كانت القاعة معتمة من الداخل, تتساقط من السقف مياه أمشير بغزارة, الراديو الترانزستور _ صنع الصين _ يؤكد أن قرار الأمس سيبدأ في التنفيذ من الغد.. ومذيعة الشرق الأوسط تنعي بغاية الأسى والأسف فقدان مصر واحدا من أشرف أبنائها في برنامج "كلنا جنود".. والقطة المشاكسة تلمع عينيها في حضن عم سنوسي الممدد دون غطاء على أريكته الخشبية كلوح الثلج.
تعليق