ليل المدن القديمة
و الليل يستوي على عرشه اللانهائي ، و يدثر الجفون و الأفئدة بوشاحه الحاني ،كان مسعد يتسلق الجدار الواطئ ، بحذر و تلصص ، و مفاصله ترتعد و تتقلص ،تخونه ليعاود الكرة من جديد . يدوم في أذنيه هذا الصوت الأجش : " هاتفضل طول عمرك عيل .. و لا أنت نافع في شيء "
تنفلت أصابعه . فيتكور بجانب الجدار باكيا ، ينهض ، وهو أشد إصرارا على معاودة التسلق . يصبح فوق سطح البناء ، يخفض هامته ، يتحاشى السير فوق أوراق القش و الحطب الصائف . يتردد ، يسحب قدما ، يرفعها ، يحط بها متباعدة، ينقل الأخرى محدقا في ظلام الكون الوسيع ؛ عله يرى من خلاله طاقة غضب أوبشارة تأييد ؛ فما وجد غير سماء هائمة في محرابها ، و أصوات كريهة كأنها نزعات مريض على حافة الموت . تتجاوب معها الكلاب فوق الأسطح الهاجعة .
يخطو فوق الهشيم ، باعثا فيه أصواتا كهسيس النار . يتوقف متفرسا في صحن الدار ، يمط جذعه ، يبحث عن السلم الخشبي النقال . أبصره مركونا إلي الجانب الآخر من بئر السلم . يلف حول نفسه . تنفلت قدماه . يتشبث متدليا ، يتماسك .. يعافر النهوض من عثرته . يكبت مشاعره مرخيا جسده على القش ، يزيح الجلباب عن ساقيه ، يئد رغبة قوية في إشعال سيجارة ، ينتصب ساحبا السلم ؛ متحسسا طريقه .
:" ليس على من لوم و لا عتب .. طردتني ، ومنعت عني كل شيء .. ما اكتفيت حتى رحت تغلق أمامي كل الأبواب . لم تضطرني إلي هذا . تدفعني إلي كراهيتك .. أنط على الأسطح ؟ ضاع عمري بين يديك .. نعم لا تظن أنك تمن على أو أنك ربيتني لوجه الله .. كنت تعتصرني ، تلاحقني حتى في تلك اللحظات التي أتوارى فيها عنك ؛ لأدخن سيجارتي .. وفوق هذا تضربني .. أنا الرجل .. العائل لأولادي وزوجتي . أنا ما قصرت في عمل .. كنت دائما طوعك ، جاعلا خدي مداسا لك .. و للعائلة كلها ، رضيت بأقل القليل ، ما خنتك في مليم أحمر ..و أنت تخونني في عرقي ، تأكل لحم أولادي تاركا لهم العظام و العفش ، حتى صرة ( الهلاهيل ) نزعتها مني ، و أخرجتني يد وراء و يد قدام .. العيال جوعى .. جوعى، ونصرة رغم أنها رأت بعيني رأسها ، هالها الأمر ، إلا أنها و ألف بلغة قديمة ، ترفض العيش معي إلا في كنفك ، و بين قبضتك . و انا زهقت ، تعبت من الرق .. لم تقفل الأبواب في وجهي .. لم يا رجل ؟ كان لا بد أن يأكل الأولاد ، يعيشوا مثل خلق الله ، ليس الذنب ذنبي .. سامحني ؛ فأنت من دفعني ".
أتي على آخر درجة في السلم . يحفظ الطريق جيدا . تباغته ضحكة رنانة من حجرة أبيه ، يقترب من الباب ينصت ، ينحني ناظرا من عنق الكالون : عاريا كان بعوده الممتلئ شحما ، وهي كتلة من اللحم المترهل .. يتعابثان . يخور الأب كثور . تتغنج :" و النبي يا إبراهيم .. الصبح .. هيه الصبح ! ".
: " مش خلاص اتفقنا . الصبح ، و يبقى يضرب دماغه في الحيط ابن أمونة ".
:" المصنع و البيت .. اوعى تنسى يا حاج ..... ".
اغرورقت عيناه . ما عاد يرى شيئا . تشرخه الأصوات ، تضخم حالة اليتم التي تمزق جسده و روحه . يتقدم من المخزن بالدور الأرضي ، يعود محملا بكوفيرتات* مغلفة بالبلاستيك . ترتفع همهمة داخل حجرة أخويه غير الشقيقين . يختبئ .. تتلاشى الهمهمة .
يتحرك من كمونه كفراشة نازفة ، يطوي درجات السلم إلي الدور العلوي ، يدنو من حجرة والده . يختلس النظر :" تعبث بمعطف أبيه المقدس ، تقلب بعض الأوراق ، تنسل جزءا منها ، تخبئه خلف بطيختي صدرها ، بينما شخير الأب يتعالى كهزيم الرعد في بدنه .
اندفع صاعدا الي السطح ، وهو أكثر تماسكا . انهار جسده بجانب الجدار ، أخذ الكوفيرتات تحت إبطه ، انزلق ملتويا بين الحارات :" سأقول لها ، إن أبي استرضاني بها .. ومن الفجر أكون في ( سمنود )* لأبيعها .. و لا من شاف و لا من درى . أشتري قدرا ، و بعض الزجاجات للخل و الزيت الحار و الشطة و الطحينة ، أشتري مغرفة كبيرة أيضا ، و أقف أمام البيت ؛ و ليخبط رأسه في الحائط .. لن أعود ثانية ؛ ليغضب كيف شاء ، و إذا ما لم تلن رأس نصرة ، ارمي عليها اليمين ، و انتهي ".
ضاع في هواجسه . كان البيت على امتداد ذراعين ، حين داهمته كف غليظة . صرخ مرتعبا ، لوى رقبته بصعوبة . طالعه البيريه المطل من جبهته الطائر النحاسي لآكل الرمم :" قدامي يا حرامي .. إياك ترمي ما تحمل ".
عند الظهر وساعة شزر إليه والده ، وهو خلف القضبان ، وطالع نظرات الشماتة على وجهه ، أدرك أنه غريب عن هذا الرجل ، و أنه لابد من معاودة الكرة ، و ألا يرتمي في أحضان والده كامرأة أذلتها الحاجة !
كوفيرتات* : نوع من المنسوجات ( المفروشات )
سمنود : مدينة صغيرة قريبة من مراكز محافظة الغربية
تعليق