أنتجت الدراما السّورية مسلسلا بالغ الروعة ، أبو ليلى المهلهل ، الزير سالم ، حرب البسوس ، حرب الأربعين سنة ، سمّه ما شئت ، المسلسل كان موفّقا جدّا في الصّورة و الصّوت ونحن نعيش عالم الصّورة ، لكن ما أعطاه ذلك الزّخم من النجاح هو المخرج بطبيعة الحال الذي استطاع التوفيق بين السيناريو و التشخيص و الإضاءة و زاوية التقاط الصّورة و المكان إلى غير ذلك من أسباب النجاح كاختيار الممثّلين بنية و صوتا و قدرة على التّماهي مع الدور .
إذا سلّمنا بعمل المخرج كقائد لفيلق هذا العمل الجبّار ، فالحقيقة تقتضي التعريج على كاتب السّيناريو ، هذا الكاتب الذي وجد بين يديه موروثا و حكاية و ربما أسطورة شبيهة بالعنترية و الأزلية كمادّة أوّلية منها استطاع تشكيل و رسم سيناريو بعيون اليوم دون إغفال الأمس ، هذا النظر بعيون اليوم للأمس هو ما أعطى للمتن الحكائي روحا جديدة ، فلو شئت ، قلت أن النّص يعالج قضايا اليوم في حكاية الأمس . هي النصوص هكذا في الغالب ، كل يوم تتخذ روحا جديدة لتتفاعل مع اللحظة ، و هكذا تبعث الحياة في النّصوص ، فإذا كان الإطار العام للنص يتحدث عن بطل " تاريخي " و ربما " أسطوري " فكاتب السّيناريو استطاع توظيف الحكاية لنسج حوارات تجيب أو بالأحرى تطرح تساؤلات الحاضر التي تؤرق الفاعل المجتمعي والسياسي .
إذا كانت الحالة العامّة التي ينقلها المسلسل تتحدث عن مشروع إقامة المجتمع البناء الذي تحول في لحظة إلى تناحر و تنابز و صراع يعتبر الفائز فيه مهزوما ، فنحن أمام واقع اليوم الذي غابت فيه الرؤية و حلت محلّها أجندات ضيّقة الأفق ، تتناحر من أجل الفتات . لنبتعد قليلا عن السياسة التي أتعبت عقولنا دون جدوى و نتوجه إلى الجماعت الصغرى أو إلى الذات في تفاعلها مع المحيط الصغير ، كان السيناريو قويّا من حيث توظيف أزمة اليوم على شخصيات الماضي ، فلنأخذ على سبال المثال تطعيمه بقصّة الأديب الروسي أنطون تشيكوف بعنوان "الحوذي" " لمن أحكي كآبتي " ، حين لم يجد الرّجل من يستمع إليه فاكتفى بحكي معاناته و ألمه في فقد ابنه لفرسه ، فوائل حين وجد نفسه وحيدا ، لا أحد يشاركه همّه إلا لحاجة في نفسه ، توجّه إلى طفلته و القبّرة و إلى حصانه يحادثهم عن العزّ والنخوة أحيانا وعن غربته ثارة أخرى ، هذا التناصّ بين السّيناريو و قصة الأديب الروسي نفخ في المسلسل بصمة اليوم ، وجعله قريبا من معاناة الإنسان المعاصر" الحديث" ، يقال في بلادي عن شخص ضاع حماره ، أنه لا يستلذّ مجلسا إلا الذي يكون فيه الحديث عن حماره الضّائع ، كما ذاك الذي أتعبته درّاجته و استنزف إصلاحها المتكرر رصيده ، فكلّما ذكرت صعوبة الحياة أردف أن الحياة قاسيّة و لكن الدّراجة أقسى منها ، هذا الهوس الذي تعيشه الذات و إحساسها بالغبن وأيضا إحساسها بقلّة الحيلة ، و إحساسها بعدم رغبة الآخر في سماع شكواها و أيضا هذه الأنانية المفرطة التي لا ترى سلوة إلا في أشياء تخصّها لتعبير عن ضياع لحمة المجتمع و انتشار سلوكات بشعة تدلّ على فقدان التوازن بين الذّات و الآخر . السيناريو عرّج على عمل أدبي آخر للكاتب البرازيلي باولو كويلهو بعنوان الخميائي ، حين تحدث عن ذلك الطّنجي الذي يؤجل حلمه في زيارة البقاع المقدّسة مخافة أن يبقى بلا حلم في الحياة ، و أسقطه كاتب السيناريو على خادم كان يحلم بزيارة الهند فلمّا جاءته الفرصة رفضها متذرعا أنه إن فعل لم يعد في الحياة ما يصبو إليه ، كما أسقطها على الزير إن أوقف الحرب سيبقى بلا هدف في الحياة . حقيقة هذه الفكرة منتشرة بشكل أو بآخر في رصيدنا المعرفي أو الوجداني ، فنقول ما تتمناه أحسن ممّا أكلته ، أو المتعة في انتظار الشيء و ليس في الشيء ذاته ، وهي نظرة تنم عن مدى محاولة الهروب من الواقعية إلى شيء مثالي ، وربما عدم القدرة على الانخراط الفعال ، والتسويف المفضي إلى إبداع تبريرات واهية كلّها تصب في التنصّل من المسؤولية .
منذ مدّة ليست بقليلة و ربما في أواخر التسعينات و بداية الألفية ظهرت الصحف الحرّة في بلادي و بدأت تتوارى الصحف الحزبية و تنزوي إلى الهامش ، رغم أنّني كنت مأخوذا بها و رغم كونها في بداية عمرها ربمّا استقطبت أقلاما وازنة ، تستطيع التحليل ، و قد تحوّلت إلى مقاولات تبتغي الرّبح أكثر لذلك حرصت في بضاعتها الأولى على الجودة و الكلمة النابضة بالحياة ومتابعة الشأن المحلي بكثير من الدّقّة وبرصانة في الأسلوب ، ولكن ما أن اكتسحت السوق و فرخت العديد من شبيهاتها حتى تحوّلت إلى عبث عابث في موضوعاتها وفي معالجاتها ، فوظفت العنوان الكبير و المضمون الهزيل بل الفراغ ، بل الأكثر تفاهة . فبتنا نرى سجالات بين مديري هذه المقاولات و غمز و همز و لمز بأسلوب شعبوي غارق في السخرية ، هذه السخرية أصبحت ما نتقنه في مجامعنا و تجمعاتنا ، فكل يغمز بطريقة من الطّرق ، في ملاسنات لا ناقة و لا جمل للسامع " القارئ" فيها كما قال ابن عُباد عند إعلانه الحياد السّلبي في المسلسل ، ضمور الصّحف الحزبية أدّى إلى ضمور المشروع ، وانطلاق زمن العبثية ، الاحتكام إلى منطق السوق ، النّاس يستهلكون التفاهة ، فحاول أن تكون أكثر تفاهة من الآخر ، و في الأخير لن تجني إلا التّفاهة .
السخرية فن من فنون النقد الفعّال ، فمقدّمات الجدل عند سقراط هي التّهكم لكن ليس التهكم من أجل التهكم ، فتلك سفالة و سماجة ، لكن التهكم هو نوع من محاولة خلخلة بنية سابقة برفق لإعادة موضعة أجزائها في وضعية راقية تستجيب وتطلعات اليوم ، تجيب عن إكراهات جديدة لم تكن بالأمس قائمة ، وسائط التواصل الاجتماعي في تناولها للظواهر الإنسانية ساهمت في تسطيح التهكم بدرجة كبيرة ، فهوت بنيات قائمة على سلبياتها ، دون صياغة بنية جديدة ، هذا يحصل في الأدب والسياسة و الاقتصاد وغيرها ، رغم أن المجتمع الحديث لا يمكن الاشتغال إلا وفق آلياته ، فاستعمال وسائل الاتصال لا مهرب منه ، لكن توظيف هذه الوسائل بعقلية فوضوية و عقلية غير مسؤولة هو ما جنح بالأمور نحو السّراب . فإعادة انتاج التّخلف أمر حتميّ في غياب رؤية حقيقيّة في غياب الإنسان المسؤول عن تصرفاته ، في غياب روح الفعاليّة روح المبادرة الحسنة ، روح التّعقل ، روح الإبداع الخلّاق لفنون التواصل .
الإنسان بنّاء بطبعه هكذا أومن ، لكن أحيانا تتبعثر الأوراق فيصبح الإنسان ذئبا للإنسان كما قال هوبز ، حين يفقد الإنسان السّيطرة و يشتغل بعنف في وسطه ، عنف كان لفظيا أو جسديا أو حتّى شعوريا ، فيتنصل من آدميته و يقترب من ذئبية هوبز ، و من التّيار الذي يرى الإنسان مجرّد شرير . هكذا حاول المسلسل أن ينتقد هذه الذئبية و حاول في خاتمته أن ترجع الألفة إلى المجتمع وفق ضوابط جديدة ، مع الحفاظ على الأصول المعنوية .
إذا سلّمنا بعمل المخرج كقائد لفيلق هذا العمل الجبّار ، فالحقيقة تقتضي التعريج على كاتب السّيناريو ، هذا الكاتب الذي وجد بين يديه موروثا و حكاية و ربما أسطورة شبيهة بالعنترية و الأزلية كمادّة أوّلية منها استطاع تشكيل و رسم سيناريو بعيون اليوم دون إغفال الأمس ، هذا النظر بعيون اليوم للأمس هو ما أعطى للمتن الحكائي روحا جديدة ، فلو شئت ، قلت أن النّص يعالج قضايا اليوم في حكاية الأمس . هي النصوص هكذا في الغالب ، كل يوم تتخذ روحا جديدة لتتفاعل مع اللحظة ، و هكذا تبعث الحياة في النّصوص ، فإذا كان الإطار العام للنص يتحدث عن بطل " تاريخي " و ربما " أسطوري " فكاتب السّيناريو استطاع توظيف الحكاية لنسج حوارات تجيب أو بالأحرى تطرح تساؤلات الحاضر التي تؤرق الفاعل المجتمعي والسياسي .
إذا كانت الحالة العامّة التي ينقلها المسلسل تتحدث عن مشروع إقامة المجتمع البناء الذي تحول في لحظة إلى تناحر و تنابز و صراع يعتبر الفائز فيه مهزوما ، فنحن أمام واقع اليوم الذي غابت فيه الرؤية و حلت محلّها أجندات ضيّقة الأفق ، تتناحر من أجل الفتات . لنبتعد قليلا عن السياسة التي أتعبت عقولنا دون جدوى و نتوجه إلى الجماعت الصغرى أو إلى الذات في تفاعلها مع المحيط الصغير ، كان السيناريو قويّا من حيث توظيف أزمة اليوم على شخصيات الماضي ، فلنأخذ على سبال المثال تطعيمه بقصّة الأديب الروسي أنطون تشيكوف بعنوان "الحوذي" " لمن أحكي كآبتي " ، حين لم يجد الرّجل من يستمع إليه فاكتفى بحكي معاناته و ألمه في فقد ابنه لفرسه ، فوائل حين وجد نفسه وحيدا ، لا أحد يشاركه همّه إلا لحاجة في نفسه ، توجّه إلى طفلته و القبّرة و إلى حصانه يحادثهم عن العزّ والنخوة أحيانا وعن غربته ثارة أخرى ، هذا التناصّ بين السّيناريو و قصة الأديب الروسي نفخ في المسلسل بصمة اليوم ، وجعله قريبا من معاناة الإنسان المعاصر" الحديث" ، يقال في بلادي عن شخص ضاع حماره ، أنه لا يستلذّ مجلسا إلا الذي يكون فيه الحديث عن حماره الضّائع ، كما ذاك الذي أتعبته درّاجته و استنزف إصلاحها المتكرر رصيده ، فكلّما ذكرت صعوبة الحياة أردف أن الحياة قاسيّة و لكن الدّراجة أقسى منها ، هذا الهوس الذي تعيشه الذات و إحساسها بالغبن وأيضا إحساسها بقلّة الحيلة ، و إحساسها بعدم رغبة الآخر في سماع شكواها و أيضا هذه الأنانية المفرطة التي لا ترى سلوة إلا في أشياء تخصّها لتعبير عن ضياع لحمة المجتمع و انتشار سلوكات بشعة تدلّ على فقدان التوازن بين الذّات و الآخر . السيناريو عرّج على عمل أدبي آخر للكاتب البرازيلي باولو كويلهو بعنوان الخميائي ، حين تحدث عن ذلك الطّنجي الذي يؤجل حلمه في زيارة البقاع المقدّسة مخافة أن يبقى بلا حلم في الحياة ، و أسقطه كاتب السيناريو على خادم كان يحلم بزيارة الهند فلمّا جاءته الفرصة رفضها متذرعا أنه إن فعل لم يعد في الحياة ما يصبو إليه ، كما أسقطها على الزير إن أوقف الحرب سيبقى بلا هدف في الحياة . حقيقة هذه الفكرة منتشرة بشكل أو بآخر في رصيدنا المعرفي أو الوجداني ، فنقول ما تتمناه أحسن ممّا أكلته ، أو المتعة في انتظار الشيء و ليس في الشيء ذاته ، وهي نظرة تنم عن مدى محاولة الهروب من الواقعية إلى شيء مثالي ، وربما عدم القدرة على الانخراط الفعال ، والتسويف المفضي إلى إبداع تبريرات واهية كلّها تصب في التنصّل من المسؤولية .
منذ مدّة ليست بقليلة و ربما في أواخر التسعينات و بداية الألفية ظهرت الصحف الحرّة في بلادي و بدأت تتوارى الصحف الحزبية و تنزوي إلى الهامش ، رغم أنّني كنت مأخوذا بها و رغم كونها في بداية عمرها ربمّا استقطبت أقلاما وازنة ، تستطيع التحليل ، و قد تحوّلت إلى مقاولات تبتغي الرّبح أكثر لذلك حرصت في بضاعتها الأولى على الجودة و الكلمة النابضة بالحياة ومتابعة الشأن المحلي بكثير من الدّقّة وبرصانة في الأسلوب ، ولكن ما أن اكتسحت السوق و فرخت العديد من شبيهاتها حتى تحوّلت إلى عبث عابث في موضوعاتها وفي معالجاتها ، فوظفت العنوان الكبير و المضمون الهزيل بل الفراغ ، بل الأكثر تفاهة . فبتنا نرى سجالات بين مديري هذه المقاولات و غمز و همز و لمز بأسلوب شعبوي غارق في السخرية ، هذه السخرية أصبحت ما نتقنه في مجامعنا و تجمعاتنا ، فكل يغمز بطريقة من الطّرق ، في ملاسنات لا ناقة و لا جمل للسامع " القارئ" فيها كما قال ابن عُباد عند إعلانه الحياد السّلبي في المسلسل ، ضمور الصّحف الحزبية أدّى إلى ضمور المشروع ، وانطلاق زمن العبثية ، الاحتكام إلى منطق السوق ، النّاس يستهلكون التفاهة ، فحاول أن تكون أكثر تفاهة من الآخر ، و في الأخير لن تجني إلا التّفاهة .
السخرية فن من فنون النقد الفعّال ، فمقدّمات الجدل عند سقراط هي التّهكم لكن ليس التهكم من أجل التهكم ، فتلك سفالة و سماجة ، لكن التهكم هو نوع من محاولة خلخلة بنية سابقة برفق لإعادة موضعة أجزائها في وضعية راقية تستجيب وتطلعات اليوم ، تجيب عن إكراهات جديدة لم تكن بالأمس قائمة ، وسائط التواصل الاجتماعي في تناولها للظواهر الإنسانية ساهمت في تسطيح التهكم بدرجة كبيرة ، فهوت بنيات قائمة على سلبياتها ، دون صياغة بنية جديدة ، هذا يحصل في الأدب والسياسة و الاقتصاد وغيرها ، رغم أن المجتمع الحديث لا يمكن الاشتغال إلا وفق آلياته ، فاستعمال وسائل الاتصال لا مهرب منه ، لكن توظيف هذه الوسائل بعقلية فوضوية و عقلية غير مسؤولة هو ما جنح بالأمور نحو السّراب . فإعادة انتاج التّخلف أمر حتميّ في غياب رؤية حقيقيّة في غياب الإنسان المسؤول عن تصرفاته ، في غياب روح الفعاليّة روح المبادرة الحسنة ، روح التّعقل ، روح الإبداع الخلّاق لفنون التواصل .
الإنسان بنّاء بطبعه هكذا أومن ، لكن أحيانا تتبعثر الأوراق فيصبح الإنسان ذئبا للإنسان كما قال هوبز ، حين يفقد الإنسان السّيطرة و يشتغل بعنف في وسطه ، عنف كان لفظيا أو جسديا أو حتّى شعوريا ، فيتنصل من آدميته و يقترب من ذئبية هوبز ، و من التّيار الذي يرى الإنسان مجرّد شرير . هكذا حاول المسلسل أن ينتقد هذه الذئبية و حاول في خاتمته أن ترجع الألفة إلى المجتمع وفق ضوابط جديدة ، مع الحفاظ على الأصول المعنوية .
تعليق