حيلة أدبية
ثم أما بعد، اِنتسبتُ إلى هذا الصرح الأدبي العملاق في 06 ديسمبر 2008 وتعرفت فيه على أساتيذ كبار من الرجال والنساء لهم عليَّ أيادٍ كثيرة ومتنوعة لا أحصيها وإن حاولت إحصاءها، فقد تعلّمت منهم الكثير الطيب وأفادوني بلا حدٍّ ولا عَدٍّ ولا مَنٍّ ولا أذى وصححوا لي الكثير من أخطائي اللغوية والنحوية والإملائية إما مباشرة في نصوصي أو بالرسائل الخاصة "السرية"، فجزاهم الله عني خيرا في الدنيا والآخرة، اللهم آمين؛ كما تعرفت على أشخاص آخرين هم إلى الجنون والخبل أقرب منهم إلى الرشد والعقل تعلمت منهم هم كذلك الكثير؛ كما ربطتني بكثير من الأعضاء صداقات جميلة لم أكن أتصور يوما أنها تكون لي، وشدتني أيضا ببعضهم، على قلتهم، عداوات مؤقتة في حينها أو مستمرة إلى الآن وقد كمنت، أو خمدت، بعضها لعدم توفر أسباب اضطرامها وقد تستعر إن توفرت دواعيها، وأعوذ بالله منها كامنة خامدة ومضطرمة مستعرة، اللهم آمين.
وقد حاولت فهم أسباب العداوات المعلنة الساخنة منها و المخفية الباردة، ولا أحاول فهم أسباب الصداقات لأنها منحة يزداد بها المرء ثقة وثباتا وطمأنينة، لكن الأخرى، العداواتِ، إنما هي محنة على المرء أن يبذل جهده في فهمها لتجنبها أو للتقليل من آثارها على الأقل، وقد أرجعتُ تلك الأسباب إلى أنني وفي كثير من الأحيان بل كلها أكون صريحا إلى درجة الإزعاج ظانًّا أن الذي أكلِّمه، أو أكتب إليه، يفهم ما أحدثه به أو قد يجد لي مبررا في صراحتي وحديثي المباشر لكن خاب ظني في كثير من الناس فراحوا يسيئون الظن في العبد الضعيف ولم يتوان بعضهم في شتمه وتعييره بما ليس فيه والاستهزاء به لا لشيء إلا لأنه لم يكن مداريا ولا مواربا ولا منافقا في كلامه معهم أو مع غيرهم، وقد اعتمد خمس، بل أكثر، صادات في النقد وفي الحديث وهي: صاد الصدق، وصاد الصراحة، وصاد الصرامة، وصاد الصبر وغيرهن من الصادات ... الصادمات للنفوس الرقيقة الحساسة (تنظر مقالتي: في النقد الأدبي: صادات النقد الخمس).
ومن أساب الاختلاف، بل الخلاف، والخصومة بيني وبين "خصومي" هنا اختلافُ الثقافة واختلاف الدين أو التدين وتباين مصادر التلقي واختلاف التربية واختلاف المقاصد بالكتابة، فأنا أعتقد عقيدة جازمة أن الكتابة رسالة تُبلَّغ إلى المتلقين وأمانة تُؤدى إلى القارئين وليست عبثا لتمضية الوقت في التباهي والرياء والسعي وراء اعتراف الناس بالمكانة أو الجري وراء الأوسمة والجوائز واللهث خلف ثناء القراء واستثارة إعجابهم، كلا ! الكتابة تعبير عن أفكار والأفكار جزء من عقل الكاتب فإن كانت صحيحة كان عقله صحيحا وإن كانت سقيمة فهي من سقم عقل كاتبها حتى وإن ظن نفسه أعقل العقلاء وأفهم الفُهماء وأكتب الأدباء وأشعر الشعراء وقد يكون أغبى الأغبياء و أبلد البُلداء وأسوء الأدباء وأحمق الشعراء، وقديما قيل:"اختيار المرء جزء من عقله" ولذا وجب على من يرى الخطأ أن يصححه وأن يبدي حكمه حتى وإن غضب المتلقي وثار.
ومرّ بذهني سبب غريب نوعا ما وهو ما أصدم به كثيرا من "الكُتَّاب" بما أصحح لهم من أخطاء متنوعة: لغوية ونحوية وإملائية وقد دأبت حتى الآن على تحمير الأخطاء (تلوينها بالأحمر) وتبيين الصواب حسب ظني طبعا وهذا ما يُغضب المُصَّحَح لهم فيثورون على المُصحِّح ويجعلهم ينقمون عليه ويضمرون له السوء وقد حصل هذا كله بل أكثر منه لأنهم يظنون أن في تحمير أخطائهم تحميرا [استحمارا] لهم وهذا غير صحيح ألبتّة.
يطالب بعض الكُتّاب لو أن التصحيح كان بالرسائل الخاصة وفي السر، وقد فعلت هذا مرارا ولا منَّ ولاسيما عندما يكون الكاتب ذا شأن في الملتقى وقد جاء في الخبر "أقيلوا عثرات ذوي الهيئات منكم إلا الحدود"، لكن هؤلاء الناقمين ينسون أن الخطأ إذا نشر في الملإ يجب تصحيح في الملإ كذلك ليتجنبه القراء وليس القصد من التصحيح التقليل من الكاتب المخطئ بقدر ما هو الرغبة في تجنيب القراء التأثر بالخطأِ وتنبيه الكاتب نفسه إلى خطئه ليتجنبه في المستقبل، غير أن هذه النية النبيلة لا تصل عادة إلى الكُتّاب المخطئين فيسيئون الظن بالمصحح ويروحون يكيلون له النقد السيء حتى وإن أبدوا أحيانا شكرهم له وتقديرهم إلا أن هذا الشكر أو التقدير ما يلبث حتى يظهر زيفه وأنه كان للمجاملة فقط وليس فرحا بالتصحيح وينسون قول القائل:"رحم الله امرأ أهدى إليَّ عيوبي" (ينسب هذا القول إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب الفاروق رضي الله تعالى عنه)، وينسون القول الآخر:"من علمني حرفا صرت له عبدا" (لا أعرف قائله) أو هم يذكرونه في المجاملات لكنهم ينسونه عند الامتحان بالتصحيح؛ وقد يثور كثير من الكُتَّاب على المصحح لأنه تجرأ وصحح لهم وهو نفسه يرتكب أشنع الأخطاء وأفظعها، فيكف يرى القذة في عيون الناس ولا يرى الخشبة في عينه هو؟ ويروحون يرجمونه ببيت أبي الأسود الدؤلي رحمه الله تعالى:"يا أيها الرجل المعلم غيره = هلا لنفسك كان ذا التعليم" وغيره من الأبيات الواردة في القصيدة الشهيرة، وينسون أن لا أحد يسلم من الخطأ حتى وإن كان أعلم الناس فكيف بمن هو طويلب علم ضئيل مثلي؟ وكان عليهم تبيين أخطاء المصحح في أماكنها بدلا من السكوت عليها ثم استخدامها سلاحا ضده، فما هكذا يكون الإنصاف أبدا إذ لسنا في حلبة صراع ولا في ميدان تناطح لكننا في مجال التناصح وديننا دين التناصح وليس دين التناطح والتفاضح.
وبناءً عليه وبعد هذه الحيثيات كما يقول رجال القانون في أحكامهم وقراراتهم قررت أنه ابتداء من هذه المقالة، وإن كنت قد بدأت فعلا في العمل بما قررته فيها قبل كتابتها، أنني، إن شاء الله تعالى، لن أحمر خطأ أبدا وسأكتفي عند نقل كلام الناس في الاقتباس بتصحيح ما يرد فيه من أخطاء بلونه وعلى من أقتبس كلامه أن يقارن ما أنشره منه مع ما كتبه هو، فإن كان نبيها تنبه إلى التصحيح وإن كان غير نبيه فقد أضر نفسه ولم يضرني ألبتة إذ لماذا أضر نفسي بعداوات وخصومات أنا في غنى تام عنها وهذا حتى لا أنشر في متصفحاتي شيئا يشين العربية ويسيء إلى الملتقى وحتى لا يقع السوء والشين إلا على صاحبه وحده فقط.
لقد وردت على بالي هذه الحيلة الأدبية مؤخرا وتعجبت من نفسي كيف أنها لم تخطر لي حتى الآن وقد ساءت علاقاتي ببعض الزملاء وكان من الممكن جدا ألا تسوء لو أنني تفطنت لها قبل اليوم، لكن وكما يقال في الأمثال الفرنسية "من الأحسن أن تفعل [الخير] متأخرا على ألا تفعل أبدا" (Il vaut mieux [faire le bien] tard que jamais)، وقد رأيت أنه من الخير لي أن أغير من سياستي مع النفس ومع الناس، وللحديث بقية إن شاء الله تعالى.
البُليْدة، عشية يوم الأحد 18 شعبان 1438، الموافق 14 مايو/أيار 2017.
تعليق