"بائعة الزهر"
========
من سنوات قليلة كنت أقوم بعمل تطوّعي نصطحب فيه جمعا كبيرا من النساء المسنّات إلى النزهة والحفلات،، وصادف أن ذهبنا إلى مكان خاص للاحتفال بعيد "الجدّات"
نعم في تونس نحتفي أيضا بالجدّات............
وكان المفروض المشاركة في هذا الحفل بالطريقة التي تريد أن تعبّر بها عن مشاعرك نحو جدّتك.
اخترت أن اقرأ قصيدة عن الجدّة.....كتبتها بعناية فائقة وبحس الفتاة المحرومة من جدّتيها ..
الأولى ماتت قبل أن أولد، والثانية لمحتها من بعيد على فراش المرض....
لكن في خضّم الزحمة بين النساء والأطفال والشيوخ والمسؤولين، وشوقي لجدّتي التي لا أعرفها،، لمحتها ،.......
سيدة في مقتبل العمر يظهر على هيئتها أنها غير متحضّرة ولا متعلّمة، وكنت أيضا أشعر حينها أنها مداهنة ومتسلّقة.....
لا أعرف لماذا؟؟ لم أنجذب إلى حديثها وثرثرتها بكلّ بساطة واقتناع.....
فجأة رأيتها تتخاصم مع المسؤول وتقول لديها قصيدة هديّة لرئيس الدولة..
والحق يُقال أن المسؤول عن الحفل لم يقبل بطلبها واصرارها.... لكنها بطرق ملتوية وصلت إلى المنصة وألقت بقصيدتها التي كانت مجرد ترصيف كلمات ضعيفة البنية والصورة ولا تخضع للوزن لأن القصيدة المحكيّة لها شروطها وأوزانها أيضا.....
عادت إلى مكانها مهلّلة يرتعش كلّ ما فيها فرحا غريبا.....
وفي لحظة رأيتهم يرسلون لها ورقة لتكتب اسمها بالكامل وعنوانها....
أذكر جيّدا كيف التفتت ضاحكة وقالت لي :
~~ وينك toi ~~
أين أنت؟؟؟؟
استحسن الحضور والمسؤولون مشاركتي بتلك القصيدة عن جدّتي التي لم ألتقها.......
ثم بعد وقت طويل، بدأت مرحلة الخروج من الصالة الكبيرة....
رأيتها تهرول في الزحام خلف الشخصيات النسائية السياسية بينما خرجتُ بهدوء إلى الحديقة ، طلبت قهوة وبقيت هناك أتامّل الأشجار والأطفال والجدّات الطيّبات، وأنا في غاية الرضاء عن قصيدتي "الكنز" الذي ضممته في الورقة إلى صدري.....
.....
مرّت السنوات بسرعة وقامت الثورة التونسيّة وكم اختنقت بالغاز المسموم وتعرضت عديد المرات لاغتيال من الشرفة التي تطلّ على الشارع الكبير : شارع الحبيب بورقيبة الخط الأحمر كما يقولون.... لانّني مغرمة بالتصوير الفتوغرافي متجاهلة احتراق عيني والتنبيه من الذين صوّبوا نحوي سلاحهم ظنا مني أني "قناص" يرتدي الأسود يطلّ من شرفة عالية........
المهم.... في هذا الشهر كانت لي دعوة لحضور حفل مجموعة موسيقية لأصدقاء..
لبّيت الدعوة كما ألبّي دعوات كثيرة رغم أن القلب "حزين" عن وطن يحاول أن يستعيد عنفوانه....
مرّة أخرى تشاء الصدفة أن ألتقيها....تلك الشاعرة المتسلقة تلك التي مازالت تحتفظ بنفس الضحكة....
تبيع ماء الزهر ...والزهر باللهجة التونسية يعني "الحظ"
تحدثنا عن تلك الأمسية – تذكرتها بسرعة غريبة لكن غاب عنها وجهي الذي أصبح أكثر جمالا (هاهاهاها)...
تحدّثنا طويلا وانزلق منها الكلام لأعلم أنها تحصّلت على مفتاحين لبيتين
قالت لي متباهية انّ الرئيس سأل عنها ودعاها إلى القصر فأهداها البيت الأوّل ثم الثاني
لقصائد غير موزونة ولا تحمل صورة الابداع.....
ونفس الجملة : "وينك toi " ؟؟…
أنا اليوم أستعد لاحتضان ديواني الثاني لا يحتوي عن قصيدة للرئيس....
اليوم مازلتُ هناك في الشارع الطويل أصعد أربعة طوابق لبيت "كراء"
لم أملك بيتا ولا زيارة إلى القصر رغم أنّي أعشق القصور والأمراء والزمن الجميل......"والأميرة النائمة".....
والسيدة "بائعة الزهر" لها بيتان وتحمل نفس الضحكة ....ومازال كلّ شيء يرتعش في جسمها الممتلئ.
/
/
سليمى السرايري

========
من سنوات قليلة كنت أقوم بعمل تطوّعي نصطحب فيه جمعا كبيرا من النساء المسنّات إلى النزهة والحفلات،، وصادف أن ذهبنا إلى مكان خاص للاحتفال بعيد "الجدّات"
نعم في تونس نحتفي أيضا بالجدّات............
وكان المفروض المشاركة في هذا الحفل بالطريقة التي تريد أن تعبّر بها عن مشاعرك نحو جدّتك.
اخترت أن اقرأ قصيدة عن الجدّة.....كتبتها بعناية فائقة وبحس الفتاة المحرومة من جدّتيها ..
الأولى ماتت قبل أن أولد، والثانية لمحتها من بعيد على فراش المرض....
لكن في خضّم الزحمة بين النساء والأطفال والشيوخ والمسؤولين، وشوقي لجدّتي التي لا أعرفها،، لمحتها ،.......
سيدة في مقتبل العمر يظهر على هيئتها أنها غير متحضّرة ولا متعلّمة، وكنت أيضا أشعر حينها أنها مداهنة ومتسلّقة.....
لا أعرف لماذا؟؟ لم أنجذب إلى حديثها وثرثرتها بكلّ بساطة واقتناع.....
فجأة رأيتها تتخاصم مع المسؤول وتقول لديها قصيدة هديّة لرئيس الدولة..
والحق يُقال أن المسؤول عن الحفل لم يقبل بطلبها واصرارها.... لكنها بطرق ملتوية وصلت إلى المنصة وألقت بقصيدتها التي كانت مجرد ترصيف كلمات ضعيفة البنية والصورة ولا تخضع للوزن لأن القصيدة المحكيّة لها شروطها وأوزانها أيضا.....
عادت إلى مكانها مهلّلة يرتعش كلّ ما فيها فرحا غريبا.....
وفي لحظة رأيتهم يرسلون لها ورقة لتكتب اسمها بالكامل وعنوانها....
أذكر جيّدا كيف التفتت ضاحكة وقالت لي :
~~ وينك toi ~~
أين أنت؟؟؟؟
استحسن الحضور والمسؤولون مشاركتي بتلك القصيدة عن جدّتي التي لم ألتقها.......
ثم بعد وقت طويل، بدأت مرحلة الخروج من الصالة الكبيرة....
رأيتها تهرول في الزحام خلف الشخصيات النسائية السياسية بينما خرجتُ بهدوء إلى الحديقة ، طلبت قهوة وبقيت هناك أتامّل الأشجار والأطفال والجدّات الطيّبات، وأنا في غاية الرضاء عن قصيدتي "الكنز" الذي ضممته في الورقة إلى صدري.....
.....
مرّت السنوات بسرعة وقامت الثورة التونسيّة وكم اختنقت بالغاز المسموم وتعرضت عديد المرات لاغتيال من الشرفة التي تطلّ على الشارع الكبير : شارع الحبيب بورقيبة الخط الأحمر كما يقولون.... لانّني مغرمة بالتصوير الفتوغرافي متجاهلة احتراق عيني والتنبيه من الذين صوّبوا نحوي سلاحهم ظنا مني أني "قناص" يرتدي الأسود يطلّ من شرفة عالية........
المهم.... في هذا الشهر كانت لي دعوة لحضور حفل مجموعة موسيقية لأصدقاء..
لبّيت الدعوة كما ألبّي دعوات كثيرة رغم أن القلب "حزين" عن وطن يحاول أن يستعيد عنفوانه....
مرّة أخرى تشاء الصدفة أن ألتقيها....تلك الشاعرة المتسلقة تلك التي مازالت تحتفظ بنفس الضحكة....
تبيع ماء الزهر ...والزهر باللهجة التونسية يعني "الحظ"
تحدثنا عن تلك الأمسية – تذكرتها بسرعة غريبة لكن غاب عنها وجهي الذي أصبح أكثر جمالا (هاهاهاها)...
تحدّثنا طويلا وانزلق منها الكلام لأعلم أنها تحصّلت على مفتاحين لبيتين
قالت لي متباهية انّ الرئيس سأل عنها ودعاها إلى القصر فأهداها البيت الأوّل ثم الثاني
لقصائد غير موزونة ولا تحمل صورة الابداع.....
ونفس الجملة : "وينك toi " ؟؟…
أنا اليوم أستعد لاحتضان ديواني الثاني لا يحتوي عن قصيدة للرئيس....
اليوم مازلتُ هناك في الشارع الطويل أصعد أربعة طوابق لبيت "كراء"
لم أملك بيتا ولا زيارة إلى القصر رغم أنّي أعشق القصور والأمراء والزمن الجميل......"والأميرة النائمة".....
والسيدة "بائعة الزهر" لها بيتان وتحمل نفس الضحكة ....ومازال كلّ شيء يرتعش في جسمها الممتلئ.
/
/
سليمى السرايري

تعليق