معبد الزّهور
شجيراتي الحبيبة ،الثّائرة،الودودة،التّافهة!..ماذا تنتظرين كي تموتي؟و لمن عساك تمدّين أعناقك الخجولة؟لم لا تذبلين؟ألم تدركي بعد أنّ النّاس هنا لا يأسفون على شجرة ياسمين لم تعانق أسوار بيوتهم بعد ،أو قاردينيا لم تزدن بها قاعات جلوسهم الفارهة،أو نافورة خضراء تتجدّد كلّ يوم كصيحة جماعيّة لعشرات الكمانات؟.هم يأسفون فقط على جبن فرنسيّ لم يتذوّقوه بعد أو على ستائر تركيّة زالت من الأسواق بسرعة..و النّاس هنا شرفاتهم شُيّدت خصّيصا لتكون أبراج مراقبة ممنوعة من البنفسج.و كلّ الحواسّ معدومة هنا باردة كالمرمر،و وحدها الألسن تقوم بدورها على أتمّ وجه في بلدتي الوقورة.
فهنيئا لك أيّتها الزّهور البريئة من كائنات تُسمِع و لا تََسمَع ،تموت قبل أن تيأس.
من ناحيتي و نزولا عند رغبة الحسن لا غير ،سأتيح لك و لنفسي فرصة أخيرة.سأصبر بالرّغم من كلّ شيء،سأصبر لأنّك نفيسة و تستحقّين.و لكن هذا لا يعني أنّ إصرارك لا يربكني أو يزيد في قلقي و يضعني وجها لوجه أمام قوم ضيّعوني و أزاحوك من ذاكرتهم تماما.
موتي الآن !
موتي أرجوك كي أُشفى فربّما طال بنا الحلم.و ساعتها ستكون العودة من الجنون عسيرة جدّا،هذا على فرض أنّ هناك من عاد فعلا من الجنون.
ها أنا أجلس وسط شجيراتي الأنيقة الجميلة أترقّب من يشتريها،من يفهمها،من يدلّلها مثلي ،جالس كراهب في ديره ينتظر حزينا وفد المريدين ليتخمّر و يمّحي قداسة و ألفة.
أفتح المحلّ طوال النّهار،و أعيد ذات الطّقوس .تستيقظ شجيراتي الكسولة حين يلامسها النّور،إنّي أكاد أسمعها تتثاءب بصوت واحد.أُخرجها لتستحمّ في هواء الصّباح النّديّ ،أرشّ الأرضيّة أمام المحلّ ،ثمّ أتجوّل بينها أسقيها واحدة واحدة،تتمطّى أذرعها و تطرب أوراقها،فتمدّ يدها للمارّين مرحّبة مشرقة كعادتها، و كعادتهم لا يصافحونها.أمّا نظراتهم لي فكانت تقطر خيبة و شفقة و سخرية خرساء .يرمقونني بها و يمرّون دون أن يكلّف أحدهم نفسه عناء الاقتراب أو الوقوف أمامها،كأنّهم يخشون أن تصيبهم عدوى الجمال أو كأنّي أعرضها على مرضى أو مساجين أو حشد من الجياع.في هذه الحالة سيكون الأمر مضحكا بالطّبع،لكن هذا ليس حالنا،فأنا أعرف كلّ الأرقام و على علم بالملايين التي ينفقونها في العلب اللّيليّة تودّدا للرّاقصات،و أعرف كرمهم حين يتعلّق الأمر بالطّوب و الخرسانة و الأعمدة الرّومانيّة المزخرفة و الرّخام و لحم النّعام.
مضت ثلاثة أشهر و أنا أرتكب الأمل في أن تُباع زهوري.لا أحد طرق بابي باستثناء عجوز ظنّت أنّي أبيع الأعشاب الطبّيّة ،نفيت أن يكون لديّ طلبها فتعجّبت:إذن ماذا تبيع؟
و آخر طلب منّي – إن كان لا يزعجني طبعا - ثلاث وريقات قرنفل أمره بها أحد الدجّالين لجلب كنز مطمور؛ يقول أنّه باسمه،فأعطيته.
و أحد الأثرياء كاد يدفع لي ثمن شجرة أكارينيا لولا أن اكتشف أنّها ليست نخلة فأعادها إلى مكانها و انصرف نادما كأنّه اقترف ذنبا أو خطيئة.
أليست أصصي فاتنة كفاية كي تباع؟ بلى هي كذلك ،أحرق يدي إلى المرفق إن لم تكن كذلك .إذن فيم النّضال ؟هل استقال الجوري عن بهائه القديم و ضاع سحره فجأة و أنا آخر من يعلم؟أليست تخاطب الفطرة؟ألهذا الحد تلاشت لغتها و صارت بحاجة إلى شرح و دعاية؟
يبدو أنّي بالغت قليلا في العناد،فلو أنّي ساندتها بحفّاظات للأطفال و بطاقات شحن و سجائر مهرّبة لكانوا ربّما انتبهوا إليها.
ظننت بادىء الأمر أنّي سأبهر الجميع بما جمعت،آمنت بحظوظها بين آلاف السّلع المعروضة،و بأنّها لا ريب ستغزو القلوب،لم تترك لي ألوانها و رونقها غير الإقدام على الرّهان.حرصت على أن تكون متنوّعة و منسّقة بشكل لا يقاوم،تعبت كثيرا في جلبها،عانيت في تزويقها ،لكنّي صُدمت بأنّ أحدا لا يلتفت إليها بنصف عين.
ما أصعب أن يصاب أحدنا في رهان لاح له أكثر وضوحا من النّور.
و مع مرور الوقت أصبحت أشكّ بأنّهم اتّفقوا جميعا على إلغائي. إنّي أعلنها جهارا دون تهذيب:إنّهم يتآمرون ضدّ الأقحوان،و يكيدون للزّنبق،تماما كما يفعل الأعداء.
الشكّ هو الأمر الوحيد الذي يجب أن يُعلن بنبرة يقين:إنّ لهم في استبقاء القحط مآرب ضخمة..لست أدركها و هذا ما يفتك بي و يحيّرني .و حتّى متى سأضلّ صامتا أراقب نفورهم من ربيعي و أتطلّع إلى عيونهم الرّمداء البخيلة المستعجلة و هي تقلّب المعاطف و الفساتين المعلّقة من حولي بنهم و إعجاب؟.أما علموا أنّ قميصا آخر في دولاب الملابس لن يزيد في عمر السّتر يوما واحدا.و بأنّه سيزاحم في أحسن الأحوال بقيّة القمصان!؟
أكاد أُجنّ.
تاجر الّليمون الإسفنجيّ المحنّط يجلس بعيدا عن عصيّه السّخيفة المخيفة،يدخّن النّرجيلة في هدوء و بطء و قسمات وجهه متحفّزة للعراك ،و الزّبائن يتهافتون على تحفه الغبراء من حوله مذعنين لأوامره و نواهيه،كأنّه وليّ نعمتهم أو كأنّ في الأمر منّة.
و أنا في الجهة الأخرى من المدينة أتحرّق شوقا لأقدام تطأ المحلّ،و لا أجد حيلة تجعل النّاس يرون شجيراتي كما أراها،أُشبه إلى حدّ بعيد ذاك الزّوج المثقّف الذي يودّ أن يُقنع زوجة تهوى المطبخ و حصص الطّبخ بسماع مقطوعة لباخ .المسكين تراه يكاد يوثقها بحبل على المقعد و هو يدندن مع الموسيقى و يطرّز النوتات بيديه في الهواء و هي شاخصة لا تلوي على شيء.
حادثة تلو أخرى و أنا أسجّل نكران النّاس و هجرانهم معبد الزّهور.
قبل أسبوع حلّ بيننا أحد المطربين المشاهير؛المناسبة مهرجان يُقام سنويّا في المدينة،اسمه الفردوس،و لكنّك لست تشاهد فيه من الفردوس ذرّة واحدة أو حتّى ما يذكّر به.سيّارات لا حصر لعددها،و جمهور أصفر جالس على حجارة صفراء مقامة وسط مرج بور أصفر.لو كان الأمر بيدي لأطلقت عليه مهرجان الرّبو.
أنا في قمّة السّخط و لا أحد يحقّ له أن يناقش غضبي لأن لا أحد تلقّى الإهانة مثلي..
رتّبت للضّيف باقة كبيرة تليق بمسيرته الفنّيّة العظيمة،أمضيت أكثر اللّيل أشتغل على تنسيقها .قطفت من كلّ أصيص عروسه،و من كلّ مشهد للقطيعة عذرا لهم.راهنت قطعا على أنّهم سيستقبلونه بالزّهور،ساعتها لا مفرّ لهم من زيارتي،سيتودّدون لي في طلبها،سوف لن أطيل العتاب،أعرف أن لا وقت لديهم للحديث.هم أصلا لا يردّون تحيّة ليست بعدها صفقة ،فما بالك بحديث عقيم.أرتاب في كلّ شيء و لا أشكّ لحظة في مدى فهمهم للأصول و ما ينبغي لها.بل أحيانا تذهلني خصلة التّمييز لديهم،حتّى أنّ ثمّة منهم دائما من تجد بحوزته مطّاريّة لو أنّ الأمطار باغتتهم خارج بيوتهم ظهيرة يوم شديد القيظ بعد سنين من الجفاف!.
مرّت الأيّام والدّنيا على حالها لا شيء تغيّر كما خمّنت.و ذبلت الباقة،و لم يتقدّم من السّادة أحد لخطبتها.
العنوسة طالت القرنفل أيضا،فماذا بعد؟
بعد أن أضحى الخبر قديما فهمت أنّهم يومها أهدوه باقة مؤلّفة من أربعة صبايا في عمر الزّهور..
أترين يا سوسنتي الحبيبة البائسة،كيف أنّهم يكرهونك و يتمنّون لجواريهم عمرك القصير!.
سنة بأكملها و أنا أطعمك و أسقيك و التّاس من حولنا يواصلون رجمنا بلا هوادة.حتّى متى ترانا سنضلّ نستعطفهم كالذي ينقر فوق واقعه المرير نقرا كي يترك لنفسه فرصة لتكذيبه؟
زهوري حمقاء جدّا و إلاّ لأدركت بأنّ للشّذى أيضا خطوط حمراء يحجّر عليه تجاوزها،و بأنّ هذه الأرض ليست أرضها.
هناك في مكان ما من الأرض عاشقان يبحثان عن محلّ للزّهور فلا يجدانه،و هنا أناس تتهادى الرّوايات التي يتهادى فيها أبطالها الورود،فما أبعد هناك و ما أوحش هنا و ما أحلى أن تزول مسافة الذّوق بين الـ"هنا "و الـ"هناك".
سرّني في مناسبة أخرى أنّهم يجهّزون حفرا لغراسة أشجار للزّينة على طول مدخل المدينة،تحسّبا لقدوم أحد المسؤولين.و لم أكن لأعجز عن توفير طلبهم.و لكنّهم آثروا عوض اللّجوء إلى خدماتي أن يرشقوا فروع صنوبر كانوا احتطبوها من غابة مجاورة.المضحك هو أنّهم صدّقوا كذبتهم و ظلّوا يسقونها بعد رحيل المسؤول أسبوعين أو أكثر.
خضّتني الظّاهرة و استولى عليّ الإحباط بالكامل و وجدتني أحمّل النّرجس و الآس كلّ معاناتي ،و هذا خطير،فزرت أخصّائيّا في علم النّفس..كنت وقتها على وشك الانهيار،و لا أدري كم انتظرت في قاعة الاستقبال،فقد طافت بي الخواطر من كلّ جانب.كان رفقائي في غاية الأدب و الحياء،و فكّرت أنّهم هنا لمجرّد أنّهم يلحدون بالزّهور،و بأنّي هنا لأنّي آمنت بها،و بأنّنا هنا لنتحاكم أمام الطّبيب ..معادلة غريبة شرد لها ذهني فتآكلت الدّقائق و لم أشعر إلاّ و المساعد يناديني:- سيّد حيدر ابراهيم،تفضّل..دورك.
مكتب الطّبيب كان واسعا و غير معقّد و كانت هناك في كلّ زاوية شجرة بلاستيك كبيرة،تركت في المحلّ شقيقاتها و لكن من لحم و دم،لو دقّقت النّظر إليها لانتبهت إلى كتل الخفّاف التي من المفترض أن تلعب دور التّراب و إلى بعض الأسلاك الصّدئة العارية التي زال كساؤها و التي من المفترض أيضا أن تلعب دور الأغصان.لم يكن على الجدران لوحات ماعدا بعض المقاطع الطبّيّة للدماغ و أخرى للجهاز العصبيّ.
المعاناة واحدة ،إذ لا أحد يشتري الهذيان الزيتيّ للرسّامين.أتحدّاك إن أنت عثرت في مصنع للحليب عن لوحة فنّيّة عدا صور لأبقار مبتسمة،و في مخابر التّجميل أكثر من صور عملاقة لشفاه حمراء و عيون خضراء دون ملامح ،و في مكتب مدير مصنع البسكويت أكثر من صور لسنابل القمح..هكذا جرت العادة ..
تركت الطّبيب يقود الحوار كما اتّفق فمرضي ليس له اسم علميّ،و لا أظنّ أنّه قد تعرّض لمثله من قبل،و جعلته يفهم بأنّي أعاني إرهاقا جرّاء عملي.
طبعا لم أفصح له عن مهنتي كبائع أبله لزهور حيّة،يجري النّسغ في عروقها،و لم أقل له بأنّي ماثل بين يديه لأنّي شقيّ بعشقها،و بأنّي ألتمس أقراصا تجعلها قبيحة في عيني كما هو شأنها في عيون النّاس دون أن أستثني عينيه.في الحقيقة خشيت أن يصاب بالخجل أو بنوع من تأنيب الضّمير،فالمطلوب منّا كمرضى مهذّبين هو أن نجعل الحكيم يفهم كلّ شيء دون أن يشعر بشيء.
هناك سبب آخر منعني من قول الحقيقة،و هو أنّ مرضي من ذاك النّوع الذي إذا أصبت به أنت يجب أن يتناول حبّات الدّواء من تسبّب لك فيه.
لا أنظّر و لكن من يدري ربّما أصبح هرائي حقيقة يوما ما..
الخلاصة أنّ عيوني بدأت تُفتح شيئا فشيئا و عاد لي تدريجيّا إدراكي للمسائل و صرت أعي ماذا عليّ أن أفعل،أو بالأحرى ما الذي لا يجب عليّ فعله،ثمّ فجأة فتحتها بالكامل..
- حمدا لله أنّك استيقظت من تلقاء نفسك،و إلاّ لكنت أطبقتَ السّقف على رأسي..(قالت زوجتي ذلك رغم أنّي على النّقيض تماما).
.. ذاهبة إلى صديقتي وداد..هل تريد شيئا قبل أن أخرج؟
- ..المحلّ الذي اكتريته هذا الصّباح..
- ما به؟هل قرّرت حقّا أن...
- لا..غيّرت رأيي ،إنّني أنوي فتح طاحونة لرحي الحبوب و التّوابل..إنّه قراري الأخير..
أصلا ليس أمامي خيار آخر ..فمدينتنا ،يا عزيزتي ،لا تزال تتعثّر في الرّغيف و حساء الشّعير و خلطات تسمين العرائس..و غلطة فادحة أن نبيع ما نحبّ..
لم أكد أتمّ كلامي،حتّى سمعت الباب السّفلي يُطبق.
خرجت زوجتي و لم تسمع الجواب..
لا يهمّ ..يكفي أنّي كنت بالاستماع..
فهنيئا لك أيّتها الزّهور البريئة من كائنات تُسمِع و لا تََسمَع ،تموت قبل أن تيأس.
من ناحيتي و نزولا عند رغبة الحسن لا غير ،سأتيح لك و لنفسي فرصة أخيرة.سأصبر بالرّغم من كلّ شيء،سأصبر لأنّك نفيسة و تستحقّين.و لكن هذا لا يعني أنّ إصرارك لا يربكني أو يزيد في قلقي و يضعني وجها لوجه أمام قوم ضيّعوني و أزاحوك من ذاكرتهم تماما.
موتي الآن !
موتي أرجوك كي أُشفى فربّما طال بنا الحلم.و ساعتها ستكون العودة من الجنون عسيرة جدّا،هذا على فرض أنّ هناك من عاد فعلا من الجنون.
ها أنا أجلس وسط شجيراتي الأنيقة الجميلة أترقّب من يشتريها،من يفهمها،من يدلّلها مثلي ،جالس كراهب في ديره ينتظر حزينا وفد المريدين ليتخمّر و يمّحي قداسة و ألفة.
أفتح المحلّ طوال النّهار،و أعيد ذات الطّقوس .تستيقظ شجيراتي الكسولة حين يلامسها النّور،إنّي أكاد أسمعها تتثاءب بصوت واحد.أُخرجها لتستحمّ في هواء الصّباح النّديّ ،أرشّ الأرضيّة أمام المحلّ ،ثمّ أتجوّل بينها أسقيها واحدة واحدة،تتمطّى أذرعها و تطرب أوراقها،فتمدّ يدها للمارّين مرحّبة مشرقة كعادتها، و كعادتهم لا يصافحونها.أمّا نظراتهم لي فكانت تقطر خيبة و شفقة و سخرية خرساء .يرمقونني بها و يمرّون دون أن يكلّف أحدهم نفسه عناء الاقتراب أو الوقوف أمامها،كأنّهم يخشون أن تصيبهم عدوى الجمال أو كأنّي أعرضها على مرضى أو مساجين أو حشد من الجياع.في هذه الحالة سيكون الأمر مضحكا بالطّبع،لكن هذا ليس حالنا،فأنا أعرف كلّ الأرقام و على علم بالملايين التي ينفقونها في العلب اللّيليّة تودّدا للرّاقصات،و أعرف كرمهم حين يتعلّق الأمر بالطّوب و الخرسانة و الأعمدة الرّومانيّة المزخرفة و الرّخام و لحم النّعام.
مضت ثلاثة أشهر و أنا أرتكب الأمل في أن تُباع زهوري.لا أحد طرق بابي باستثناء عجوز ظنّت أنّي أبيع الأعشاب الطبّيّة ،نفيت أن يكون لديّ طلبها فتعجّبت:إذن ماذا تبيع؟
و آخر طلب منّي – إن كان لا يزعجني طبعا - ثلاث وريقات قرنفل أمره بها أحد الدجّالين لجلب كنز مطمور؛ يقول أنّه باسمه،فأعطيته.
و أحد الأثرياء كاد يدفع لي ثمن شجرة أكارينيا لولا أن اكتشف أنّها ليست نخلة فأعادها إلى مكانها و انصرف نادما كأنّه اقترف ذنبا أو خطيئة.
أليست أصصي فاتنة كفاية كي تباع؟ بلى هي كذلك ،أحرق يدي إلى المرفق إن لم تكن كذلك .إذن فيم النّضال ؟هل استقال الجوري عن بهائه القديم و ضاع سحره فجأة و أنا آخر من يعلم؟أليست تخاطب الفطرة؟ألهذا الحد تلاشت لغتها و صارت بحاجة إلى شرح و دعاية؟
يبدو أنّي بالغت قليلا في العناد،فلو أنّي ساندتها بحفّاظات للأطفال و بطاقات شحن و سجائر مهرّبة لكانوا ربّما انتبهوا إليها.
ظننت بادىء الأمر أنّي سأبهر الجميع بما جمعت،آمنت بحظوظها بين آلاف السّلع المعروضة،و بأنّها لا ريب ستغزو القلوب،لم تترك لي ألوانها و رونقها غير الإقدام على الرّهان.حرصت على أن تكون متنوّعة و منسّقة بشكل لا يقاوم،تعبت كثيرا في جلبها،عانيت في تزويقها ،لكنّي صُدمت بأنّ أحدا لا يلتفت إليها بنصف عين.
ما أصعب أن يصاب أحدنا في رهان لاح له أكثر وضوحا من النّور.
و مع مرور الوقت أصبحت أشكّ بأنّهم اتّفقوا جميعا على إلغائي. إنّي أعلنها جهارا دون تهذيب:إنّهم يتآمرون ضدّ الأقحوان،و يكيدون للزّنبق،تماما كما يفعل الأعداء.
الشكّ هو الأمر الوحيد الذي يجب أن يُعلن بنبرة يقين:إنّ لهم في استبقاء القحط مآرب ضخمة..لست أدركها و هذا ما يفتك بي و يحيّرني .و حتّى متى سأضلّ صامتا أراقب نفورهم من ربيعي و أتطلّع إلى عيونهم الرّمداء البخيلة المستعجلة و هي تقلّب المعاطف و الفساتين المعلّقة من حولي بنهم و إعجاب؟.أما علموا أنّ قميصا آخر في دولاب الملابس لن يزيد في عمر السّتر يوما واحدا.و بأنّه سيزاحم في أحسن الأحوال بقيّة القمصان!؟
أكاد أُجنّ.
تاجر الّليمون الإسفنجيّ المحنّط يجلس بعيدا عن عصيّه السّخيفة المخيفة،يدخّن النّرجيلة في هدوء و بطء و قسمات وجهه متحفّزة للعراك ،و الزّبائن يتهافتون على تحفه الغبراء من حوله مذعنين لأوامره و نواهيه،كأنّه وليّ نعمتهم أو كأنّ في الأمر منّة.
و أنا في الجهة الأخرى من المدينة أتحرّق شوقا لأقدام تطأ المحلّ،و لا أجد حيلة تجعل النّاس يرون شجيراتي كما أراها،أُشبه إلى حدّ بعيد ذاك الزّوج المثقّف الذي يودّ أن يُقنع زوجة تهوى المطبخ و حصص الطّبخ بسماع مقطوعة لباخ .المسكين تراه يكاد يوثقها بحبل على المقعد و هو يدندن مع الموسيقى و يطرّز النوتات بيديه في الهواء و هي شاخصة لا تلوي على شيء.
حادثة تلو أخرى و أنا أسجّل نكران النّاس و هجرانهم معبد الزّهور.
قبل أسبوع حلّ بيننا أحد المطربين المشاهير؛المناسبة مهرجان يُقام سنويّا في المدينة،اسمه الفردوس،و لكنّك لست تشاهد فيه من الفردوس ذرّة واحدة أو حتّى ما يذكّر به.سيّارات لا حصر لعددها،و جمهور أصفر جالس على حجارة صفراء مقامة وسط مرج بور أصفر.لو كان الأمر بيدي لأطلقت عليه مهرجان الرّبو.
أنا في قمّة السّخط و لا أحد يحقّ له أن يناقش غضبي لأن لا أحد تلقّى الإهانة مثلي..
رتّبت للضّيف باقة كبيرة تليق بمسيرته الفنّيّة العظيمة،أمضيت أكثر اللّيل أشتغل على تنسيقها .قطفت من كلّ أصيص عروسه،و من كلّ مشهد للقطيعة عذرا لهم.راهنت قطعا على أنّهم سيستقبلونه بالزّهور،ساعتها لا مفرّ لهم من زيارتي،سيتودّدون لي في طلبها،سوف لن أطيل العتاب،أعرف أن لا وقت لديهم للحديث.هم أصلا لا يردّون تحيّة ليست بعدها صفقة ،فما بالك بحديث عقيم.أرتاب في كلّ شيء و لا أشكّ لحظة في مدى فهمهم للأصول و ما ينبغي لها.بل أحيانا تذهلني خصلة التّمييز لديهم،حتّى أنّ ثمّة منهم دائما من تجد بحوزته مطّاريّة لو أنّ الأمطار باغتتهم خارج بيوتهم ظهيرة يوم شديد القيظ بعد سنين من الجفاف!.
مرّت الأيّام والدّنيا على حالها لا شيء تغيّر كما خمّنت.و ذبلت الباقة،و لم يتقدّم من السّادة أحد لخطبتها.
العنوسة طالت القرنفل أيضا،فماذا بعد؟
بعد أن أضحى الخبر قديما فهمت أنّهم يومها أهدوه باقة مؤلّفة من أربعة صبايا في عمر الزّهور..
أترين يا سوسنتي الحبيبة البائسة،كيف أنّهم يكرهونك و يتمنّون لجواريهم عمرك القصير!.
سنة بأكملها و أنا أطعمك و أسقيك و التّاس من حولنا يواصلون رجمنا بلا هوادة.حتّى متى ترانا سنضلّ نستعطفهم كالذي ينقر فوق واقعه المرير نقرا كي يترك لنفسه فرصة لتكذيبه؟
زهوري حمقاء جدّا و إلاّ لأدركت بأنّ للشّذى أيضا خطوط حمراء يحجّر عليه تجاوزها،و بأنّ هذه الأرض ليست أرضها.
هناك في مكان ما من الأرض عاشقان يبحثان عن محلّ للزّهور فلا يجدانه،و هنا أناس تتهادى الرّوايات التي يتهادى فيها أبطالها الورود،فما أبعد هناك و ما أوحش هنا و ما أحلى أن تزول مسافة الذّوق بين الـ"هنا "و الـ"هناك".
سرّني في مناسبة أخرى أنّهم يجهّزون حفرا لغراسة أشجار للزّينة على طول مدخل المدينة،تحسّبا لقدوم أحد المسؤولين.و لم أكن لأعجز عن توفير طلبهم.و لكنّهم آثروا عوض اللّجوء إلى خدماتي أن يرشقوا فروع صنوبر كانوا احتطبوها من غابة مجاورة.المضحك هو أنّهم صدّقوا كذبتهم و ظلّوا يسقونها بعد رحيل المسؤول أسبوعين أو أكثر.
خضّتني الظّاهرة و استولى عليّ الإحباط بالكامل و وجدتني أحمّل النّرجس و الآس كلّ معاناتي ،و هذا خطير،فزرت أخصّائيّا في علم النّفس..كنت وقتها على وشك الانهيار،و لا أدري كم انتظرت في قاعة الاستقبال،فقد طافت بي الخواطر من كلّ جانب.كان رفقائي في غاية الأدب و الحياء،و فكّرت أنّهم هنا لمجرّد أنّهم يلحدون بالزّهور،و بأنّي هنا لأنّي آمنت بها،و بأنّنا هنا لنتحاكم أمام الطّبيب ..معادلة غريبة شرد لها ذهني فتآكلت الدّقائق و لم أشعر إلاّ و المساعد يناديني:- سيّد حيدر ابراهيم،تفضّل..دورك.
مكتب الطّبيب كان واسعا و غير معقّد و كانت هناك في كلّ زاوية شجرة بلاستيك كبيرة،تركت في المحلّ شقيقاتها و لكن من لحم و دم،لو دقّقت النّظر إليها لانتبهت إلى كتل الخفّاف التي من المفترض أن تلعب دور التّراب و إلى بعض الأسلاك الصّدئة العارية التي زال كساؤها و التي من المفترض أيضا أن تلعب دور الأغصان.لم يكن على الجدران لوحات ماعدا بعض المقاطع الطبّيّة للدماغ و أخرى للجهاز العصبيّ.
المعاناة واحدة ،إذ لا أحد يشتري الهذيان الزيتيّ للرسّامين.أتحدّاك إن أنت عثرت في مصنع للحليب عن لوحة فنّيّة عدا صور لأبقار مبتسمة،و في مخابر التّجميل أكثر من صور عملاقة لشفاه حمراء و عيون خضراء دون ملامح ،و في مكتب مدير مصنع البسكويت أكثر من صور لسنابل القمح..هكذا جرت العادة ..
تركت الطّبيب يقود الحوار كما اتّفق فمرضي ليس له اسم علميّ،و لا أظنّ أنّه قد تعرّض لمثله من قبل،و جعلته يفهم بأنّي أعاني إرهاقا جرّاء عملي.
طبعا لم أفصح له عن مهنتي كبائع أبله لزهور حيّة،يجري النّسغ في عروقها،و لم أقل له بأنّي ماثل بين يديه لأنّي شقيّ بعشقها،و بأنّي ألتمس أقراصا تجعلها قبيحة في عيني كما هو شأنها في عيون النّاس دون أن أستثني عينيه.في الحقيقة خشيت أن يصاب بالخجل أو بنوع من تأنيب الضّمير،فالمطلوب منّا كمرضى مهذّبين هو أن نجعل الحكيم يفهم كلّ شيء دون أن يشعر بشيء.
هناك سبب آخر منعني من قول الحقيقة،و هو أنّ مرضي من ذاك النّوع الذي إذا أصبت به أنت يجب أن يتناول حبّات الدّواء من تسبّب لك فيه.
لا أنظّر و لكن من يدري ربّما أصبح هرائي حقيقة يوما ما..
الخلاصة أنّ عيوني بدأت تُفتح شيئا فشيئا و عاد لي تدريجيّا إدراكي للمسائل و صرت أعي ماذا عليّ أن أفعل،أو بالأحرى ما الذي لا يجب عليّ فعله،ثمّ فجأة فتحتها بالكامل..
- حمدا لله أنّك استيقظت من تلقاء نفسك،و إلاّ لكنت أطبقتَ السّقف على رأسي..(قالت زوجتي ذلك رغم أنّي على النّقيض تماما).
.. ذاهبة إلى صديقتي وداد..هل تريد شيئا قبل أن أخرج؟
- ..المحلّ الذي اكتريته هذا الصّباح..
- ما به؟هل قرّرت حقّا أن...
- لا..غيّرت رأيي ،إنّني أنوي فتح طاحونة لرحي الحبوب و التّوابل..إنّه قراري الأخير..
أصلا ليس أمامي خيار آخر ..فمدينتنا ،يا عزيزتي ،لا تزال تتعثّر في الرّغيف و حساء الشّعير و خلطات تسمين العرائس..و غلطة فادحة أن نبيع ما نحبّ..
لم أكد أتمّ كلامي،حتّى سمعت الباب السّفلي يُطبق.
خرجت زوجتي و لم تسمع الجواب..
لا يهمّ ..يكفي أنّي كنت بالاستماع..
***
محمّد فطّومي
محمّد فطّومي
تونس يوليو 2010
تعليق