حديث القمر
كان السكون يملأ المكان والسماء صافية كصفاء السرائر الطيبة التي لا تعرف الالتواء ولا الختل.
انسكب الأنس والجمال.. فتلقفته المشاعر النقية واستقبلته الحنايا الظامئة بحفاوةٍ وترحاب ... على كوة في ذروة منزلنا الصغير , أصبنا منه حظا وافرا , يوم كنت وشريكة عمري نرى من خلالها المدينة الحالمة , التي يعشقها الأدباء ويتغنى بها الشعراء , ويهرع إليها السياح من كل مكان إنها مدينة الحب والنقاء , والبهجة والصفاء (تعز) الجميلة , جميلة بجمال أهلها , طيبة بطيبتهم , حالمة بحلمهم الكبير, وسُميتْ حالمة لأنها (معلقة في الفضاء) فهي تفوق مدينة البندقية العائمة في الماء , سحراً وجمالا. وشتان بين الصعود في الفضاء والغوص في الماء.
بسطنا مخمل الحب على صهوة الفناء المِمْراح , في السطح المبتسم كابتسامة النجوم في الليلة الحالكة الظلام , ونسجنا خيوط المسرة بالمسامرة والبوح الشجي , الموشى بنغم الوجدان , الطائر في الفضاء كالفضاء نفسه , تحمله أجنحة الشوق المفعمة بالكلمات المعبرة عن صدق المشاعر والعاطفة... ولكل عاشقين نغم خاص و لغة خاصة لا تروى ولا تقال...
اتخذ كل منا متكئا يتكئ عليه بعد حديث الحب , ليبدأ حديث الجمال كان الجو يبعث على الراحة, والمكان معد للاسترواح , بدأنا نقلب البصر ونتملى السماء.. نراقب فيها ومضات الشهب الباهتة , وتلألأ النجوم الخافتة , التي حجبها الضوء المنساب من شفاه القمر , وقد كان قاب قوسين من تمام اكتماله بدرا ... وكان يدعونا لمناجاته ومجاراته, فهو للعاشقين كما هو للغرباء الواجدين , وللحائرين كما هو المدنفين , التائهين في أزقة الحب بحثا عن ناكص مهاجر أو هائم زائغ ؛ نكبه الدهر بكلكله فلم يقر له قرار... لسان شعاعه حفيٌ نجي !وأنيس شجي , ودليل وحادي , يا لروعة المساء في رحابه .
على رفرف هذا الجمال البديع كنا نتبادل أطراف الحديث مستمتعينَ بحديث القمر ونسيم الصيف ودفئه ؛ .فقد وضع خطواته الأولى على ربوعنا , منذ أيام قلائل , نعم جاء الصيف على فاقة , بعد شتاء قارس ذقنا حلاوته ومره!! كنا مسرورين بقدوم الصيف كأنما غائب عزيز علينا قادمٌ من بعيد بعد طول افتراق, محمل بالهدايا الثمينة التي تنشرح لها الصدور, وتهفو إليها القلوب, ويحثو السير خطاه نحوها, طلبا للمسرة ومظنة في امتلاك ناصية السعادة .
قالت أسماء: وهي تنفضُ عن كتفي بعض الغبار وترنو ببصرها نحو السماء , وقد تنهدت تنهيدة خفيفة أحسستُ أنها مَمزوجة بلوعة وحرقة شدت إليها انتباهي.
ألا ترى كيف يسحرنا الصيف بجماله, ويأسرنا بصفائه وحسن بهائه, وكم يطربنا السمر بين أحضان مسائه وعنفوان ظلامه وانهيال ظلاله.
قلتُ: بلى .
قالت وهي تُسلمْ ظهرها على المتكئ: لو كان لنا سيارة لخرجنا في رحلة مع الأولاد نستمتع بنهاره , كما نستمتع بليله الجميل. وها هي العطلة تقرع الأبواب.. كيف نستغلها ونستثمر أوقاتها بما يعود بالخير والبركة.!!
سحبتُ الغطاء الناعم وأسدلته على قَدَمييَّ حتى لا تلثمها زخات الهواء المتقطعة بين الفينة والفينة , ثم نطق لساني وقال: هذا بُعد نظر عهدتُهُ فيكِ , لكني أشتم يا حبيبتي رائحة أمرٍ آخر ترمين إليه لم تفصحي عنه بعد , وأجدني مشتاقا لسماعه.!!
وأخذتُ بأطراف ثوبها بلطف ووضعتُ يدي على يدها برفق وحنان أفصحي يا قرة العين ونور البصر فكلي آذان صاغية.
آه.. يا (كريم) : كم تحدثني جارتي عن رحلاتها المتكررة مع زوجها وأولادها وعن نفقاتها الفارهة ومقتنياتها من الملابس والهدايا مالا أستطيع أن أرويه ولا أصفه لك , من كثرته , حتى يداهمني الضيق مما تقول , فكأنها تُعرِّض بنا لضيق اليد , ولا أتمنى أن تكون أشرعتي مثل أشرعتها ولا مركبي مثل مركبها , فكل حسب سعته , لكني أتمنى الحياة الكريمة التي لا نحتاج معها لأحد , أقصد ما يفي بالغرض المأمول , دون اسراف ولا تقتير.
أطرقتُ هنيهة :ثم قلتُ مُحقة أنتِ: هذا أمر يزحفُ في مسامات أوردتي منذ دهرٍ بعيد , لكنه كما يزحف الرضيع نحو الكبر , فدونه أودية ومفاوز يقطعها؛ كي يبلوغ الشباب لديه أجله , وقد أرقني كما أرقك وشغل بالي كما شغل بالك , لكني أطمئنك بأنه في البال وأني أبحث السبل التي يتوسع دخلنا في سبرها , ويتحسن حالنا بعد خوضها , وإن أعيتني الحيلة , فلا يأس ولا قنوط مع الإصرار, ولعلي عن قريبٍ أصل.
انحنتْ وأخذت بعض الحلوى من طبق بجوارنا, ووضعتها في فمي ثم قالت :نحن ولله الحمد نتقلب بين نِعمٍ لا تحصى وفضائل لا تُعّد ,لا نجحد فضله علينا , لكن لا يمنع , أن نوسع من دائرة نشاطنا, لنمتلك زمام الكرامة و العيش الكريم... ولو من أطرافه لا من أوسعه , (حده الأدنى).
ثم توقفت وصبتْ كأساً من الحليب وناولتني , واستمرت في حديثها:
وما معضلة النزهة إلا غيض من فيض, رغم أنها ليست من الأشياء الكمالية كما يظنها البعض ...انها تُذهب الملل وتشحذ الهمة وتجدد الطاقة والحيوية والنشاط للأولاد, فيعودون بنفسية راضية , مستقبلين الحياة بقلب مُنفتح وصدر مُنشرح , فالنفوس تمل كما تمل الأبدان مع طول البقاء ولا بد لها من طرائق التغيير, ومسالك التجديد ليذهب كدها وكدرها.
بالأمس زينب تقول لي: نريد جائزة النجاح يا أمي رحلة على شط البحر الأحمر وفي خمائل عروسه حيث: النخيل ترمينا برطبها كل صباح وحيث الجمال الطبيعي الذي لم تتدخل يد الإنسان فيه لتخدشه أو تغير معالمه ألا يستحق هذا الطلب أن يلبى؟! ثم التفتتْ نحوي والبسمة في ثغرها والنظرات ترتعش بين محاجرها كأنما خلخل الخجل استرسالها بالحديث حياء... توقفتْ برهة فلما رأتني منبسطا لحديثها , مصغيا لمرادها, وقد رمقتني أهز رأسي , وسمعت شفيف نفسي: وأنا أقول لها: معك يا ابنة العم فيما ذكرتي.
انشرحتْ وأردفت قائلة: ما أجمل أن نجوب القفار ونتسلق الجبال ونستروح بين مروج الحدائق والروابي والتلال... ألا ترها أغنية جميلة؟! ثم صمتت كأنها تنتظر ما أقول!
ـ بلى بلى.. إنها لوحة فنية فارهة الجمال , مدهشة الروعة والتصوير باهية الحسن والمنظر , وإني لأشعر بما تشعرين.
ماذا أفعل والخرق في جيبي , وحرقة تسدُّ فوهةَ انطلاقي, كيف أبادر وأحقق أزهار آمالها الحاضرة , وأحلام صغيرتها الناظرة ورغبات نفسي الشاعرة ؟! يا لقسوة الظروف حين تمنع الحلم الشفيف أن يتنفس وتحرم القلب الرفيف أن يتبسم والحنايا الوارفة أن تتنسم... فما تزال بها بشاشة من بقايا طموح كادت تطمره الأحداث بكلكلها, فأنهضته الآمال الملحة , والمقاصد النبيلة, والعزة التي ترفض الذل وتكره الاستكانة , كما ترفض الكفر وتكره النفاق سواء بسواء , من الجمال خلقتْ , لتعشق الجمال والرحابه ,التي تنثرها الطبيعة الخلابة في القلوب الحية.!
نسيت نفسي وخشيت أن تسألني فيمَ أفكر , لكني سرعان ما استجمعت مقالي وغيرت بسرعة البديهة وجوم حيرتي وفرط اعتلالي , فخرجت من مدار شرودي , وفلك جمودي بعد أن لاحت لي فكرة وخطر في بالي حل, يمكن معه تحقيق ما نصبوا إليه ونأمل إذا تم.
ــ بالإمكان تحقيق كل طموحنا يا جميلتي _. فكوني مطمئنة !! سنبدأ بالتفكير والعمل الجاد للوصول إلى تحسين وضعنا من الغد.
تعلمين أني وأخواتي ورثنا قطعة أرض, فيمكن بيعها واستثمار قيمتها في مشروع, خصوصا وقد عرضَ علي صديقي ماجد مشروعا رائعا يدر ربحا لا بأس به , يكون العمل فيه بيني وبينه, , لقد استحسنته وأبديت تحمسي له , لكني لم أعطِ نفسي فرصة أفاتح إخواني ببيع القطعة من أجله.
أمَّا الآن فقد قويتْ الفكرة وشُحذتْ الهمة واستبان الطريق, وعزمتُ على المضي , وهذا بفضل الله ثم بفضل حديثك الرقراق العذب الذي يذيب الصخور ويحرك الشعور.
من الغد إن شاء الله سأتحدث معهم وأحاول إقناعهم بشأنها ,وبنصيبي سأشتري مركبة النهوض ولولب الصعود , وبمقابل عملي , سأنفض الفاقة كما ينفض الحديدُ صداهُ إذا اضرم , فأعيينني بقوة الدعاء فإني أخشى ألا يقبلوا فهم كما تعلمين يعدونها رأس مالهم , ومِعْقَدُ آمالهم وبوابة الوصول إلى طموحاتهم.
ارتسمت أسارير الفرح على جبينها وانثالت بسمة الرضا من بين شفتيها كما ينثال الغيث عند ابتسام الأفق الذي خلخل البرق غيماته حال تلبُّده به.
ثم استدارت وأخذتْ قبلة من فمها بأطراف بنانها و ألقت بها إلي فتلقفتها مداعبا كأنما هي حبة لؤلؤ يجب التقاطها , ثم رددت بمثلها.
وحان موعد الخلود إلى النوم فأوينا إلى المنزل والسعادة تغمرنا والحنين يحث خطا عقارب الساعة مستعجلا , كي يأتي الغد لننظر ما يصنع الله لنا فيه.
ما غبت عني أنتَ في أحداقي وأراك في ليلي وفي إشراقي
ما غبت يا قمري ونوركِ ساطع يمتد في روحي وفي آفاقي
ما أنتِ إلا الشمس مبسمُ ضوئها يفتر في قربي وعند فراقي
وبريق ألوان الجمال حلاوة تسري بأوردتي كحلو مذاق
ما غبت يوما والفؤاد مولعٌ بهواك دون معارفي ورفاقي
لو غبت كيف أراك بين خواطري وعلى عيون الحبر والأوراق
إن كنت تذكرني وأنت بنشوةٍ فأنا على ذكرٍ بغير رواق
أو كنت تأنس بي إذا لاقيتني فأنا بأنسك دون أي تلاقي
ولأن ذكرت إذا نسيتَ فإنني من غير نسيانٍ بذكرك باقي
أعرفت قدركِ والقلوب عيونها تتجاوز الأزمان بالأشواقِ
[1]
[1]قالت كاملة بدرانة رئيسة لجنة النثر في ملتقى الواحة : لنّزهة حاجة آنيّة للنّفس والجسد كي يجدّدا حيويّتهما، وسرعان ما ينسى تأثيرها عند الدّخول في غمرة الحياة وتعبها... في المقابل الأرض هي النّزهة الأبديّة للإنسان بمفهومها المطلق ... الأرض هي استمرار البقاء قصّة رائعة بسردها ولغتها وبطرقها لموضوع من أخطر المواضيع ... التّهاون والتّفريط بالأرض للخروج من أيّ ضيق يمكن حلّه بطرق أخرى... وللأسف نسمع عن هذا الكثير
وقالت ربيحة الرفاعي : حبكة محكمة وسردية جميلة حكت مشهدا إنسانيا رائعا تسامت فيه المعاني وأتلقت المشاعر فبدا بواقعيته حالما وبمعقوليته محلقا و... بعيدا عن علاقتها بالنص وأثرها فيه فقد جاءت المقطوعة الشعرية في خاتمته عذبة بهية
لجنة ترشيح النصوص
مالكة حبرشيد=تم
عبد الرحيم محمود / تم .
كان السكون يملأ المكان والسماء صافية كصفاء السرائر الطيبة التي لا تعرف الالتواء ولا الختل.
انسكب الأنس والجمال.. فتلقفته المشاعر النقية واستقبلته الحنايا الظامئة بحفاوةٍ وترحاب ... على كوة في ذروة منزلنا الصغير , أصبنا منه حظا وافرا , يوم كنت وشريكة عمري نرى من خلالها المدينة الحالمة , التي يعشقها الأدباء ويتغنى بها الشعراء , ويهرع إليها السياح من كل مكان إنها مدينة الحب والنقاء , والبهجة والصفاء (تعز) الجميلة , جميلة بجمال أهلها , طيبة بطيبتهم , حالمة بحلمهم الكبير, وسُميتْ حالمة لأنها (معلقة في الفضاء) فهي تفوق مدينة البندقية العائمة في الماء , سحراً وجمالا. وشتان بين الصعود في الفضاء والغوص في الماء.
بسطنا مخمل الحب على صهوة الفناء المِمْراح , في السطح المبتسم كابتسامة النجوم في الليلة الحالكة الظلام , ونسجنا خيوط المسرة بالمسامرة والبوح الشجي , الموشى بنغم الوجدان , الطائر في الفضاء كالفضاء نفسه , تحمله أجنحة الشوق المفعمة بالكلمات المعبرة عن صدق المشاعر والعاطفة... ولكل عاشقين نغم خاص و لغة خاصة لا تروى ولا تقال...
اتخذ كل منا متكئا يتكئ عليه بعد حديث الحب , ليبدأ حديث الجمال كان الجو يبعث على الراحة, والمكان معد للاسترواح , بدأنا نقلب البصر ونتملى السماء.. نراقب فيها ومضات الشهب الباهتة , وتلألأ النجوم الخافتة , التي حجبها الضوء المنساب من شفاه القمر , وقد كان قاب قوسين من تمام اكتماله بدرا ... وكان يدعونا لمناجاته ومجاراته, فهو للعاشقين كما هو للغرباء الواجدين , وللحائرين كما هو المدنفين , التائهين في أزقة الحب بحثا عن ناكص مهاجر أو هائم زائغ ؛ نكبه الدهر بكلكله فلم يقر له قرار... لسان شعاعه حفيٌ نجي !وأنيس شجي , ودليل وحادي , يا لروعة المساء في رحابه .
على رفرف هذا الجمال البديع كنا نتبادل أطراف الحديث مستمتعينَ بحديث القمر ونسيم الصيف ودفئه ؛ .فقد وضع خطواته الأولى على ربوعنا , منذ أيام قلائل , نعم جاء الصيف على فاقة , بعد شتاء قارس ذقنا حلاوته ومره!! كنا مسرورين بقدوم الصيف كأنما غائب عزيز علينا قادمٌ من بعيد بعد طول افتراق, محمل بالهدايا الثمينة التي تنشرح لها الصدور, وتهفو إليها القلوب, ويحثو السير خطاه نحوها, طلبا للمسرة ومظنة في امتلاك ناصية السعادة .
قالت أسماء: وهي تنفضُ عن كتفي بعض الغبار وترنو ببصرها نحو السماء , وقد تنهدت تنهيدة خفيفة أحسستُ أنها مَمزوجة بلوعة وحرقة شدت إليها انتباهي.
ألا ترى كيف يسحرنا الصيف بجماله, ويأسرنا بصفائه وحسن بهائه, وكم يطربنا السمر بين أحضان مسائه وعنفوان ظلامه وانهيال ظلاله.
قلتُ: بلى .
قالت وهي تُسلمْ ظهرها على المتكئ: لو كان لنا سيارة لخرجنا في رحلة مع الأولاد نستمتع بنهاره , كما نستمتع بليله الجميل. وها هي العطلة تقرع الأبواب.. كيف نستغلها ونستثمر أوقاتها بما يعود بالخير والبركة.!!
سحبتُ الغطاء الناعم وأسدلته على قَدَمييَّ حتى لا تلثمها زخات الهواء المتقطعة بين الفينة والفينة , ثم نطق لساني وقال: هذا بُعد نظر عهدتُهُ فيكِ , لكني أشتم يا حبيبتي رائحة أمرٍ آخر ترمين إليه لم تفصحي عنه بعد , وأجدني مشتاقا لسماعه.!!
وأخذتُ بأطراف ثوبها بلطف ووضعتُ يدي على يدها برفق وحنان أفصحي يا قرة العين ونور البصر فكلي آذان صاغية.
آه.. يا (كريم) : كم تحدثني جارتي عن رحلاتها المتكررة مع زوجها وأولادها وعن نفقاتها الفارهة ومقتنياتها من الملابس والهدايا مالا أستطيع أن أرويه ولا أصفه لك , من كثرته , حتى يداهمني الضيق مما تقول , فكأنها تُعرِّض بنا لضيق اليد , ولا أتمنى أن تكون أشرعتي مثل أشرعتها ولا مركبي مثل مركبها , فكل حسب سعته , لكني أتمنى الحياة الكريمة التي لا نحتاج معها لأحد , أقصد ما يفي بالغرض المأمول , دون اسراف ولا تقتير.
أطرقتُ هنيهة :ثم قلتُ مُحقة أنتِ: هذا أمر يزحفُ في مسامات أوردتي منذ دهرٍ بعيد , لكنه كما يزحف الرضيع نحو الكبر , فدونه أودية ومفاوز يقطعها؛ كي يبلوغ الشباب لديه أجله , وقد أرقني كما أرقك وشغل بالي كما شغل بالك , لكني أطمئنك بأنه في البال وأني أبحث السبل التي يتوسع دخلنا في سبرها , ويتحسن حالنا بعد خوضها , وإن أعيتني الحيلة , فلا يأس ولا قنوط مع الإصرار, ولعلي عن قريبٍ أصل.
انحنتْ وأخذت بعض الحلوى من طبق بجوارنا, ووضعتها في فمي ثم قالت :نحن ولله الحمد نتقلب بين نِعمٍ لا تحصى وفضائل لا تُعّد ,لا نجحد فضله علينا , لكن لا يمنع , أن نوسع من دائرة نشاطنا, لنمتلك زمام الكرامة و العيش الكريم... ولو من أطرافه لا من أوسعه , (حده الأدنى).
ثم توقفت وصبتْ كأساً من الحليب وناولتني , واستمرت في حديثها:
وما معضلة النزهة إلا غيض من فيض, رغم أنها ليست من الأشياء الكمالية كما يظنها البعض ...انها تُذهب الملل وتشحذ الهمة وتجدد الطاقة والحيوية والنشاط للأولاد, فيعودون بنفسية راضية , مستقبلين الحياة بقلب مُنفتح وصدر مُنشرح , فالنفوس تمل كما تمل الأبدان مع طول البقاء ولا بد لها من طرائق التغيير, ومسالك التجديد ليذهب كدها وكدرها.
بالأمس زينب تقول لي: نريد جائزة النجاح يا أمي رحلة على شط البحر الأحمر وفي خمائل عروسه حيث: النخيل ترمينا برطبها كل صباح وحيث الجمال الطبيعي الذي لم تتدخل يد الإنسان فيه لتخدشه أو تغير معالمه ألا يستحق هذا الطلب أن يلبى؟! ثم التفتتْ نحوي والبسمة في ثغرها والنظرات ترتعش بين محاجرها كأنما خلخل الخجل استرسالها بالحديث حياء... توقفتْ برهة فلما رأتني منبسطا لحديثها , مصغيا لمرادها, وقد رمقتني أهز رأسي , وسمعت شفيف نفسي: وأنا أقول لها: معك يا ابنة العم فيما ذكرتي.
انشرحتْ وأردفت قائلة: ما أجمل أن نجوب القفار ونتسلق الجبال ونستروح بين مروج الحدائق والروابي والتلال... ألا ترها أغنية جميلة؟! ثم صمتت كأنها تنتظر ما أقول!
ـ بلى بلى.. إنها لوحة فنية فارهة الجمال , مدهشة الروعة والتصوير باهية الحسن والمنظر , وإني لأشعر بما تشعرين.
ماذا أفعل والخرق في جيبي , وحرقة تسدُّ فوهةَ انطلاقي, كيف أبادر وأحقق أزهار آمالها الحاضرة , وأحلام صغيرتها الناظرة ورغبات نفسي الشاعرة ؟! يا لقسوة الظروف حين تمنع الحلم الشفيف أن يتنفس وتحرم القلب الرفيف أن يتبسم والحنايا الوارفة أن تتنسم... فما تزال بها بشاشة من بقايا طموح كادت تطمره الأحداث بكلكلها, فأنهضته الآمال الملحة , والمقاصد النبيلة, والعزة التي ترفض الذل وتكره الاستكانة , كما ترفض الكفر وتكره النفاق سواء بسواء , من الجمال خلقتْ , لتعشق الجمال والرحابه ,التي تنثرها الطبيعة الخلابة في القلوب الحية.!
نسيت نفسي وخشيت أن تسألني فيمَ أفكر , لكني سرعان ما استجمعت مقالي وغيرت بسرعة البديهة وجوم حيرتي وفرط اعتلالي , فخرجت من مدار شرودي , وفلك جمودي بعد أن لاحت لي فكرة وخطر في بالي حل, يمكن معه تحقيق ما نصبوا إليه ونأمل إذا تم.
ــ بالإمكان تحقيق كل طموحنا يا جميلتي _. فكوني مطمئنة !! سنبدأ بالتفكير والعمل الجاد للوصول إلى تحسين وضعنا من الغد.
تعلمين أني وأخواتي ورثنا قطعة أرض, فيمكن بيعها واستثمار قيمتها في مشروع, خصوصا وقد عرضَ علي صديقي ماجد مشروعا رائعا يدر ربحا لا بأس به , يكون العمل فيه بيني وبينه, , لقد استحسنته وأبديت تحمسي له , لكني لم أعطِ نفسي فرصة أفاتح إخواني ببيع القطعة من أجله.
أمَّا الآن فقد قويتْ الفكرة وشُحذتْ الهمة واستبان الطريق, وعزمتُ على المضي , وهذا بفضل الله ثم بفضل حديثك الرقراق العذب الذي يذيب الصخور ويحرك الشعور.
من الغد إن شاء الله سأتحدث معهم وأحاول إقناعهم بشأنها ,وبنصيبي سأشتري مركبة النهوض ولولب الصعود , وبمقابل عملي , سأنفض الفاقة كما ينفض الحديدُ صداهُ إذا اضرم , فأعيينني بقوة الدعاء فإني أخشى ألا يقبلوا فهم كما تعلمين يعدونها رأس مالهم , ومِعْقَدُ آمالهم وبوابة الوصول إلى طموحاتهم.
ارتسمت أسارير الفرح على جبينها وانثالت بسمة الرضا من بين شفتيها كما ينثال الغيث عند ابتسام الأفق الذي خلخل البرق غيماته حال تلبُّده به.
ثم استدارت وأخذتْ قبلة من فمها بأطراف بنانها و ألقت بها إلي فتلقفتها مداعبا كأنما هي حبة لؤلؤ يجب التقاطها , ثم رددت بمثلها.
وحان موعد الخلود إلى النوم فأوينا إلى المنزل والسعادة تغمرنا والحنين يحث خطا عقارب الساعة مستعجلا , كي يأتي الغد لننظر ما يصنع الله لنا فيه.
ما غبت عني أنتَ في أحداقي وأراك في ليلي وفي إشراقي
ما غبت يا قمري ونوركِ ساطع يمتد في روحي وفي آفاقي
ما أنتِ إلا الشمس مبسمُ ضوئها يفتر في قربي وعند فراقي
وبريق ألوان الجمال حلاوة تسري بأوردتي كحلو مذاق
ما غبت يوما والفؤاد مولعٌ بهواك دون معارفي ورفاقي
لو غبت كيف أراك بين خواطري وعلى عيون الحبر والأوراق
إن كنت تذكرني وأنت بنشوةٍ فأنا على ذكرٍ بغير رواق
أو كنت تأنس بي إذا لاقيتني فأنا بأنسك دون أي تلاقي
ولأن ذكرت إذا نسيتَ فإنني من غير نسيانٍ بذكرك باقي
أعرفت قدركِ والقلوب عيونها تتجاوز الأزمان بالأشواقِ
[1]
[1]قالت كاملة بدرانة رئيسة لجنة النثر في ملتقى الواحة : لنّزهة حاجة آنيّة للنّفس والجسد كي يجدّدا حيويّتهما، وسرعان ما ينسى تأثيرها عند الدّخول في غمرة الحياة وتعبها... في المقابل الأرض هي النّزهة الأبديّة للإنسان بمفهومها المطلق ... الأرض هي استمرار البقاء قصّة رائعة بسردها ولغتها وبطرقها لموضوع من أخطر المواضيع ... التّهاون والتّفريط بالأرض للخروج من أيّ ضيق يمكن حلّه بطرق أخرى... وللأسف نسمع عن هذا الكثير
وقالت ربيحة الرفاعي : حبكة محكمة وسردية جميلة حكت مشهدا إنسانيا رائعا تسامت فيه المعاني وأتلقت المشاعر فبدا بواقعيته حالما وبمعقوليته محلقا و... بعيدا عن علاقتها بالنص وأثرها فيه فقد جاءت المقطوعة الشعرية في خاتمته عذبة بهية
لجنة ترشيح النصوص
مالكة حبرشيد=تم
عبد الرحيم محمود / تم .
تعليق