
مرهقاً ..تسبقهُ الأفكار السوداء ، وصل إلى عيادة المركز الطبيّ ..
تأمّله الطبيب مليّاً ..وقد بدت عليه علامات الذبول والإعياء ، والإهمال الذي سيطر على مظهرهِ الخارجيّ ..
كان شاحباً كأنه لم ينَم منذ أيام .
ودون أن يُعقِّب بشيء ..بادرهُ بالسؤال:
_أما زلتَ تعاني تلك الآلام ؟
أجاب كالمستغيث : وبصورة أشدّ ..أرجوك إفعلْ أي شيء يوقف هذا العذاب الذي يمزقني ليل نهار ..
نظر إليه برهة ..ثم فتح أحد الأدراج وأخرج زجاجة في حجم الإصبع ، التقط منها حبة ..دفع بها إليه ..
وهو يقول :
_ هذه الحبوب تمتصّ الآلام والأحزان ، لكني لن أصفها لك ..كي لا تدمنها ..
عليك أن تعتمد على إرادتك منذ الآن .
كان يتنقّل بسماعتهِ الباردة فوق صدره وظهرهِ ، ثم يتحسس أجزاءً من جسده بأصابع أكثر برودة ..
وهو يقول : هل ستبقى هنا فترة أخرى ؟
_ لا أدري ...لماذا تسأل ؟
_ ألم أنصحكَ بالمغادرة منذ أشهر ..يجب أن تعود إلى بلادك ، أنت مريض الآن وتحتاج إلى عناية
ورعاية خاصة ، وإلى مَن يتدبّر شؤونك ..
سقطتْ أحشاؤهُ عميقاً وهو يقول :
_ هل حالتي خطيرة إلى هذا الحد ؟
_حالتك صعبة ..مقلقة ..لكن ليس هناك من خطر يتهدد حياتك ..إذا التزمت بالعلاج ..وبالتوصيات ..
قالها مبتسماً ..وهو يتفادى عينيه المزروعة بالتساؤلات ..كأنهُ يخفف من شدة الإحتقان الذي سيطر
على الموقف .
لأول مرة يلاحظ أن عبارات الطبيب أصبحت قصيرة حاسمة ، كأنه يضيء أمامه أول إشارة
حمراء في هذه المرحلة من معاناته ، ربما ليضطره أن يعيد ترتيب تلك الأولويات التي كانت تملأ رأسه .
تناول الوصفة الطبية من يد الطبيب الذي أشار عليه أن يصرفها من صيدلية المركز ..وهو يقول :
_ أنت تعلم أنني أقوم بمتابعة علاجك على مسؤوليتي الخاصة ، بعد أن انتهى عقدك مع الشركة
حين اكتشفنا سوء حالتك الصحية ..
نظر إليه بارتياب ..ثم قال بعد تردُد : ماذا تقصد ..؟؟
_ لاشيء البتّة ...لكن إن قرّرتَ المغادرة فدَعني أراك ، لا بد من إجراء المزيد من الفحوصات ..أريد أن
أطمئن إن كان وضعك يسمح بالسفر أم لا ..!
قالها ببرود وبنفس الإبتسامة الباردة وهو يضرب كتفهُ بصداقة ..ويُكمل :
_ لا نريد أن نستبق الأشياء ونفكّر بِسلبيّة ، وفي نفس الوقت لا نريد أن نخلق في نفسكَ وهماً كاذباً ..ونقول
أنك على طريق الشفاء .
لكأَن التطابق بين تشخيصِه ..وآلام المريض قد حدّدا مُسبقاً ملامح النهاية ..، أو كأن تكرار فصول
المأساة يجعلها عادية ..مهما بلغ حجم الفجيعة فيها !!.
حاول أن يكتم غيظه وغضبه لكنه لم يستطع .. كان يمتليء رغبة في الكلام ..في الصراخ ..في تمزيق
هذه الإبتسامة الباردة ..في تحطيم شيء ما ..في ضرب رأسه بالجدار ..
شعر برأسهِ يكاد أن ينفجر ..لكنه أنفجر فجأة في البكاء وراح يصرخ :
_ أعود ؟؟؟؟؟؟؟؟؟
إلى أين تريدني أن أعود.....ألا تتابعون الأخبار ..أتـريدُ أن تعرف أنني لم أعُد أملك عنواناً أعود إليه ..أو أنني
لا أعرف شيئاً عن مصير عائلتي ، ولا على أي رصيف قذفتهم رياح التهجير والتشتتِ ..هروباً من جحيم الإقتتال ..
الآن ...؟ وقد أتيتكُم رجلاً بقوة ألف حصان ..تُعيدونني فأراً هزيلاً ...بقايا إنسان ..!!!!
سقط فوق المقعد لاهثاً كدجاجة ذبيحة ..تُكابد غرغرة الموتِ وحلاوة الروح في آنٍ واحد ، وقد شعر بالعجز
والإنتهاء ، وبِدبيب الموت يسري في دمهِ ..ويخترق خلاياه .
لم يقُل له ذلك أحد ..لكنه قرأهُ في عيونهم ، وفي لائحة التوصيات ..،وقائمة الأدوية التي يَمنّون عليه الآن
صرفَها بالمجان ، وكأنهم ليسوا السبب فيما أصبح يُعانيه من آلام !!.
غادر المركز ..وقذف بنفسهِ وسط زحام الوجوه والأشياء ، وراح يتفرّس فيها كأنه يشاهدها لأول مرة .
تلك الشوارع التي صال وجال فيها مُتسلحاً بفلسفته الخاصة ..، أن الحياة يجب أن تُعاش ..لا أن تخضع للنقاش .
وقد عاشها كما شاء ..، ثلاثة أعوامٍ من تسميم خلاياه ، واستنشاق غبار الجدران الكيميائية حدّ الإختناق ، إلى
جانب التسكُع على أرصفة المتعة في ليل باريس المُزركش بالغوايات ..!
ها هي باريس مازالت مبتسمة منتشية ، كل شيء فيها لامعاً برّاقا ،السيارات والحافلات ..واجهات متاجر العطور
والأزياء ، كل شيء هنا يضجّ بالعافية والشباب ..حتى الكلاب المدلّلة ..حتى الأشجار ..!
زفر زفرةً حارة وهو يُلقي بجسده المُنهك فوق مقعد أحد مقاهي الرصيف الغارق في الورد والأضواء ..
وجلس هامداً مثل كومة رماد ، وقد جفّ حلقه ..وامتلأ فمه بالمرارة ..، وسيطرت عليه _ بجموح_ فكرة الموت .
أشعل سيجارة وراح يجترّ أبجدية أيامٍ أضاع فيها الفرق بين مفهوم الحرية والإنتحار ..
لَكأنه خرج من حصار ذلك الربيع الأسود في أحد مخيمات الشتات من ذلك الشرق التعيس ..ليُقابل الموت
في محطته الأنيقة على هذه الأرض الشرسة ، في عصر القتلِ المتعولِم ..والذي يمنح القتيل قسطاً باذخاً
من مذاق المتعة الحارِق....، لَعلّه يتوقفُ عن اغتيال نفسهِ على تلك الأرصفة التي استبدلتْ حفيف الياسمين
بموسيقى الرصاص ..، لِيحيا أكثر بانتظار هلاكٍ أكثر أناقة على أرصفة ليلكية معطّرة ..!!
وبفروسيّة مَن لا يملك ما يخسره ..، كان عليهِ أن يتعايش وسط واقعه المؤثث بصُور الأشياء لا بحقيقتها .
أهكذا تكافئه الحياة ..وهو الذي كان من آليّات الدفاع عنها ..في وجه ما يجعلها عبئاً على الأحياء ؟؟!
أيكون هذا جزاؤه ..وهو الذي ارتضى أن يكون واحداً من تلك الفئران البشريّة ، والتي جعلتْ من أجسادها
حقلاً لتجارب شركات الأدوية العالمية ..، في بلاد تُحرّم قوانينها _ الحريصة على إنسانية الإنسان وحقوقه _
إجراء مثل هذه التجارب على البشر ، لتتجه إلى الدول الفقيرة ..مرتفعة معدلات البطالة ، لتصطفي منها
خيرة الأجساد الشابة المُعافاة ..، كيما تدمرها مقابل ثمن بخس ..مهما ارتفع سقفه ، لن يستطيع تعويض
خليّة سليمة أو قطرة دمٍ نقية ..
وبعد أن يُوقّع من اصطلحوا على تسميتهِ ( بالمتطوع ) على استمارة من أهم بنودها ..إخلاء مسؤولية
الشركة من أي أعراض جانبية ..أو أضرار قد تتسبب فيها تلك التجارب على أولئك المتطوعين التعساء ..!!
غادر المقهى وراح يجرُّ خطواته فوق الأرصفة ..كأنه بطل تراجيديّ ، يُلقي النظرة الأخيرة على أطلال
مغروزة في خاصرة ذاكرته ، قبل أن ينام في الفصل الأخير من الأسطورة .
رذاذ خفيف بدأ ينثال بهدوء مع هبوط المساء ..لا تراه العين إلا في مساحات الضياء المنسكبة
فوق الأشياء ..
ينسحبُ إلى شارع فرعيّ ..وقد بدأ يحسّ الأرض رخوة تحت قدميه ، ثم شعر بها تدور..وقد خارت قواه ..
يصطدمُ برجل يحتضن امرأة ..، يمضي ذاهلاً وكلمات الطبيب تتموّج في دمهِ كالسياط
(أنت تعاني من فشل كلويّ حاد..
لم تُجدِ معك التحذيرات ..
تحتاج جلسة غسيل للكلى كل أسبوع ..
وإذا تطورت الأمور للأسوأ .. قد تحتاج جلستين ...وربما ثلاث ..
لا تقلق ...لن تموت بسرعة إذا اتبعتَ العلاج والتعليمات ..
لا تدخن ..لا تقترب من المشروبات الروحية ..أو المنبهات ، لا تُفرط في الأكل
لا تغضب ولا تفرح ..لا تتعرض لنزلات البرد أو توتر الأعصاب ..لا ..لا ...لا ..
_ لا تقطع الشارع ..إنتبه أيها السكّير الأخرق ..الإشارة حمراء ..!
صاح أحدهم ..محاولاً الإمساك به ...............لكن بعد فوات الأوان ..!!
تعليق