ملحوظة:
لمن لم يتابع معنا بداية رحلتنا في فك لغز لوحة "الفلاسفة الثالثة"/ Three philosophers، المرجو الإطلاع على بعض مداخلات الأساتذة الذين شاركونا اهتمامهم في متصفح الألغاز (من هنا).
بالنسبة للأساتذة المتابعين، خصصت لنقاش اللوحة صفحة خاصة هنا لسببين: 1. كي يستقل الموضوع المتشعب و لا نزعج معنا من يتابع فقرات الألغاز هناك؛ 2. من أجل أن يشاركنا في سبر أغوار اللوحة من لديهم دراية و إلمام بميدان الفن التشكيلي عامة و الفلسفة الرشدية/الأرسطية خاصة.
نواصل، ونذكر أن اللوحة هي من إبداع الفنان الإيطالي Giorgione بطلب من أحد نبلاء و كبار تجار البندقية يدعى Taddeo Contarini. رسمها سنة واحدة قبل وفاته مابين 1508-1509 أي في بداية عصر النهضة الأوروبية و اسم اللوحة الفني: Three philosophers نسبة إلى الشخصيات الثلاث التي تدور حولها أحداث القصة/اللغز. و هي اليوم ملك لمتحف فيينا.
منذ ذلك العهد و إلى اليوم، لازالت شخصية الفلاسفة الثلاثة (من؟ و لماذا؟) تشكل لغزا عالقا صدع رؤوس كبار المختصين في الميدان؛ السبب الذي جعل العديد منهم يصف اللوحة كواحدة من بين أعقد و أغرب لوحات عصر النهضة الذهبي على الإطلاق.
وإذا كان لغز الشخصيات الثلاث عالقا، فإن السبب ربما يرجع إلى وجود شخصية مركزية تحتل مكانا استراتيجيا داخل الإطار العام للوحة، ألا وهي شخصية "صاحب العمامة" أو ما يطلق عليه في الأوساط المختصة لقب The Moor of Three philosophers في تعبير إيحائي يشير إلى Othello : The Moor of Venice شخصية مسرحية شيكسبير المعروفة.
نواصل إذن.
اليوم، سوف أحاول باقتضاب و اختزال، أن أسلط الضوء على جانب "شبه مظلم" من لوحة "الفلاسفة الثلاثة" يكاد لا يلفت الانتباه من أول وهلة مع أنه ـ بحسب رأيي ـ عنصر في كامل الأهمية سيساعدنا على اقتحام عالم اللوحة الغامض ويفتح لنا بعض النوافذ نستشف من خلالها بعض ما أراد الفنان العبقري Giorgione أن يوصل إلينا من مفاهيم فلسفية عميقة.
أدعو القاريء الكريم أن يضع اللوحة نصب عينيه و يركز بشكل دقيق على الشخصيتين الواقفتين (وسنعود فيما بعد للشاب القاعد شمالا). اعمل zoom على اللوحة أو أنظر الصورة التي رفعتها من مكتبي و عليها علامة تشير إلى موطن التركيز.
Giorgione-Detail.jpg
كما يُلاحظ، فإن وضعية الشخصيتين من خلال طريقة رسم القدمين (اليسرى عند العجوز و اليمنى عند الكهل) تشير إلى "الحركة" و هي نقيض الركوض. التقنية تسمى Contrapposto و مصدرها الأساس هو فن النحت الإغريقي القديم جدا، بحيث أنها تشكل أبرز تقنية النحت التي جاء بها الفنانون التشكيليون الإغريق حوالي 500 سنة قبل الميلاد (الفترة الكلاسيكية) كمرحلة انتقالية تفصل الفن الإغريقي عن فترة (Archaic Greece) التي كان فيها الفنانون الإغريق يسيرون ـ بشكل تقليدي صرف mimesis ـ على خطى الفن المصري الضارب في القدم. و من أبرز النماذج التي تجسد تقنية Contrapposto ـ ولو لم تكن وحدها ـ نذكر أعمال النحات الإغريقي Polyclete وتمثاله المشهور Doryphore الذي يرجع تاريخ إنجازه إلى سنة 480 قبل الميلاد.
تقنية Contrapposto كان لها بالغ التأثير على مجموعة من الأعمال التشكيلية منذ ذلك الحين لكنها طرحت جانبا إلى أن أعاد الاهتمام بها مجموعة أخرى من الرسامين الإيطاليين عند بزوغ أول شعاع النهضة الأوروبية.
فباعتماد الرسام الإيطالي Giorgione تقنية Contrapposto خاصة في تجسيد "حركية" الشخصيتين البارزتين في اللوحة، بالإضافة إلى كونهما "يتحادثان" حول موضوع ما، جعلني أنسج بعض النظريات الشخصية حول لغز ـ على الأقل ـ الشخصيتين معاً : من هما و فيم تفيد حركية المشهد؟
نواصل بعد حين.
م.ش.
تعليق