ضائعٌ بين أقرانه

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • مصباح فوزي رشيد
    يكتب
    • 08-06-2015
    • 1272

    #31
    الحيّ الذي فتحتُ عينيّ وترعرتُ فيه بيوته الأرضيّة هشّة، معظمها من الطّين، مستقبلة للقبلة، متوسّطة طريقي سكّة القطار الحديدية والطّريق الوطني المعبّد رقم (16).
    باستثناء بعض العائلات الدّخيلة، يكاد يكون كلّ سكّان الحي من قبيلة واحدة هي قبيلة: "أولاد سباع"، لمـْحاتلَة الشّاوية، المشهورين بعصبيّتهم. لكن ذلك لا ينقص من مروءتهم وكرمهم شيئا.
    هذا الحيّ الذي كنا نسكنه يعدّ بمثابة عالم مستقلّ بذاته، غنيّ بأحداثه وشخصياته. يبدأ ببيت (سي مسعود) الطّالب، معلم قرآن مشهود له بذلك، وشيخ طاعن في السِّنّ؛ لا تزال صورته أمامي وهو يحتضر؛ حين كنّا صغارا لم يكن يُسمح لنا برؤية الموتى ساعة الاحتضار، فكنا نتبادل خبر الموت حتى جاءت لحظة احتضار العم المسكين (سي مسعود)، فتتسلّلنا إلى بيته المقابل للطّريق، نسترق النّظر إليه من الخارج، وكان من حوله "طُلبة" مجموعة من المشايخ يمسكون بتلابيبه، ويقرأون عليه القرآن وهو يتقلّى يمنة ويسرة. وبقي على تلك الحال "يتعزّر" طيلة أسبوع.
    ثم نعرّج على عمّي (الحسين) نرصد تحرّكاته في الجانب الآخر من السكّة نقلّده وهو ينادي أحد ابنائه؛ يا (حُميّة)ها، وأحيانا يا(مُيّة)ها، لمنع البقرة من تطرّفها إلى حقول القمح والشّعير التّابعة لأحد الخواص، و(حُميّة) لاه في خصام مع مجموعة من "القمارجية" لا يعيره اهتماما.
    و أسفل الشّايب (حسين) كوخ العم (سعيدْ) شيخ هرّمه الدّهر والعوز، زوجته عوْكل، ابنتهما الكبرى بائرة وولدهما بليد. الكوخ المهترئ لا يوجد به سوى مكان للنّوم ينعدم من التّهوية، أو مربض لحمار أحنف. كنتُ أنا وأحد أبناء عمّتي نتحيّن فرصة غياب أفراد العائلة، فنقوم بخلع باب الكوخ ونبحث عن موضع الأواني لسرقة حفنة من السكّر ثم نلوذ بالفرار، مستغلّين في ذلك صلة القرابة التي تجمعنا بهذه العائلة المعوزّة. وبالرّغم من الفقر والعوز اللّذين خيّما على البيت وأهل البيت، تجدنا فرحين مسرورين أيّما فرح وأيّما سرور بهذا الفعل الشّنيع.
    لكن الأمر يختلف مع جارنا ( النّوري)، والذي لم نكن نستطيع مجرّد الاقتراب من باب بيته لأنّ الشايب (النّوري) من "الحنانشة"، ولا ينتمي إلى قبيلتنا، ولا تربطنا به أيّة صلة. غير أن ذلك لم يكن يشكّل عقبة أمام صحبتنا لبنيه، لأنّنا لم نكن في ذلك الوقت تعترف بالفوارق الاجتماعية ولا بالانتماءات القبَلية.
    الأمر ذاته تقريبا مع العجوز العم(موسى) المكنّى "بموسى بودجاج"، ذي الأصول الغجرية التي تعود إلى منطقة "المسيلة". وهو شيخ طاعن في السِّنّ، له بنتان ولم يُزرق بلود. فأمّا البنت الكبرى فكانت محجوبة؛ بمعنى ممنوعة من الخروج لأنّها بلغت مرحلة النّضج و البلوغ، وهوما كانت تقتضيه الأصول حينها. وأمّا أختها الصّغرى فكانت تفوقني بسنة أو أكثر، ومع ذلك كانت تربطني بها علاقة، ومجرّد صداقة بريئة، ثم مع الوقت تطوّرت إلى أشياء حميميّة.كذا كان الحال مع بقية الجيران.
    وأذكر أنّني حين لا أجد ما أفعله، أقوم بجمع الحصى من أمام البيت، وأحملها إلى الداخل ثم ارميها من فناء بيتنا الواسع على بيوت الجيران، و أنتظر ريثما يحصل هناك نزاع ويعلو الصّراخ وترتفع الأصوات، فأخرج للفرجة و الاستمتاع.

    تبع …/…
    التعديل الأخير تم بواسطة مصباح فوزي رشيد; الساعة 22-09-2021, 09:04.
    لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ

    تعليق

    • الهويمل أبو فهد
      مستشار أدبي
      • 22-07-2011
      • 1475

      #32
      من بيت الأسرة أوالأخوال الصغير ينتقل المشهد ويتسع ليحيط بالحي، وإشارة من
      الطريق الوطني المعبد رقم (16) وسكة القطار نستطيع ربط الحي والمنطقة بفضاء
      أكبر وأرحب. كما تتسع الأسرة إلى قبيلة يتخللها بعض الغرباء على هذه الأسرة الكبيرة.
      من خلال بطلنا نرى المشهد ونراه بأفعاله ضمن المشهد. المشهد متهالك على الأقل في
      ما أتاحه لنا من نظر ووصف. لا زالت أفعال بطلنا (حتى هذه اللحظة لا نعرف اسمه)
      صبيانية فيها الكثير من شيطنة الصبيان. فهو حين لا ينشغل باللهو أو "بطريحة"
      يرجم بيوت الجيران بالحصى حتى تقوم قائمتهم ليخرج مدعيا البراءة ويحصل على
      فرجة مجانية من اخراجه وإنشائه. فهو في هذا السن (والذي لم يخبرنا عنه) عامل
      نشط في حركة الحي ومشاكله.

      في هذا السن وفي هذا الحي لم يتبع طريق الشيطنة وحسب بل خبر لحظة ربما لم
      يخبرها الكثيرون ممن هم أكبر منه بعقود، لحظة موت (سي مسعود) التي دامت
      أسبوعا كاملا. وينتقل إلى صورة "حمية" اللاهي بلعب القمار عن حماية مزارع
      القمح من بقرتهم! لا بد أن هذا الحي عجيبا بشيبه وشبابه. شيطنة الراوي مستمرة
      سواء برميه الجيران بالحجارة أو بخلع الأبواب وسرقة السكر.

      لا أظن الحال تختلف مع الصبيان في الأحياء الريفية في تلك الحقبة الزمنية في العالم
      العربي. وفي هذا الفصل عرض لنا الراوي مشهدا انثروبولوجيا عن قطعة من مجتمع
      قبلي على حافة التمدن. وما الطريق المعبد وسكة القطار الا سبل اتصال بمناطق أخرى
      ستؤثر مع الزمن على هذه البيئة شبه المعزولة.

      تعليق

      • مصباح فوزي رشيد
        يكتب
        • 08-06-2015
        • 1272

        #33
        المشاركة الأصلية بواسطة الهويمل أبو فهد مشاهدة المشاركة
        من بيت الأسرة أوالأخوال الصغير ينتقل المشهد ويتسع ليحيط بالحي، وإشارة من
        الطريق الوطني المعبد رقم (16) وسكة القطار نستطيع ربط الحي والمنطقة بفضاء
        أكبر وأرحب. كما تتسع الأسرة إلى قبيلة يتخللها بعض الغرباء على هذه الأسرة الكبيرة.
        من خلال بطلنا نرى المشهد ونراه بأفعاله ضمن المشهد. المشهد متهالك على الأقل في
        ما أتاحه لنا من نظر ووصف. لا زالت أفعال بطلنا (حتى هذه اللحظة لا نعرف اسمه)
        صبيانية فيها الكثير من شيطنة الصبيان. فهو حين لا ينشغل باللهو أو "بطريحة"
        يرجم بيوت الجيران بالحصى حتى تقوم قائمتهم ليخرج مدعيا البراءة ويحصل على
        فرجة مجانية من اخراجه وإنشائه. فهو في هذا السن (والذي لم يخبرنا عنه) عامل
        نشط في حركة الحي ومشاكله.

        في هذا السن وفي هذا الحي لم يتبع طريق الشيطنة وحسب بل خبر لحظة ربما لم
        يخبرها الكثيرون ممن هم أكبر منه بعقود، لحظة موت (سي مسعود) التي دامت
        أسبوعا كاملا. وينتقل إلى صورة "حمية" اللاهي بلعب القمار عن حماية مزارع
        القمح من بقرتهم! لا بد أن هذا الحي عجيبا بشيبه وشبابه. شيطنة الراوي مستمرة
        سواء برميه الجيران بالحجارة أو بخلع الأبواي وسرقة السكر.

        لا أظن الحال تختلف مع الصبيان في الأحياء الريفية في تلك الحقبة الزمنية في العالم
        العربي. وفي هذا الفصل عرض لنا الراوي مشهدا انثروبولوجيا عن قطعة من مجتمع
        قبلي على حافة التمدن. وما الطريق المعبد وسكة القطار الا سبل اتصال بمناطق أخرى
        ستؤثر مع الزمن على هذه البيئة شبه المعزولة.

        مع هذا الاهتمام والرّغبة في التحليل الموضوعي المفيد سيكون ذلك مشجّعا ومحفّزا لإعطاء المزيد.
        دمت لنا ناقدا ومشجّعا.
        أشكرك جزيل الشكر على هذه القراءة الجيّدة والنّقد المفيد.
        التعديل الأخير تم بواسطة مصباح فوزي رشيد; الساعة 21-09-2021, 18:34.
        لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ

        تعليق

        • مصباح فوزي رشيد
          يكتب
          • 08-06-2015
          • 1272

          #34
          بمرور الوقت أخذتْ تظهر أعراض التهتّك والتحلّل الخُلُقي على صاحبنا، ولا من يأخذ بيده؛ كيف وهو الابن الوحيد لرجل سلبتْ منه وظيفته أغلى ما عنده، عائلته الصّغيرة وابنه الذي بدأ يضيع.
          بلغ بي الأمر أنّني كنتُ أعترض كل من يمرّ أمام بيتنا، خاصّة أقراني، ومن هم أكبر منّي بقليل، فينالون نصيبهم من السبّ والشّتم والضّرب أحيانا. وأمّا الشيوخ الكبار والمرضى وأصحاب العاهات، فكنتُ أسخر منهم ومن مشيتهم وطريقة كلامهم.
          وفي المساء يجتمع النّسوة في الحوش الكبير؛ زوجة عمّي وبناتها الصبايا وعلى رأسهن والدتي - غفر الله لها و لي -، ثم يندهن على ابنة عمّتي، يتيمة الأم، الحاضنة لأخويها الصّغيرين بعد فقدانهم جميعا نبع حنانهم، وكانت تسكن أمامنا بكوخ مهترئ محاذٍ لسكّة القطار. ويُلحِحن عليها في الطلب، فتأتي على استحياء، لتفضفض وتروّح قليلا عن نفسها في انتظار انتقالها إلى بيت الزّوجية؛ ولأنّها كانت مخطوبة من ابن خالها الأكبر؛ ابن عمّي (الحاج) الذي يسكن في البادية.
          فأقوم بدور المهرّج، وأعيد عليهن المشاهد كلّها، وأضيف أحيانا أشياء من عندي. فتغمرهن نشوة وسعادة، و كان ذلك يسرُّ أمّي ويشعرها بالغِبطة والرّضا؛ ما شجّعني على الاستمرار فيه، فغدوتُ مدمنًا على هذا السّلوك المشين.
          وتوسّعتِ الدّائرة الضيّقة لتضمّ أخوالي في البادية هذه المرّة، والذين بلغ بهم أن أصابهم ما أصاب النّسوة، ممّا كنتُ أقوم به من تهريج بالمجّان. فصاروا يهملون الماشية ويحرصون كل الحرص على العودة بها قبل الوقت المحدّد، حتّى لا يفوّتوا على أنفسهم فصلا من فصول "كوميديا" كنتُ قد برعتُ فيها عن جدارة واستحقاق، كما برعتُ في اقتراف كل الآثام والذّنوب عن أصحابها. وتخاذل الأخوال، وفتَرتْ همّتهم، وزهدوا فيما كان لديهم من قليل الماشية، على الرّغم من أنّها كانت تمثّل المصدر الوحيد لكسب قوتهم ولقمة عيشهم.
          كنّا في ليالي الشّتاء القاسية نحشر أنفسنا في "النَّوَالَةُ"*، في جو الكوخ الضيّق الخانق. والجدّة أمام المدخنة تنفخ في النّار تارة، وتقوم بفرك "لوقيد"* بـ آلة "الفركان"* تارة أخرى، لتعدّ لنا طبق الطّعام المكوّن من الكُسكُسي والحليب السّاخن. وأمّا في الصّيف فنخرج إلى "الطّحطاح"* الذي لا يبعد كثيرا عن زريبة المواشي، وهذا بعد تناول الكُسكُس بالسُّكَّر واللّبن، للاستمرار في مسلسل "الضّلال والتهريج" الذي برعتُ فيه. ونختم كل ذلك بالهُزْء والتنكيت.
          .................................................. .......
          * النّوالة: كوخ صغير من الطّين وأغصان الأشجار. يضرب المثل بها في قولهم: "ظريف الجبالة جاء يشعل القنديل وحرق النوالة". وهناك ما يُدعى بعيد "النّوالة" عند اليهود، أي عيد الأكواخ.
          * لوقيد: الوقيد والوقود: مزيج من أعواد الخشب وروث الحيوانات اليابس.
          * الفركان: أداة من الفولاذ في شكل عصا ملتوية لا تتجاوز المتر تُستعمل لتفريك الوقيد في المداخن التقليدية أو القديمة.
          * الطّحطاح: ساحة البيت.
          يتبع …/…


          التعديل الأخير تم بواسطة مصباح فوزي رشيد; الساعة 24-09-2021, 15:03.
          لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ

          تعليق

          • الهويمل أبو فهد
            مستشار أدبي
            • 22-07-2011
            • 1475

            #35
            جملة افتتاح الفصل جملة توجيهية للقارئ وللراوي معا:

            بمرور الوقت أخذتْ تظهر أعراض التهتّك والتحلّل الخُلُقي على صاحبنا، ولا
            من يأخذ بيده؛ كيف وهو الابن الوحيد لرجل سلبتْ منه وظيفته أغلى ما عنده،
            عائلته الصّغيرة وابنه الذي بدأ يضيع.)

            هذا توجيه بأن زمنا قد مضى وفيها أيضا نظرة من زمن الروايه الحالي (اليوم).

            فالراوي استبعد نفسه من ضمير المتكلم إلى الشخص الغائب (صاحبنا)، وهذه حالة
            جديدة لم يعتدها القارئ. هذا الاستبعاد كأنه اعلان براءة مما كان يفعله طفلا.
            ثم يعود إلى الوقت/ زمن الأحداث نفسها ليتقمص دور (الحكواتي) وهو الدور الذي
            يقوم به اليوم أيضا في تدوين حصصه على صفحة (منتدى الأدباء والمبدعين العرب).
            فمغامراته اليومية في الزمن الماضي كان يرويها لأفراد أسرته في حينه وكأنها كانت
            مسلسلا تنتظره الأسرة مثلما هي اليوم مسلسلة على فصول.

            طبعا كان وضعها في زمنها يختلف عن وضعها اليوم. في ذلك الزمن كان الراوي طفلا يروي
            لأسرته ولا شك أنه كان يزيد و ينقص حتى يحصل على القبول من أفرد الأسرة وأن يكون
            محط اهتمامهم. وكان ناجحا حسب ما يخبرنا. اليوم كم نصدق مما يقوله؟ خاصة أن الزمن
            بين تلك الحقبة واليوم طويلة، والحياة الشخصية أسرار، وجمهوره غرباء ومجهولون؟ السيرة

            الذاتية تظل أبدا "قصة" بل قصص وللخيال فيها الدور الأول والأخير.
            في لحظة نشوة نجاحه كتب:
            (وتوسّعتِ الدّائرة الضيّقة لتضمّ أخوالي في البادية هذه المرّة، والذين بلغ بهم أن أصابهم
            ما أصاب النّسوة، ممّا كنتُ أقوم به من تهريج بالمجّان. فصاروا يهملون الماشية ويحرصون
            كل الحرص على العودة بها قبل الوقت المحدّد، حتّى لا يفوّتوا على أنفسهم فصلا من فصول
            "كوميديا" كنتُ قد برعتُ فيها عن جدارة واستحقاق، كما برعتُ في اقتراف كل الآثام والذّنوب
            عن أصحابها. وتخاذل الأخوال، وفتَرتْ همّتهم، وزهدوا فيما كان لديهم من قليل الماشية، على
            الرّغم من أنّها كانت تمثّل المصدر الوحيد لكسب قوتهم ولقمة عيشهم.)


            هذه مبالغة تتسق مع ما عرفناه عن الراوي في هذا الفصل. كما أننا لا نعلم عن ما هي ماشية أخواله؟
            لكن من يعرف العناية بالماشية يعلم أنه بعد غياب الشمس من الخير للماشية أن تعود إلى حظيرتها. ثم إن تلك
            الفترة (1960-1970) كانت (لمن عاشها) فترة قحط ومحل، قضت على الماشية في معظم بلدان العالم العربي،
            ولا فرق بين أن يعود الرعاة قبل الغروب أو بعده. لكن الراوي يسوق نفسه ويؤسس لمغامراته ومدى تأثيرها.

            تعليق

            • مصباح فوزي رشيد
              يكتب
              • 08-06-2015
              • 1272

              #36
              المشاركة الأصلية بواسطة الهويمل أبو فهد مشاهدة المشاركة
              جملة افتتاح الفصل جملة توجيهية للقارئ وللراوي معا:

              بمرور الوقت أخذتْ تظهر أعراض التهتّك والتحلّل الخُلُقي على صاحبنا، ولا
              من يأخذ بيده؛ كيف وهو الابن الوحيد لرجل سلبتْ منه وظيفته أغلى ما عنده،
              عائلته الصّغيرة وابنه الذي بدأ يضيع.)

              هذا توجيه بأن زمنا قد مضى وفيها أيضا نظرة من زمن الروايه الحالي (اليوم).

              فالراوي استبعد نفسه من ضمير المتكلم إلى الشخص الغائب (صاحبنا)، وهذه حالة
              جديدة لم يعتدها القارئ. هذا الاستبعاد كأنه اعلان براءة مما كان يفعله طفلا.
              ثم يعود إلى الوقت/ زمن الأحداث نفسها ليتقمص دور (الحكواتي) وهو الدور الذي
              يقوم به اليوم أيضا في تدوين حصصه على صفحة (منتدى الأدباء والمبدعين العرب).
              فمغامراته اليومية في الزمن الماضي كان يرويها لأفراد أسرته في حينه وكأنها كانت
              مسلسلا تنتظره الأسرة مثلما هي اليوم مسلسلة على فصول.

              طبعا كان وضعها في زمنها يختلف عن وضعها اليوم. في ذلك الزمن كان الراوي طفلا يروي
              لأسرته ولا شك أنه كان يزيد و ينقص حتى يحصل على القبول من أفرد الأسرة وأن يكون
              محط اهتمامهم. وكان ناجحا حسب ما يخبرنا. اليوم كم نصدق مما يقوله؟ خاصة أن الزمن
              بين تلك الحقبة واليوم طويلة، والحياة الشخصية أسرار، وجمهوره غرباء ومجهولون؟ السيرة

              الذاتية تظل أبدا "قصة" بل قصص وللخيال فيها الدور الأول والأخير.
              في لحظة نشوة نجاحه كتب:
              (وتوسّعتِ الدّائرة الضيّقة لتضمّ أخوالي في البادية هذه المرّة، والذين بلغ بهم أن أصابهم
              ما أصاب النّسوة، ممّا كنتُ أقوم به من تهريج بالمجّان. فصاروا يهملون الماشية ويحرصون
              كل الحرص على العودة بها قبل الوقت المحدّد، حتّى لا يفوّتوا على أنفسهم فصلا من فصول
              "كوميديا" كنتُ قد برعتُ فيها عن جدارة واستحقاق، كما برعتُ في اقتراف كل الآثام والذّنوب
              عن أصحابها. وتخاذل الأخوال، وفتَرتْ همّتهم، وزهدوا فيما كان لديهم من قليل الماشية، على
              الرّغم من أنّها كانت تمثّل المصدر الوحيد لكسب قوتهم ولقمة عيشهم.)


              هذه مبالغة تتسق مع ما عرفناه عن الراوي في هذا الفصل. كما أننا لا نعلم عن ما هي ماشية أخواله؟
              لكن من يعرف العناية بالماشية يعلم أنه بعد غياب الشمس من الخير للماشية أن تعود إلى حظيرتها. ثم إن تلك
              الفترة (1960-1970) كانت (لمن عاشها) فترة قحط ومحل، قضت على الماشية في معظم بلدان العالم العربي،
              ولا فرق بين أن يعود الرعاة قبل الغروب أو بعده. لكن الراوي يسوق نفسه ويؤسس لمغامراته ومدى تأثيرها.
              لك مني كل الثناء والتقدير على ما تبذله من جهد لا يضاهيه ثمن.
              [السيرة الذاتية تظل أبدا "قصة" بل قصص وللخيال فيها الدور الأول والأخير.] وهو كذلك. دمت بصحّة وعافية أستاذنا الحبيب الغالي.
              التعديل الأخير تم بواسطة مصباح فوزي رشيد; الساعة 24-09-2021, 14:36.
              لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ

              تعليق

              • مصباح فوزي رشيد
                يكتب
                • 08-06-2015
                • 1272

                #37
                لماذا لم ينتبه الولد لنفسه؟ أ لأنّ الحيلة لم تعرف الطّريق إلى عقله الصّغير، ولا إلى قلبه الطّيّب؟ أم أن العالم الذي كان من حوله كان يبحث عن الترفيه و لا يريد تكدير براءة الولد بالواقع المرير؟ وبالتّالي فهو يتعامل معه برفق وحذر شديدين، ويشفق عليه أحيانا حتى لا يتسبّب في كسر خاطره.
                الآن وبعدما تجرّعتُ مرارة العيش، وشربتُ من جميع الكؤوس تقريبا، صرتُ أدركُ جيّدا معنى البراءة؛ البراءة أكبر كذبة عرفها الإنسان في حياته. والبراءة قد تكون سذاجة. فالواجب أن يكون الإنسان مخلصا و نزيها، لا يكذب ولايغشّ ولا يخدع. لكن في المقابل يجب ألّـا ينخدع وألّـا يضيع بسبب سذاجة أو ثقة مفرطة بالآخرين. وبالتّالي فلا مجال لاستخدام هذه البراءة ، سوى أن تكون مفعولا بك؟
                الطفل لوحة بريئة، لكنها تعكس أحيانا صورة مجتمع انتهازي خبيث لا يوجد في قواميسه شيء اسمه "البراءة". والمجتمع في حد ذاته كلمة "هلامية" قد تدلّ على أفراد متشاكسين.
                يجب أن تعي وتفهم أن هناك نوعين من المجتمع؛ مجتمع ضيّق، وآخر عريض وواسع. فأما الضيّق فيتشكّل من الأسرة الصّغيرة والكبيرة، الأب والام والخال والعم والجد والأقارب... ولهؤلاء تأثير مباشر على الأبناء. وأمّا الواسع فيمثّل، بالإضافة إلى الأسرة الكبيرة والصّغيرة بما في ذلك الأقارب، المحيط الواسع الذي نعيش فيه، وبما فيه من وسائل وأشخاص نحتكّ بهم؛ كالجار الجُنُب، والمعلّم الذي في المدرسة، والتّاجر الذي نتعامل معه، والإمام الواعظ، ورفيق الدّرب، والصّاحب وما أدراك مالصّاحب، الصّاحب "ساحب"، ووسائل الإعلام المسموعة والمرئية التي تخضع لقانون العرض والطلب.
                كأنّك تريد أن تقول إن الولد فاشل؟ والنّجاح ضربة حظّ، وخيرات هذا العالم هي "يانصيب" حقيقي؛ وانظر إلى هؤلاء الذين نسمّيهم "النّجوم" من الممثّلين والممثّلات واللاّعبين واللاّعبات والعابثين و العابثات، وحتّى العاهرين والعاهرات؛ وليست الأنثى وحدها التي لا تليق بل هناك نسوة أفضل من الذكور الذين يسمّون أنفسهم مجازا بالرّجال؛ والعكس صحيح: و[يَا رُبَّ كَاسِيَةٍ في الدُّنْيَا عَارِيَةٍ يَوْمَ القِيامَةِ]. لكن التنشئة الحسنة هي أفضل وسيلة كفاح في هذه الحياة. لكنّنا في هذا الزّمن نبجّل المال والجمال على التنشئة الحسنة والأخلاق الحميدة؟!.
                ليته كان يدرك هذه الأشياء!
                لكن الولد وجد أمامه التّقبيل والتّطبيل، ولم يجد وقتا لمراجعة نفسه. ولم يحظ برعاية وتنشئة حسنة على نهج السلف الصّالح.

                السّلف الصّالح! - هههه- تتكلّم عن " السّلف الصّالح " في ظلّ هذه الخلاعة وهذا المجون الذي تسمّونه "المينستريم"؟! وفي ظلّ العولمة الخبيثة التي فرضت نفسها على الأديان!؟
                كانت هناك فرصة حقيقيّة؛ حين كان المجتمع الواسع في بداية عهده بالحريّة. وكان بإمكان هذا المجتمع أن يكون أفضل ممّا هو عليه الآن. لكن الانتهازيين لم يتركوا له أيّة فرصة. و استنسخوا فيه الرّداءة التي كانوا يستوردونها بالعملة الصّعبة. لذلك لا تقسو على المجتمع الواسع والعريض، ولا حتّى على الضيّق؛ لأنّ والدك لم يكن بذاك المثقّف الكبير. ولم تكن والدتك سوى تلك البدوية المغبونة التي لم تنل حقّها في التربية والتثقيف والتعليم، في زمن مارس فيه المحتل الغاشم سياسات التّفقير والتّهميش والتّجهيل.
                يعلم الله كم بتُّ أحقد على هذا المحتل الصّليبي الغاشم، وعلى كل ما له علاقة بفرنسا "الصهيو-مسيحية"، وكرهتُ حتّى أن أتكلّم لغتها التي يحاول بعض "المتحذلقين" الإدّعاء بأنّها لغة الرّومنسية والجمال، وعلى أدب الخلاعة والمجون، وعلى كل مثقّف وأديب خائن لدينه وأمّته.
                يتبع …/…
                التعديل الأخير تم بواسطة مصباح فوزي رشيد; الساعة 25-09-2021, 10:06.
                لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ

                تعليق

                • الهويمل أبو فهد
                  مستشار أدبي
                  • 22-07-2011
                  • 1475

                  #38
                  في هذه الحصة تحول التوجيه من مجرد وصف ابتدائي إلى حنق وثورة على الغير. وكذلك
                  استمر الاستبعاد بين المتكلم والشخص الغائب:
                  لماذا لم ينتبه الولد لنفسه؟ أ لأنّ الحيلة لم تعرف الطّريق إلى عقله الصّغير، ولا إلى قلبه الطّيّب؟
                  أم أن العالم الذي كان من حوله كان يبحث عن الترفيه و لا يريد تكدير براءة الولد بالواقع المرير؟
                  وبالتّالي فهو يتعامل معه برفق وحذر شديدين، ويشفق عليه أحيانا حتى لا يتسبّب في كسر خاطره.


                  كل عبارة الافتتاح تهيئة لما بعدها وهي تكملة لما سبق أن دونه في الفصل السابق من أمر تسيّب الرعاة
                  الذين لا يبالون بأمر ما شيتهم بقدر ما ينصب اهتمامهم على الحضور قبل أن يبدأ الراوي مساءً بسرد
                  مغامرته اليومية. كما كانت تهيئة للوم الكبار وإهمالهم أمر تربية الطفل تربية مناسبة، وهو لوم ينتقل من
                  الدائرة الضيقة إلى التنكر للمفاهيم والقيم العامة كالبراءة والتكليف والمسئولية.

                  متى يدرك المرؤ مثل هذه القضايا؟ أكيد أن الراوي يكتب اللحظة الآنية (لحظة الرشد وتجارب الحياة).
                  ولما لم يك ممكنا أن يعي الطفل قضايا الحياة الكبرى كان على محيطه الصغير والكبير أن يعتني به ويهيئه
                  لقادم شبابه ومرحلة النضج. مفاهيم الفشل والنجاح كان على الطفل أن يتعرض لها باكرا. غير أن
                  الفرصة مضت وقضت. يقول (لكن الولد وجد أمامه التّقبيل والتّطبيل، ولم يجد وقتا لمراجعة نفسه.
                  ولم يحظ برعاية وتنشئة حسنة على نهج السلف الصّالح.) مثل هذا التسبيب استدراك متأخر وغير واقعي.
                  الطفل طفل وغير مكلف شرعا وقانونا. لكن الراوي (إن كان ذلك الطفل) يبحث عن مبرر أو سبب يعلق
                  عليه عوامل فشله أو خيبات أمله. لهذا نجده يقول (لكن الولد وجد أمامه التّقبيل والتّطبيل، ولم يجد وقتا
                  لمراجعة نفسه. ولم يحظ برعاية وتنشئة حسنة على نهج السلف الصّالح
                  ). كأنه يوحي بأن الطفل استمر طفلا
                  حتى في مرحلة النضج والمسؤولية؟

                  والحق أن هذا الفصل جاء فجأة ومبكرا جدا في سيرة ذاتية لم يتجاوز
                  الطفل فيها العاشرة؟. وحين قرأته
                  تساءلت عن سبب الاستعجال هذا؟ والانطباع الأولي (على ما نعرفه عن هذا الطفل من شيطنة) كان
                  عنوان رواية نجيب محفوظ (الشيطان يعظ)!!


                  تعليق

                  • مصباح فوزي رشيد
                    يكتب
                    • 08-06-2015
                    • 1272

                    #39
                    المشاركة الأصلية بواسطة الهويمل أبو فهد مشاهدة المشاركة
                    في هذه الحصة تحول التوجيه من مجرد وصف ابتدائي إلى حنق وثورة على الغير. وكذلك
                    استمر الاستبعاد بين المتكلم والشخص الغائب:
                    لماذا لم ينتبه الولد لنفسه؟ أ لأنّ الحيلة لم تعرف الطّريق إلى عقله الصّغير، ولا إلى قلبه الطّيّب؟
                    أم أن العالم الذي كان من حوله كان يبحث عن الترفيه و لا يريد تكدير براءة الولد بالواقع المرير؟
                    وبالتّالي فهو يتعامل معه برفق وحذر شديدين، ويشفق عليه أحيانا حتى لا يتسبّب في كسر خاطره.


                    كل عبارة الافتتاح تهيئة لما بعدها وهي تكملة لما سبق أن دونه في الفصل السابق من أمر تسيّب الرعاة
                    الذين لا يبالون بأمر ما شيتهم بقدر ما ينصب اهتمامهم على الحضور قبل أن يبدأ الراوي مساءً بسرد
                    مغامرته اليومية. كما كانت تهيئة للوم الكبار وإهمالهم أمر تربية الطفل تربية مناسبة، وهو لوم ينتقل من
                    الدائرة الضيقة إلى التنكر للمفاهيم والقيم العامة كالبراءة والتكليف والمسئولية.

                    متى يدرك المرؤ مثل هذه القضايا؟ أكيد أن الراوي يكتب اللحظة الآنية (لحظة الرشد وتجارب الحياة).
                    ولما لم يك ممكنا أن يعي الطفل قضايا الحياة الكبرى كان على محيطه الصغير والكبير أن يعتني به ويهيئه
                    لقادم شبابه ومرحلة النضج. مفاهيم الفشل والنجاح كان على الطفل أن يتعرض لها باكرا. غي أن
                    الفرصة مضت وقضت. يقول (لكن الولد وجد أمامه التّقبيل والتّطبيل، ولم يجد وقتا لمراجعة نفسه.
                    ولم يحظ برعاية وتنشئة حسنة على نهج السلف الصّالح.) مثل هذا التسبيب استدراك متأخر وغير واقعي.
                    الطفل طفل وغير مكلف شرعا وقانونا. لكن الراوي (إن كان ذلك الطفل) يبحث عن مبرر أو سبب يعلق
                    عليه عوامل فشله أو خيبات أمله. لهذا نجده يقول (لكن الولد وجد أمامه التّقبيل والتّطبيل، ولم يجد وقتا
                    لمراجعة نفسه. ولم يحظ برعاية وتنشئة حسنة على نهج السلف الصّالح
                    ). كأنه يوحي بأن الطفل استمر طفلا
                    حتى في مرحلة النضج والمسؤولية؟

                    والحق أن هذا الفصل جاء فجأة ومبكرا جدا في سيرة ذاتية لم يتجاوز
                    الطفل فيها العاشرة؟. وحين قرأته
                    تساءلت عن سبب الاستعجال هذا؟ والانطباع الأولي (على ما نعرفه عن هذا الطفل من شيطنة) كان
                    عنوان رواية نجيب محفوظ (الشيطان يعظ)!!


                    لديك حق أستاذنا الحبيب؛ لقد بدأ الملل يتسلّل إلى نفسي.
                    سأحاول تجاوز هذه العقبة ومواصلة ما بدأته.
                    شكرا على حضورك الكريم وعلى هذا التشجيع المتواصل.
                    أتمنّى أن أكون عند حسن الظّنّ بي.
                    أراك بخير إن شاء الله.
                    التعديل الأخير تم بواسطة مصباح فوزي رشيد; الساعة 26-09-2021, 09:27.
                    لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ

                    تعليق

                    • مصباح فوزي رشيد
                      يكتب
                      • 08-06-2015
                      • 1272

                      #40
                      - ينهض جدّي (والد أمّي)كلّ يوم قبل طلوع الشّمس، يتفقّد الماشية، ويلقي نظرة على نادر، أو نادري أو نوادر، القرط والتّبن؛ حسب العام. يوقظ الأخوال استعدادا ليوم لا يختلف كثيرا عن سائر الأيام في التّناوب على "السّرحة" يقومون فيه بإخراج الماشية المتكوّنة من بقرة و بقرتين وعدد قليل من رؤوس الماعز والأغنام، من الزّريبة لترعى بعيدا عن الدّيار كون الحقول المجاورة لهم ملكا للغير.
                      ينده الجد على الجدّة فتعدّ له طبقه المفضّل: "عصيدة بالدهان" أو "السّمن البقري الحر" المحلّى بالعسل واحيانا بالسُّكّر، يكون جدّي خلالها قد تفرّغ من كنس سوح البيت، ومن حلاقة ذقنه، ورمى بالموس جانبا، وشرع في غسل الوجه من الصّابون... قبل أن يقوم بتشغيل المذياع بعد إحضاره من غرفته بالبيت، فيستوقفه برنامج "الحديث الدّيني" للشيخ الرّاحل(محمّد كتّو) يقضي معه الجدّ دقائق في التّسبيح والتّهليل، والوعظ والإرشاد.
                      قويّ البنية فارع القامّة،كان قد قضّى أشهر في غيابات السّجون الألمانيّة خلال الحرب العالمية الثانيّة. كان حينها شابّا يافعا في مقتبل العمر، والجدّة كانت حاملا بوالدتي -رحمة الله عليها-. ليتمّ اعتقاله وللمرّة الثّانية بعد عودته إلى الدّيار، وإلى أرض الوطن. ولكن من طرف الجنود الفرنسيين في هذه المرّة. لا يترك صاحب القامّة الطّويلة مناسبة إلاّ ويتعرّض فيها إلى كيفية اعتقاله واقتياده إلى مركز "فان دي جو" الشّهير، أين قام الجنود الفرنسيون بالتفنّن في تعذيبه.
                      بعدها، يطلق صاحب السّاقين الطويلتين العِنان لساقيه قاصدا "الفيلاج"، كما كانت تُسمّي القرية آنذاك، أين يلتقي بزملائه الذين كانوا معه في الصّفوف الأولى التي قاومت النّازيين الألمان، بعد تجنيدهم الإجباري من طرف الاحتلال الفرنسي. فيقضي معهم جلّ الأوقات في لعب " الكارطة" و"الدّومينو"، ولايعود إلاّ في آخر المساء ومعه بعض المتاع، وأحيانا يعود وليس معه شيء على الإطلاق؛ يعود "بخفّي حنين" خالي الوفاض. ومع ذلك لا يتفقّد البيت ولا ينشد سكّانه أحياءً أم أمواتًا، ويقيم الدنيا ولا يقعدها لأتفه الأسباب... فيهرع الأحياء الأموات المساكين إلى "النّوالة"، يحشرون أنفسهم فيها، ومنهم من يفرّ إلى الخارج، ريثما يمرّ "السّحاب" ويعود الهدوء إلى البيت، فيعودون.
                      رحمة الله عليك جدّي،كم كنتَ قاسيّا صعْب المِراس.
                      يتبع .../...

                      التعديل الأخير تم بواسطة مصباح فوزي رشيد; الساعة 27-09-2021, 04:41.
                      لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ

                      تعليق

                      • الهويمل أبو فهد
                        مستشار أدبي
                        • 22-07-2011
                        • 1475

                        #41
                        أكثر من هذا النوع من الكتابة. فهو ما يهم القارئ. كونك تعرفه جيدا وربما كان سرده مملا بالنسبة لك
                        لا يعني أن القارئ يعرفه بل هو ما يحتاجه القارئ. كما أنه يغنيك عن "الوعظ". دع الأحداث نفسها تعظ
                        فهي أبلغ من كل الخطب الرنانة.

                        هنا على الأقل تعرفنا (كوننا قراء من زمن ومكان مختلفين) على جوانب من شخصية الجد إضافة إلى
                        شيء من تاريخ القرية والمنطقة، وإن كان المشهد مشهدا أسريا محليا. كان ينبغي أن تكون كل الحصص
                        السابقة بهذا الأسلوب. هناك الكثير الذي تركته في الحصص السابقة. الوالد لم نعرف عنه الكثير مثلا.
                        ولم نعرف عن رؤيتك له وأنت طفل لم يدخل المدرسة بعد أو بعد القطيعة. لمحات قليلة عرضتها لكنها لا
                        تكفي. لم تتطرق إلى علاقة والديك حتى لو لم تكن تفهمها فهمك لها اليوم. لا بد أن كان لديك نوع من
                        الإحساس بها.

                        الكتابة مملة ومجهدة وكثيرا ما تفقد أهميتها حين يفرغ الكاتب من تدوينها. لكن القارئ يراها لأول مرة دون
                        عناء ويرغب بالمزيد. أن تكون كاتبا يقتضي بذل الجهد الذي قد تراه جهدا مهدرا، وتشعر أن مردوده لا يعادل
                        ما بذلته من جهد فكري وعاطفي وحتى عضلي. وتدوين السيرة الذاتيةحتى لو كانت كليا متخيلة تنطوي على
                        شحنة عاطفية مرهقة.

                        تعليق

                        • منيره الفهري
                          مدير عام. رئيس ملتقى الترجمة
                          • 21-12-2010
                          • 9870

                          #42
                          السلام عليكم اخي مصباح فوزي رشيد
                          يبدو أنه فاتني الكثير من الجمال هنا
                          سأطلع على ما فاتني و أعود بإذن الله.
                          تحيتي ايضا لأستاذنا الجليل الهويمل ابو فهد و كل من كتب تعليقا هنا.
                          تحياتي لكم جميعا

                          تعليق

                          • منيره الفهري
                            مدير عام. رئيس ملتقى الترجمة
                            • 21-12-2010
                            • 9870

                            #43
                            استمتعت بحق بحكاية هذا الطفل الذي لعبت به الحياة و شكلته على هواها...
                            لن أكون اكثر براعة من الأستاذ الهويمل أبو فهد
                            فقد قال تقريبا ما أردت قوله للكاتب الرائع مصباح فوزي رشيد..
                            و عندي نقطة لا أوافقه فيها ابدااا
                            و هي رفضه بأن يقال عن اللغة الفرنسية لغة الجمال و الرومنسية
                            فعلاااا هي كذلك و ربما اكثر... و لا اريد فتح نقاش هنا حتى نستمتع بحكاية السيرة الذاتية..
                            كما إنني أوجه كلمة للأستاذ الهويمل بما انه حاضر معنا هنا
                            لأقول له ان ما قاله في موضوع آخر عن أن من يتكلم الفرنسية ( في عصر ما) كانوا من "سقاط القوم".. هذا كان موضوع نقاش قديم و قد تبرأ منه كل من أرخه.
                            تحياتي
                            انتظر بقية الحكاية.

                            تعليق

                            • مصباح فوزي رشيد
                              يكتب
                              • 08-06-2015
                              • 1272

                              #44
                              تُوفِّي جدّي (سي حمّو) -كما ينادونه-، والد أبي، في سنة (1965) بمستشفى مدينة عنّابة بعد تعرّضه لوعكة صحيّة. كان رحمة الله عليه من حملة القرآن المجيد، ومسئولا عن جمع الأموال والاشتراكات خلال ثورة التحرير؛ وقد عثرتُ على قُسيْمات بحجم اليد في خزانته البيضاء الصّغيرة التي تركها وراءه، وكانت مشحونة بالكتب والجرائد وبعض المجلاّت النّاطقة باسم جمعية العلماء المسلمين.
                              كان جدّي يحبّني كثيرا، وكنتُ أنام في أحضانه، وكان لاينام حتى يقرأ ورده اليومي من القرآن العظيم.
                              خلّف جدّي أربعة من الذّكران، وبنتين؛ عمّي الأكبر وهو الوصي من بعده على العزبة أو المزرعة، أو "الفيرمة" كما تُسمّى. يأتي بعده عمّي الأوسط، وهو مكلّف بالعتاد المتكوّن من جرّار كبير من نوع "ماكورميك فارمال "، وجرّار آخر صغير من نوع "ماسي فيرغسون" (ولي معه قصّة طريفة سأرويها لاحقا). وكل ما يتبع الجرّارين من آلات مقطورة ومجرورة و محاريث، وآلة حصاد "سبيكادور" قديمة. وأما عمّي الذي يأتي في المرتبة الثّالثة، فوظيفته "السّرحة"، و"السّرحة" لا غير. ليس له صاحب ولا أنيس سوى القطيع الذي يلازمه طول النّهار وأحيانا في اللّيالي حين يتفقّده. محروم من كل شيء ومن الحياة، ممنوع من كلّ الملذّات، ولكم عانى عمّي هذا من الوحدة والتهميش. هذا المغبون المحروم الذي لا يعرف معنى الرّاحة إلاّ حين يعود في آخر النّهار ليتناول جدع¤ كسرة ثم يضع خدّه على الوسادة ويسلّم روحه التّعيسة لبارئها، لم يغادر الدوّار إلاّ حين حملوه على الأكتاف. ولطالما كانت جدّتي تبكي بحرقة وترثي لحاله حتى ضجر من نحيبها كل الأعمام. وأمّا اصغرهم جميعا فوالدي الذي قرّر أن ينخرط في "الجهاز الوطني للأمن"، وعبثا حاول جدّي أن يَثْنيه عن رأيه، فلم يُصغِ إليه وركب رأسه دون رويّة؛ لستُ أدري لماذا كان بعض الأفراد آنذاك يتحفّظون من الوظائف التي لها علاقة بأجهزة الدّولة؟.
                              لكن في جميع الأحوال فإن لمشتى "أعوينتْ أملّـالتْ" - كما يناديها أهلها وتعني (العين البيضاء) -، بعض المميّزات التي لا توجد في دوّار الأخوال؛ منها خاصّة تضاريسها الخلاّبة، فالدّوار الذي لايبعد سوى ببعض الأميال يقابله جبل (بوسّسو) الشهير البعيد عنه نسبيا، تتخلّله شعاب ملتوية لا بداية ولا نهاية لها.
                              يتبع .../...

                              التعديل الأخير تم بواسطة مصباح فوزي رشيد; الساعة 29-09-2021, 04:58.
                              لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ

                              تعليق

                              • الهويمل أبو فهد
                                مستشار أدبي
                                • 22-07-2011
                                • 1475

                                #45
                                المشاركة الأصلية بواسطة منيره الفهري مشاهدة المشاركة
                                كما إنني أوجه كلمة للأستاذ الهويمل بما انه حاضر معنا هنا
                                لأقول له ان ما قاله في موضوع آخر عن أن من يتكلم الفرنسية ( في عصر ما) كانوا من "سقاط القوم".. هذا كان موضوع نقاش قديم و قد تبرأ منه كل من أرخه.
                                أهلا بالأميرة المنيرة
                                حسبت أننا أصدقاء وحسن الظن متبادل بيننا.
                                لا أذكر أنني قلت إن من يتكلم الفرنسية ...
                                والمعلوم بالضرورة أن من "لا يتكلم الفرنسية" خاصة في الطبقة العليا في بريطانيا يعتبر من سقاط القوم.
                                أكثر من 80% من مفردات الأنجليزية ذات أصل فرنسي. بل إن المفردات ذات الأصل الانجليزي لا
                                تتجاوز أصابع اليد الواحدة. فإذا فعلا وردت العبارة في أحد مشاركاتي بصيغة الاثبات فهي خطأ في الرقن.
                                فاللغة الفرنسية ليست لغة الرومانسية وحسب بل أيضا لغة القانون.
                                ورقة اللغة الفرنسية تشبه رقة ملمس الأفعى-- ولنقارن اليوم بين حال مستعمرات فرنسا ومستعمرات
                                بريطانيا؟
                                وعودا حميدا

                                تعليق

                                يعمل...
                                X