الحيّ الذي فتحتُ عينيّ وترعرتُ فيه بيوته الأرضيّة هشّة، معظمها من الطّين، مستقبلة للقبلة، متوسّطة طريقي سكّة القطار الحديدية والطّريق الوطني المعبّد رقم (16).
باستثناء بعض العائلات الدّخيلة، يكاد يكون كلّ سكّان الحي من قبيلة واحدة هي قبيلة: "أولاد سباع"، لمـْحاتلَة الشّاوية، المشهورين بعصبيّتهم. لكن ذلك لا ينقص من مروءتهم وكرمهم شيئا.
هذا الحيّ الذي كنا نسكنه يعدّ بمثابة عالم مستقلّ بذاته، غنيّ بأحداثه وشخصياته. يبدأ ببيت (سي مسعود) الطّالب، معلم قرآن مشهود له بذلك، وشيخ طاعن في السِّنّ؛ لا تزال صورته أمامي وهو يحتضر؛ حين كنّا صغارا لم يكن يُسمح لنا برؤية الموتى ساعة الاحتضار، فكنا نتبادل خبر الموت حتى جاءت لحظة احتضار العم المسكين (سي مسعود)، فتتسلّلنا إلى بيته المقابل للطّريق، نسترق النّظر إليه من الخارج، وكان من حوله "طُلبة" مجموعة من المشايخ يمسكون بتلابيبه، ويقرأون عليه القرآن وهو يتقلّى يمنة ويسرة. وبقي على تلك الحال "يتعزّر" طيلة أسبوع.
ثم نعرّج على عمّي (الحسين) نرصد تحرّكاته في الجانب الآخر من السكّة نقلّده وهو ينادي أحد ابنائه؛ يا (حُميّة)ها، وأحيانا يا(مُيّة)ها، لمنع البقرة من تطرّفها إلى حقول القمح والشّعير التّابعة لأحد الخواص، و(حُميّة) لاه في خصام مع مجموعة من "القمارجية" لا يعيره اهتماما.
و أسفل الشّايب (حسين) كوخ العم (سعيدْ) شيخ هرّمه الدّهر والعوز، زوجته عوْكل، ابنتهما الكبرى بائرة وولدهما بليد. الكوخ المهترئ لا يوجد به سوى مكان للنّوم ينعدم من التّهوية، أو مربض لحمار أحنف. كنتُ أنا وأحد أبناء عمّتي نتحيّن فرصة غياب أفراد العائلة، فنقوم بخلع باب الكوخ ونبحث عن موضع الأواني لسرقة حفنة من السكّر ثم نلوذ بالفرار، مستغلّين في ذلك صلة القرابة التي تجمعنا بهذه العائلة المعوزّة. وبالرّغم من الفقر والعوز اللّذين خيّما على البيت وأهل البيت، تجدنا فرحين مسرورين أيّما فرح وأيّما سرور بهذا الفعل الشّنيع.
لكن الأمر يختلف مع جارنا ( النّوري)، والذي لم نكن نستطيع مجرّد الاقتراب من باب بيته لأنّ الشايب (النّوري) من "الحنانشة"، ولا ينتمي إلى قبيلتنا، ولا تربطنا به أيّة صلة. غير أن ذلك لم يكن يشكّل عقبة أمام صحبتنا لبنيه، لأنّنا لم نكن في ذلك الوقت تعترف بالفوارق الاجتماعية ولا بالانتماءات القبَلية.
الأمر ذاته تقريبا مع العجوز العم(موسى) المكنّى "بموسى بودجاج"، ذي الأصول الغجرية التي تعود إلى منطقة "المسيلة". وهو شيخ طاعن في السِّنّ، له بنتان ولم يُزرق بلود. فأمّا البنت الكبرى فكانت محجوبة؛ بمعنى ممنوعة من الخروج لأنّها بلغت مرحلة النّضج و البلوغ، وهوما كانت تقتضيه الأصول حينها. وأمّا أختها الصّغرى فكانت تفوقني بسنة أو أكثر، ومع ذلك كانت تربطني بها علاقة، ومجرّد صداقة بريئة، ثم مع الوقت تطوّرت إلى أشياء حميميّة.كذا كان الحال مع بقية الجيران.
وأذكر أنّني حين لا أجد ما أفعله، أقوم بجمع الحصى من أمام البيت، وأحملها إلى الداخل ثم ارميها من فناء بيتنا الواسع على بيوت الجيران، و أنتظر ريثما يحصل هناك نزاع ويعلو الصّراخ وترتفع الأصوات، فأخرج للفرجة و الاستمتاع.
باستثناء بعض العائلات الدّخيلة، يكاد يكون كلّ سكّان الحي من قبيلة واحدة هي قبيلة: "أولاد سباع"، لمـْحاتلَة الشّاوية، المشهورين بعصبيّتهم. لكن ذلك لا ينقص من مروءتهم وكرمهم شيئا.
هذا الحيّ الذي كنا نسكنه يعدّ بمثابة عالم مستقلّ بذاته، غنيّ بأحداثه وشخصياته. يبدأ ببيت (سي مسعود) الطّالب، معلم قرآن مشهود له بذلك، وشيخ طاعن في السِّنّ؛ لا تزال صورته أمامي وهو يحتضر؛ حين كنّا صغارا لم يكن يُسمح لنا برؤية الموتى ساعة الاحتضار، فكنا نتبادل خبر الموت حتى جاءت لحظة احتضار العم المسكين (سي مسعود)، فتتسلّلنا إلى بيته المقابل للطّريق، نسترق النّظر إليه من الخارج، وكان من حوله "طُلبة" مجموعة من المشايخ يمسكون بتلابيبه، ويقرأون عليه القرآن وهو يتقلّى يمنة ويسرة. وبقي على تلك الحال "يتعزّر" طيلة أسبوع.
ثم نعرّج على عمّي (الحسين) نرصد تحرّكاته في الجانب الآخر من السكّة نقلّده وهو ينادي أحد ابنائه؛ يا (حُميّة)ها، وأحيانا يا(مُيّة)ها، لمنع البقرة من تطرّفها إلى حقول القمح والشّعير التّابعة لأحد الخواص، و(حُميّة) لاه في خصام مع مجموعة من "القمارجية" لا يعيره اهتماما.
و أسفل الشّايب (حسين) كوخ العم (سعيدْ) شيخ هرّمه الدّهر والعوز، زوجته عوْكل، ابنتهما الكبرى بائرة وولدهما بليد. الكوخ المهترئ لا يوجد به سوى مكان للنّوم ينعدم من التّهوية، أو مربض لحمار أحنف. كنتُ أنا وأحد أبناء عمّتي نتحيّن فرصة غياب أفراد العائلة، فنقوم بخلع باب الكوخ ونبحث عن موضع الأواني لسرقة حفنة من السكّر ثم نلوذ بالفرار، مستغلّين في ذلك صلة القرابة التي تجمعنا بهذه العائلة المعوزّة. وبالرّغم من الفقر والعوز اللّذين خيّما على البيت وأهل البيت، تجدنا فرحين مسرورين أيّما فرح وأيّما سرور بهذا الفعل الشّنيع.
لكن الأمر يختلف مع جارنا ( النّوري)، والذي لم نكن نستطيع مجرّد الاقتراب من باب بيته لأنّ الشايب (النّوري) من "الحنانشة"، ولا ينتمي إلى قبيلتنا، ولا تربطنا به أيّة صلة. غير أن ذلك لم يكن يشكّل عقبة أمام صحبتنا لبنيه، لأنّنا لم نكن في ذلك الوقت تعترف بالفوارق الاجتماعية ولا بالانتماءات القبَلية.
الأمر ذاته تقريبا مع العجوز العم(موسى) المكنّى "بموسى بودجاج"، ذي الأصول الغجرية التي تعود إلى منطقة "المسيلة". وهو شيخ طاعن في السِّنّ، له بنتان ولم يُزرق بلود. فأمّا البنت الكبرى فكانت محجوبة؛ بمعنى ممنوعة من الخروج لأنّها بلغت مرحلة النّضج و البلوغ، وهوما كانت تقتضيه الأصول حينها. وأمّا أختها الصّغرى فكانت تفوقني بسنة أو أكثر، ومع ذلك كانت تربطني بها علاقة، ومجرّد صداقة بريئة، ثم مع الوقت تطوّرت إلى أشياء حميميّة.كذا كان الحال مع بقية الجيران.
وأذكر أنّني حين لا أجد ما أفعله، أقوم بجمع الحصى من أمام البيت، وأحملها إلى الداخل ثم ارميها من فناء بيتنا الواسع على بيوت الجيران، و أنتظر ريثما يحصل هناك نزاع ويعلو الصّراخ وترتفع الأصوات، فأخرج للفرجة و الاستمتاع.
تبع …/…
تعليق