ضائعٌ بين أقرانه

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • مصباح فوزي رشيد
    يكتب
    • 08-06-2015
    • 1272

    #76
    المشاركة الأصلية بواسطة الهويمل أبو فهد مشاهدة المشاركة
    الحنين إلى مرحلة الطفولة سمة تلازم الإنسان طوال فترة النضج والشيخوخة. وهي سمة
    تظهر في الأدب وخاصة السيرة الذاتية، ولكل حيّ أسبابه في العودة إليها واسترجاعها
    سواء عرضيا أو بتركيز. ومع ألمها وقسوة ظروفها في (ضائع بين أقرانه) إلا أنه عاد – بعد
    كل ما وصفه عن أحداثها— ليقول: (كم كانت الحياة سهلة وبسيطة في ذلك الزّمن الجميل،
    ربما لأننا كنا صغارا أبرياء، ولم تكن لدينا فكرة عن مدى أهميّة وخطورة المسئولية) وتغير
    رأيه في والده وغيّب جلّ عيوبه، حتى علاقة الأب بوالدة الراوي أخذت منحى مخففا رغم
    قسوتها. في هذا الشأن يقول (لم أعرف عن والدي أنّه بذلك القدر وتلك الدرجة من الطّيبة
    واللّطافة، إلاّ بعدما غيّبته المنيّة عنّا
    . وكل من عرفه شهد له بذلك. و"فِي اللَّيْلَةِ الظَّلْمَاءِ يُفْتَقَدُ
    البَدْرُ" كما قال [أبو فراس]). واكتفى بحياء الوالد عذرا من المثول أمام القاضي ويؤدي ما
    عليه من حق للوالدة.


    ترى ماذا حصل؟ أحد أسباب مثل هذه النظرة للماضي قد يكون نتيجة تكشف أمور جديدة،
    أو نمو الطفل زمنيا وعقليا، أو عدوى المجاورة بين ذاكرة جميلة وذاكرة سيئة، وتتعدد
    الأسباب وتختلف. لكن أهم الأسباب هو إن لسرد الأحداث – بطريقة مباشرة أو حتى بطريقة
    رمزية — شحنة تطهيرية تزيل عبئا نفسيا وتحرر المرء مما لا قدرة له على تغييره.


    ثم أن غريبا جديدا ومناسبا حلّ ليتحمل السوء وأسبابة: "زوجة الأب" (الضرّة) في لغة
    المشارقة— وهي مدانة في لغات الكون كافة. هذا لا يعني أنها بريئة أو مدانة، بل يعني
    أن الغريب احتل موقعا أقرب من موقعه المقبول والمحايد. فالغريب بالضرورة مصدر
    تهديد، فما بالك وقد دخل حرم المنزل وحيّز الأسرة! ورب شر أهون من شر!

    [بَعْضُ الشَّرِّ أَهْوَنُ مِنْ بَعْضٍ.] فعلا.
    أبا فهد عندنا مثل شعبي يقول: الغيظ كي لغدير تصبر عليه ينشف.
    وأنت تعرف أن الغُدْر قليلة العمق. ولقد أودع الله في الانسان هذه النّعمة التي تسمّى النسيان ولولاها لما استطاع الانسان سبيلا إلى كظم الغيظ.
    أبا فهد أنا محظوظ جدّا بهذه العناية النّافعة والاهتمام المفيد.
    وسأواصل هذا السّبيل بإذن الله تعالى مهما أنصبني.
    أتمنّى أن أراك بخير.
    طبت وطاب مسعاك.
    التعديل الأخير تم بواسطة مصباح فوزي رشيد; الساعة 15-10-2021, 18:50.
    لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ

    تعليق

    • مصباح فوزي رشيد
      يكتب
      • 08-06-2015
      • 1272

      #77
      من بين الأشياء التي بقيتْ عالقة بذهني؛
      - صورتي مع ابن عمّي الأكبر؛ الذي كان يقيم عندنا حين كنا نسكن في(عنّابة)، وقبل أن يلتحق بصفوف البحرية الوطنية. أتشبّث به من فوق ظهره مخافة أن أقع في البحر، ووالدتي بملاءتها السّوداء تراقب من بعيد.
      - و أخرى، كنتُ مع والدتي في سينما "ماجستيك"؛ وقد كانت من بين القاعات الفاخرة بمدينة(عنّابة)يومها. أشاهد معها واحدا من أفلام (منڨالا)الهندية المشهورة.
      - ومرّة بمسرح الهواء الطلق بـ(مداوروش)، بعد عودتنا إلى هذه الأخيرة، أتابع مع صاحبة الملاءة السّوداء مسرحية من آداء وإخراج شباب القرية. ومن بين هؤلاء أذكر شخصا اسمه "فراكاس" قام بدور السّلطان يومها، ولا يزال لحد السّاعة حيّا يذكر -حفظه الله ورعاه-.
      - وفي أيّام الرّبيع المميّزة، تأخذني الوالدة معها إلى الحقول المجاورة نمضي الأوقات في نزهة قصيرة وعابرة.
      - وألفيتني في أحد الأيام التي كنتُ أتلقّى فيها العلاج، ببيت أحد معارف أبي، وزميل له كان يقيم بمدينة(سوقأهراس)، التي كانت تسمّى قديما (طاغست)، و(ثاڨوست)؛ المدينة العتيقة التي ضربتْ أطنابها في غيابات التاّريخ القديم، ويكفي أنها مدينة القدّيس(أغسطين).
      ومن غيرها، لم أعد أذكر شيئا سوى أن في تلك الأيّام قرّر عمي الأوسط، الذي لم يبلغ بعدُ الأربعين، الزّواج من إحدى القريبات، بعد مُضيِّ أكثر من عشرة أعوام على زواجه من الأولى التي ظلّ يصفها سِلْفاتها بالسّاذجة لأنها لم تقِف في وجه زوجها وتعارض قراره "التّعيس" هذا بشدّة، وتركتْه على هواه يعبث بمستقبلها ومستقبل بناتها الخمس. ولأسباب نفسية وأخرى اجتماعية فلم تكن تقوى هذه المسكينة على معارضة العم بينما هي عاجزة عن انجابها لولد خلال كل تلك الأعوام؛ يكون سندا لها ولزوجها، وموئلا يعينهما على نوائب الدّهر، ويحمل اسم عائلة(سي حمّو). فقرّر العم الوسيم أن يجرّب حظّه مع الشّابة التي هي في سن إحدى بناته. وقد لقي هذا القرار استهجانا كبيرا من طرف الأعمام الذين لم يستسيغوه في البداية، نظرا لنعرات قديمة واعتبارات عفا عنها الزّمن.
      لكنهم استسلموا للأمر الواقع في النّهاية، ولم يتوانوا ولا تردّدوا في مباركة هذا الزّواج.
      ومن ثمّ فقد اختار العم أن يتمّ الدّخول، على عقيلته الشابّة، بعد رحيله من بيته القديم بالبادية إلى البناية الجديدة (بمداوروش)؛ التي كنا نسمّيها "لَعْلَيْ" وقتها، وكانت محطّ أنظار أفراد العائلة الطّامعين المتربّصين آنذاك.
      لكن الإقامة ـ إقامة العروسين ـ لم تدم طويلا بهذا المسكن الجديد، فقد حصل اتّفاق بين الأخوين على ما يبدو، تم بموجبه تبادلنا مع العم، وألفيتني بدوري أسكن في هذه البناية الموحشة المشئومة، على الرّغم من أنّها توجد على بعد أمتار من البيت الذي وُلدتُ وترعرعتُ فيه.
      وأنا أكتب هذه السّطور تذكّرتُ قول الشّاعر(أبو تمّام):
      نَقِّل فُؤادَكَ حَيثُ شِئتَ مِنَ الهَوى
      ما الحُبُّ إِلّا لِلحَبيبِ الأَوَّلِ
      كَم مَنزِلٍ في الأَرضِ يَألَفُهُ الفَتى
      وَحَنينُهُ أَبَداً لِأَوَّلِ مَنزِلِ
      يتبع.../...
      التعديل الأخير تم بواسطة مصباح فوزي رشيد; الساعة 28-10-2021, 10:49.
      لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ

      تعليق

      • الهويمل أبو فهد
        مستشار أدبي
        • 22-07-2011
        • 1475

        #78
        هذه الحصة حصة ذكريات من منظور الراوي اليوم. بُعد الفترة زمنيا التي ينقل منها ذكرياته تعود
        إلى مرحلة طفولته، وهو لبعد الفترة لا يذكر إلّا أحداثا قليلة لكنها ترفيهية. ولعل هذا سبب احتلالها
        حيزا من ذاكرته. وبهذه السمة فإنها توفر لنا وله استراحة وتطهر من ضغط الأحداث المؤلمة التي
        تعرض لها مثلما تعرضت والدته لمثلها. كان مناسبا أن لا تخضع هذه الذكريات للتسلسل الزمني لأن
        الخيال والذكريات لهما حرية التحليق زمنيا وجغرافيا. والانطلاقة من قيود الزمن والجغرافيا لها قيمة
        اختيار ما يريد تذكره أو ما يتذكره فعلا (وبقي عالقا في ذاكرته) لأن الذاكرة بالضرورة انتقائية.
        فالأمور السيئة يتكفل الوعي الباطن بتغييبها ولو لم يكن للمرء مثل هذا الوعي لظل طول عمره يندب
        حظه. في استرجاعه ذكرياته الجميله اكتفى بذكرها دون تعليق. لكن في تدوينه زواج عمه الأوسط
        كان أكثر نقدا (فالزواج هذا هو زواج ثان والعروس في عمر بنات عمه). البعد الثقافي والاجتماعي
        واضح في سبب هذا الزواج. الزوجة الأولى لم تنجب بنينا بل انجبت من البنات خمس! وهذا ذنب
        الأنثى وحدها. وكونها مذنبة لا يحق لها الاعتراض ولهذا تهاجمها النساء وتنعتها بالساذجة لأنها
        لم تقاوم رغبة الزوج في الزواج من أخرى. المنظور الأنثوي يختلف عن المنظور الذكوري. النساء
        قصرن نقدهن الزوجة على عدم مقاومتها بينما رغبة الزوج كانت وجيهة ثقافيا: فالولد يصبح (سندا
        لها ولزوجها، وموئلا يعينهما على نوائب الدّهر، ويحمل اسم عائلة [سي حمّو] الكبيرة).

        مقارنة بالحصص السابقة تتميز هذه الحصة بخفوت العاطفة بسبب بعدها الزمني وبعدها عن الراوي
        وبسبب استرجاعها من ذاكرة راشدة ناضجة. فهي تشبه الوصف المتزن من قبل شخص مراقب أكثر
        منه منخرط في ما يصفه من أحداث. لم يظهر أهتمامه وصلته بالمشهد إلّا في الخاتمة حين ذكر مكان
        مولده ونشأته.

        تعليق

        • منيره الفهري
          مدير عام. رئيس ملتقى الترجمة
          • 21-12-2010
          • 9870

          #79
          كنت هنا أتابع الذكريات
          أستاذنا الفاضل
          مصباح فوزي رشيد
          تحياتي

          تعليق

          • مصباح فوزي رشيد
            يكتب
            • 08-06-2015
            • 1272

            #80
            لم أكن أبدا سعيدا بذاك الرّحيل والإقامة في المسكن الجديد الذي يسمّى "لَعْلَيْ"، وقد أصبح محلّ نزاع بين الإخوة. فهو بالنّسبة لي، وحتى لوالدتي، عبارة عن جحيم، وسجن كبير من الاسمنت والحجارة، ومكانه الموحش يبعث على الكآبة. وقد تركتُ ورائي ذكريات لا تنسى، وعِشرة لا يستهان بها، و أناسيَ طيّبين؛ من أمثال العمّة(حفصية)، وابنتها (جوّة)التي تخاطب بالإشارات لأنّ المسكينة "بكّوشة". و العجوز الطيّب عمّي (موسى) الملقّب بـ"بو دجاج"، وابنته (فضيلة) ذات الملامح الغجرية. وكذلك عمّي (الحسين)، وابنه"قشقوش" -كما كان يلقّب-، الشاب الخلوق الذي يكبرني سنّا، وأخاه(حُمّية) الذي ترك البقرة ترعى في حقول الغير. وعمّي (سعَيّد) "الزّوالي" المغبون في كوخه الهش مع حماره الأحنف، وزوجته العوْكل التي لاتعرف كيف تخفي إناء السكّر حتى لاتصل إليه أيدينا. وعمتي(رُقيّة) التي نالت نصيبها من البخس والرّخس ليلة احتضنتني، وحضر أبي على غير عادته، وجنّ جنونه لمّا رآها تنام في سريره. وعمّتي(الكاملة)أختها الكبرى التي انفردت بتربية فصيلة من البط تسمى"الجرمان" دون غيرها، حتى إنّه بعد موتها لم نعد نرى هذا النوع من الطيور. وأخوهما؛ عمّي (معضاضي) الرجل البشوش الذي كان يناديني أنا وأختي الصّغيرة و الوحيدة : "قِبيقي"، فيتملّكنا الضّحك دون أن نعرف معناها. وتركتُ ورائي الشّجرة الكبيرة التي جرّت عليّ فتلقّيتُ ضربا مبرّحا على يد والدي. وتذكّرتُ عمّتي (أُمْهاني) التي حين مات زوجها أخذتني جدتي -والدة أبي- معها لتقدّم العزاء ورأيتُ ما فعل النّسوة بأنفسهن؛ من الصّراخ والعويل ولطم الخدود... ولم أجد جوابا لذلك، فرحتُ أسأل الجدّة عن سبب كل ذلك"النّدِيبْ"، فقالتْ: إنّ جارنا (عبدالقادر) زوج (أمهاني) قد تُوُفِّيَ، ولم أعرف ما معنى "تُوُفِّيَ". فسألتُها من جديد عن معنى "تُوُفِّيَ"، وألححتُ عليها بالسّؤال. فردّتْ تقول: -"إن الإنسان يشبه في ذلك الخروف والدجاج و…". ولا تسلْ كيف كان تأثّري بهذه المقاربة، ورحتُ أسألها من جديد، عن مصير جسد هذا الرّجل المتوفّي، ومآله؟. وهنا أخطأتْ الجدّة حين قامتْ تصوّر لي كيف يقومون بتقطيع لحمه، وتمليحه جيّدا، وتجفيفه في الشمس ليصنعوا منه "الڨدّيد"،كالذي نجده في طبق "العيش". وأذكر أنّه بعد ذلك بفترة، وقعتْ يدي على قطعة من "الڨدّيد" في طبق "العيش"، أو"المحمّصة"، الذي أعدّته لنا ابنة العم، فتذكّرتُ حكاية الجدّة، وامتنعتُ عن الأكل. ومن يومها وأنا أكره الطّعام الذي يوجد فيه"ڨدّيد".و في البناية الجديدة التي تسمى "لَعْلَيْ"، تعرّضتُ للتّنمّر من قبل بعض الأولاد الأشرار، رغم أنّني كنتُ مثلهم من قبل. لقد شكّلوا حلفا ضدّي، ولم يبرحوا مكانهم أمام البيت، يهدّدون ويتوعّدون، فبتّ أخاف من أن يلحقوا بي الأذى، واعتزلتُهم، وغدوتُ سجينا بالبيت. وكان الشيء الوحيد الذي خفّف قليلا من وطأة هذا الخوف وهذا "السّجن"، قربنا من بيت خال والدتي. و"رُبّ ضارّة نافعة"؛ فبسبب ذلك التّهديد الذي كنتُ أتلقّاه من أولاد الحرام، تفوّقتُ في الدّراسة، ونلتُ شهادة التعليم الابتدائي.

            وأذكر أنني في تلك السّنة المميّزة من عام(1973-1974)؛ شاركتُ في سباق الجري رفقة زملائي، وفرحتُ كثيرا بهذه المشاركة، على الرّغم من أنّني خرجتُ قبل نهاية السّباق. -كما أذكر أن في هذه السّنة قام الرّئيس(هواري بومدين) بجولة شملتْ عدّة مدن وقرى، ومن بينها (مداوروش). وخرجنا في صفوف نهتف بحياة الرّئيس: "يحيا بومدين".. وتراءى لنا الرّئيس يمشي في الطريق، بقدّه المميّز، وبدلته الفاخرة؛كما كنّا نراه في الصوّر. يحيّي الجمهور، تارة بيده اليمنى، وتارة بيده اليسرى، والابتسامة لا تكاد تفارق شفتيه. وما هي إلاّ لحظات حتى غاب الرّئيس عن الأنظار، فعدنا من حيث أتينا.
            التعديل الأخير تم بواسطة مصباح فوزي رشيد; الساعة 29-10-2021, 05:41.
            لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ

            تعليق

            • الهويمل أبو فهد
              مستشار أدبي
              • 22-07-2011
              • 1475

              #81
              أهم سمات السيرة الذاتية أنها رحلة حياة عبر الزمن والمكان. رحلة حياة شبه تاريخية، لكنها تاريخية
              مستعادة كتابيا (يعني غير حقيقية أو هي "قصة"). المفارقة هنا أنها تاريخ مستعاد أو "رواية"، وأن
              الراوي هو الشخص الذي عاشها. ولأنها تاريخ مروي فإنها لا تسلم من آفة الرواية، إذ آفة التاريخ
              رواته (كما تذهب العبارة المألوفة). فالراوي في هذا الفصل أكثر انخراطا في بيئته الجديدة (مسكن لعلي
              ومحيطه) منه في الفصل السابق حيث كان مراقبا وكانت الأحداث ترفيهية شيقة! أما هنا فالأحداث ترتكز
              على "صراع" سواء بين أفراد الأسرة أو بين الراوي ومحيطه. فمن البداية أصبح المنزل الجديد (محل
              نزاع بين الإخوة)؛ وبالنسبة له ولوالدته فهو (عبارة عن جحيم، وسجن كبير من الاسمنت والحجارة،
              ومكانه الموحش يبعث على الكآبة). هذه الروح المتشائمة ظلت مع الراوي وضاعفها ما تركه خلفه من
              أناس طيبين بنى معهم علاقة لا تنسى (وعدّد الكثير منهم بألقابهم وأسمائهم). ثم ركز على ما ينسجم
              مع روح الكآبة هذه: فيذكر الأطفال الذين تحزّبوا ضده (وحصروه في البيت)، ورواية جدته عن الموت
              وما يحلّ بجسد الميت وكيف من ثم يتحول الأحياء إلى آكلة لحوم بشر "مقددة". حتى مشاركته في السباق
              خابت إذ خرج منه قبل وصوله نقطة النهاية! هذه خيارات تجعل عدم الارتياح صورة ماثلة في الوعي والواقع
              المروي.


              النقطة المضيئة في الفصل هي جولة الرئيس الراحل بو مدين – رحمه الله — في مدن وقرى المنطقة. يقول في
              روايته:
              وتراءى لنا الرّئيس يمشي في الطريق، بقدّه المميّز، وبدلته الفاخرة؛ كما كنّا نراه في الصوّر.
              يحيّي الجمهور، تارة بيده اليمنى، وتارة بيده اليسرى، والابتسامة لا تكاد تفارق شفتيه. وما
              هي إلاّ لحظات حتى غاب الرّئيس عن الأنظار، فعدنا من حيث أتينا...


              لكن حتى هذه اللحظة المشرقة سرعان ما أفلت. فهو يكمل احتفاليته بالرئيس: (وما هي إلاّ لحظات حتى غاب الرّئيس عن
              الأنظار، فعدنا من حيث أتينا). هذه "العودة" القصيرة من حيث أتى هي نفسها بذرة أو صورة عفوية تجسد عودته إلى
              سيرة حياته يدونّها من بداية طفولته إلى لحظة تدوينه اليوم هذه "العودة" في لحظة من سبعينيات القرن الماضي.

              الجميل أيضا أن فصل التذكر هذا أيضا "يتذكر" أحداثا سبق أن دونها فيما يشبه الذاكرة داخل الذاكرة أو ما يمكن تسميته
              (التطريس) – بما أن الأستاذ محمد شهيد بيننا اليوم ولعله يسك لنا مصطلحا عربيا لهذه الحالة. فنذكر في فصل سابق
              الحادثة التالية أثناء غياب والدته عن المنزل:
              وفي إحدى اللّيالي استيقظتُ على صراخ أبي يسبّ ويشتم، وكان قد أتـى في غير موعده، وعلى
              غير عادته، رفقة زميل له. فوجدني نائما في سريره رفقة امرأة زوجِ عمّتي المتوفّاة، الذي يسكن
              جنبنا. وكانت العجوز المسكينة قد جاءت لتضمّني في تلك الليلة المشئومة، فجنّ جنون أبي حين
              رآها في سريره...


              اليوم، في هذا الفصل، نعرف أن تلك المرأة هي (رقية)، ذكر أو تذكر الاسم حين استعاد الحادثة وهو يذكر من يعرفهم بالاسم،
              فيقول:
              وعمتي (رُقيّة) التي نالت نصيبها من البخص والرّخس ليلة احتضنتني، وحضر أبي على غير عادته،
              وجنّ جنونه لمّا رآها تنام في سريره
              .

              السياق يقول إن البخص والرخس مفردات شتائم رغم أني لا أعرف معانيها.

              تعليق

              • محمد شهيد
                أديب وكاتب
                • 24-01-2015
                • 4295

                #82
                تحية و سلام للأستاذ مصباح فوزي رشيد. أتابع معكم بإذن الله حلقات هذا السرد الشيق للأحداث المستلهمة من ذكريات الطفولة. تعود بنا إلى زمن لم أعش فيه و إلى حقبة لم أعرفها رفقة شخصيات أجهل الكل عنها. و رغم كل هذه الفواصل الزمنكانية إلا أنني أشعر أنها أسماء لشخصيات كنت أعرفها و لأحداث لاأزال أذكرها. و الفضل في ذلك يرجع إلى الراوي الذي يقربنا من الحدث بسلاسة السرد و دقة الوصف مع تركيزه “المقصود” على ذكر كل اسم لكل شخصية بعينها. الأمر الذي يجعلني كقاريء “غريب” أسجل اعترافاً لا شك فيه للراوي بالجميل للذاكرة و بالعرفان لشخصياتها.

                م.ش
                مع الشكر و التحية
                التعديل الأخير تم بواسطة محمد شهيد; الساعة 30-10-2021, 14:39.

                تعليق

                • مصباح فوزي رشيد
                  يكتب
                  • 08-06-2015
                  • 1272

                  #83
                  المشاركة الأصلية بواسطة محمد شهيد مشاهدة المشاركة
                  تحية و سلام للأستاذ مصباح فوزي رشيد. أتابع معكم بإذن الله حلقات هذا السرد الشيق للأحداث المستلهمة من ذكريات الطفولة. تعود بنا إلى زمن لم أعش فيه و إلى حقبة لم أعرفها رفقة شخصيات أجهل الكل عنها. و رغم كل هذه الفواصل الزمنكانية إلا أنني أشعر أنها أسماء لشخصيات كنت أعرفها و لأحداث لاأزال أذكرها. و الفضل في ذلك يرجع إلى الراوي الذي يقربنا من الحدث بسلاسة السرد و دقة الوصف مع تركيزه “المقصود” على ذكر كل اسم لكل شخصية بعينها. الأمر الذي يجعلني كقاريء “غريب” أسجل اعترافاً لا شك فيه للراوي بالجميل للذاكرة و بالعرفان لشخصياتها.

                  م.ش
                  مع الشكر و التحية

                  أهلا وسهلا بك، وبعودنك الموفّقة -بإذن الله- أخانا واستاذنا المحترم [محمد شهيد] سُررت بهذه الإطلالة العزيزة.
                  أعتقد أن أستاذنا النّاقد الكبير[الهويمل أبو فهد] أراد شيئا، ومن خلال إشارته إلى اسمك الكريم وهو بصدد إعطاء النصّ مفهوم"التطريس"؟ بقوله: ((الجميل أيضا أن فصل التذكر هذا أيضا "يتذكر" أحداثا سبق أن دوّنها فيما يشبه الذاكرة داخل الذاكرة أو ما يمكن تسميته (التطريس) – بما أن الأستاذ محمد شهيد بيننا اليوم ولعله يسك لنا مصطلحا عربيا لهذه الحالة. فنذكر في فصل سابق الحادثة التالية أثناء غياب والدته عن المنزلَ.../...)) وإنّي لأرجو من سيادتكم وشخصكم النّبيل أن توضّحو لنا معنى هذا المصطلح، علما بأني قد بذلت ما في وسعي ولم أحصل على مرادي في محرّكات البحث. سعيد بحضورك وأجدّد شكري لك على حضورك الجميل ومشاركنك الطيّبة.
                  ودمت بصحّة وعافية.
                  التعديل الأخير تم بواسطة مصباح فوزي رشيد; الساعة 31-10-2021, 09:02.
                  لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ

                  تعليق

                  • مصباح فوزي رشيد
                    يكتب
                    • 08-06-2015
                    • 1272

                    #84
                    فتحتْ والدتي قلبها لولدِ خالها، فكانوا لايتردّدون في زيارتنا. وكانت أمي هي الأخرى، تذهب إلى بيت خالها القريب منّا، ويوجد على بعد خطوات قليلة من بيتنا الجديد. وكان خالها "الطّالب" معلّم قرآن بشوشًا، ولدبه ميل للدُّعابة. وكان أفراد عائلته، والبالغ عددهم ستّة بين ذكور وإناث، قد تربّوا في جوّ من اللّباقة واللّطافة، فحظيتْ خلاله بنوع من المودّة المتبادلة.
                    وكان خالها هذا يكفل ابن عمّها الشّهيد -رحمة الله عليه- بعد موت أمّه وهو في سن الرّضاعة. وكان ولد عمّها هذا، وهو في سن رشد مبكّرة، يعشق كرة القدم، كثير الكلام عن نجومها. فتأثّرتُ بكلامه، ووجدتني مقلّدا لبعض من هؤلاء النّجوم، ومن بينهم كنتُ أحبّ أن أكون في لياقة وتألّق الحارس(ياشين)؛ الذي كان يلعب لمنتخب الأتّحاد السوفياتي(آنذاك). ولأنّني كنتُ أفضّل حراسة المرمى على غيره من المناصب، وذلك في المباريات التي كانت تجمعنا مع أبناء الحي؛ سواء التي نقيمها أمام البيت، أو تلك التي نجريها في "الطَّرْحة" أو "الطَّحْطاح"، بالجهة المقابلة للسكّة الحديديّة: وهو مكان حقول القمح والشّعير الذي نقوم بتهيئته في مواسم الصّيف بُعيْد نهاية عمليّة الحصاد.
                    واستأنستْ أمّي بزوجة وبنات خالها، ولم تعد تتردّد في زيارة بيته المجاور لبيتنا. وكانتْ تطلعني على بعض ما دار بينها وبينهنّ، من كلام مهم. ولم يكن في تردّد والدتي، على بيت خالها هذا، ما يقطع الطّريق على الذّهاب إلى أقارب والدي بالبيت العتيق؛ أين تقيم بالإضافة إلى الجدّة، ابنة العم التي تقوم على رعايتها، وأمّها السّاذجة التي قبلتْ بزواج العم من قريبته، وزوجة أبيها الشّابة وكانت في سنّها تقريبا. وبقيتْ الوالدة مراعية لهذا الوِدِّ، محافظة على أوقات الزيّارات.
                    لكنّها ومنذ تزوّج رجل عمّتي المتوفّاة بامرأة مطلّقة لها ولدان لتعوّض العجوز(رقيّة)، والتي تزوّج بها عُرفيّا ولم يكن زواجا رسميّا، نظرا لسنّهما الكبيرين، ولأن الغرض من هذا الزّواج كان حضانة الولدين الصغيرين اللّذين تركتْهما وراءها العمّة المتوفّاة. وكذلك زواج بناته الأربع، بما في ذلك البنت الأخيرة التي تزوّجت بابن خالها؛ الزّواج الذي تم بينها وبين ابن عمّي الحاج وقد مرّ عليه شهور عشنا معه أجمل اللّحظات في دوار مشتى (العين البيضاء) لولا الموت المفاجئ الذي ألمّ بالأسرة الكبيرة... فبات لزاما على "الخضّار" المغبون؛ الذي يذهب أوّل النّهار ولا يعود إلاّ في ساعات متأخّرة، اللّجوء إلى جاره "التلّي"؛ الشّايب (صالح) الجزّار الذي لم يقصّر في تزويج ابنته المطلّقة بزوج عمّتي الذي تكفّل بولديها الصّغيرين زيادة على ولديه اللّذين يفوقانهما بسنوات وقد بلغ أحدهما وقتئذ سن الرّشد، بينما كان الأصغر يتبجّح أمامي بأنه يفوقني بثلاث سنوات كاملة... تطوّرتْ العلاقة بين الوالدة وزوجة الخضّار؛ زوج المرحومة عمّتي، وتعدّدتْ زياراتها إليها. وكانت هذه المرأة الودود، كثيرة الشّكوى، كثيرة الكلام. لكن في المقابل، كانت قاصّة ممتازة، وحكّاء؛ تستغرق اللّيل بطوله في سرد القصص المروّعة، والمرعبة؛ عن الأشباح، و الجنّ و"الأرواح"... ولا تكبح جماحها إلـّا نادرا. وكنتُ أتابع كلامها بشغف واهتمام كبيرين، فبتّ أعاني من خوف ورهاب شديدين، حتى إنّني لم أكن قادرا على النّوم وحدي في غرفة مظلمة.
                    وعكس ذلك، فقد وجدتْ والدتي الأنس في القرب من هذه المرأة"الحكّاء"، واللذّة في كلامها المروّع المرعب. فصارتْ لا تقدر على فراقها لولا خوفها من الظّنون؛ ولربما يكون قد تسلّل بعض الكلام من الذي كان قد دار بينها وبين المرأة عبر شقوق ومسامات الجدار الهش، ووصل إلى آذان الحرائر في الجهة المقابلة، وتجتهد ألسنتهنّ في نقله وتأويله إلى المغيّبين من الأعمام والحماة؛ الجدّة المسكينة.
                    يتبع.../...
                    التعديل الأخير تم بواسطة مصباح فوزي رشيد; الساعة 31-10-2021, 15:16.
                    لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ

                    تعليق

                    • محمد شهيد
                      أديب وكاتب
                      • 24-01-2015
                      • 4295

                      #85
                      تحية و سلاما لك الأستاذ الكريم مصباح،

                      لولا ردك هذا لما انتبهت إلى الإشارة التي ذكرها صديقي أبو فهد في مداخلته الأخيرة. لكنني الآن أعدت قراءة ما كتبه بخصوص (التطريس).

                      الحقيقة كما أتصورها، و قد يكون للمستشار الهويمل رأي مخالف، أنه استعمل المصطلح العربي القديم (الطرس، و جمعه الطروس - كنت قد سميتُه أنا في دراسة سابقة “الرق” و جمعه “الرقوق”) ليستعين به على تفكيكه البنيوي (structuralist) لعملية استرجاع الذاكرة في السرد (ما أطلق عليه مصطلح التطريس). و الطرس، كما يعلم أبو فهد، هو المقصود به من مصطلح “الرق”، كمصطلح عربي يوافقه في اللاتيني كلمة Palimpsestus و بالفرنسي Palimpsestes و بالانجليزي Palimpsest

                      تعني، لغةً، الرقوق القديمة الممسوحة؛ سميت كذلك لأن المدونين القدامى كانوا يقومون بمسح محتواها في كل مرة ثم يعيدون تدوين مخطوطات أخرى عليها.
                      أما اصطلاحا، فمعناه وارد فيما أراده الناقد أبو فهد، حين ذكر في مداخلته المشار إليها سابقاً بقوله (الذاكرة داخل الذاكرة)، و هو التعبير الذي يوافق ما ذهب إليه
                      بعض النقاد و محللي الخطاب في علم الناراتولوجيا البنيوية Narratology بمثابتها علم تفكيك البنية السردية للنصوص، نجد مثلا عند أحفاد الشكلانيين الروس Mickhael Bakhtine و Tzvetan Todorov أو في فرنسا من أمثال Roland Barthes و Gérard Genette، و في المغرب عبد الفتاح كيليطو و غيرهم، ممن كانوا قد استعملوا العبارة على سبيل المجاز. و السبب وراء الاقتباس هو أن تركيبة كل نص أدبي كيفما كان، لا بد و أن تكون قد بنيت على نصوص أخرى (فكرة أو مجموعة أفكار). و منه اقتباس أبوفهد حين ذكر عملية الذاكرة داخل الداخلة، أو التطريس، كإشارة إلى تلك الرقوق palimpsestes على وجه التشبيه (عملية كتابة/ذاكرة جديدة نقشت على كتابة/ذاكرة قديمة في تسلسل مستمر : و هي عملية التطريس).

                      و عند المستشار الهويمل الخبر اليقين.

                      مودتي

                      م.ش.
                      التعديل الأخير تم بواسطة محمد شهيد; الساعة 31-10-2021, 14:24.

                      تعليق

                      • مصباح فوزي رشيد
                        يكتب
                        • 08-06-2015
                        • 1272

                        #86
                        كان والدي رحمه الله كريما جوادا، رغم محدودية الدخل، ولم يكن لديه سوى الأجرة الشّهرية التي يتقاضاها من الشرطة. كما كان شديد الحرص على أناقته، دقيقا في معاملاته، منضبطا في سلوكاته اليومية، فلم يتخلّف أبي يوما عن العمل. وكان يعمل بالتناوب كل يومين. ولم تكن هناك من وسائل نقل متوفّرة مضمونة، سوى حافلة تقطع المسافة يوميا بين (وادي سوف) و(عنّابة). مما جعلها تتعرّض للعطب أحيانا. وقد اُضطُرّ والدي إلى اقتناء سيارة من نوع "رينو دوفين"، على الرّغم من عدم امتلاكه لرخصة السياقة. وكان يرتدي الزيّ الرّسمي حتى لا يتم توقيفة في الحواجز التي يقيمها رجال الدرك. وقد تسبّب ذلك في حرج كبير للدركيين، الذين كانوا يبجّلونه بسبب الوظيفة. وحدث في أحد الأيام وأن كان هناك دركي جديد لا يعرف والدي، فطلب منه رخصة السيّاقة. لكن الوالد لم يتجاوب معه وعبر الحاجز دون توقّف. فغضب الدركيون لزميلهم، وتعقّبوا والدي حتى وصوله إلى البيت؛ وللعلم فإنه توجد حساسية بين رجال الشّرطة ورجال الدّرك لا يعرف سببها إلاّ من سبق له العمل بإحدى هاتين الوظيفتين، وهذه حقيقة لاينكرها إلاّ جاهل أو جاحد. وخرج إليهم والدي، ووقع بينه وبينهم مشادّات لفظية انتهت بصدّهم؛ وقد يظنّ الظّان أنّني أُبالغ في كلامي هذا، لكن الذين يعرفون والدي لايتردّدون في تصديقي.
                        تفاديا لوقوع المزيد من المشاكل والتسبّب في الإحراج لرجالات الدّرك الذين اشتدّ حِنقهم ولم يعودوا قادرين على كظم الغيظ، فقد بات لزاما على والدي الشرطي التّفكير في وسيلة أخرى تجنّبه ارتداء الزّي الرّسمي، الذي لم يعد يجدي مع رجال الدّرك الأجلاف. وليس ثمّة من وسيلة سوى اقتناء"كُودْ دو لاروتْ" ومحاولة فهمه وحفظه. لكن "الكود"، أو ما يمكن تسميّته بـ(قانون السير) -إذا جاز التعبير- مفرنس، والوالد يتعذّر عليه فهم هذه اللّغة وحروفها الثّقيلة على اللّسان، ما يحول دون فهمه واستيعابه. ومن ثمّ فقد فكّر أبي في الاستعانة بي. وكنتُ يومها أدرس في السنة الأولى من التّعليم المتوسّط، حديث العهد باللّغة الفرنسية، وتطلّب الأمر اقتناء قاموس لترجمة المصطلحات التقنيّة العسيرة. وقد دفعتْ الغِبطة والضرورة الملحّة بوالدي، إلى اقتناء أفضل القواميس، من التي وجدها أمامه. ومن عجيب المفارقات أنه تيسّر لي أنا أيضا حفظ هذا "الكود"، وكان ذلك سببا في حصولي على رخصة السيّاقة، فيما بعد. فشكرا لك أبي.
                        يتبع.../...
                        التعديل الأخير تم بواسطة مصباح فوزي رشيد; الساعة 02-11-2021, 08:14.
                        لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ

                        تعليق

                        • الهويمل أبو فهد
                          مستشار أدبي
                          • 22-07-2011
                          • 1475

                          #87
                          المشاركة الأصلية بواسطة مصباح فوزي رشيد مشاهدة المشاركة
                          فتحتْ والدتي قلبها لولدِ خالها، فكانوا لايتردّدون في زيارتنا. وكانت أمي هي الأخرى، تذهب إلى بيت خالها القريب منّا، ويوجد على بعد خطوات قليلة من بيتنا الجديد. وكان خالها "الطّالب" معلّم قرآن بشوشًا، ولدبه ميل للدُّعابة. وكان أفراد عائلته، والبالغ عددهم ستّة بين ذكور وإناث، قد تربّوا في جوّ من اللّباقة واللّطافة، فحظيتْ خلاله بنوع من المودّة المتبادلة.
                          وكان خالها هذا يكفل ابن عمّها الشّهيد -رحمة الله عليه- بعد موت أمّه وهو في سن الرّضاعة. وكان ولد عمّها هذا، وهو في سن رشد مبكّرة، يعشق كرة القدم، كثير الكلام عن نجومها. فتأثّرتُ بكلامه، ووجدتني مقلّدا لبعض من هؤلاء النّجوم، ومن بينهم كنتُ أحبّ أن أكون في لياقة وتألّق الحارس(ياشين)؛ الذي كان يلعب لمنتخب الأتّحاد السوفياتي(آنذاك). ولأنّني كنتُ أفضّل حراسة المرمى على غيره من المناصب، وذلك في المباريات التي كانت تجمعنا مع أبناء الحي؛ سواء التي نقيمها أمام البيت، أو تلك التي نجريها في "الطَّرْحة" أو "الطَّحْطاح"، بالجهة المقابلة للسكّة الحديديّة: وهو مكان حقول القمح والشّعير الذي نقوم بتهيئته في مواسم الصّيف بُعيْد نهاية عمليّة الحصاد.
                          واستأنستْ أمّي بزوجة وبنات خالها، ولم تعد تتردّد في زيارة بيته المجاور لبيتنا. وكانتْ تطلعني على بعض ما دار بينها وبينهنّ، من كلام مهم. ولم يكن في تردّد والدتي، على بيت خالها هذا، ما يقطع الطّريق على الذّهاب إلى أقارب والدي بالبيت العتيق؛ أين تقيم بالإضافة إلى الجدّة، ابنة العم التي تقوم على رعايتها، وأمّها السّاذجة التي قبلتْ بزواج العم من قريبته، وزوجة أبيها الشّابة وكانت في سنّها تقريبا. وبقيتْ الوالدة مراعية لهذا الوِدِّ، محافظة على أوقات الزيّارات.
                          لكنّها ومنذ تزوّج رجل عمّتي المتوفّاة بامرأة مطلّقة لها ولدان لتعوّض العجوز(رقيّة)، والتي تزوّج بها عُرفيّا ولم يكن زواجا رسميّا، نظرا لسنّهما الكبيرين، ولأن الغرض من هذا الزّواج كان حضانة الولدين الصغيرين اللّذين تركتْهما وراءها العمّة المتوفّاة. وكذلك زواج بناته الأربع، بما في ذلك البنت الأخيرة التي تزوّجت بابن خالها؛ الزّواج الذي تم بينها وبين ابن عمّي الحاج وقد مرّ عليه شهور عشنا معه أجمل اللّحظات في دوار مشتى (العين البيضاء) لولا الموت المفاجئ الذي ألمّ بالأسرة الكبيرة... فبات لزاما على "الخضّار" المغبون؛ الذي يذهب أوّل النّهار ولا يعود إلاّ في ساعات متأخّرة، اللّجوء إلى جاره "التلّي"؛ الشّايب (صالح) الجزّار الذي لم يقصّر في تزويج ابنته المطلّقة بزوج عمّتي الذي تكفّل بولديها الصّغيرين زيادة على ولديه اللّذين يفوقانهما بسنوات وقد بلغ أحدهما وقتئذ سن الرّشد، بينما كان الأصغر يتبجّح أمامي بأنه يفوقني بثلاث سنوات كاملة... تطوّرتْ العلاقة بين الوالدة وزوجة الخضّار؛ زوج المرحومة عمّتي، وتعدّدتْ زياراتها إليها. وكانت هذه المرأة الودود، كثيرة الشّكوى، كثيرة الكلام. لكن في المقابل، كانت قاصّة ممتازة، وحكّاء؛ تستغرق اللّيل بطوله في سرد القصص المروّعة، والمرعبة؛ عن الأشباح، و الجنّ و"الأرواح"... ولا تكبح جماحها إلـّا نادرا. وكنتُ أتابع كلامها بشغف واهتمام كبيرين، فبتّ أعاني من خوف ورهاب شديدين، حتى إنّني لم أكن قادرا على النّوم وحدي في غرفة مظلمة.
                          وعكس ذلك، فقد وجدتْ والدتي الأنس في القرب من هذه المرأة"الحكّاء"، واللذّة في كلامها المروّع المرعب. فصارتْ لا تقدر على فراقها لولا خوفها من الظّنون؛ ولربما يكون قد تسلّل بعض الكلام من الذي كان قد دار بينها وبين المرأة عبر شقوق ومسامات الجدار الهش، ووصل إلى آذان الحرائر في الجهة المقابلة، وتجتهد ألسنتهنّ في نقله وتأويله إلى المغيّبين من الأعمام والحماة؛ الجدّة المسكينة.
                          يتبع.../...
                          هذا الفصل فصل "أسرة" بامتياز. والعلاقات وصلات النسب بين أفراد هذه الأسرة من التعقيد بحيث تشبة
                          خارطة أنهار الولايات المتحدة، بسبب ضيق مساحة الرقعة الجغرافية التي احتوت شخصيات هذا الفصل
                          المتعددة. ومصطلح "الأسرة" هو خير ما يحيط بهذه العلاقات الكثيفة— وحسب بعض أعراف الأنثروبلوجيين
                          فإن الخال أو نسله أبعدها نسبا. ومثل هذا التداخل العرقي أمر شائع في الأرياف وعند القبائل (والأسباب
                          متعددة ومعروفة). ورغم كره انتقال صاحبنا إلى هذه البيئة إلّا أنه اتصل بوالدته التي هجرت المنزل في فصل
                          سابق، ويبدو أن حياتها الاجتماعية والنفسية هنا أحسن حالا. صاحبنا نفسه أيضا يبدو أفضل وضعا مما ألفناه
                          لكن عنفوان نشاطه وحركته تضاءلت عن ما اعتدنا عليه ربما لأن بؤرة الفصل معنية بالمشهد الأسري أكثر من
                          تمركزها حوله. وهكذا عرفنا بعض أسباب الزواج (فبعضها للعناية بالاطفال وكفالتهم أو لأسباب شرعية
                          اجتماعية تبيح لمسنِّة وجودها في بيت رجل ليس من محارمها الشرعيين). وتكثر مثل هذه الحالات في البيئة القبَلية
                          والأرياف وهي نوع من التكافل الاجتماعي ورعاية ذوي القربى بما يتناسب مع شريعة أو أعراف اجتماعية. ويبدو
                          أن مثل هذا التكافل المحمود يقل ويتضاءل وجوده كلما أوغل المجتمع بـ(التحضر) والمدنية.

                          تعليق

                          • الهويمل أبو فهد
                            مستشار أدبي
                            • 22-07-2011
                            • 1475

                            #88
                            المشاركة الأصلية بواسطة مصباح فوزي رشيد مشاهدة المشاركة
                            كان والدي رحمه الله كريما جوادا، رغم محدودية الدخل، ولم يكن لديه سوى الأجرة الشّهرية التي يتقاضاها من الشرطة. كما كان شديد الحرص على أناقته، دقيقا في معاملاته، منضبطا في سلوكاته اليومية، فلم يتخلّف أبي يوما عن العمل. وكان يعمل بالتناوب كل يومين. ولم تكن هناك من وسائل نقل متوفّرة مضمونة، سوى حافلة تقطع المسافة يوميا بين (وادي سوف) و(عنّابة). مما جعلها تتعرّض للعطب أحيانا. وقد اُضطُرّ والدي إلى اقتناء سيارة من نوع "رينو دوفين"، على الرّغم من عدم امتلاكه لرخصة السياقة. وكان يرتدي الزيّ الرّسمي حتى لا يتم توقيفة في الحواجز التي يقيمها رجال الدرك. وقد تسبّب ذلك في حرج كبير للدركيين، الذين كانوا يبجّلونه بسبب الوظيفة. وحدث في أحد الأيام وأن كان هناك دركي جديد لا يعرف والدي، فطلب منه رخصة السيّاقة. لكن الوالد لم يتجاوب معه وعبر الحاجز دون توقّف. فغضب الدركيون لزميلهم، وتعقّبوا والدي حتى وصوله إلى البيت؛ وللعلم فإنه توجد حساسية بين رجال الشّرطة ورجال الدّرك لا يعرف سببها إلاّ من سبق له العمل بإحدى هاتين الوظيفتين، وهذه حقيقة لاينكرها إلاّ جاهل أو جاحد. وخرج إليهم والدي، ووقع بينه وبينهم مشادّات لفظية انتهت بصدّهم؛ وقد يظنّ الظّان أنّني أُبالغ في كلامي هذا، لكن الذين يعرفون والدي لايتردّدون في تصديقي.
                            تفاديا لوقوع المزيد من المشاكل والتسبّب في الإحراج لرجالات الدّرك الذين اشتدّ حِنقهم ولم يعودوا قادرين على كظم الغيظ، فقد بات لزاما على والدي الشرطي التّفكير في وسيلة أخرى تجنّبه ارتداء الزّي الرّسمي، الذي لم يعد يجدي مع رجال الدّرك الأجلاف. وليس ثمّة من وسيلة سوى اقتناء"كُودْ دو لاروتْ" ومحاولة فهمه وحفظه. لكن "الكود"، أو ما يمكن تسميّته بـ(قانون السير) -إذا جاز التعبير- مفرنس، والوالد يتعذّر عليه فهم هذه اللّغة وحروفها الثّقيلة على اللّسان، ما يحول دون فهمه واستيعابه. ومن ثمّ فقد فكّر أبي في الاستعانة بي. وكنتُ يومها أدرس في السنة الأولى من التّعليم المتوسّط، حديث العهد باللّغة الفرنسية، وتطلّب الأمر اقتناء قاموس لترجمة المصطلحات التقنيّة العسيرة. وقد دفعتْ الغِبطة والضرورة الملحّة بوالدي، إلى اقتناء أفضل القواميس، من التي وجدها أمامه. ومن عجيب المفارقات أنه تيسّر لي أنا أيضا حفظ هذا "الكود"، وكان ذلك سببا في حصولي على رخصة السيّاقة، فيما بعد. فشكرا لك أبي.
                            يتبع.../...
                            من ضيق رقعة الجغرافيا في الفصل السابق إلى سعة الرقعة بين (وادي سوف) و (عنّابة) نحن على الطريق
                            مع الراوي ووالده الشرطي. والمعروف أن للطريق مخاطره، وليس غريبا أن يتعرض المسافر لأحداث
                            ومغامرات. بعضها أظهرت لنا خصائص الشخصية والحزازات بين فئات أفراد المؤسسات المختلفة
                            كتلك التي بين أفراد مؤسسة الدرك وأفراد مؤسسة الشرطة. وهي حزازات قابلنا في الفصول السابقة
                            مثلها بين الرواي وأقرانه من أهل الحي الذي يسكنه. كان الراوي فيها أكثر حكمة في تعامله معها من
                            والده في تعامله مع الدركي الجديد. غابت في هذا الفصل المرارة التي كان الراوي يشعر بها تجاه والده
                            وحل مكانها الإعجاب بسمات والده الخلقية ومغامراته. ولا شك أن السبب يعود إلى نمو الراوي
                            نسبيا وربما تحسن وضع والدته النفسي والاجتماعي (كما رأينا في الفصل السابق) وإلى أيضا
                            حقيقة أنه يكتب من منظور الوعي الراشد الناضج اليوم. وهو هنا يعين والده ويهيئه للحصول
                            على رخصة السير وتجنب الصدام مع فئة الدرك. وإن تحقق هذا الهدف فإن عبئا ثقيلا سيزول
                            عن كاهل والده. ويبدو أن الراوي كان ناجحا يالمهمة بدليل أنه هو نفسه أصبح مهيئا لاجتياز
                            اختبار السير حين تقدم له فيما بعد. جدير بالملاحظة أن حيّز الفصل السابق الضيق كان من
                            حيث الشخصيات أثرى مما نجده في الحيز الفسيح في هذا الفصل.

                            تعليق

                            • مصباح فوزي رشيد
                              يكتب
                              • 08-06-2015
                              • 1272

                              #89
                              في نهاية العام الدراسي سنة(1974)، أيقضتني والدتي باكرا، فأفقتُ على خبر امتحانات "السّيزيام".
                              لم أتردّد وقمتُ من مكاني وتوجّهتُ إلى الحمام، أين قضيتُ حاجتي. ومن ثمّ إلى حوض الغسيل، وتخلّصت من رائحة النّوم. وبعد تناولي وجبة الفطور، قمتُ بارتداء ملابسي الجديدة. واستلمتُ زجاجة العطر من والدتي فتعطّرتُ، ووضعتُ قليلا من العطر على ثوبي الجديد. ودسّتْ ببعض النّقود في جيبي وهي توصيني بتناول بعض الحلوى لأنّها -كما قالتْ- تفيد الذّاكرة، وتساعد على التركيز. وكان كلامها قد بثّ في نفسي الشّعور بالرّاحة والطمأنينة؛ وكانت رحمها الله مستمعة جيّدة مُهتمّة يالنّصائح التي يقدّمها الأطباء في القنوات الإذاعية.
                              بعد أيّام من ذلك، تسرّب الخبر، وهرع المعنيّون وغير المعنيّين؛ من التّلاميذ والأولياء والفضوليّين، قاصدين متوسّطة(أحمد البوني) -وكانت الوحيدة آنذاك-، أين تمّ تعليق القوائم الإسمية للنّجباء والفائزين. وكان خليقا بي أن أُعيد بثّ الرّوح في البيت الذي افتقدتُ فيه أنا ووالدتي معنى الحياة. وكان أوّل ما وقع بصري على اسمي الذي ورد ذكره في أوّل القائمة بالسبّورة، المعلّقة في الحائط الكبير. فأطلقتُ العنان لساقيّ مسرعا إلى البيت، فوجدتُ والدتي أمام الباب تترقّب وصولي، تتلهّف لسماع الخبر منّي. وحين رأتْني، وقد بدتْ علامات الغِبطة من على وجهي، تلقّتني بالأحضان؛ وليس في هذا العالم الغريب وسادة أنعم من حضن الأم.
                              ومن عند والدتي غادرتُ المكان، أطلب والدي، أحمل البشرى إليه كي أسعده. ولستُ أدري من الذي دلّني على مكانه، فعثرتُ عليه بالمقهى. فتوجّهتُ إليه دون أن ألتفت إلى غيره. ورفع رأسه حين شعر بقدومي، فاطلعته على الخبر السّار، لكنّه كان منهمكا في اللّعب، مكبّا على قطع "الدومينو". فأدخل يده في جيبه، وأخرج قطعة نقود. فأخذتها وانطلقتُ كالسّهم، في طريقي إلى قاعة السينما القريبة من المقهى. ولا تسلْ عن فرحتي الكبيرة وأنا بالباب أنتظر التّذكرة لمشاهدة الفيلم الذي قد تمّ الإعلان عنه في المساء؛ من خلال ملصقة "الأفيش"التي تعوّدنا على رؤيتها معلّقة بعمود الكهرباء بمفترق الطّرق، وسط القرية. وكان ثمن التّذكرة حينها: "عشرة دورو"، خمسون سنتيما. ولم يكن هذا المبلغ يعجزني حتّى أخصّ به والدي، ولكن أردتُ أن استأثر بليلة أقضيها في الخلاء.
                              يتبع.../...

                              التعديل الأخير تم بواسطة مصباح فوزي رشيد; الساعة 05-11-2021, 11:16.
                              لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ

                              تعليق

                              • الهويمل أبو فهد
                                مستشار أدبي
                                • 22-07-2011
                                • 1475

                                #90
                                يوم النجاح
                                ليس اليوم كغيره من الأيام. اليوم يوم فرحة النجاح. وفيه عرفنا نشاطاته منذو أفاق من نومه حتى انتهى
                                به أن اختفى في دار السينما. في هذه الدورة من الزمن مررنا بمحطات القرية/المدينة الكبرى: البيت وثوبه
                                الجديد وبعض الحلوى التي تنشط الذاكرة حين غادر إلى المحطة التالية (المدرسة). ليس مثل النجاح فرحة،
                                فلم يكد يلمح اسمه في أعلى القائمة حتى أطلق ساقيه للريح ليبشر والدته بالنتيجة. لم تكن بحاجة أن
                                يبوح لها لفظيا: كانت رؤيته مقبلا فيها الكفاية-- وقلب الأم دليلها. من هنا ذهب يبحث عن والده
                                لينقل له الخبر السار، ووجده منهمكا بلعبة الدمينو لكنه أيضا احتفل بنجاح ابنه بأن وهبه شيئا من
                                المال-- وانطلق تلميذنا النجيب ليحتفل هو بدوره وأن يقضي وقتا ممتعا في دار السينما.

                                اليوم من الأيام القليلة جدا التي يذكر ملابسه، ويذكرها في مناسبات مهمة. أحد هذه المناسبات
                                القليلة كانت يوم ختانه ويوم اشترى له والده بذلة ليلتقط له صورة تذكارية. ونعلم ما حدث بعد
                                المناسبتين. في هذه المناسبة السعيدة أردت تهنئته بالنجاح لكنني لا أعرف اسمه. وهذا أمر
                                عليه أن يعالجه في الفصول السابقة.

                                تعليق

                                يعمل...
                                X