ضائعٌ بين أقرانه

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • منيره الفهري
    مدير عام. رئيس ملتقى الترجمة
    • 21-12-2010
    • 9870

    #46
    المشاركة الأصلية بواسطة الهويمل أبو فهد مشاهدة المشاركة
    أهلا بالأميرة المنيرة
    حسبت أننا أصدقاء وحسن الظن متبادل بيننا.
    لا أذكر أنني قلت إن من يتكلم الفرنسية ...
    والمعلوم بالضرورة أن من "لا يتكلم الفرنسية" خاصة في الطبقة العليا في بريطانيا يعتبر من سقاط القوم.
    أكثر من 80% من مفردات الأنجليزية ذات أصل فرنسي. بل إن المفردات ذات الأصل الانجليزي لا
    تتجاوز أصابع اليد الواحدة. فإذا فعلا وردت العبارة في أحد مشاركاتي بصيغة الاثبات فهي خطأ في الرقن.
    فاللغة الفرنسية ليست لغة الرومانسية وحسب بل أيضا لغة القانون.
    ورقة اللغة الفرنسية تشبه رقة ملمس الأفعى-- ولنقارن اليوم بين حال مستعمرات فرنسا ومستعمرات
    بريطانيا؟
    وعودا حميدا
    أكيد نحن أصدقاء أستاذنا الجليل الهويمل ابوفهد
    ربما انا اختلطت علي الأمور و لم ار كلمة "لا"..
    اعتذر منك..
    و هذا ما اردته ان تقول و تقر ( ابتسامة) بأن اللغة الفرنسية هي لغة الرومانسية و القانون.
    تحياتي و أكثر أستاذنا العزيز
    و نواصل متابعة الحكاية الشيقة..

    تعليق

    • منيره الفهري
      مدير عام. رئيس ملتقى الترجمة
      • 21-12-2010
      • 9870

      #47
      نتابعك أستاذنا الفاضل
      مصباح فوزي رشيد
      تحياتي الصباحية

      تعليق

      • الهويمل أبو فهد
        مستشار أدبي
        • 22-07-2011
        • 1475

        #48
        المشاركة الأصلية بواسطة مصباح فوزي رشيد مشاهدة المشاركة
        توفي جدّي (سي حمّو) -كما ينادونه-، والد أبي، في سنة (1965) بمستشفى مدينة عنّابة بعد تعرّضه لوعكة صحيّة. كان رحمة الله عليه من حملة القرآن المجيد، ومسئولا عن جمع الأموال والاشتراكات خلال ثورة التحرير؛ وقد عثرتُ على قُسيْمات بحجم اليد في خزانته البيضاء الصّغيرة التي تركها وراءه، وكانت مشحونة بالكتب والجرائد وبعض المجلاّت النّاطقة باسم جمعية العلماء المسلمين.
        كان جدّي يحبّني كثيرا، وكنتُ أنام في أحضانه، وكان لاينام حتى يقرأ ورده اليومي من القرآن العظيم.
        خلّف جدّي أربعة من الذّكران، وبنتين؛ عمّي الأكبر وهو الوصي من بعده على العزبة أو المزرعة، أو "الفيرمة" كما تُسمّى. يأتي بعده عمّي الأوسط، وهو مكلّف بالعتاد المتكوّن من جرّار كبير من نوع "ماكورميك فارمال "، وجرّار آخر صغير من نوع "ماسي فيرغسون" (ولي معه قصّة طريفة سأرويها لاحقا). وكل ما يتبع الجرّارين من آلات مقطورة ومجرورة و محاريث، وآلة حصاد "سبيكادور" قديمة. وأما عمّي الذي يأتي في المرتبة الثّالثة، فوظيفته "السّرحة"، و"السّرحة" لا غير. ليس له صاحب ولا أنيس سوى القطيع الذي يلازمه طول النّهار وأحيانا في اللّيالي حين يتفقّده. محروم من كل شيء ومن الحياة، ممنوع من كلّ الملذّات، ولكم عانى عمّي هذا من الوحدة والتهميش. هذا المغبون المحروم الذي لا يعرف معنى الرّاحة إلاّ حين يعود في آخر النّهار ليتناول جدع¤ كسرة ثم يضع خدّه على الوسادة ويسلّم روحه التّعيسة لبارئها، لم يغادر الدوّار إلاّ حين حملوه على الأكتاف. ولطالما كانت جدّتي تبكي بحرقة وترثي لحاله حتى ضجر من نحيبها كل الأعمام. وأمّا اصغرهم جميعا فوالدي الذي قرّر أن ينخرط في "الجهاز الوطني للأمن"، وعبثا حاول جدّي أن يَثْنيه عن رأيه، فلم يُصغِ إليه وركب رأسه دون رويّة؛ لستُ أدري لماذا كان بعض الأفراد آنذاك يتحفّظون من الوظائف التي لها علاقة بأجهزة الدّولة؟.
        لكن في جميع الأحوال فإن لمشتى "أعوينتْ أملّـالتْ" - كما يناديها أهلها وتعني (العين البيضاء) -، بعض المميّزات التي لا توجد في دوّار الأخوال؛ منها خاصّة تضاريسها الخلاّبة، فالدّوار الذي لايبعد سوى ببعض الأميال يقابله جبل (بوسّسو) الشهير البعيد عنه نسبيا، تتخلّله شعاب ملتوية لا بداية ولا نهاية لها.
        يتبع .../...

        هذه الحصة حصة الجد بامتياز (رحمه الله تعالى وعفا عنه). عرفنا دوره بالأسرة وبالنضال. ولعله الوحيد (غير الأم) الذي
        علاقته وطيدة بالراوي. تعرفنا أيضا على أفراد الأسرة الذكور ودور كل منهم. فهم القوة العاملة، خاصة الأوسط منهم.
        تعاطف الراوي معه ظهر في توصيف حياته ومدى حزن والدته على وفاته. وكالعادة في المجتمع الشرقي، احتجبت النساء
        في حصة الأسرة. (ربما سيأتي تعريف بهن إن كان لهن دور مهم.)

        في هذه الأسرة الوحيد الذي شذّ عن توزيع مهام الذكور هو والد الراوي، إذ أصر على العمل الرسمي الحكومي بديلا
        للمساهمة في مهام الأسرة. هو في العرف الروائي (الأبن الضال). صحيح أننا لا نعرف الكثير عنه، غير موقف الراوي
        ومعارضة الأسرة لخياراته. والراوي يتساءل: (لست أدري لماذا كان بعض الأفراد آنذاك يتحفّظون من الوظائف التي لها
        علاقة بأجهزة الدولة؟)
        السبب طبعا اجتماعي في المقام الأول ثم فكري. وفي هذا وغيره
        نجد أن الأسرة المغاربية لا تختلف عن مثيلتها المشرقية
        (في البادية وفي الريف). في بداية تكوين الدولة الحديثة كان العرف الاجتماعي والتقاليد هي القانون سواء في البادية
        أو الريف. في الدولة الحديثة أخذ القانون دور الأعراف الاجتماعية خاصة القبلية. كانت الجماعة ومصلحتها هي السائدة،
        وفي القانون الفرد (على الأقل نظريا) هو السائد. وهذا تحول مزلزل للسائد.

        والدولة هي المسئولة عن حفظ النظام وهذا ينافي ما اعتادته القبيلة أو الجماعة في تحقيق عدالتها بالقوة والسطوة. فالأبن
        الضال تحول (بل "ركب رأسه") من الأسرة إلى ما يهدد الأسرة. طبعا هذه الفكرة العامه خلف التحفظ وتفاصيلها دقيقة
        ومعقدة يقتضيها "الصالح العام" و"الوطن". وهذا بُعدٌ غائي وهدف أعلى من مصلحة جماعة أو قبيلة وبالتالي قد تفقد
        الجماعة مصلحتها الضيقة. أما على الجانب الشخصي فالمرؤ قد يزامل فردا من قبيلة معادية ويعتبره صديقا دعك من
        تقييد الحرية بأوقات معينة وأمرك بيد غيرك. وهذه لم يعتدها الفرد في أسرته أو لم تعتدها القبيلة. (تستطيع اليوم أن تقيس
        المسافة بين ما كان عليه الوضع وما هو عليه اليوم).

        تعليق

        • منيره الفهري
          مدير عام. رئيس ملتقى الترجمة
          • 21-12-2010
          • 9870

          #49
          يبدو أن حمى السيرة الذاتية بدأت تدب في الملتقى
          فسأحاول ان أكتب أنا أيضا.. و لم لا؟
          ( ابتسامة)

          تعليق

          • مصباح فوزي رشيد
            يكتب
            • 08-06-2015
            • 1272

            #50
            ومن مميّزات مشتى (العين البيضاء) هو التّواصل المتواصل أو المستمر بين الأسر؛ ولا تكاد تجد بابا موصدا أمامك. ولربّمـا لم أكن في حاجة إلى إذن من أحد كي أتنقّل بين البيوت لأنّني كنتُ في سنّ الحداثة، لا يمنعني من ذلك سوى الخوف من بعض الكلاب التي لا تعرفني.
            كذلك من مميّزات هذا الدوّار ، وجود مطامير لتخزين حبوب القمح والشّعير. لكنّها كانت مغلقة. وقد دفعني الفضول لمعرفة ما بداخلها، فقام أبناء العمّ بنزع الأغطية الحجرية من فوقها، وسمحوا لي بإلقاء نظرة على الحفر المخروطية التي قد تجاوزت المترين تقريبا. بعض من هذه المطامير قد امتلأ عن آخره، وأخرى بقيت خاوية وقد علق بجوانبها بقايا حبوب تعفّنت بفعل الرّطوبة و عوامل الزّمن، تنبعث منها رائحة قويّة تزكم الأنوف، وهو الذي يسمّونه "الجنّابي" أو "المشروب".
            في أواخر أيّام الصيف، يكون البدو قد خلصوا من حصاد منتوجهم من القمح والشعير، وتكون المطامير قد امتلأت عن آخرها، وكذلك الجيوب. ويعمّ الرّخاء ويعيد هؤلاء ترتيب أمورهم، ويبدأ التفكير في إقامة الأفراح.
            وأذكر أنه في أواخر صيف (1968) "تآمر" علينا أهالينا، نحن معشر الأطفال؛ فبينا كنا منشغلين بـ"تجارة" اللّهو والعبث، وإذ بهم يقيمون اتّصالات بسي (مصباح) الطهّار، وحصلوا منه على موعد. ولم نفق من اللّهو والمرح حتى وجدنا أنفسنا في "دار الضيّاف" التي لا تفتح إلاّ بمناسبة. وكنّا حوالي عشرة من مختلف الأعمار، والقرابة التي تربط بيننا. وألبسونا الجِباب، وزيّنوا رقابنا بالمناديل الملوّنة، وجاءت النّسوة يزغردن وينشدن:(طهّر يا المطهّر صحّة لأ يديك ما تجرحش وليدي ، لا نغضب عليك).
            وأمسك النّسوة أصابع أيدينا وخضبْنها بالحنّاء... عندها فقط أدركنا فداحة أمرنا. ثمّ تراجعن إلى الوراء وأواني الحنّة في أيديهن، فتقدّم الرّجال ومعهم (سي مصباح) الطهّار، صاحب الرزّة المزركشة والابتسامة الصفراء، وفي يده حقيبة صغيرة؛ خُيّل لي لأوّل وهلة أنّها مملوءة بآلات الذّبح والتقطيع، كالسّكاكين الحادّة والمناشير والكلاليب... وتسلّل إلى قلوبنا الرّعب؛ فمنّا من اغرورقت عيناه لكنه تمالك نفسه خوفا من أن يُقال عنه جُبِنَ، ومنّا من أجهش بالبكاء، ومن تبوّل تحته من شدّة الخوف، ومنّا من انفجر في وجه الطهّار وأسمعه قبيح الكلام...وعمّي الطهّار بين هذا وذاك، يحاول صرف الأنظار إلى "فراخ" لاوجود لها، بقوله: - شوف الفرخ فالسْما.
            وهو يشير بسبّابته إلى أعلى.
            ومرّت تلك الدقائق واللّحظات من الخوف الممزوج بالفرح بسلام على الأهل والأقران، لكنها لم تمر حتّى تسبّبت لي في عاهة، وتركتْ في قلبي جرحا عميقا لم أُشفَ منه إلاّ بشقّ الأنفُس.
            يتبع .../...

            التعديل الأخير تم بواسطة مصباح فوزي رشيد; الساعة 29-09-2021, 05:40.
            لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ

            تعليق

            • الهويمل أبو فهد
              مستشار أدبي
              • 22-07-2011
              • 1475

              #51
              المشاركة الأصلية بواسطة مصباح فوزي رشيد مشاهدة المشاركة
              ومن مميّزات مشتى (العين البيضاء) هو التّواصل المتواصل أو المستمر بين الأسر؛ ولا تكاد تجد بابا موصدا أمامك. ولربّمـا لم أكن في حاجة إلى إذن من أحد كي أتنقّل بين البيوت لأنّني كنتُ في سنّ الحداثة، لا يمنعني من ذلك سوى الخوف من بعض الكلاب التي لا تعرفني.
              كذلك من مميّزات هذا الدوّار ، وجود مطامير لتخزين حبوب القمح والشّعير. لكنّها كانت مغلقة. وقد دفعني الفضول لمعرفة ما بداخلها، فقام أبناء العمّ بنزع الأغطية الحجرية من فوقها، وسمحوا لي بإلقاء نظرة على الحفر المخروطية التي قد تجاوزت المترين تقريبا. بعض من هذه المطامير قد امتلأ عن آخره، وأخرى بقيت خاوية وقد علق بجوانبها بقايا حبوب تعفّنت بفعل الرّطوبة و عوامل الزّمن، تنبعث منها رائحة قويّة تزكم الأنوف، وهو الذي يسمّونه "الجنّابي" أو "المشروب".
              في أواخر أيّام الصيف، يكون البدو قد خلصوا من حصاد منتوجهم من القمح والشعير، وتكون المطامير قد امتلأت عن آخرها، وكذلك الجيوب. ويعمّ الرّخاء ويعيد هؤلاء ترتيب أمورهم، ويبدأ التفكير في إقامة الأفراح.
              وأذكر أنه في أواخر صيف (1968) "تآمر" علينا أهالينا، نحن معشر الأطفال؛ فبينا كنا منشغلين بـ"تجارة" اللّهو والعبث، وإذ بهم يقيمون اتّصالات بسي (مصباح) الطهّار، وحصلوا منه على موعد. ولم نفق من اللّهو والمرح حتى وجدنا أنفسنا في "دار الضيّاف" التي لا تفتح إلاّ بمناسبة. وكنّا حوالي عشرة من مختلف الأعمار، والقرابة التي تربط بيننا. وألبسونا الجِباب، وزيّنوا رقابنا بالمناديل الملوّنة، وجاءت النّسوة يزغردن وينشدن:(طهّر يا المطهّر صحّة لأ يديك ما تجرحش وليدي ، لا نغضب عليك).
              وأمسك النّسوة أصابع أيدينا وخضبْنها بالحنّاء... عندها فقط أدركنا فداحة أمرنا. ثمّ تراجعن إلى الوراء وأواني الحنّة في أيديهن، فتقدّم الرّجال ومعهم (سي مصباح) الطهّار، صاحب الرزّة المزركشة والابتسامة الصفراء، وفي يده حقيبة صغيرة؛ خُيّل لي لأوّل وهلة أنّها مملوءة بآلات الذّبح والتقطيع، كالسّكاكين الحادّة والمناشير والكلاليب... وتسلّل إلى قلوبنا الرّعب؛ فمنّا من اغرورقت عيناه لكنه تمالك نفسه خوفا من أن يُقال عنه جُبِنَ، ومنّا من أجهش بالبكاء، ومن تبوّل تحته من شدّة الخوف، ومنّا من انفجر في وجه الطهّار وأسمعه قبيح الكلام...وعمّي الطهّار بين هذا وذاك، يحاول صرف الأنظار إلى "فراخ" لاوجود لها، بقوله: - شوف الفرخ فالسْما. وهو يشير بسبّابته إلى أعلى.
              ومرّت تلك الدقائق واللّحظات من الخوف الممزوج بالفرح بسلام على الأهل والأقران، لكنها لم تمر حتّى تسبّبت لي في عاهة، وتركتْ في قلبي جرحا عميقا لم أُشفَ منه إلاّ بشقّ الأنفُس.
              يتبع .../...

              جميل هذا الفصل وثري. فهو يمنحنا بعدا جديدا من حياة "البدو". إذ للبدو مصيف ومشتى، وهو ترحال يتسق
              مع ما هو معروف عن تنقل حياتهم واتباع مصادر رزقهم ورزق ماشيتهم. وهذا أيضا يقتضي بعدا جغرافيا وزمنيا
              (وهو نشاط استبدلته الحضارة والمدنية بالسفر للمقتدرين. بينما كان البدو ينعمون به جمعيا كضرورة حياة).
              الحياة الاجتماعية في العين البيضاء خالية من التكلف والجميع هنا أسرة واحدة والخير وفير ولا يعكر صفو
              الحياة ورتابتها إلا مناسبة سعيدة أو فضول "صاحبنا" لمعرفة ما بداخل المطامير
              .

              كما اننا أيضا هنا على موعد مع الاحتفالات بأبعادها الدينية وطقوسها الانثروبولوجية التي توجت "أواخر أيام
              الصيف" بحفل الختان. وكان الحفل، من منظور صاحبنا، مؤامرةَ الأهل ضد عشرة من أطفالهم الذكور. وكانت
              معركة مرعبة قادها (مصباح الطّهار) ودارت رحاها في (دار الضيّاف) "التي لا تفتح إلاّ لمناسبة"ّ! كان المشهد
              حافلا بالألوان: "ألبسونا الجباب، وزينوا رقابنا الملوّنة، وجاءت النسوة يزغردن وينشدن [...] وأمسك النسوة
              أصابع أيدينا وخضبنها بالحناء ... عندها أدركنا فداحة أمرنا ". وكانت معركة الشجاعة والجبن. انتهت معركة
              الرجولة بسلام إلا ما سببته لصاحبنا من عاهة أحدثت في قلب الصغير "جرحا عميقا" شفي منه "بشق الأنفُس".

              للختان بعد ديني في الإسلام (واليهودية والكنيسة القبطية)، وهو عرف عند معظم القبائل الأفريقية. وأهم
              أبعاده الثقافية عند غير أهل الديانات السماوية أنه طقس عبور من الطفولة إلى "الرجولة". الطب الحديث
              يرى أنه مهم للتحصن ضد الكثير من الأمراض المعدية، وأهمها الأيدز (نقص المناعة المكتسبة).

              تعليق

              • مصباح فوزي رشيد
                يكتب
                • 08-06-2015
                • 1272

                #52
                لم يستغرق الأمر طويلا؛ أسبوعا أو زد عليه قليلا، حتّى ألقى رفاقي "المختونون" بجِبابِهم المخضّبة بالحنّاء والدّم، و تسرولوا. إلاّ أنا؛ لم يعد بمقدوري خلع الجُبّة وارتداء الملابس العادية، لأن الجرح لم يندمل. ومنعني الحياء والخجل من مصارحة أبويّ، أو والدتي على الأقل، لأنها لطالما قاست معي وحرّمتْ مجرّد النّعاس على جفنيها. ولا أظنّهما كانا على علم بأمري. وقد كنتُ أتوارى عن الأنظار، أراهن على عامل الزّمن، ومع الوقت ازداد الجرح إيغارا.
                وتمرّ الأيام والأسابيع، ويرحل الصيف مخلّفا لي وراءه همّا وألمًا كبيرين. ويحلُّ الخريف منذرا، ومبشّرا بقدوم موسم جديد ودخول مدرسيّ وشيك. وما كان ينبغي للجرح اللّعين، الذي أصابني في مقتل، أن يحرمني من إرتداء البدلة الجديدة، و يمنعني من الالتحاق بالمدرسة.
                لم أستطع مقاومة رغبتي الجامحة، فقمتُ بتضميد الجرح بقطعة قماش، وتسرولتُ أنا الآخر، وقصدتُ المدرسة مع أبناء الجيران وبعض من الزّملاء والاصدقاء. ولم يتنبّه لي هؤلاء، ورحتُ أقفز معهم، وأركضُ حيث يركضون، وأفعل مثلما يفعلون. ولم أنتبه لنفسي حتّى عدتُ في المساء وأردتُ قضاء الحاجة، فلم اقدر على نزع قطعة القماش إلاّ بمشقّة لأنّها التصقت بالورم. وهالني ما رأيتُ.
                ورحتُ أتطبّب بالتّراب، بدل المراهم وفي غياب التعقيم. وأضمّد الجرح بقطعة قماش، فتلتصق. وأقوم بنزعها بالقوّة، فتتسبّب لي في نزيف...، وبقيتُ أيّاما وأسابيع وأنا في تلك الظروف، أعاني في صمت. ولم تكن لديّ شجاعة كافية كي أصارح أحدا من الأقارب أو الأصحاب، ولا حتّى أقرب النّاس إليّ، والديّ اللّذين لستُ أدري إن كانا قد لاحظا شيئا على ابنهما الوحيد وهو يعاني، في تلك الأيّام الصّعبة؟
                يتبع.../...

                التعديل الأخير تم بواسطة مصباح فوزي رشيد; الساعة 08-10-2021, 05:13.
                لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ

                تعليق

                • الهويمل أبو فهد
                  مستشار أدبي
                  • 22-07-2011
                  • 1475

                  #53
                  المشاركة الأصلية بواسطة مصباح فوزي رشيد مشاهدة المشاركة
                  لم يستغرق الأمر طويلا؛ أسبوعا أو زد عليه قليلا، حتّى ألقى رفاقي "المختونون" بجِبابِهم المخضّبة بالحنّاء والدّم، و تسرولوا. إلاّ أنا؛ لم يعد بمقدوري خلع الجُبّة وارتداء الملابس العادية، لأن الجرح لم يندمل. ومنعني الحياء والخجل من مصارحة أبويّ، أو والدتي على الأقل، لأنها لطالما قاست معي وحرّمتْ مجرّد النّعاس على جفنيها. ولا أظنّهما كانا على علم بأمري. وقد كنتُ أتوارى عن الأنظار، أراهن على عامل الزّمن، ومع الوقت ازداد الجرح إيغارا.
                  وتمرّ الأيام والأسابيع، ويرحل الصيف مخلّفا لي وراءه همّا وألمًا كبيرين. ويحلُّ الخريف منذرا، ومبشّرا بقدوم موسم جديد ودخول مدرسيّ وشيك. وما كان ينبغي للجرح اللّعين، الذي أصابني في مقتل، أن يحرمني من إرتداء البدلة الجديدة، و يمنعني من الالتحاق بالمدرسة.
                  لم أستطع مقاومة رغبتي الجامحة، فقمتُ بتضميد الجرح بقطعة قماش، وتسرولتُ أنا الآخر، وقصدتُ المدرسة مع أبناء الجيران وبعض من الزّملاء والاصدقاء. ولم يتنبّه لي هؤلاء، ورحتُ أقفز معهم، وأركضُ حيث يركضون، وأفعل مثلما يفعلون. ولم أنتبه لنفسي حتّى عدتُ في المساء وأردتُ قضاء الحاجة، فلم اقدر على نزع قطعة القماش إلاّ بمشقّة لأنّها التصقت بالورم. وهالني ما رأيتُ.
                  ورحتُ أتطبّب بالتّراب، بدل المراهم وفي غياب التعقيم. وأضمّد الجرح بقطعة قماش، فتلتصق. وأقوم بنزعها بالقوّة، فتتسبّب لي في نزيف...، وبقيتُ أيّاما وأسابيع وأنا في تلك الظروف، أعاني في صمت. ولم تكن لديّ شجاعة كافية كي أصارح أحدا من الأقارب أو الأصحاب، ولا حتّى أقرب النّاس إليّ، والديّ اللّذين لستُ أدري إن كانا قد لاحظا شيئا على ابنهم الوحيد وهو يعاني، في تلك الأيّام الصّعبة؟
                  يتبع.../...

                  متميز هذا الطفل حتى في مآسيه! ولعل أخطر ما تثيره هذه الحادثة هي علاقة الطفل بأهله ومفاهيم (الحياء والعيب)!
                  حالة خطيرة حصلت أثناء عملية الختان وهي طبيا حالة يتعرض لها ما يقدر بـ 1.5% . في مثل هذه الحالات في العالم
                  الثالث نتائجها تكون وخيمة لأسباب متعددة. وفي العالم الشرقي العربي، ولسبب بسيط يتعلق بالعلاقات الأسرية
                  ومفهوم العيب، تتحول الحالة إلى كارثة. هذا البعد الثقافي (الحياء والعيب) -- لا أعلم متى يتعلمه الطفل-- ليس
                  موجودا في العالم الغربي. ولا الأهل منتبهون له. طبعا هذه الحال كانت في زمن أظنه انتهى؟ لكن يظل مفهوم العيب
                  موجودا خاصة في علاقة "الجسد" بالفضاء غير الشخصي. حتى عندما تكون الحال تهدد الحياة. هذا الوضع واقع مع
                  الراشدين اليوم؛ فما بالك به مع طفل قبل نصف قرن! وهو حياء لا تربطه صلة بأي شعبة "إيمان". إنما هو نتيجة
                  جهل مركب وإهمال.

                  ووضع صاحبنا الأسري والمجتمعي عموما يمنحنا نظرة استرجاعية لما كانت عليه الصحة العامة في مرحلة أملي أن
                  تكون ولّت وانتهت (حين كانت الولادة تحصل في البيت أو الصحراء والختان يحصل في حفل). (بالمناسبة: الختان
                  عندنا يحصل قبل أن يغادر المولود والأم المستشفى تحت اشراف طبي كامل-- بدون حفل.)

                  تنبع أهمية هذه الحصة من التصرفات الطفولية مع حالته الطبية والكوارث التي تسببت به محاولاته علاجَ الحالة. كما
                  أنه اليوم (في تفصيله بوضوح أسرار خططه العلاجية) عرّى الجسد تماما وكأنه يتطهر من جديد، كأنه يقول: ِلمَ لم يهتم
                  بي أحدٌ حين كنت أعاني! قال في الفصل السابق إنه تخلص من جرحها "بشق الأنفس"، لكنه اليوم يعيدها بتفاصيلها
                  الكاملة! ما لجرح بميت إيلام

                  تعليق

                  • مصباح فوزي رشيد
                    يكتب
                    • 08-06-2015
                    • 1272

                    #54
                    أعِرني لسانًا أيها الشعر للشكر: [ديوان معروف الرَّصافي] "شكر ووداع"
                    تتعثّر الحروف وتتبعثر الكلمات ولا أجد ردّا يليق بمقامكم الكبير عندنا. كنتُ أودّ أن أشكرك على كل هذه التحاليل الرّائعة والمجهودات الجبّارة وما تقوم به في سبيل إبراز المعاني الخفيّة وإعطاء أهميّة للنص الذي يعاني وصاحبه البائس؛ الطفل المتألّم. ولكم استدرجني عجز البيت الشعري [ما لِجُرحٍ بِمَيِّتٍ إيلامُ] للمتنبّي، فرُحتُ أنهل من أبيات القصيدة كلّها فاستوقفني البيت الذي يقول فيه: [وَاِحتِمالُ الأَذى وَرُؤيَةُ جانيـ**ـهِ غِذاءٌ تَضوى بِهِ الأَجسامُ].دمتم بخير وصحّة وعافية.
                    التعديل الأخير تم بواسطة مصباح فوزي رشيد; الساعة 03-10-2021, 10:24.
                    لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ

                    تعليق

                    • مصباح فوزي رشيد
                      يكتب
                      • 08-06-2015
                      • 1272

                      #55
                      لكن الوالدين اللّذين كان من واجبهما رعاية الولد والاهتمام به، ومحاولة الاقتراب منه أكثر فأكثر، والاطّلاع على أحواله و أسراره... قد باعدت بينهما كثرة الخلافات والنّزاعات، فغدا شديد النّفور من البيت بسبب الأجواء المشحونة. ولقد ساهم في هذا النّفور أيضا غيّاب ربّ البيت. وكان لهذا التغيّب المريب أثارا وخيمة على نفسية الوالدة التي باتت تعاني من كآبة مرعبة، ووحدة قاسية، ومن كثرة الهموم والهواجس، حتّى أُصيبت بانهيار.
                      وكانت تأتيها جارتنا الممرّضة الوحيدة في ذلك الحي، تحقنها بالدّواء. وكانت هذه الشابّة العزباء مملوءة القوام من المعجبات المتعلّقات كثيرا بأبي، لا تكفّ عن الحديث عنه طوال الوقت، وتصفه كما وصفتْ الخنساء أخاها صخرا. وقد كان أبي بالفعل وسيما يحب الأناقة والجمال. وكان رحمة الله عليه يببرّر كثرة غيابه، شبه الدّائم والمستمر، بكثرة الشّغل. ولذلك عارض جدّي التحاقه بتلك الوظيفة التي لم تجلب لنا سوى الهموم والمصائب. وكما كانت هذه الوظيفة فرصة لوالدي للتملّص من رقابة أبيه "الطّالب" معلّم القرآن. فإنّها كذلك كانت ذريعة للّهو و"الزّهو" والمواعيد التي لا يفلتها.
                      كما كانت الفوارق الاجتماعية بين عائلتي الأبوين سببا في كثرة الخلافات والنّزاعات التي لاتنتهي بين والديّ - رحمهما الله برحمته الواسعة -؛ حيث إن والدي كان قد التحق بالمدرسة وتعلّم القراءة والكتابة واللّغة العربية، كونه من أسرة ميسورة الحال بل وثريّة. وأمّا والدتي فقد نشأتْ وترعرعتْ في ظروف الفقر والقهر والتهميش، و لم تحصل على أبسط الحقوق، كحقّها في معرفة الزّوج.
                      وعلى الرّغم من أنّ والدتي رحمها الله كانت على قدر من الحسن والجمال، بشهادة كلّ أترابها، لكن الجمال الذي وهبها الله وحباها أيّاه، لم يجد من يهتمّ به. وبالتّالي فقد دبّ اليأس في نفسها وأخذتْ تذبل، كما يذبل النّبات حين ييبس ويفقد نضارته. ولقد كانت سلفاتِها فيما مضى يمْدِحْنها ويتغنّين بجمالها، حتّى أمسيْن يتحدّثن عنها بكلام جارح. فتسلّل الحزن والكآبة إلي قلب الوالدة المسكينة وصارت "تغضَب"، كما يُقال عندنا للّتي تهجر بيتها، لمّا يئستْ من أبي. فتذهب إلى بيت عمّها أو خالها اللّذين كانا بجوارها يواسيانها حين تغضب، ويأخذانها إلى البادية أو الدوّار، بمشْتى "لبّايض"، حين تصرّ على الذهاب لرؤية أهلها. فأبقى أنا بمفردي في البيت، أعاني من الهجر، لكن في رعاية جدّتي، والدة أبي، العجوز المريضة على الدّوام.
                      وفي إحدى اللّيالي استيقظتُ على صراخ أبي يسبّ ويشتم، وكان قد أتـى في غير موعده، وعلى غير عادته، رفقة زميل له. فوجدني نائما في سريره رفقة امرأة زوجِ عمّتي المتوفّاة، الذي يسكن جنبنا. وكانت العجوز المسكينة قد جاءت لتضمّني في تلك الليلة المشئومة، فجنّ جنون أبي حين رآها في سريره.
                      يتبع.../...








                      التعديل الأخير تم بواسطة مصباح فوزي رشيد; الساعة 05-10-2021, 05:42.
                      لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ

                      تعليق

                      • منيره الفهري
                        مدير عام. رئيس ملتقى الترجمة
                        • 21-12-2010
                        • 9870

                        #56
                        الحكاية تأخذ منحى حزينا و هذا ما آلمني..
                        آلمني حال هذا الطفل و مثله كثيرون ممن يهربون من البيت بسبب الجو المشحون و لا يهتم الوالدان و كل يسبح إما في حياته الخاصة او في مرضه كما الحال لهذه الام المسكينة رحمها الله التي لم تأخذ حظها من الدنيا، قد لا تصدق أن عيني أدمعتا و انا أرثي حال هذا الطفل البريء و الأم المغلوبة عن أمرها، أما الأب فسامحه الله كان مثالا للمجتمع الذكوري الاناني (و اعتذر أخي مصباح)، فقد تملص من المسؤولية في عمله الحكومي الذي هو بريء من سهراته و غيابه معظم الأحيان.
                        كان ردا ارتجاليا متحمسا و أعتذر بالفعل
                        أخي مصباح فوزي رشيد عندما رأيت الإشعار بأنك كتبت ردا في " ضائع بين أقرانه"، فتحت على القصة و قلت يا رب تكون حلقة جديدة.
                        تحياتي و أكثر

                        تعليق

                        • مصباح فوزي رشيد
                          يكتب
                          • 08-06-2015
                          • 1272

                          #57
                          المشاركة الأصلية بواسطة منيره الفهري مشاهدة المشاركة
                          الحكاية تأخذ منحى حزينا و هذا ما آلمني..
                          آلمني حال هذا الطفل و مثله كثيرون ممن يهربون من البيت بسبب الجو المشحون و لا يهتم الوالدان و كل يسبح إما في حياته الخاصة او في مرضه كما الحال لهذه الام المسكينة رحمها الله التي لم تأخذ حظها من الدنيا، قد لا تصدق أن عيني أدمعتا و انا أرثي حال هذا الطفل البريء و الأم المغلوبة عن أمرها، أما الأب فسامحه الله كان مثالا للمجتمع الذكوري الاناني (و اعتذر أخي مصباح)، فقد تملص من المسؤولية في عمله الحكومي الذي هو بريء من سهراته و غيابه معظم الأحيان.
                          كان ردا ارتجاليا متحمسا و أعتذر بالفعل
                          أخي مصباح فوزي رشيد عندما رأيت الإشعار بأنك كتبت ردا في " ضائع بين أقرانه"، فتحت على القصة و قلت يا رب تكون حلقة جديدة.
                          تحياتي و أكثر
                          وكم أعجبني هذا الارتجال وهذه العفوية، وكم كان سُروري بهذا الاهتمام الكريم كبيرا. وأرجو منك الكثير منه والمزيد.
                          وتقبّلي أستاذتنا الأميرة البهيّة كل المودّة والتقدير، وعلى هذا التفاعل الجميل.
                          ودمتِ بصحّة وعافية.
                          التعديل الأخير تم بواسطة مصباح فوزي رشيد; الساعة 04-10-2021, 16:56.
                          لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ

                          تعليق

                          • الهويمل أبو فهد
                            مستشار أدبي
                            • 22-07-2011
                            • 1475

                            #58
                            المشاركة الأصلية بواسطة مصباح فوزي رشيد مشاهدة المشاركة
                            لكن الوالدين اللّذين كان من واجبهما رعاية الولد والاهتمام به، ومحاولة الاقتراب منه أكثر فأكثر، والاطّلاع على أحواله و أسراره... قد باعدت بينهما كثرة الخلافات والنّزاعات، فغدا شديد النّفور من البيت بسبب الأجواء المشحونة. ولقد ساهم في هذا النّفور أيضا غيّاب ربّ البيت. وكان لهذا التغيّب المريب أثارا وخيمة على نفسية الوالدة التي باتت تعاني من كآبة مرعبة،
                            ووحدة قاسية، ومن كثرة الهموم والهواجس، حتّى أُصيبت بانهيار.

                            وكانت تأتيها جارتنا الممرّضة الوحيدة في ذلك الحي، تحقنها بالدّواء. وكانت هذه الشابّة العزباء مملوءة القوام من المعجبات المتعلّقات كثيرا بأبي، لا تكفّ عن الحديث عنه طوال الوقت، وتصفه كما وصفتْ الخنساء أخاها صخرا. وقد كان أبي بالفعل وسيما يحب الأناقة والجمال. وكان رحمة الله عليه يببرّر كثرة غيابه، شبه الدّائم والمستمر، بكثرة الشّغل. ولذلك عارض جدّي التحاقه بتلك الوظيفة التي لم تجلب لنا سوى الهموم والمصائب. وكما كانت هذه الوظيفة فرصة لوالدي للتملّص من رقابة أبيه "الطّالب" معلّم القرآن. فإنّها كذلك كانت ذريعة للّهو و"الزّهو" والمواعيد التي لا يفلتها.
                            كما كانت الفوارق الاجتماعية بين عائلتي الأبوين سببا في كثرة الخلافات والنّزاعات التي لاتنتهي بين والديّ - رحمهما الله برحمته الواسعة -؛ حيث إن والدي كان قد التحق بالمدرسة وتعلّم القراءة والكتابة واللّغة العربية، كونه من أسرة ميسورة الحال بل وثريّة. وأمّا والدتي فقد نشأتْ وترعرعتْ في ظروف الفقر والقهر والتهميش، و لم تحصل على أبسط الحقوق، كحقّها في معرفة الزّوج.
                            وعلى الرّغم من أنّ والدتي رحمها الله كانت على قدر من الحسن والجمال، بشهادة كلّ أترابها، لكن الجمال الذي وهبها الله وحباها أيّاه، لم يجد من يهتمّ به. وبالتّالي فقد دبّ اليأس في نفسها وأخذتْ تذبل، كما يذبل النّبات حين ييبس ويفقد نضارته. ولقد كانت سلفاتِها فيما مضى يمْدِحْنها ويتغنّين بجمالها، حتّى أمسيْن يتحدّثن عنها بكلام جارح. فتسلّل الحزن والكآبة إلي قلب الوالدة المسكينة وصارت "تغضَب"، كما يُقال عندنا للّتي تهجر بيتها، لمّا يئستْ من أبي. فتذهب إلى بيت عمّها أو خالها اللّذين كانا بجوارها يواسيانها حين تغضب، ويأخذانها إلى البادية أو الدوّار، بمشْتى "لبّايض"، حين تصرّ على الذهاب لرؤية أهلها. فأبقى أنا بمفردي في البيت، أعاني من الهجر، لكن في رعاية جدّتي، والدة أبي، العجوز المريضة على الدّوام.
                            وفي إحدى اللّيالي استيقظتُ على صراخ أبي يسبّ ويشتم، وكان قد أتـى في غير موعده، وعلى غير عادته، رفقة زميل له. فوجدني نائما في سريره رفقة امرأة زوجِ عمّتي المتوفّاة، الذي يسكن جنبنا. وكانت العجوز المسكينة قد جاءت لتضمّني في تلك الليلة المشؤمة، فجنّ جنون أبي حين رآها في سريره.
                            يتبع.../...



                            البيوت ليست فقط "أسرار" كما سار المثل، بل أيضا "خلايا" عضوية. لهذا إما تكون الخلية سليمة فتنمو وتنضج وتؤدي وظيفتها، أو تولد معتلّة.
                            والأخيرة هذه هي حالة "خلية" ضائع بين أترابه. هذه الحصة هي ما
                            يسمى المشهد الكاشف (High Scene) الذي تلتقي فيه أهم خيوط القصة
                            لتفسر منطقيا أسباب ومبررات "ضياع" واختلاف الراوي عن أترابه. الخليه، رغم كل اللمحات الايجابية السابق سردها، الاّ انها وُلِدَتْ مريضة (شأن
                            الأمة نفسها: انظر افتتاحية القصة).أما الراوي نفسه فهذا ما يقوله في الفصل الأول:

                            أفقتُ من اللّهو واللّعب، فوجدتني أرقدُ في "الساناتوريوم" بمدينة (سوق أهراس) المجاورة لقريتنا، والسّبب في ذلك "إكزيما" أصابتني
                            في ساقي اليسرى لم ينفع معها ما كانتْ تضعه أمّي فوقها من مَراهِم وبعض الأعشاب، وكم سهرتْ اللّيالي الطّوال وهي تحاول أن تسكن
                            آلامي، لكن كل ذلك لم ينفع معي. فاظطرّ الوالد المسكين أن يأخذني إلى هذا المستشفى الذي يقع في إحدى ضواحي المدينة وهو عبارة
                            عن بناية قديمة تعود إلى عهد الاحتلال، وكان رجل يسمّى (حمّة) من معارف أبي قد وُكِّل بي باعتباره من القرية
                            .

                            ليس المرض مرضا عضويا فقط، بل أيضا أخلاقيا واجتماعيا. ويستطيع القارئ تتبعه منذ البداية، سواء كان بين المرضى الأطفال في المشفى في البداية
                            أو بينهم في لهوهم والمؤذي للغير. من هذه البيئة الواسعة يضيق مشهد المرض رويدا رويدا حتى يتبلور في الأسرة سواء كان الجرح الغائر نتيجة الختان
                            أوالخلاف المستشري بين الزوج وزوجه في هذه الحصة. أما تعري الراوي جسديا في الحصة السابقة فيقابله كشف الستار عن خفايا خلافات الأسرة في هذا
                            الفصل: حيث الكل مريض عضويا أو أخلاقيا!! وللضحية في المجتمع الشرقي ورم القلب.

                            تعليق

                            • مصباح فوزي رشيد
                              يكتب
                              • 08-06-2015
                              • 1272

                              #59
                              المشاركة الأصلية بواسطة الهويمل أبو فهد مشاهدة المشاركة
                              البيوت ليست فقط "أسرار" كما سار المثل، بل أيضا "خلايا" عضوية. لهذا إما تكون الخلية سليمة فتنمو وتنضج وتؤدي وظيفتها، أو تولد معتلّة.
                              والأخيرة هذه هي حالة "خلية" ضائع بين أترابه. هذه الحصة هي ما
                              يسمى المشهد الكاشف (High Scene) الذي تلتقي فيه أهم خيوط القصة
                              لتفسر منطقيا أسباب ومبررات "ضياع" واختلاف الراوي عن أترابه. الخليه، رغم كل اللمحات الايجابية السابق سردها، الاّ انها وُلِدَتْ مريضة (شأن
                              الأمة نفسها: انظر افتتاحية القصة).أما الراوي نفسه فهذا ما يقوله في الفصل الأول:

                              أفقتُ من اللّهو واللّعب، فوجدتني أرقدُ في "الساناتوريوم" بمدينة (سوق أهراس) المجاورة لقريتنا، والسّبب في ذلك "إكزيما" أصابتني
                              في ساقي اليسرى لم ينفع معها ما كانتْ تضعه أمّي فوقها من مَراهِم وبعض الأعشاب، وكم سهرتْ اللّيالي الطّوال وهي تحاول أن تسكن
                              آلامي، لكن كل ذلك لم ينفع معي. فاظطرّ الوالد المسكين أن يأخذني إلى هذا المستشفى الذي يقع في إحدى ضواحي المدينة وهو عبارة
                              عن بناية قديمة تعود إلى عهد الاحتلال، وكان رجل يسمّى (حمّة) من معارف أبي قد وُكِّل بي باعتباره من القرية
                              .

                              ليس المرض مرضا عضويا فقط، بل أيضا أخلاقيا واجتماعيا. ويستطيع القارئ تتبعه منذ البداية، سواء كان بين المرضى الأطفال في المشفى في البداية
                              أو بينهم في لهوهم والمؤذي للغير. من هذه البيئة الواسعة يضيق مشهد المرض رويدا رويدا حتى يتبلور في الأسرة سواء كان الجرح الغائر نتيجة الختان
                              أوالخلاف المستشري بين الزوج وزوجه في هذه الحصة. أما تعري الراوي جسديا في الحصة السابقة فيقابله كشف الستار عن خفايا خلافات الأسرة في هذا
                              الفصل: حيث الكل مريض عضويا أو أخلاقيا!! وللضحية في المجتمع الشرقي ورم القلب.

                              بمثل هذه التحاليل الموضوعية، التي تضع النصّ في مستواه الحقيقي، وترفع عنه الالتباس، وتزيد في وعي المتلقّي...، يمكن لأيّ كاتب أن يستمرّ في العطاء.
                              شكرا لك أستاذنا على هذا التبيان والإيضاح المفيد.
                              ودمتَ بخير.
                              التعديل الأخير تم بواسطة مصباح فوزي رشيد; الساعة 05-10-2021, 08:10.
                              لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ

                              تعليق

                              • مصباح فوزي رشيد
                                يكتب
                                • 08-06-2015
                                • 1272

                                #60
                                عانت والدتي من تقرّحات أصابتها في نهاية سُلاميات اليدين، وتزداد هذه "المسامير" سوءا و إيلاما في مواسم البرد خاصّة. هذا بالإضافة إلى أمراض أخرى وعديدة. وتظنّ أمّي أن كلّ ما أصابها من أمراض وغيرها، سببه سحر. و أكثر من تشكّ فيهم، أقارب والدي الذين كانوا يضمرون لها الشرّ. وكثيرا ما كانت تستشهد والدتي بالرؤى والأحلام التي تراها في اللّيل، فترويها في أوّل النّهار.
                                تروي المسكينة عن نفسها فتقول:
                                • "إنّه عندما كنّا نسكن في مدينة (عنّابة)، مرضتُ مرضا شديدا، وطال مرضي حتّى وهُنت، فاشتكيتُ إلى والدي، فخرج مسرعا ثم عاد ومعه الشّيخ(سي محمّد الصّالح)".،

                                تروي والدتي قصّتها مع هذا الشّيخ ذائع الصيت المشهور، بجزئيّاتها وتفاصيلها وتقول:
                                • "بعد تناول طبق "الزّريرة"، الذي كنتُ خبيرة فيه، أمر الشّيخ (سي محمّد الصّالح) بغلق جميع النّوافذ والمنافذ، لتهيئة المكان وتحصينه من كل الشّرور. ثمّ طلب منّي الجلوس بين يديه، وراح يقرأ و يُعزّم ".

                                وتضيف:
                                • "ثمّ يتوقّف الشيخ أحيانا، ويأمر الجنّي بالخروج من جسدي، فيمتنع الجنّيّ، فيتوعّده الشّيخ بالضّرب المُبرِّح، وتارة بالقتل. وفي الأخير استأذن الجنيّ من الشيخ يريد الخروج، فلم يسمح له في البداية، وقال له: لا تخرج من عينها فتتسبّب لها في العمى، ولا من فمها فتفقدها القدرة على النّطق، ولا من أُذنها فتذهب بسمعها، ولا من أيّ مكان آخر غير الذي آمرك به. ثمّ أمره بالخروج من أصابع يديّ".

                                وسكتتْ هنيهة، ثم أردفت تقول:
                                • "ومن تلك اللّحظة وأنا أعاني من هذه المسامير اللّعينة التي لوثّتْ حياتي، وشوّهتْ صورتي أمام النّاس".

                                كانت أمنيّتي الوحيدة في تلك الأيّام، وأنا طفل صغير في سنّ البراءة، أن أرى الشّيخ (سي محمّد الصّالح) لأشبع فضولي، وأشاهد بأمّ العين تلك الكرامات والبراهين التي كانت محلّ حديث الكبار والصغار، فيطمئنّ قلبي. ثمّ لعلّ هذا الشّيخ الذي تربطه صلة قرابة بعائلة الوالدة، يراعي هذه الصّلة ويطلعني على أسراره الخفيّة.
                                وكبُر شغفي بهذا العالم الخفي، المليء بالأسرار والأخطار. لكن ما حيّرني أكثر هو أيمان النّاس بهؤلاء الذين يسمّونهم شيوخ، أصحاب الجلابيب البيض وبرانس بلا أكمام، الذين حين يسمعون القصبة والبندير يتشنّجون، ولا نرى بعدها غير التمجنين وحمّى"التّهوال".
                                يتبع.../...

                                التعديل الأخير تم بواسطة مصباح فوزي رشيد; الساعة 05-10-2021, 18:49.
                                لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ

                                تعليق

                                يعمل...
                                X