ضائعٌ بين أقرانه

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • منيره الفهري
    مدير عام. رئيس ملتقى الترجمة
    • 21-12-2010
    • 9870

    #61
    خرافات... و اعتقادات خاطئة...استحسنها المستعمر الغاشم حتى نبقى على جهلنا...
    أتابعك باهتمام أخي مصباح فوزي رشيد
    و احترم كل كلمة جاءت في النص.

    تعليق

    • الهويمل أبو فهد
      مستشار أدبي
      • 22-07-2011
      • 1475

      #62
      لا يمكن معالجة الحصة الحالية دون الرجوع بشيء من التفصيل إلى الحلقة السابقة. فمع كل حصة نتأكد
      من خطة الراوي في سَلسلَتَه الأحداثَ ورسم الشخصيات. فهو في الغالب ينتقل من سعة المشهد إلى بؤرة
      محددة. الوالدة في الفصل السابق احتلت حيزا مهما لتكون البؤرة والمحور الذي يضيق عليها المشهد. وهو
      مشهد يجسد المعاناة و"المرض" بكل أبعاده وأنواعه (الجسدية والعاطفية والنفسية والثقافية). ليس هناك
      أصعب من كونك الحلقة الأضعف في دائرة لا تجد فيها حلا لمعضلتك سوى التشبث بوهم والانطواء على نفسك
      والاستسلام لقوى غيبية (كما هي الحال في الفصل التالي). وما يزيد الطين طينا، أن من يأتي معينا يفاقم الأمر
      بحسن نية أو بسوئها . فالممرضة تأتي لعلاج حالة الوالدة، لكنها (شابّة عزباء مملوءة القوام من المعجبات
      المتعلّقات كثيرا بأبي، لا تكفّ عن الحديث عنه طوال الوقت، وتصفه كما وصفتْ الخنساء أخاها صخرا
      .)

      الأب طبعا هو الأبن الضال (
      Prodigal Son) منذو أن خالف رغبات والده وأخوته والتحق بالوظيفة
      الحكومية. وعلى العكس منه في التراث الغربي، فالأبن الضال الشرقي لا يعود نادما أو يعود وقد كسب
      تجربة أو خيرا. بل يعود ليقضي على ما تبقى من بناء. وقد وجد في وظيفته (فرصة [...] للتملّص من
      رقابة أبيه "الطّالب" معلّم القرآن.[و] كذلك كانت ذريعة للّهو و"الزّهو" والمواعيد التي لا يفلتها). ليس
      غريبا إذن ألّا نراه كثيرا في الفصول السابقة رغم أنه يبدو شبحا غير بعيد خلفها.

      التضييق على الوالدة ليس مقصورا على عدم التكافؤ الاجتماعي بين أسرتها وأسرة الوالد، بل امتد إلى دور
      الممرضة وتصرفاتها المريبة وكأنها تتعمد الإساءة ليستمر الانهيار أو هي مدفوعة من "سلفات" الوالدة إذ
      تلك النسوة (كانت [...] فيما مضى يمْدحْنها ويتغنّين بجمالها، حتّى أمسيْن يتحدّثن عنها بكلام جارح).

      حين نأتي لحلقة اليوم تكون الوالدة قد فاض بها الكيل جسديا ونفسيا وهجرت، ولم يبق لها غير التبرير
      والتسبيب والاستسلام للوهم أو التشبث بالغيبيات. ولها تجارب تستذكرها. يقول الراوي رواية عن رواية
      الوالدة:

      (وتظنّ أمّي أن كلّ ما أصابها من أمراض وغيرها، سببه سحر. و أكثر من تشكّ فيهم، أقارب والدي الذين
      كانوا يضمرون لها الشرّ. وكثيرا ما كانت تستشهد والدتي بالرؤى والأحلام التي تراها في اللّيل، فترويها في
      أوّل النّهار
      .)
      "أول النهار" مناسب لرواية الروئ والأحلام لأن بعض الثقافات "تتطير" من روايتها ليلا.

      كان ظهور الشيخ الصالح (سي محمد) من أعماق الماضي دليلا على بساطة الثقافة وسذاجة المجتمع الذي لا يختلف
      عن سذاجة الطفل نفسه. فالطفل يقول:
      (كانت أمنيّتي الوحيدة في تلك الأيّام، وأنا طفل صغير في سنّ البراءة، أن أرى الشّيخ (سي محمّد الصّالح) لأشبع
      فضولي، وأشاهد بأمّ العين تلك الكرامات والبراهين التي كانت محلّ حديث الكبار والصغار، فيطمئنّ قلبي. ثمّ لعلّ
      هذا الشّيخ الذي تربطه صلة قرابة بعائلة الوالدة، يراعي هذه الصّلة ويطلعني على أسراره الخفيّة.)

      الحقيقة حتى الأم و والدها اطمأنا لمعجزات الشيخ الصالح في تشخيصه واخراجه الجنيَ الشريرَ.

      هذا الحفر في تجارب الماضي لا يزيد وحسب المشهدَ اتساعا جغرافيا وزمنيا بل يؤكد أن الأمراض ليست مقصورة على
      الأشخاص
      بل مستشرية في الثقافة عامة.

      تعليق

      • سلمى الجابر
        عضو الملتقى
        • 28-09-2013
        • 859

        #63
        الأستاذ مصباح فوزي رشيد
        تابعتك هنا و استمتعت
        لا عدمناك أستاذنا الفاضل

        تعليق

        • مصباح فوزي رشيد
          يكتب
          • 08-06-2015
          • 1272

          #64
          المشاركة الأصلية بواسطة الهويمل أبو فهد مشاهدة المشاركة
          لا يمكن معالجة الحصة الحالية دون الرجوع بشيء من التفصيل إلى الحلقة السابقة. فمع كل حصة نتأكد
          من خطة الراوي في سَلسلَتَه الأحداثَ ورسم الشخصيات. فهو في الغالب ينتقل من سعة المشهد إلى بؤرة
          محددة. الوالدة في الفصل السابق احتلت حيزا مهما لتكون البؤرة والمحور الذي يضيق عليها المشهد. وهو
          مشهد يجسد المعاناة و"المرض" بكل أبعاده وأنواعه (الجسدية والعاطفية والنفسية والثقافية). ليس هناك
          أصعب من كونك الحلقة الأضعف في دائرة لا تجد فيها حلا لمعضلتك سوى التشبث بوهم والانطواء على نفسك
          والاستسلام لقوى غيبية (كما هي الحال في الفصل التالي). وما يزيد الطين طينا، أن من يأتي معينا يفاقم الأمر
          بحسن نية أو بسوئها . فالممرضة تأتي لعلاج حالة الوالدة، لكنها (شابّة عزباء مملوءة القوام من المعجبات
          المتعلّقات كثيرا بأبي، لا تكفّ عن الحديث عنه طوال الوقت، وتصفه كما وصفتْ الخنساء أخاها صخرا
          .)
          الأب طبعا هو الأبن الضال (
          Prodigal Son) منذو أن خالف رغبات والده وأخوته والتحق بالوظيفة
          الحكومية. وعلى العكس منه في التراث الغربي، فالأبن الضال الشرقي لا يعود نادما أو يعود وقد كسب
          تجربة أو خيرا. بل يعود ليقضي على ما تبقى من بناء. وقد وجد في وظيفته (فرصة [...] للتملّص من
          رقابة أبيه "الطّالب" معلّم القرآن.[و] كذلك كانت ذريعة للّهو و"الزّهو" والمواعيد التي لا يفلتها). ليس
          غريبا إذن ألّا نراه كثيرا في الفصول السابقة رغم أنه يبدو شبحا غير بعيد خلفها.

          التضييق على الوالدة ليس مقصورا على عدم التكافؤ الاجتماعي بين أسرتها وأسرة الوالد، بل امتد إلى دور
          الممرضة وتصرفاتها المريبة وكأنها تتعمد الإساءة ليستمر الانهيار أو هي مدفوعة من "سلفات" الوالدة إذ
          تلك النسوة (كانت [...] فيما مضى يمْدحْنها ويتغنّين بجمالها، حتّى أمسيْن يتحدّثن عنها بكلام جارح).

          حين نأتي لحلقة اليوم تكون الوالدة قد فاض بها الكيل جسديا ونفسيا وهجرت، ولم يبق لها غير التبرير
          والتسبيب والاستسلام للوهم أو التشبث بالغيبيات. ولها تجارب تستذكرها. يقول الراوي رواية عن رواية
          الوالدة:

          (وتظنّ أمّي أن كلّ ما أصابها من أمراض وغيرها، سببه سحر. و أكثر من تشكّ فيهم، أقارب والدي الذين
          كانوا يضمرون لها الشرّ. وكثيرا ما كانت تستشهد والدتي بالرؤى والأحلام التي تراها في اللّيل، فترويها في
          أوّل النّهار
          .)
          "أول النهار" مناسب لرواية الروئ والأحلام لأن بعض الثقافات "تتطير" من روايتها ليلا.
          كان ظهور الشيخ الصالح (سي محمد) من أعماق الماضي دليلا على بساطة الثقافة وسذاجة المجتمع الذي لا يختلف
          عن سذاجة الطفل نفسه. فالطفل يقول:
          (كانت أمنيّتي الوحيدة في تلك الأيّام، وأنا طفل صغير في سنّ البراءة، أن أرى الشّيخ (سي محمّد الصّالح) لأشبع
          فضولي، وأشاهد بأمّ العين تلك الكرامات والبراهين التي كانت محلّ حديث الكبار والصغار، فيطمئنّ قلبي. ثمّ لعلّ
          هذا الشّيخ الذي تربطه صلة قرابة بعائلة الوالدة، يراعي هذه الصّلة ويطلعني على أسراره الخفيّة.)
          الحقيقة حتى الأم و والدها اطمأنا لمعجزات الشيخ الصالح في تشخيصه واخراجه الجنيَ الشريرَ.
          هذا الحفر في تجارب الماضي لا يزيد وحسب المشهدَ اتساعا جغرافيا وزمنيا بل يؤكد أن الأمراض ليست مقصورة على
          الأشخاص
          بل مستشرية في الثقافة عامة.
          أهلا بك من جديد.
          بالفعل هي أمراض مستشرية في الثّقافة عامّة، وأسبابها معروفة، والحديث ذو شجون.
          ولقد وضعت أصبعك على الجرح القديم، وأتيت بما لم يبح به النّص. و(لا ينبئنّك مثل خبير).

          كفّيت ووفّيت، أستاذنا الحبيب اللّبيب.
          لا أضحى الله لنا ظلّك.
          لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ

          تعليق

          • مصباح فوزي رشيد
            يكتب
            • 08-06-2015
            • 1272

            #65
            المشاركة الأصلية بواسطة سلمى الجابر مشاهدة المشاركة
            الأستاذ مصباح فوزي رشيد
            تابعتك هنا و استمتعت
            لا عدمناك أستاذنا الفاضل
            سُررتُ بكرم اهتمامك ومشاركتك الطيّبة.
            أستاذتي الفاضلة؛
            تقبّلي منّي كلّ عبارات الشّكر والتقدير والاحترام.
            لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ

            تعليق

            • مصباح فوزي رشيد
              يكتب
              • 08-06-2015
              • 1272

              #66
              احتضنت أختي، ابنة العامين، وقرّرت بالمرّة ألاّ تعود إلى البيت، وقالت لي بالحرف الواحد " كبُرتَ ولم تعد بحاجة إليّ". ثم خرجت تطلب عمّها، ورجل خالتها في الوقت ذاته. وكان هذا الشيخ العجوز رحمة الله عليه مؤمنا فقيرا، لكن راضيا قانعا، وكان من أطيب النّاس وأشرحهم صدرا، و"حلاّل المشاكل" بما لديه من الحنكة و روح الدّعابة. كان يسكن في حيّ يبعد عنا بمئات الأمتار، ومع ذلك تفضّل والدتي أن تذهب إليه بدلا من خالها الذي يسكن بنفس الحيّ ولايبعد عنها كثيرا، ذلك لأن بين خالها ووالدها خلافات قديمة.
              وخلا البيت من توّه، وليس هناك سوى جدّتي المسكينة، المريضة على الدّوام، آوي إليها. وقد تجاوزت عقدها السّابع؛ تعاني جدتي هذه، والدة أبي، من الرّعاش؛ حرّم عليها الكلام. . وجدت العجوز المسكينة السّند في ابنة عمّي الأوسط(المكلّف بالعتاد، والذي كان يقيم في البادية قبل رحيله إلى القرية)، تنده عليها، وتصيح وتصرخ في وجهها أحيانا، ومع ذلك لم أسمع يوما هذه البنت المؤدّبة تأفّفت أو اشتكت لأحد. تركها عمّي وهي صغيرة، وكبُرت في بيتنا، تُعين والدتي وتساعدها في أشغال البيت، وتناديها "لالاّ" حبّا واحتراما لها. ثم تحوّلت بعد ذلك إلى رعاية الجدّة والاعتناء بها في الغرفة المجاورة.
              قبل أن يتمّ حجب ابنة عمّي هذه، استعدادا للرّحيل إلى بيت زوجها و ابن عمّتنا المتوفّاة الذي يسكن أمامنا، كانت هي من تزوّدنا بالماء. تحمل اسطال الحديد والبلاستيك وتأخذ مكانها في الطابور أمام الحنفية العمومية التي توجد في الجانب الآخر من الطريق المعبّد وراء بيتنا، لكن حين تجدها مكتظّة أو معطّلة تطلب منّي الذّهاب معها رفقة بنات الحي إلى أماكن بعيدة لجلب الماء؛ إلى "عين قوبع" الحنفية العتيقة التي توجد في مركز القرية؛ وتعدّ معلما من المعالم التاريخية التي لا يزال يحنّ لذكراها أهل القرية. و إلى "عين وريدة" البئر الذي أخذ اسم صاحبته، أو إلى "الخزنة" التي توجد على مقربة منها، وكلاهما خارج العمران. وكانت البنات يجدن في هذه المهمّة البعيدة نسبيّا فرصة لا تعوّض، للتحدّث بحريّة والتّشاور وتبادل الأخبار... لكن حين يتعلّق الأمر بالمسائل الخاصّة والتي تتطلّب نوعا ما التحفّظ والسِّريّة، تجدهن يكتفين بالهمز واللّمز والإيماء بدل الكلام، غير أنّني لم أكن أهنم كثيرا بكلامهن.
              وفي المساء، خاصة في المواسم الحارّة والدّافية، ينادي بعضهن على بعض، ويتّخذن من واجهات أحد البيوت القريبة مسرحا لهنّ؛ لمواصلة حديث النّهار. وتتعالى أصواتهن بالضّحك، وأحيانا بالصّراخ. وفي بعض الأحيان الأخرى يقمن بإحضار درَبُكّة، أو حتّى سطل، يدربكن ويرقصن على أصواتهنّ الجميلة.
              يتبع.../...
              التعديل الأخير تم بواسطة مصباح فوزي رشيد; الساعة 09-10-2021, 06:18.
              لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ

              تعليق

              • الهويمل أبو فهد
                مستشار أدبي
                • 22-07-2011
                • 1475

                #67
                المشاركة الأصلية بواسطة مصباح فوزي رشيد مشاهدة المشاركة
                احتضنت أختي، ابنة العامين، وقرّرت بالمرّة ألاّ تعود إلى البيت، وقالت لي بالحرف الواحد " كبُرتَ ولم تعد بحاجة إليّ". ثم خرجت تطلب عمّها، ورجل خالتها في الوقت ذاته. وكان هذا الشيخ العجوز رحمة الله عليه مؤمنا فقيرا، لكن راضيا قانعا، وكان من أطيب النّاس وأشرحهم صدرا، و"حلاّل المشاكل" بما لديه من الحنكة و روح الدّعابة. كان يسكن في حيّ يبعد عنا بمئات الأمتار، ومع ذلك تفضّل والدتي أن تذهب إليه بدلا من خالها الذي يسكن بنفس الحيّ ولايبعد عنها كثيرا، ذلك لأن بين خالها ووالدها خلافات قديمة.
                وخلا البيت من توّه، وليس هناك سوى جدّتي المسكينة، المريضة على الدّوام، آوي إليها. وقد تجاوزت عقدها السّابع؛ تعاني جدتي هذه، والدة أبي، من الرّعاش؛ حرّم عليها الكلام. . وجدت العجوز المسكينة السّند في ابنة عمّي الأوسط(المكلّف بالعتاد، والذي كان يقيم في البادية قبل رحيله إلى القرية)، تنده عليها، وتصيح وتصرخ في وجهها أحيانا، ومع ذلك لم أسمع يوما هذه البنت المؤدّبة تأفّفت أو اشتكت لأحد. تركها عمّي وهي صغيرة، وكبُرت في بيتنا، تُعين والدتي وتساعدها في أشغال البيت، وتناديها "لالاّ" حبّا واحتراما لها. ثم تحوّلت بعد ذلك إلى رعاية الجدّة والاعتناء بها في الغرفة المجاورة.
                قبل أن يتمّ حجب ابنة عمّي هذه، استعدادا للرّحيل إلى بيت زوجها و ابن عمّتنا المتوفّاة الذي يسكن أمامنا، كانت هي من تزوّدنا بالماء. تحمل اسطال الحديد والبلاستيك وتأخذ مكانها في الطابور أمام الحنفية العمومية التي توجد في الجانب الآخر من الطريق المعبّد وراء بيتنا، لكن حين تجدها مكتظّة أو معطّلة تطلب منّي الذّهاب معها رفقة بنات الحي إلى أماكن بعيدة لجلب الماء؛ إلى "عين قوبع" الحنفية العتيقة التي توجد في مركز القرية؛ وتعدّ معلما من المعالم التاريخية التي لا يزال يحنّ لذكراها أهل القرية. و إلى "عين وريدة" البئر الذي أخذ اسم صاحبته، أو إلى "الخزنة" التي توجد على مقربة منها، وكلاهما خارج العمران. وكانت البنات يجدن في هذه المهمّة البعيدة نسبيّا فرصة لا تعوّض، للتحدّث بحريّة والتّشاور وتبادل الأخبار... لكن حين يتعلّق الأمر بالمسائل الخاصّة والتي تتطلّب نوعا ما التحفّظ والسِّريّة، تجدهن يكتفين بالهمز واللّمز والإيماء بدل الكلام، غير أنّني لم أكن أهنم كثيرا بكلامهن.
                وفي المساء، خاصة في المواسم الحارّة والدّافية، ينادي بعضهن على بعض، ويتّخذن من واجهات أحد البيوت القريبة مسرحا لهنّ؛ لمواصلة حديث النّهار. وتتعالى أصواتهن بالضّحك، وأحيانا بالصّراخ. وفي بعض الأحيان الأخرى يقمن بإحضار درَبُكّة، أو حتّى سطل، يدربكن ويرقصن على أصواتهنّ الجميلة.
                يتبع.../...

                (احتضنت [الوالدة] أختي، ابنة العامين، وقرّرت بالمرّة ألاّ تعود إلى البيت، وقالت لي بالحرف الواحد " كبُرتَ ولم تعد بحاجة إليّ".
                ثم خرجت تطلب عمّها). من بؤرة هذا المشهد بدأ التباعد والاتساع ليس فقط جغرافيا بل وعاطفيا واجتماعيا. ما لم يقله النص
                أبلغ مما قاله. بقي الطفل وحيدا شاهدا على انهيار بيت لا تستطيع أمهر الممرضات أن ترأب تصدعاته. احتفظت الأم بابنة
                العامين وخرجت تاركة الطفل "الكبير".

                الخروج حقيقة ليس خروج الأم فقط. بل غابت عواطف ردة الفعل على هذا القرار النهائي والمفاجئ وظل الطفل يجوب مسافات
                بيئته على طول الفصل طلبا للماء رفقة ابنة عمّه الصامتة، ولسان حالها وحاله هو ما يطويانه من مسافات تحت وطأة الأحمال
                والأثقال المادية والمعنوية. ليس هناك من ملاذ ينطق بما يقاسيانه غير عجوز مسنة ومريضة ومعقودة اللسان! لذلك ناب عن
                نطقهما ما يبذلانه من جهد عضلي.

                خلال هذه المسافات تعرفنا على عيون الماء وتضاريس البيئة وشريحة فتيات الحي وبعض اهتماماتهن أثناء مهماتهن الحيوية
                (جلب الماء). ليس هناك حياة اجتماعية ثرية بل الحياة بدائية لا تحتلف عن ما نعرفه عن حياة الريف والبادية، حياة سمتها
                الرتابة المملة والخالية من أية انشطة مثيرة. لكن المشهد بدأ يركز على تهالك البيت الأسري وتفككه. حتى ابنة العم جاء
                وقت احتجابها استعدادا لانتقالها إلى بيت الزوجية. فالوحدة تطارد الطفل "الكبير".

                ثمة فراغات يتمنى القارئ لو أن الراوي ملأها أو على الأقل وعد بالعودة إليها.

                تعليق

                • مصباح فوزي رشيد
                  يكتب
                  • 08-06-2015
                  • 1272

                  #68
                  المشاركة الأصلية بواسطة الهويمل أبو فهد مشاهدة المشاركة
                  (احتضنت [الوالدة] أختي، ابنة العامين، وقرّرت بالمرّة ألاّ تعود إلى البيت، وقالت لي بالحرف الواحد " كبُرتَ ولم تعد بحاجة إليّ".
                  ثم خرجت تطلب عمّها). من بؤرة هذا المشهد بدأ التباعد والاتساع ليس فقط جغرافيا بل وعاطفيا واجتماعيا. ما لم يقله النص
                  أبلغ مما قاله. بقي الطفل وحيدا شاهدا على انهيار بيت لا تستطيع أمهر الممرضات أن ترأب تصدعاته. احتفظت الأم بابنة
                  العامين وخرجت تاركة الطفل "الكبير".

                  الخروج حقيقة ليس خروج الأم فقط. بل غابت عواطف ردة الفعل على هذا القرار النهائي والمفاجئ وظل الطفل يجوب مسافات
                  بيئته على طول الفصل طلبا للماء رفقة ابنة عمّه الصامتة، ولسان حالها وحاله هو ما يطويانه من مسافات تحت وطأة الأحمال
                  والأثقال المادية والمعنوية. ليس هناك من ملاذ ينطق بما يقاسيانه غير عجوز مسنة ومريضة ومعقودة اللسان! لذلك ناب عن
                  نطقهما ما يبذلانه من جهد عضلي.

                  خلال هذه المسافات تعرفنا على عيون الماء وتضاريس البيئة وشريحة فتيات الحي وبعض اهتماماتهن أثناء مهماتهن الحيوية
                  (جلب الماء). ليس هناك حياة اجتماعية ثرية بل الحياة بدائية لا تحتلف عن ما نعرفه عن حياة الريف والبادية، حياة سمتها
                  الرتابة المملة والخالية من أية انشطة مثيرة. لكن المشهد بدأ يركز على تهالك البيت الأسري وتفككه. حتى ابنة العم جاء
                  وقت احتجابها استعدادا لانتقالها إلى بيت الزوجية. فالوحدة تطارد الطفل "الكبير".

                  ثمة فراغات يتمنى القارئ لو أن الراوي ملأها أو على الأقل وعد بالعودة إليها.
                  أنَّى لمجتمع قروي بسيط، حديث العهد بالاستقلال، يعيش على حساب امكانياته المحدودة جدّا، يأتي بهذا الثراء أستاذي اللّبيب؟
                  أما بخصوص الفراغات والنّقائص، سواء التي أشرتم إليها صراحة أو لمّحتم إليها تلميحا ضمنيّا، فقد قمتُ بتدوين كل الملاحظات التي أبديتموها وسيتمّ التعامل معها مع مراجعة النّص وقراءته بتأنّي.
                  تقبّل منّي سيّدي فائق الاحترام والتقدير.
                  التعديل الأخير تم بواسطة مصباح فوزي رشيد; الساعة 08-10-2021, 15:19.
                  لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ

                  تعليق

                  • مصباح فوزي رشيد
                    يكتب
                    • 08-06-2015
                    • 1272

                    #69
                    (اِستدراك)
                    احتضنت الوالدة أختي ابنة العامين، وقرّرت ألاّ تعود بالمرّة إلى البيت، وقالت لي بالحرف الواحد " كبُرتَ ولم تعد بحاجة إليّ". ثم خرجت تطلب عمّها ورجل خالتها في الوقت ذاته. وكان هذا الشيخ العجوز رحمة الله عليه فقيرا وراضيا قانعا بما أعطاه الله؛ من الذين "يحسبهم الجاهل حين يراهم أغنياء من التعفّف". وكان من أطيب النّاس، حلاّلا للمشاكل بما لديه من حنكة و روح دعابة. ولكنّه يسكن في حيّ يبعد عنها بمئات الأمتار، ومع ذلك تفضّل والدتي الذّهاب إليه بدلا من خالها الذي يسكن قريبا منها وعلى بعد خطوات من مكان بيتنا، ذلك لأنّ بين خالها ووالدها خلافات قديمة.

                    وخلا البيت من توّه، وليس هناك سوى جدّتي، والدة أبي، آوي إليها. وتعاني الجدّة التي تجاوزت عقدها السّابع من الرّعاش الذي جعلها تستصعب الكلام. وجدتِ المسكينة السّند في ابنة عمّي الأوسط؛ المكلّف بالعتاد والذي كان يقيم في البادية قبل رحيله إلى القرية. تنده عليها، وتصيح وتصرخ في وجهها أحيانا، ومع ذلك لم أسمع يوما هذه البنت المؤدّبة تأفّفت أو اشتكت لأحد. تركها عمّي وهي صغيرة، وكبُرت في بيتنا، تُعين والدتي وتساعدها في أشغال البيت، تحترم والدتي وتناديها "لالاّ" بدلا من "زوجة عمّي"، أو "عمّتي"، أو حتّى "خالتي". في غياب أمّي، تحوّلت البنت إلى رعاية الجدّة في الغرفة المجاورة.
                    قبل أن يتمّ حجب ابنة عمّي هذه استعدادا للرّحيل إلى بيت زوجها؛ ابن عمّتنا المتوفّاة الذي يسكن أمامنا. كانت هي من تزوّدنا بالماء، تحمل اسطال الحديد والبلاستيك وتأخذ مكانا لها في طابور الحنفية العمومية، التي توجد في الجانب الآخر من الطريق المعبّد الذي وراء بيتنا. وحين تجدها معطّلة أو مكتظّة، فإنّها لاتتردّد في دعوتي للذّهاب معها لجلب الماء من بعض الأماكن البعيدة، رفقة بنات الحي. ومن بين هذه الأماكن أذكر على سبيل المثال: "عين قوبع"، الحنفية العتيقة التي توجد في مركز القرية؛ وتُعَدُّ معلما من معالم القرية التي لايزال النّاس يتحدّثون عنها رغم زوالها. و"عين وريدة" البئر الذي أخذ اسم صاحبته، و"الخزْنة" التي توجد على مقربة منه، وكلاهما يوجد خارج العمران. وكان رفيقات ابنة العمّ يجدن في هذه المهمّة البعيدة فرصتهن الوحيدة في التحدّث بحريّة. وحين يتعلّق الأمر بأشياء من قبيل الطابوهات، فإنّهن يكتفين بالهمز واللّمز والإيماء بدل الكلام.
                    وأمّا في المساء بعد أخذهن قسط من الرّاحة، وتخلّصهن من أسطال الحديد و البلاستك الثّقيلة، ينادي بعضهن على بعض، فيتجمّعن في الخارج، ويتّخذن من واجهات أحد البيوت القريبة مسرحا لهنّ لمواصلة مشوار حديث النّهار. ويقمن أحيانا بإحضار درَبُكّة أو سطل من الأسطال الفارغة، ويضربن عليها، فتصدر الإيقاعات، وترتفع أصواتهن الجميلة.
                    يتبع.../...

                    التعديل الأخير تم بواسطة مصباح فوزي رشيد; الساعة 09-10-2021, 06:45.
                    لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ

                    تعليق

                    • مصباح فوزي رشيد
                      يكتب
                      • 08-06-2015
                      • 1272

                      #70
                      لم أكن أعرف من اللّغة الفرنسية، قبل أن انتقل إلى السنة الثّالثة ابتدائي، سوى كلمة: "فيان إيسي"، التي أنادي بها على الكلب. أو: "فا تون" حين أقوم بطرده. وفي السّنة المذكورة، رحلنا إلى مدرسة جديدة، تبعد مئات الأمتار عن التي أمضينا فيها العامين.
                      دخلتُ السنة الثالثة، وبدأتُ في تعلّم كتابة الحروف باللاّتينية، وكنتُ أحاول أن ألفظها بطريقة صحيحة، وعلى النّحو الذي يرضي (سيدي سليمان). وكان كلّما فرغ معلّمي هذا - رحمة الله عليه -، من الدّرس، يردّد الأغاني عن طريق التّصفير، ويجوب القسم طولا وعرضا ولا يجلس في مكتبه إلاّ قليلا. فتأثّرتُ به أيّما تأثير، ورحتُ أقلّده. فكنتُ كلّما عدتُ إلى البيت أصفّر مثله، فتنزعج والدتي وتنهاني بدعوى أنّه تطيّر من عمل الشّيطان. فأردّ عليها بالقول: " وهل تعرفين أكثر من سيدي سليمان ؟".
                      ودرستُ اللّغة العربية عند معلم مصري، نسيت اسمه، ولكن صورته لاتزال قدّامي؛ كان غليظ الصّوت، قويّ البنية. وكان يحبّني كثيرا، حتّى إنّه حملني فوق رأسه ذات يوم، وذهب بي إلى الصف الرّابع، بالقسم المجاور أين يدرّس نفس المادّة، وقال لتلامذته: "مكان هذا النّجيب يجب أن يكون هنا بينكم".
                      وانتقلتُ إلى الرّابعة، ثمّ الخامسة، وكنتُ أدرس عند نفس المعلّمين تقريبا. والحقيقة أنّني لم أعد أتذكّر كثيرا من الأشياء والأمور التي مرّت بي خلال تلك السنتين (1971 ) و(1972).
                      لكن في المقابل، كان هناك عرس، ليس كل الأعراس مثله. أقامه عمّي الأكبر، (الحاج)؛ الوصي على "الفيرمة" وما فيها من عباد وعتاد. بدوار مشتى(العين البيضاء) بمناسبة زواج ابنه بابنة أخته المرحومة عمّتنا المتوفّاة، والتي تسكن أمامنا بالقرية.
                      كان الفرسان يتداولون في الرّكوب، صالوا وجالوا. وتعالت أصوات نساء المحفل بالزّغاريد، وتناثر مسك قلائد السُّخب في الأجواء... لكن الفرحة لم تدم كثيرا، فقد تُوفِّيتِ الابنة الوحيدة لعمّي (الحاج) بسبب الحمل، ولم يدم على زواجها من ابن خال أبيها سوى أشهر قليلة. فأفسدت علينا فرحتنا الكبرى تلك الفاجعة الأليمة.
                      يتبع.../...

                      التعديل الأخير تم بواسطة مصباح فوزي رشيد; الساعة 11-10-2021, 05:03.
                      لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ

                      تعليق

                      • مصباح فوزي رشيد
                        يكتب
                        • 08-06-2015
                        • 1272

                        #71
                        حين سمعتْ والدتي بوفاة الرّئيس (جمال عبد النّاصر)، ترجّتني أن أذهب إلى مقهى من المقاهي التي تعودّتُ الذهاب إليها وتتوفّر على شاشة لمتابعة مشاهد الصوّر التي أراها، ثم أعود بسرعة لأروي لها ما رأيته، وكان الظلام قد بسط أجنحته في كل الأنحاء والأرجاء، فنسيتُها. وكما نسيتُ نفسي أيضا ولستُ أدري أين قادتني خطواتي حينها، ولم أتذكّر إلاّ عند عودتي إلى البيت في ساعة متأخّرة من اللّيل البهيم. لكن ما إن فتحتُ عينيّ في الصباح حتّى وجدتُها أمامي تنتظرني لتسألني عمّا طلبَتْه منّي. فاختلقتُ لها رواية لا يصدّقها مجنون فما بالك بعاقل، ورحتُ أنسج خيوطها الواهية بالقول:
                        - لفُّوه في أشرطة القماش الأبيض، وقاموا بإنزاله من نافذة أعلى طابق في العمارة الكبيرة، وتدلّى والناس من تحت يحاولون الامساك به مخافة أن يقع؛ (ويبدو أنّني كنتُ متأثّرا جدّا بما أشاهده في أفلام الكرتون التي أتابعها في شاشة التلفزيون).
                        لم أجد تفسيرا لهذا الحزن الذي كانت والدتي تحاول إظهاره، ولم تكن سوى البدوية التي لا علاقة لها بعبد النّاصر ولا بأمثاله. وما كان ينبغي للمسكينة أن تحزن على (جمال عبد النّاصر) ولا على غيره من الذين لم ولن يكونوا في مرتبة عمّها ورجل خالتها: "الشّايب لخضر" -رحمة الله الواسعة عليه-؛ الرّجل الذي حين تغضب تجده أمامها. ولن يكونوا في مرتبة ابنة عمّي الأوسط -جزاها الله عنّي وعنها كل خير-؛ البنت المؤدّبة التي كانت تخدمها ليل نهار. ولن يكونوا حتى في مرتبة العمّة "خدوجة"؛ العجوز التي لطالما وجدتْ فيها أُنْسها وسَلْوتها. ولن ووو... فلماذا تحزن أمّي لموت شخص مثل (جمال عبد النّاصر)؟
                        لذلك، "تغيضني" المسكينة حين تتألّم، ويكبر حزنها. وحين تهجر البيت، أتشوّق إلى رؤيتها. ثم لا ألبث أن أنسى المشاكل التي لا ذنب لي فيها. تنسيني فيها الأفراح التي كانت تقام في دوّار مشتى (العين البيضاء). ينسيني فيها الانفراد بالأخوال في لحظة سمر. ينسيني فيها الجري وراء كرة "البف"، ولعبة "الغمّايضة" مع أبناء العم. وهناك أيضا أشياء أخرى تنسيني فيها؛ انشغالي بالدّروس. الڨانيا وما فيها. مباريات الفريق المحلّي لكرة القدم في نهاية كل أسبوع، بالرّغم من صعوبة تسوّر جدران الملعب لمشاهدة المقابلة ببلاش. الاستعراضات التي تقوم بها الكشّافة هنا وهناك، الحفلات التي تحييها البلدية في المناسبات، التظاهرات الثقافية في المدينة الأثرية (مادور)، وحتى المظاهرات السياسيّة وأنا صغير؛ كتلك التي قادها (الهادف) المدعو: (كوميدي-نخّال)، وكان يتقدّم الجمع الغفير وينادي بأعلى صوته: "تسقط تسقط أمريكا الامبريالية". فتردّد الحناجر معه نفس الكلام. وكنّا مجموعة من الأطفال، فلم نتردّد في الانضمام إليهم، من دون معرفة أسباب هذا الانفعال. ولا عن الامبريالية التي خرجوا ضدّها، بالرغم من خطاب الرّئيس (هواري بومدين) الشّهير الذي ما إن انتهى منه، حتّى خرجت الجموع تهتف بحياته وتندّد بالامبريالية العالمية، وعلى رأسها أمريكا.
                        يتبع.../...
                        التعديل الأخير تم بواسطة مصباح فوزي رشيد; الساعة 11-10-2021, 17:13.
                        لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ

                        تعليق

                        • الهويمل أبو فهد
                          مستشار أدبي
                          • 22-07-2011
                          • 1475

                          #72
                          في الحلقتين الأخيرتين هناك نقلة نوعية في بسط المشهد. الراوي أصبح يشكل مركز دائرة الرؤية بشكل يختلف
                          عن الحلقات السابقة. فقد حصل هنا تقارب بين القارئ والراوي، ومن خلال الراوي أصبح القارئ يرى معه
                          ما يراه الراوي في اللحظة نفسها، سواء كان يصف أو كان يعبر عن مشاعره. في الحلقات السابقة كان القارئ
                          مراقبا أكثر منه مشاركا في الرؤية. أما في هاتين الحلقتين فقد أصبح القارئ أقرب إلى الأحداث والراوي الذي
                          يضعنا معه في الموقع فنشاهد ما يشاهده، وبهذا فهو يتيح للقارئ أن يشاطره أحاسيسه وعواطفه ويتذكر معه
                          ما يتذكر و ينسى ما ينساه. حركته طفلا أصبحت أقل سرعة وأصبح أكثر تأملا.

                          في هذه الصحبة، القارئ يعيش اللحظة ذاتها ويعاني العزلة نفسها. مثل هذه النقلة نجحت لسببين: فقد هيأ لها
                          بالحلقات السابقة حيث ركز الراوي فيها على حياة البؤس التي عرضها واطّلع عليها القارئ بوصفه مراقبا أكثر
                          منه شريكا. ثم استغل طبيعة فن "السيرة الذاتية" التي تتمحور طبيعيا حول الراوي بوصفه الشخصية الوحيدة التي
                          تبنيها علاقاتها بمحيطها. القارئ هنا لا يرى إلا ما تراه هذه الشخصية وبالتالي تتبنى ما يتبناه: فالمشاركة بين القارئ
                          والشخصية مشاركة وجدانية سواء كان الوصف من منطلق ما يراه الطفل في حينه أو ما يفسره من منطلق رأيه اليوم
                          في مرحلة النضج والرشد.

                          هذا التبادل أو السفر عبر الزمن هو ضرورة حتمية في فن السيرة الذاتية لا تحتاج اثبات، ولها دوافع شخصية ومردود
                          عاطفي ونفسي للقارئ والشخصية معا.

                          تعليق

                          • مصباح فوزي رشيد
                            يكتب
                            • 08-06-2015
                            • 1272

                            #73
                            المشاركة الأصلية بواسطة الهويمل أبو فهد مشاهدة المشاركة
                            في الحلقتين الأخيرتين هناك نقلة نوعية في بسط المشهد. الراوي أصبح يشكل مركز دائرة الرؤية بشكل يختلف
                            عن الحلقات السابقة. فقد حصل هنا تقارب بين القارئ والراوي، ومن خلال الراوي أصبح القارئ يرى معه
                            ما يراه الراوي في اللحظة نفسها، سواء كان يصف أو كان يعبر عن مشاعره. في الحلقات السابقة كان القارئ
                            مراقبا أكثر منه مشاركا في الرؤية. أما في هاتين الحلقتين فقد أصبح القارئ أقرب إلى الأحداث والراوي الذي
                            يضعنا معه في الموقع فنشاهد ما يشاهده، وبهذا فهو يتيح للقارئ أن يشاطره أحاسيسه وعواطفه ويتذكر معه
                            ما يتذكر و ينسى ما ينساه. حركته طفلا أصبحت أقل سرعة وأصبح أكثر تأملا.

                            في هذه الصحبة، القارئ يعيش اللحظة ذاتها ويعاني العزلة نفسها. مثل هذه النقلة نجحت لسببين: فقد هيأ لها
                            بالحلقات السابقة حيث ركز الراوي فيها على حياة البؤس التي عرضها واطّلع عليها القارئ بوصفه مراقبا أكثر
                            منه شريكا. ثم استغل طبيعة فن "السيرة الذاتية" التي تتمحور طبيعيا حول الراوي بوصفه الشخصية الوحيدة التي
                            تبنيها علاقاتها بمحيطها. القارئ هنا لا يرى إلا ما تراه هذه الشخصية وبالتالي تتبنى ما يتبناه: فالمشاركة بين القارئ
                            والشخصية مشاركة وجدانية سواء كان الوصف من منطلق ما يراه الطفل في حينه أو ما يفسره من منطلق رأيه اليوم
                            في مرحلة النضج والرشد.

                            هذا التبادل أو السفر عبر الزمن هو ضرورة حتمية في فن السيرة الذاتية لا تحتاج اثبات، ولها دوافع شخصية ومردود
                            عاطفي ونفسي للقارئ والشخصية معا.
                            أشكرك على الدّعم المتواصل وعلى الرّعاية التي لاتقدّر بثمن.
                            أراك بخير إن شاء الله.
                            التعديل الأخير تم بواسطة مصباح فوزي رشيد; الساعة 11-10-2021, 11:07.
                            لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ

                            تعليق

                            • مصباح فوزي رشيد
                              يكتب
                              • 08-06-2015
                              • 1272

                              #74
                              كم كانت الحياة سهلة وبسيطة في ذلك الزّمن الجميل، ربما لأننا كنا صغارا أبرياء، ولم تكن لدينا فكرة عن مدى أهميّة وخطورة المسئولية؛ أذكر أنّني حين أريد ارضاء بعض رفاقي، أقوم باختلاس دفتر "الكريدي"، وأذهب إلى العم (أحمد) البقّال، أقترض منه فاكهة من الفواكه ثم أعود مسرعا، ليس إلى البيت، بل إلى الرّفاق الذين تركتهم في الانتظار جنب حائط الملعب البلدي. قمتُ بذلك مرارا وتكرارا دون علم والدتي، ولا والدي الذي لم يفتح دفتر "الكريدي" ويسألني عمّا فيه ولو مرّة واحدة.
                              لم أعرف عن والدي أنّه بذلك القدر وتلك الدرجة من الطّيبة واللّطافة، إلاّ بعدما غيّبته المنيّة عنّا. وكل من عرفه شهد له بذلك. و"فِي اللَّيْلَةِ الظَّلْمَاءِ يُفْتَقَدُ البَدْرُ" كما قال (أبو فراس).
                              لكن غاب عن هذا الوالد اللّطيف الطيّب أن يكون كذلك مع المرحومة والدتي التي لم تتحمّل طول جفائه وكثرة عراكِه وخصامه، فخرجتْ من البيت، وطلبتْ منه الطّلاق، من دون أن تأخذ أو تحصل على شيء، ولو حتّى على أبسط حقّ من حقوقها، وبقيتْ معلّقة؛ لأنّ والدي استحى من الذّهاب إلى المحكمة والوقوف أمام القاضي، ولأنّني أقنعتُها بأن حقّها عند الذي لاتضيع عنده الودائع، ولا يعزب عنه مثقال ذرّة. فقد كانت رحمة الله عليها ترفع أكُفَّها إلى السّماء وتتوسّل إلى الله بقولها: - حقّي راهو عندك يا الله.
                              بينما عرفتْ زوجة أبي كيف تصطاد والدي "الشرطي المتقاعد" بحنكتها وبقليل من الدّهاء. "اصطياد الغزال فوق البهيم" -مثل شائع-؛ فعندما ضمِنتْ دخولها إلى البيت "سيّبتْ عروڨـهاا"- كما يُقال -.
                              وفتحتِ الباب على مصراعيه لكلّ من هبَّ ودبَّ، وراحت تتزلّف إلى الجيران وبعض من الأقارب الذين "باعوا الدّم باللُّڨم"؛ كما قالت عنهم أختي حين رأتْ منهم الجفاء الذي لم يدّخروا جهدا في إبدائه لوالدتنا الكريمة، التي لطالما سعتْ إلى إرضائهم بكلّ الوسائل. لكنّهم، ولسبب من الأسباب التي نجهلها لحد الآن، نسوا، أو تناسوا، العِشْرة البريئة التي كانت تربطهم بوالدتي، واستخفّوا بها، بل واستبدلوها بأخرى مصطنعة ومزيّفة. واستطاعت زوجة أبي أن تصنع لها مكانة ولقبا في هذا المجتمع المزيّف، والحاشية المتزلّفة، فصاروا ينادونها: "لالاّ".
                              يتبع.../...
                              التعديل الأخير تم بواسطة مصباح فوزي رشيد; الساعة 15-10-2021, 09:14.
                              لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ

                              تعليق

                              • الهويمل أبو فهد
                                مستشار أدبي
                                • 22-07-2011
                                • 1475

                                #75
                                الحنين إلى مرحلة الطفولة سمة تلازم الإنسان طوال فترة النضج والشيخوخة. وهي سمة
                                تظهر في الأدب وخاصة السيرة الذاتية، ولكل حيّ أسبابه في العودة إليها واسترجاعها
                                سواء عرضيا أو بتركيز. ومع ألمها وقسوة ظروفها في (ضائع بين أقرانه) إلا أنه عاد – بعد
                                كل ما وصفه عن أحداثها— ليقول: (كم كانت الحياة سهلة وبسيطة في ذلك الزّمن الجميل،
                                ربما لأننا كنا صغارا أبرياء، ولم تكن لدينا فكرة عن مدى أهميّة وخطورة المسئولية) وتغير
                                رأيه في والده وغيّب جلّ عيوبه، حتى علاقة الأب بوالدة الراوي أخذت منحى مخففا رغم
                                قسوتها. في هذا الشأن يقول (لم أعرف عن والدي أنّه بذلك القدر وتلك الدرجة من الطّيبة
                                واللّطافة، إلاّ بعدما غيّبته المنيّة عنّا
                                . وكل من عرفه شهد له بذلك. و"فِي اللَّيْلَةِ الظَّلْمَاءِ يُفْتَقَدُ
                                البَدْرُ" كما قال [أبو فراس]). واكتفى بحياء الوالد عذرا من المثول أمام القاضي ويؤدي ما
                                عليه من حق للوالدة.


                                ترى ماذا حصل؟ أحد أسباب مثل هذه النظرة للماضي قد يكون نتيجة تكشف أمور جديدة،
                                أو نمو الطفل زمنيا وعقليا، أو عدوى المجاورة بين ذاكرة جميلة وذاكرة سيئة، وتتعدد
                                الأسباب وتختلف. لكن أهم الأسباب هو إن لسرد الأحداث – بطريقة مباشرة أو حتى بطريقة
                                رمزية — شحنة تطهيرية تزيل عبئا نفسيا وتحرر المرء مما لا قدرة له على تغييره.


                                ثم أن غريبا جديدا ومناسبا حلّ ليتحمل السوء وأسبابة: "زوجة الأب" (الضرّة) في لغة
                                المشارقة— وهي مدانة في لغات الكون كافة. هذا لا يعني أنها بريئة أو مدانة، بل يعني
                                أن الغريب احتل موقعا أقرب من موقعه المقبول والمحايد. فالغريب بالضرورة مصدر
                                تهديد، فما بالك وقد دخل حرم المنزل وحيّز الأسرة! ورب شر أهون من شر!

                                تعليق

                                يعمل...
                                X